الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

إلى السوق وفى جانبه الأيسر منارة من ثلاثة طوابق وفى أعلاه تعتش الطيور وتفرخ بها ، وفى السوق بناء جديد هو جامع مراد الشورباجى وسقفه على ثمانية أعمدة من الرخام ، وقد دفن فى هذا الجامع من أولاد الصحابة مثل عبد الله بن الزبير ، ولهذا الغرض بنى الجامع ، ويعتقد أن من يزوره يحقق مراده ، وجامع الصمصات مقام على عشرة أعمدة وله منبر صغير من الرخام ، ولا وجود لمثله فى البلاد وله منارة عالية طولها مائة وسبع عشرة خطوة ، وكل خطوة تعادل ذراعا ، والصعود إليها عسير ، وقد صعدت هذه المنارة وأشرفت ببصرى على المدينة فرأيت مدينة إرم ذات العماد ، وقد بدت فيها أربعون منارة ، وفى سوق العطارين الجامع الكبير ، وقد بناه الشيخ أبو بكر طرنجى ووسعه من بعد الملك الظاهر ، وبذلك صار جامعا كبيرا وطوله وعرضه مائة خطوة ، ومنبر هذا الجامع ومحرابه من الطرز القديم ، وفى حرمه الكبير قبة وسبيل ، وفى داخل الجامع وخارجه مائة عمود رخامى عليها سقف منقوش ، وفى الركن الأيسر لحرمه منارتان كأنهما برجان ، وعلى باب منبره الخشبى كتب بالخط الكوفى (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومقعد المؤذن على ستة قوائم رقيقة من الرخام ، وهو من الخشب يشبه المقصورة.

ولا وجود لجامع أكبر من هذا الجامع فى هذه البلدة ويقام مولد فى كل عام بها يجتمع فيه مائة ألف إنسان ، ومساحة الجامع طولا وعرضا مائة وثمانية وخمسون خطوة ، وله سقف على ثلاث وثمانين عمودا وصحن الجامع غير مسقوف ، والشيخ عبد الله مدفون فى ذلك الصحن الواسع ، وبما أنه مدفون داخل الجامع فليس ضريحا ، ولكنه فى تابوت وفى هذا المكان شجرة نبق وقد ورفت ظلالها على حرم الجامع وخارجه ، وهى تثمر أربع مرات فى العام الواحد منه فى حجم العين ، وفى المدينة كذلك جامع الوزير يجتمع فيه جمع غفير من المصلين ، وكذلك جامع ابن عباس الغمرى ، وطوله وعرضه مائة وخمسون خطوة ، ومنبره من خشب ، وعلى يسرة محرابه كتابة ، ويقول البعض إن هذه الكتابة من الزّبور وتحتها قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ ....) [التوبة : ١٨] ، وسقفه ذو ألوان يقوم على سبعة وثلاثين عمودا وله ثلاثة أبواب ، ومنارة

٣٠١

من ثلاث طوابق ، صحنه بلا سقف ، وفى الجانب الأيسر من جدار محرابه دفن الشيخ عباس غمرى ، وجامع (تعبّرها) جامع صغير ، وجامع الشيخ إبراهيم سقفه مقام على سبعة أعمدة ، وهو جامع صغير مكشوف الصحن ، وقد دفن فى حرمه الشيخ إبراهيم وعلى مقربة من هذا الجامع جامع الشيخ ديار وهو جامع صغير منارته قصيرة ، وثمة جوامع كثيرة خلاف ما ذكرنا. ولقد رأينا كثيرا من الجوامع الجميلة ، كما أن الزوايا لا تقع تحت حصر وفى هذا البلد تسع مدارس وسبعة دور من دور الحديث ، وسبعون تكية ، لأن جميع أصحاب الطرق الصوفية فى هذه البلدة ، وجميع أهل هذا الإقليم من أهل السنة ، ومن التكايا تكية الشيخ عبد الرحمن المالكى ، وتكية عبد الله درغام وإحدى عشرة تكية من تكايا السيد البدوى ، والتكية البرهانية ، وتكية صفافى ، وتكية كميلى وهى تكايا معمورة ، ومنها تكايا توزع فيها الصدقات ويبذل أصحابها فيها الصدقات وهم على قيد الحياة ، وفيها مائة وعشرون مكتبا للصبيان ، وتوزع ثياب العيد على اليتامى ، وبها مائتا سبيل ، وبعض هذه المكاتب تقع فوق هذه السبل ، وهذا هو قانون مصر. وبها خمسة حمامات ، وبها صهاريج ، ويوجد حمام للنصارى ، لا يدخله المسلمون قط ، وحمام بالى بك حمام لطيف ، كما أن سبعة حمامات موصدة أما حمام الوفا فضريح ، وبناؤه جميل وجوه معتدل ، وحمامات القصور يزيد عددها على الألف ، ويخرج المريدون مع الفجر إلى الخليج يستحمون فيه ، وفيها سبعون خانا ، فى سبع عشرة منها يباع القمح والشعير والفول ، وفى هذه البلدة تباع جميع الغلال ، وبها ألفان وثلاثمائة وخمسة وأربعوون دكانا ، وجميع أسواقها مغطاة ، وكل السلع موجودة فى هذه البلدة. وبها ثمانية وأربعون مقهى وهذه المقاهى مفتوحة ليلا ونهارا وفيها المطربون والمداحون وفيها يجلس أهل العلم ليل نهار.

وفى هذه البلدة مائتا طاحونة زيت وثلاثمائة وثمانون طاحونة تديرها الخيل وبها عشرة مخابز وكل بيت فى البلدة مخبز معين لها. ولا حاجة بأهل هذه البيوت إلى الأسواق ، ولكن للغرباء والمسافرين عشرة مخابز وشوارع السوق السلطانية واسعة

٣٠٢

نظيفة ، لأن النيل يجرى فى وسط هذه البلدة ومعظم قصورها وبيوتها الجميلة على ضفة الخليج ، وأعيان الإقليم يلقى بعضهم على بعض السلام من قصورهم ويصيدون السمك من الكوات ، ويسبح الفتيان فى النيل ، وكل بيوت هذه البلدة مبنية بالحجر ، ولها جدران وأبوابها ذات مصراعين ، وسطوحها مجصصة وليس فى المدينة أحجار بناء وإذا مست الحاجة إليها فى هذه البلدة حملتها إليهم من مصر السفن عند وقت فيضان النيل ، لأن النيل فى فيضانه يغمر أقاليم مصر كلها وتصبح أراضى مصر فى ماء الفيضان جزرا ، وثمة فرقة موسيقية تعزف فى دكان على الجسر ، ونوافذ هذه الدكاكين تطل على النيل ، ففى مصر ثلثمائة جسر بالقرب من سوق الغلال ، وثمة دكاكين أخرى تطل نوافذها على الترعة وفى هذه المحلة مرفأ تأتى إليه السفن والقوارب بالغلال وثمة جسر فى جنوب البلدة على ترعة الصابونية يسمى جسر جعفر أغا إنه جسر عظيم من الحجر ، وفى وسط صراطه كتب على لوحة مربعة من الرخام :

تأمل ترى ما شاده ألندن جعفر

هو القاسمى مات إلى الخير يقصد

لقنطرة فيها يقول مؤرخ

ثناء له فخر وعز يؤيد

سنة ١٠٧٣.

ولاعتدال جو هذه البلدة اشتهرت نساؤها بروعة جمالهن. كما أن الجند يلبسون فيها ثيابا فاخرة. ويضع نساءها على رءوسهن قلانص من ذهب وفضة. كما يلبسن الحرير ويسرن. وتشتهر هذه المدينة بالخبز الأبيض والطحينة والجبن أما صنعهم للسجاجيد الحريرية لا نظير لها فى العالم. إلا ما يصنع فى أصفهان كما يصنع المناشف وأنواع من الأقمشة الحريرية وفى هذه البلدة محلة لليهود ومحلتان للأقباط وبها ألف بيت وسبع كنائس. وفى سجل شيخ البلد أن تعداد أهل هذه البلدة سبعة آلاف وهى تصدر القطن وهو من أهم حاصلاتها. إن ذكر ما لا قيمة له مملول. ولذلك اكتفينا بما ذكرنا. فخير الكلام ما قل ودل.

٣٠٣

أوصاف ضرائح المحلة الكبرى

وقد ذكرنا من قبل كبار الأولياء الذين دفنوا فى الجوامع وعند باب المحلة عند نهاية الطرف الغربى للمحلة دفن الشيخ عبد المجيد الشامولى وضريحه تطل نوافذه على الطريق العام ، وقد كتب على عتبة بالخط الجلى : (أنشأه السيد بن الحسين سيدى عبد الوهاب وسيدى عبد المؤمن أخيه سيد عبد المنعم).

زيارة ضريح المولى عبد الباقى بن محمود بن عطاء الدين حمالى زاده

هو متولى مدينة مصر ، وكانت له هذه المحلة الكبرى ومات وهو مدفون عند رأس الجسر الذى على ترعة الصابونية فى ضريح على الطراز الرومى وقد كتب عليه تاريخ ؛ ولأنه على الطريق العام يزار ضريحه ، وكان فصيحا ناصع البيان لذلك وردت ترجمته فى تاريخ المقريزى ، وعلى مقربة منه على رأس الجسر ضريح الملا على بن سنان ، وفد من مدينة أسبارطه ، وكان من علماء السلطان أحمد وعلى ضريحه تاريخ هو فى سنة ١٠٢٩ قدسنا الله بسره العزيز رحمة الله عليهم أجمعين ، وعلاوة على ذلك آلاف من الضرائح ، وقد مرغت وجهى على عتبته ، والضرائح التى زرتها فى هذه البلدة سبعة وأربعون وقد شرفت بزيارتها ولله أحمد أنى نلت من حسن أغا الكاشف عشرة قروش وجودا ، وبعض ما يصنع فى المحلة ، وودعت أحبتى وخلانى وبعد ساعتين ، بلغنا قصبة سمنوط ، وعبرنا النيل إلى إقليم الشرقية فبلغنا :

ميت أبو الحارث

وتجاهها فى إقليم الغربية :

ميت أبو صير

وفى المنصورة :

ميت بورو

وتجاهها بلدة بنيا ، وفى المنصورة كذلك بلدة المنظرة ، وفى الغربية بلدة ميت بدر وفى المنصورة أيضا ميت دمسيس ، وفى الغربية بلدة شوبران ، وفى المنصورة كذلك ميت أشنى.

٣٠٤

أوصاف قصبة شنباط (١) الكبيرة

تقع فى إقليم الغربية ، وبها مائتا بيت وعدة جوامع ومساجد وأسواق صغيرة ومقاه ، وهى مدينة كثير رجالها ونساؤها ، وقد نزلت ضيفا على دار ضيافة فيها ذات ليلة ، وفى الصباح مضينا إلى المنصورة فبلغنا بلدة :

شرنجى

وقبالتها فى الغربية بلدة :

دهنور

وفى المنصورة مدينة ميت غمر العظيمة وقد أسلفت ذكرها ، وتجاهها فى إقليم الغربية قصبة :

زفته

والتى سلف ذكرها وفى جنوبها فى إقليم المنصورة بلدة :

معصره

وفى الغربية قبالتها فى بلدة :

مسيد

وبجوارها بلدة :

وصيد

وفى المنصورة بلدة :

ميت العز

وفى الغربية :

ميت الحارون

وفى المنصورة بلدة :

الصفين

وقبالتها فى الغربية بلدة :

٣٠٥

تفهنى

وللشيخ داود العزب فيها ضريح عظيم ، والذى ظهرت له كرامات ومعجزات ذكرت فى الكتب وفى كتاب طبقات الشعرانى أنه قطب عظيم له منزلة عبد القادر الجيلانى ، وجنيد البغدادى وأحمد البدوى ، وإبراهيم الدسوقى. ومضينا إلى هند يمنه ، وفى إقليم المنصورة بلدة:

سندى

وقبالتها فى إقليم الغربية بلدة :

ميت برى

وفى المنصورة بلدة :

أشبون

وفى المنصورة كذلك :

كفر مويش

وقبالتها فى إقليم الغربية بلدة :

ملّلو

وفى المنصورة بلدة :

بنهى

وتجاهها فى الغربية بلدة بطاى وفى المنصورة بلدة رملى ، وتجاهها غربا :

كفر أبو الطواقى

وفى إقليم القليوبية :

ميت عطار

وهى بلدة عظيمة كأنها قصبة وفيها تجمع حدود أربعة سناجق وهى سنجق الغربية وسنجق المنصورة وسنجق المنوفية وسنجق القليوبية. والسناجق الأربعة تسمع آذان ميت عطار لأن حدود كل منها متقاربة ، وفى آخر إقليم الغربية بلدة :

٣٠٦

سيدى خضر

وفى أول حدود المنوفية بلدة :

العطف

وآخر حدود الشرقية بلدة :

طحلة

وفى أول حدود إقليم القليوبية بلدة :

دجوى

وهى التزام أوزبك بك ، واقتضت حكمة الله أن تكون قرى الحدود هذه مجتمعة فى أرض واحدة ودخلنا الحد الأيمن لإقليم المنوفية ، ودخلنا الحد الأيمن لإقليم القليوبية ، وفى إقليم منوف بلدة :

ميت عفيف

وهى تجاهها بلدة دجوى.

وبلدة طنط

تتبع قليوب ، وتجاهها فى المنوفية :

بلدة برشمس

وفى إقليم القليوبية بلدة :

برشوم

وتجاهها فى المنوفية بلدة :

أبو شعرا

وتجاهها على ضفة النيل بقية القليوبية.

أوصاف قصبة القليوبية

وقد كتب عنها المؤرخ أبو المال كثيرا ، وجاء فى تواريخ القبط أن أول من بناها هامان وزير فرعون ، وقد تبقى فيها أساس قصره وبستان ، وباب من أبواب بستانه ، ويسمونه بئر هامان وماؤه عزب والسواقى تدور فى اثنى عشر موضعا فيها ، وهذه السواقى تروى ما فيها من مزارع قصب السكر ، ويزعم القبط أن فى مائها شفاء المريض ، وقليوب

٣٠٧

كاشفية ، وقد سبق أن قلنا إن مائتى كيس تتحصل منها ، ويتبعها مائتان وثمانون قرية ويحصل من هذه القرى بعد المصروفات مائة كيس ، إنها قضاء يدر مائة وخمسين أقجه ، وكانت تغل مدة من الزمن عشرة أكياس ستة وسبعون من قراها ، ولقربها من مصر ليس لها من يتولون الإفتاء على المذاهب الأربعة كما تخلو من نقيب للأشراف ، ولكن فيها قائد للانكشارية والعزب ، وقديما كان يوجد فيها ألف حديقة ، والآن فيها ثلاثمائة بستان كما أن فيها ألفى بيت وأربعون محرابا ، وسبع خطب ، وبالقرب من السوق السلطانية جامع قديم ويتسع لآلاف المصلين ، وله سقف يقوم على أربعين عمودا ، ومنارة تتألف من ثلاث طوابق ، ولم نشاهد جامعا آخر ، وفيها عشرون مكتبا للصبيان وثمانية خانات وسبعة مقاه ، ومائتا دكان. وركبنا زورقنا الذى جرى بنا فى النيل ، وبعد سبعة أميال بلغنا بلدة شبرا التى سبق ذكرها ، وهى فى نهاية حدود إقليم القليوبية ، وبعدها حدود مصر وتجاهها فى إقليم المنوفية محلة تسمى بحر ، وبها تتم حدود المنوفية ، وآخر حدها :

بلدة السروى

وهى على بعد أربعمائة ميل من دمياط وعلى شاطئ النيل تقع مدن صغيرة معمورة وقد شاهدت معظم الجوامع المشهورة والكبيرة ، والزوايا والمدارس والوكالات المعمورة والمزينة والحدائق والترع واستمعت إلى ألحان البلابل الجميلة فى البساتين ، ووصفت مزارع النخيل والحدائق ، واكتفيت بذلك حتى لا يطول بنا الكلام وليس على نيل دمياط قرى مثل ما على نيل رشيد ، وعلى نيل رشيد توجد مدن كثيرة ولا وجود لعمران فى إقليم البحيرة وأكثره صحراء. ثم مضينا إلى محلة شبرا. وفى الشهر الثالث دخلنا مصر والتقيت مع الكتخدا إبراهيم باشا. وقدمت إليه ما استطعت تقديمه من هداياى فتقبلها منى. وتجولت وشاهدت الديار وتعرفت أحوال الرعايا والبرايا. وسألت ملتزمى الكاشف. ومضينا إلى صحراء البرلس وطعمنا. ونلنا من خضر بك خلعة حسنة وجوادا. والله عالم السر والخفيا ، وخضر بك وزير منير الضمير وسخى جواد وقد تشرفت بالتحدث معه فى الليل والنهار ، وقال ذات ليلة أثناء حديثى معه إنه تجول فى البلاد شبرا شبرا وسوف أبعث بك إلى حاكم جرجه فقال لى لا تنسى دعاءنا لك بالخير وأمر رفعت أفندى رئيس الديوان أن يكتب لحاكم جرجه أن أوليا جلبى صديق حميم وأخ كريم فإذا وصل إليك وأراد التجول فى البلاد فهىء له السبيل.

٣٠٨

وأمام مدينة أسيوط غرقت سفينة أميرية تحمل ألف أردب من الغلال. وقد كتب أمرا بالتحقيق فى هذا وأصدرت الأوامر إلى جميع الكاشفين والملتزمين بذلك. وانتهزت هذه الفرصة وخرجت بعد أن قبلت يده. ورجوت إليه أن يكتب رسائل إلى حاكم الفونج. وسألت من رجال الديوان فى مصر. هل فى الإمكان أن أمضى. فقالوا نعم هذا فى الإمكان ولكن الحرّ كان شديدا والطريق غير آمنة. وقالوا إن هذه السّفرة صعبة شديدة ولكن سوف تمضى فى خير وأمان بمشيئة الله. وكتبت الرسالة لى فكانت أمرا إلى حاكم جرجة.

إن ملك الفونج كان راسخ العقيدة فى الشيخ البكرى ، والشيخ محمد ، ونلنا منه سبعة رسائل لننال بها الهدايا ، فنلنا جوادا وبساطا طاهرا ، وعشرة كؤوس وثلاثة قسى وكانت ترسل الهدايا ورسائل الصداقة من مصر إلى الجزائر وتونس وفاس ومراكش وبلاد البربر وبلاد الفونج والسودان وبلاد الحبشة واليمن ومكة والمدينة والبادية العربية وكذلك بلاد المغرب.

فقد وصل إلى سفير اليمن فرمان كما أعطى لى رسائل ورسائل مودة ، ومنذ عهد السلطان سليم الأول قدم مصر سبعون وزيرا ، لأن الحل والعقد كان فى يد الكتخدا لأنه كان وكيلا يحكم كل شىء برأيه السديد ، إلا أنه مع وفور عقله كان يتشاور مع من تقدمت بهم سنهم ليأنس برأيهم ، ويعمل به ، وكان يكرم كلا منهم حسب مرتبته ، وقد أعطانى أوراقا لأسلمها لحاكم جرجه وبلاد الفونج ، كما أعطانى مصاريف السفر وجوادا ، ووصلت إلى الباشا فى اليوم الثالث ، فأبلغت حاكم جرجة خبر غرق سفينة الغلال ، وبلغت أوامره للكاشفين وغيرهم ، ونلت من ملك الفونج رسالة وهدايا ، فنلت منه نقودا وجوادا وتخت شباب وقد أعطيت خدامه عشرة قروش ، ودعوت له بالخير وقبلت يده وقلت إلى الملتقى بمشيئة الله ، وقرأت الفاتحة ، وخرجت وودعت كل الأصدقاء والأحباب ومضينا متوكلين على الله.

* * *

٣٠٩

الفصل التاسع والستون

ما أصدر والى مصر إبراهيم باشا وما كتب من رسائل

ألف وواحد وثمانون رسالة إلى حاكم الصعيد أوزبك بك

وإلى كاشف الواحات وكاشف ولاية أبريم وحاكم ولاية بربرستان

وملك بلاد الفونج وملك قاقان ، وما زرنا من قرى وقصبات

يسر الله لنا زيارتها

وإذا أراد الله شيئا يسّر أسبابه فركبنا خيولنا المطهّمة وبدأنا سياحتنا وتحركنا من مصر أم الدنيا ، وبعد أن قطعنا فى الصحراء ساعتين جنوبا بلغنا بلدة البساتين وكانت تابعة لالتزام نقيب الأشراف وفيها سبعمائة بيت ، وثمانية محاريب وثلاث خطب ، ووكالة وعشرون دكانا ، ويحيطها من جوانبها الأربعة البساتين ، ويقدم إليها الأعيان من مصر للنزهة ، إنها جميلة بها الورود والرياحين وفى وسطها قصر يوسف ، والمتنزهون ينعمون بالمتعة على حانة حوضها.

ومضينا إلى الجنوب مدة نصف ساعة وهناك على النيل مرفأ قديم وبعيد عنه جميع أهل الصعيد ، وثمة موظف للدولة يحصل رسوم الجمرك من شاطئ النيل ، فبلغنا :

قصبة موخنان

وتقع على مسيرة ربع ساعة من النيل فى الصحراء ، وبها حدائق وبساتين وهى تابعة لكاشفية الجيزة وبها خمسمائة بيت وجامع ومقهيان وعشرة دكاكين ، ولا يوجد فيها الحمّام إنها قصبة معمورة ، ويحكمها نائب الجيزة منذ عهد السلطان سليم تتبع هذه القصبة شيخ العرب خبير أوغلو وهى أرض ذات بساتين ونخيل : وقصر خبير أوغلو دار ضيافة ، ويطعم فيها الغادى والرائح ، ومن سلموا قايتباى وكرت باى مقيدين للسلطان سليم من هذا البلد ، وقد عبر أحد عشر ألف النيل ومضوا إلى السلطان سليم ، وظلوا فى خدمته ولذلك أعفوا من الضرائب ، وهم الآن مطيعون منقادون فلما أغار على مدن إقليم البحيرة ألف وأربعون ألفا من مجرمى عرب بهيجة والهنادى منهم أربعون ألفا للنهب والسلب ، ولما علم بذلك وزير مصر ألف جيشا من خمسة آلاف فارس وانطلقوا

٣١٠

إلى إقليم البحيرة ، وفى أول الأمر واجه كل جندى جنديا فمزق عرب خبير أغلو ، صفوف من واجهوهم ، كما أن جنود مصر ألحقوا الهزيمة بعرب الهنادى فتم القضاء على ستين ألفا منهم ، واختلطت جثثهم بالرمال وتدحرجت رءوسهم من ضربات السيوف ، وأصيبت منهم غنائم تفوق الحد والحصر ، كما أن رجال خبير أوغلوا غنموا ألفى جمل وجاءوا بها فى يوم وليلة من الصحراء ، وقدموها هدية إلى إبراهيم باشا فامتلأت مصر بالجمال ، ونال خبير أوغلو مكافأة له على ذلك خلعة آصف ، وهى رمز للمقاتل الباسل ، وقد أكرمه إبراهيم باشا وضيفه ذات ليلة ، وفى الصباح ، أرسل إلينا خمسين فارسا ، ومضينا سبع ساعات على النيل وبلغنا منزل :

قهوه خانه

وهو أرض واسعة فيها قلعة ذات باب كبير وفى نهاية بابها الكبير مقهى ، وهى موضع لاستراحة المسافرين ، وبها دكان ، إنها دار ضيافة فى الطريق إلى الفيوم وبنى سيف ولا عمران فيها ، ومضينا إلى الفيوم بعد سبع عشرة ساعة ، وهى أرض ذات رمل كثيرة الأفاعى والحشرات ، وليس بها أمان ، إنها حدود خبير أوغلو زاده ، وهى حد بلدة بنى سيف ، ويجتمع أهل القرى فيها كل أسبوع ، وهذه القهوة فى سوق عظيمة ، وقد اجتزت هذا الموضع ، وعلى شاطئ النيل فى الناحية القبلية أرض ذات نخيل وفيها قرى معمورة واجتزنا فى ست ساعات إلى :

منزل بلدة دلى حسين باشا

وتقع على شاطئ النيل على ربوة فى حدود بنى سيف ، وبها مائة بيت وجامع وساقية وآبار ، فاستقبلنا حسين باشا زاده نوح وضيفنا ليلة فنعمنا بالراحة ، وسرنا متجهين جنوبا نحو النيل ، واجتزنا كثيرا من القرى المعمورة على شاطئ النيل ، كما اجتزنا :

بلدة زاوية وبلدة قوما دير

وبعد سبع ساعات بلغنا :

٣١١

بلدة ميمونة

وهى على حدود بلدة بنى سيف ، وفى التزام كاتب تذكرة الوزير الأعظم إسحاق أفندى ، وبها جامع وعدة أسواق وقصر عال هو دار ضيافة فاجتزتها نحو الجنوب واجتزنا قرى عامرة.

أوصاف مدينة سيف بن ذى يزن

ولذا سميت المدينة ببنى سيف ، وفى نواحيها تسكن قبيلة من عرب بنى سيف إنها كاشفية فى أرض مصر ، وهى الآن كشوفية ، ويتبع كاشفها خمسمائة فارس وخمسمائة جندى مصرى ، وبها مائة وأربعون قرية ، ويحصل من هذه القرى مائتا كيس وخمسة ، و ( ) (١) أردب من الغلال وتودع ديوان مصر ، وعين من قبل الباشا أغا للتحصيل ، ويوزع الباشا على كل أحد أردبين من القمح كما أن أغا يأتى من طرف الباشا للتحصيل سريعا وبها قاض شرعى يحصل منها على مائة كيس فى العام ، وتحت حكمه مائة وأربعون قرية ، وثمة انكشارية وقائد وعزب الشورباجى وشيخ الإسلام ونقيب وأعيان كبار ، تقع المدينة فى سهل فى أرض تبعد عن النيل بخمسمائة خطوة وهى ذات بيوت جدرانها مثل جدران القلاع تحيط بها من كل جانب ، وبها خمسة آلاف بيت ، وهى بيوت ذات طوابق وفيها قصر الكاشف وبه سبعون حجرة وحمام وديوان وميدان ، وبجوار بيت الشيخ على بيت الشيخ صالح وبالقرب من القصر قصور طاصلاق زاده أحمد أغا ، كما توجد بها قصور شامخة ، ولكن هذا ما عرفناه منها وشاهدناه ، وفيها محلات للمسلمين وغير المسلمين ، وفيها جوامع وزوايا ولكن ستة منها جوامع تؤدى فيها صلاة الجمعة ، وفى سوقها جامع قايتباى وجامع عز الدين لكل منهما حرم ومنارة ، وبالقرب من قصر طاصلاق زاده أحمد أغا جامع لم يكتمل بناؤه ولكنه بدون حرم وله منارة على الطراز الرومى وله سبعة أعمدة من الرخام ، وفوقها سقف لا نقوش فيه ، وكان بانيه فى كل يوم يبنى ملحقات تضاف إليه ، وللجامع أوقاف عظيمة وغير منارته رومية الطرز له خمس منارات أخرى عربية الطرز ، وتوجد مساجد علاوة على هذه

__________________

(١) بياض فى الأصل.

٣١٢

الجوامع ، وبها كذلك ثلاث مدارس وبها إلى جانب حجرات الدراسة جامع وبها أربعون مكتبا للصبيان وأربعون سبيلا وحمام ، ولا توجد أبنية بقدر تلك المذكورة ، ولجامع طاصلاق زاده أحمد أغا مبرّة ، وكان متولى الوقف ينفق عليها عشرين كيسا ، وقد قرأت الفاتحة له ، وبها عشر مقاه وعشرة بيوت للصباغة وعشر وكالات مشهورة وجملة ما فيها من الدكاكين خمسمائة دكان ، ولكن ليس فيها سوق خاصة ، وفيها من كل سلعة ، ويسكن هذه البلدة عشرون ألف شخص ، وجوّها معتدل وفتيانها وفتياتها يتميزون بالجمال لاعتدال جوها ، وبها كثيرون من العسكريين المدنيين ، وبها سوق كبيرة تقام كل يوم جمعة ، ومأكولاتها ومصوغاتها وغنمها مشهورة كما تصنع سجاجيد صلاة بديعة فيها ، وبها سجاجيد وبسط بديعة النقش ، كما تصنع بها مقاعد عجيبة ، وفيها حدائق الليمون والسفرجل والتمر ، وفى بساتينها الشمّام والبطيخ والخيار والعجور والقثاء والكرنب والقرنبيط والقلقاس.

بيان ضرائح الأولياء التى زرتها

ضريح شيخ الملة وقطب الدولة الشيخ على بطح ملت الذى كان من قبائل العرب التى فى وادى بطح بمكة ولذلك سمى بهذا الاسم ، ويزور ضريحه الرجال والنساء ، وبجانبه منبع الأسرار ومرجع الأبرار الشيخ صالح الطيار ، وإلى جانب الحمام من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الشيخ عبد الله بن عمرو بن العاص الذى جرح فى البهنسية أثناء إغارة عمرو بن العاص عليها ، وعلى ضريحه تاريخ إلا أنه كتب بخط غير واضح ، لذلك لم أتمكن من ذكره ، وعلى مقربة منه ضريح حاضر أسرار الطريقة وناظر أنوار الحقيقة الشيخ محمد الأنورى ، وبجانب الوكالة البيضاء ضريح الشيخة الست حورية ، وبالقرب منها الشيخ على كبارى ، وقد زرت ضرائح هؤلاء الأقطاب جميعا ، ولكن ثمة كثير من الأولياء والأتقياء مدفون فى هذه المدينة قدس الله روحهم. وقد مكثت فى هذه البلدة ثلاثة أيام ثم تجاوزت عشرين قرية على شاطئ النيل جنوبا ، وبعد ست ساعات بلغت :

٣١٣

قصبة فشنه

وهى على حدود بنى سيف وفى التزامها.

أوصاف قصبة فشنه

وهى قضاء يدر مائة وخمسين أقجه ، ويتحصل منها فى العام أربعة أكياس ، ويتبعها ستون قرية ، وهى قصبة صغيرة وجميلة ، لكنها معمورة تقع على ربوة بعيدة عن النيل وفى جوانبها الأربعة سبعة أبواب خشبية كأنها أبواب القلعة ، وبها ثلاثة آلاف بيت ، وفى كل بيت منها برج للحمام ويحيط بها من جوانبها الأربعة نخيل ، وفيها سبع محلات وسبعة محاريب وثلاثة منها جوامع ، وفى السوق جامع كبير الأمير ، مقام على اثنتى عشرة زاوية عليها أعمدة تحمل سقفا وله قبة ومنارة قصيرة ، وبها أربعة خانات وسبعة مكاتب للصبيان وعشرون دكانا وسبعة سبل وسبع مقاه وليس فيها سوق ولا حمام ، وبها دار ضيافة فى أسفل الجامع ، وبها يصرف الطعام للغادى والرائح كما يصرف العير والجياد للمسافرين ، وتقام فى يوم الجمعة سوق عظيمة بها ، ويجتمع فيها خلق كثير وكل إنسان يبيع سلعة.

أوصاف ضرائح فشنة

ضريح الشيخ عبد الله قدوة الرجال ونقطة الكمال ابن الشيخ جلال ، وكما أن هناك قبر للشيخ جودى ، وبالقرب منها الشيخ الأمين سلطان الدنيا والدين ، وبالقرب منه ضريح الشيخ أبو العال صاحب طريق الكمال والمجاهد بلا جدال ، وبالقرب منه الشيخ رمضان قدس‌سره رحمة الله عليهم أجمعين ، ولو وصفت سياحتى فى هذه القرى والبلدان والقصبات والضرائح ، وبفصاحتى وبلاغتى لتألف منها مجلد ضخم ، ولكنى أصفها على وجه الإيجاز وهذا ما يسره الله لى ، اللهم يسر لى إتمام ما أنا كاتبه.

ثم غادرت فشنه واجتزت اثنتى عشرة بلدة معمورة ، وبلغت :

صفد أبو جرج

وهى أيضا قرية وبعد سبع ساعات ، مكثت فى :

٣١٤

بلدة قيس

لأن الجو كان شديد الحرارة ، وهى التزام يتبع بنى سيف بعيدة عن النيل ، وبها مائة بيت ، وبها آبار عذب ماؤها ، ونزلت ضيفا على شيخ البلد لأن دار الضيافة كانت خربة ، وفى شمال هذه البلدة ضريح الشيخ إبراهيم عبد الرحيم ، وله مناقب كثيرة ورد ذكرها فى كتاب الطبقات للشعراوى إنه قطب عظيم ، وبجانبه شجرة غريبة وعجيبة ، إنها شجرة لا نظير لمثلها ، ويأتى إليها الغادى والرائح من الزوار والتجار ويندهشون لرؤيتها.

وصف هذه الشجرة الغريبة العجيبة

إنها تبلغ فى الطول طول خمس قامات للإنسان ، وثلاث خطوات ، إنها دوحة عظيمة وجذعها يتألف من فصوص فى جوانبها الأربعة ، ولمن ينظرون إليها من الوسط يبدو لهم أوراقا وثمارا ، وإذا بخّروا مريضا بالصرع بأوراقها شفى من مرضه بمشيئة الله ، ولها ثمر حامضى الطعم ذات قشرة إذا أكل منها مرتين فى الشهر مصاب بالإسهال شفى بأمر الله ويأتيها أرباب الحاجات أول كل شهر ، إنها شجرة سنط تنبت فى وسط الحديقة ، وهى شجرة لا ثمر لها تنبت فى بلاد العرب ، وهى تشبه شجرة طوبا التى توجد فى الجنة ، وهى تمد غصونها ويجلس تحتها الصبيان والظلال التى تمدها تتسع لألف إنسان ، يا لها من حكمة عجيبة إنها منكسة ، وجذورها بارزة من الأرض ، ويقول الشيوخ الذين طعنوا فى السن إن آباءنا وأجدادنا رأوا هذه الشجرة على هذه الصفات إن غصونها اتجهت إلى أسفل إنها تستحق المشاهدة لأنها خلق عجيب إن الله على كل شىء قدير ، ويفعل الله ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد ولا يسئل عما يفعل ، ورأى بعض المتقدمين فى السن أنها من الكرامات للشيخ إبراهيم وقد أراد أهل البلدة أن يشاهدوا بها كرامات الشيخ إبراهيم فسجد فى الموضع الذى نبتت فيه الشجرة ، فخلقها الله توا بأمر الله تعالى وإنها لم تنبت ولكن هبطت من السماء ، وظلت معلقة فقدم جميع من أنكروا الإيمان ، كما جاء فى تواريخ السيوطى عنها ، وقد قرأت أنا فى تواريخ المقريزى أن فى جنوب مصر القاهرة بالصعيد العالى شجرة معلقة ولا وجود فى الأرض لمثلها ، وفى

٣١٥

عصر بنى إسرائيل عمرت هذه الشجرة ألف سنة وقد عبد الله فى ظلها سبعة أنبياء وأن سبعة من اليهود استشهدوا فى ظلها وحينما دفنوا هناك بأمر الله ظهرت هذه الشجرة ونزلت أغصانها من السماء إلى الأرض ، وقتلة اليهود أكلوا منها فهلكوا ، وصار ساق الشجرة فصوصا عند ما جاء النبى آه واه ، وقد دفن فى ظلها هذا النبى ، والآن يزورها الخواص والعوام لذلك فما كتب عنها صحيح ، لأن ما جاء فى الخطط يعتمد على مراجع صحيحة ولكنى شاهدت الشجرة فلم أجد فى ظلها دفينا من الأنبياء ، وإنما دفن الشيخ إبراهيم فى ظلها.

وتجولت سبع ساعات ، نحو الجنوب على شاطئ النيل ومررت بقرى كثيرة وبلغت :

بلدة سمنوط (١) بالصعيد

وهى تبعد عن النيل وبها ثلاثمائة بيت كما أنها التزام ، وحاكمها الأسبق كان كاشفا ، وبها تتم حدود المنيا وإلى جوار ضريحه شجرة نبق عظيمة ولها نبق لذيذ الطعم ، وفى قبالة سمنوط على شاطئ النيل دير قبطى شديد الارتفاع وكنيسة كأنها قلعة عظيمة وفرعون بانيها ويجتمع القبط لزيارتها ، والرهبان يجمعون المال لخزينة مصر ، وثمة صخرة يجرى النيل من تحتها والرهبان من أعلى هذه الصخرة يغترفون من ماء النيل ويملؤن الصهاريج ، ويضيفون المسافرين ، ويكرمونهم إكراما عظيما ، ويقدمون إلى الضيوف ثيابا ويقومون على خدمتهم حتى الصباح ، وقد شاهدت هذا كذلك ومضينا إلى سملوط فى الجهة الغربية ، وركبنا جيادنا ومررنا بقرى المنيا على شاطئ النيل وبعد ثمان ساعات بلغنا بلدة المنيا.

أوصاف مدينة المنيا

مدينة جرجا عاصمة الصعيد العالى ، وهى حكومة تابعة للوزير ، وقد أصبح اثنان من بكواتها أميرين للحج مرتين ، ويحصل منها سنويا مائتا كيس ( ) (٢) ألف أردب من الغلال ويحرسها مائة جندى وسبع فرق من جند مصر ، ويفيض لها مائة كيس وثمة حاكم من قبل الوزير يكلف أغا فى تحصيل غلالها ، ويحصل لمعرفته ( ) (٣) ألف

__________________

(١) يقال لها : سمالوط.

(٢ ، ٣) بياض فى الأصل.

٣١٦

أردب من الحنطة والشعير والفول ، ويقدم إلى الباشا ستة أكياس ، ويفيض له خمسة عشر كيسا ومركز الأغا أعلى رتبة ويأتى فى كل عام أغا ليستعجل تحصيل الغلال وينال على ذلك أجرا قدره كيس واحد على استعجاله للغلال ، وهو ملزم كذلك بتحصيل الغلال ، وبها قاضى يحصل على ثلاثمائة أقجه ، وشريف القضا يتقاضى عشرين أقجه ، وفى نواحيها مائتان وعشرون بيتا جميلا ، وفيها أربعة مفتين يفتون على المذاهب الأربعة ونقيب للأشراف وسبعة من القواد ، وليس فيها عبيد ولا قائد ولا كتخدا سباهية ولا زعامت فى قراها ولا تيمارات ولا سيد فيها ولا رئيس للجند ، أما طائفة الجند من المصريين فكثيرة ؛ لأنها مدينة مزدحمة بالسكان ، وعلى شاطئ النيل بيوت ذوات طوابق على ربوة يسكنها أسر كريمة وبها مائة وخمسون من الزوايا والمحاريب والجوامع ، جامع قديم لعمر بن الخطاب لأن عمرو فى خلافة عمر بن الخطاب فتحها بعد أن تغلب على القبط ، لما أقام عمرو هذا الجامع كان معبدا قديما ، إلا أنه كان فى عهد الفراعنة ديرا وهو واضح على سد عال على شاطئ النيل وطوله تسعون خطوة ، وعرضه ستون خطوة ، وبداخله اثنان وخمسون عمودا من الرخام ، وحرمه مكشوف ، وله ثلاثة أبواب ومنارة قصيرة وسقف منقوش ، وتطل جميع نوافذه على النيل ، ومحرابه منحرف نحو الركن ، وهو من الخشب المنجور ، ويزدحم فى الفجر بالمصلين لكنه مقر طلاب العلم ، وتلقى فيه الدروس العامة ، وفيه أربعون أو خمسون حلقة تلقى فيها شتى العلوم ، ويختم القرآن من مائة إلى مائتى مرة فى اليوم والليلة ، وثمة من حفظة القرآن من هم أكمهون ، وكأنما هذا الجامع هو جامع الأزهر فى مصر إنها مدينة طيبة الماء لها الشهرة عند العرب والعجم ، وفيها يستجاب الدعاء ، وبه مبرة أوقافها عظيمة وبه يضيّف العلماء والفقراء والمساكين عمر الله هذا الجامع إلى انقراض الدوران (١).

وعلى ربوة على شاطئ النيل كذلك جامع الظاهر بيبرس ، ويقوم على ستة وثلاثين عمودا من الرخام ، وفى سقفه نقوش مذهبة بديعة ، ومحرابه ومنبره من الطراز القديم ، ولكن جدرانه الأربعة من الحجر المكسو ، وكأن كل جدار مرآة ، ولا وجود لمثله فى

__________________

(١) يعنى : إلى قيام الساعة.

٣١٧

أرض مصر ، وكل الرحالة الذين يقدمون مصر يعجبون لأساس هذا الجامع لأنه كان فى الأصل صومعة قديمة ، وفيه نقوش بديعة من كل الأنواع ويعجز عن وصفه الواصفون ، وفى مصر كثير من الجوامع التى أقامها السلاطين ولا وجود لمثلها فى سائر أركان الأرض إلا أن جامع المنيا هذا يختلف عنها جميعا لأنه فى طرزه عجيب غريب منقطع النظير ، وعلى قبته كتب هذا التاريخ (بسم الله الرحمن الرحيم أمر بتجديد هذا المسجد المبارك مولانا السلطان الملك الظاهر بيبرس خلد ملكه سنة عشرين وستمائة) وله بابان ومنارة وكل كواته تطل على النيل ، ولكن لا وجود لما يشبه جامع عمرو.

ويقع شمال المدينة وفى السوق السلطانية جامع الشيخ مصرى ، وهو تحتانى والمصلون فيه كثير ، ويوجد كذلك جامعان لا علم لنا بهما فضلا عن الزوايا.

وثمة ثلاث تكايا وإحدى عشرة وكالة وثلاثمائة دكان وحمامان ، وعلى مقربة من جامع عمر بن الخطاب حمام منذ عهد فرعون بقى على ما هو عليه ، إنه حمام قديم عجيب ، وهو معلوم لدى العرب والعجم وإذا دخله مريض تم له بأمر الله الشفاء وإذا دخله مجزوم أربعون يوما ، فكأنما خرج من بطن أمه بيضة بيضاء حتى أن ابنة على بن أبى طالب العذراء قدمت مصر ودخلته فشفيت من مرضها ، وهذا الحمام من بناء الحكماء القدماء وحوضه ذو صنبور مرتفع بقدر قامة إنسان ويكون فيه الوقوف ويستحم واقفا وإن لم يكن من الجص ، وقد طلى بابه وجدرانه بالمسك والعنبر والزعفران ، وجدرانه مبنية من الجبس الخالص والعبير ينعم بتنسمه كل من يستحمون فيه ، وينبع من جدرانه ماء الورد والمسك والكافور يتنسمه المستحمون ، وجوه معتدل لطيف لقربه من النيل وماؤه من النيل ، وأرضيته مفروشة بالحجر الأبيض ، وفى زمننا لا يستطيع عامل ماهر فينا أن يضع حجرا مثله فى موضعه ، وغرفة الثياب فيه صغيرة وغاية فى الصغر ، أما الحمام الذى فى قصر أغا الغلال فحمام جديد إلا أن جوه ثقيل ، وثمة أكثر من مائة سبيل ، وستون مكتبا للصبيان ، ولا وجود لسوق فيها ، وجميع أسواقها مغطاة لدفع الرمال والغبار وشدة الحر عنها ، وفى الوسط قصور فيها قصر الكاشف ، وقصر أغا الغلال على ضفة النيل وهو قصر جميل ، وكل قصورها وما فيها من شرفات ونوافذ

٣١٨

تطل على النيل ، وهى قصور عالية يمتد منها البصر إلى الدنيا ، وفى الجانب الغربى من هذه المدينة ستمائة قرية معمورة ، وهى بلاد ذات بساتين كثيرة واسعة وجميلة لاعتدال جوها فأهلها يشتهرون بالجمال ، وفتيانها حمر الخدود ومردانها يلبسون الحرير المنقوش ، والجند فيها كثير ، ويلبس فتيانها ونساؤها على رءوسهن حمر القلانس ، ويربطون على خصورهن مناشف بيضاء ويضعون على وجوههن براقع من الشعر ويسمون الخبز المخبوز الأحمر بالرغيف وهو أحمر اللون كلون الوردة الحمراء ، ومناشفها مشهورة وما أكثر الحدائق فيها ، وتجاه النيل فى هذه المدينة آثار فرعونية كأنها أطلال قلعة.

وجاء فى بعض التواريخ أن الشيخ المصرى مدفون فى جامع المصرى ، ولم يتيسر لى أن أزور ضريح آخر سوى هذا الضريح فى هذه البلدة.

ومضيت من هناك وسرت على شاطئ النيل نحو الجنوب ، وبعد خمس ساعات بلغت :

مدينة أشمونين القديمة

وقد بناها أشمون بن بيطر أبى القبابط بن نوح ، وفيها آثار وأطلال مغمورة فى الرمال ، وإذا تعرضنا لوصفها لمسّت الحاجة إلى مجلد كامل ، وفى هذه البلدة ثلاثمائة بيت وجامعان وعدة دكاكين وهى تابعة لكشفية جرجا ، وهى قضاء يدر مائة وخمسين أقجه ، وفى نهايتها أربعون قرية ، وبها سوق تقام كل أسبوع هى قصبة صغيرة.

وتجاوزتها ، وبعد ثمان ساعات بلغت :

قصبة بداوى ، أى بلدة ملوى

وهى تتبع حكم جرجا ، وهى داخلة فى كشفية المنية وألحقت بها قضاء المنية ، ويتحصل من قضائها مائة وخمسون أقجه فى الأحايين وبها ستون قرية ويحصل غلالها أغا غلال المنيا ولها قائد من طائفة الانكشارية وعدد من الانكشارية والعزب أما نقيبها ففى المنيا وهى على شاطئ النيل على ربوة ، وهى بلدة جميلة لأن النيل ينحرف جنوبها وقد عصفت الريح بكثير من بيوتها فهدمت وتخربت ، فأقام أهلها بيوتا لهم فى أرض واسعة بالقرب منها منذ خمسين عاما ، وهى بيوت جميلة وقصور شامخة ، وهى أربعة آلاف وخمسمائة بيت ولا وجود فى الصعيد لمدينة جديدة جميلة مثلها ، وجميع بيوتها

٣١٩

لها أبواب وجدرانها حمر وسود وبيض وكتب على كل منها اسم صاحب البيت ، وتاريخ بنائه وفى هذه المحلة ست عشرة محلة وأربعون محرابا وخمس خطب ، وفى السوق جامع يوسف بك يصعد إليه بسلم من ست درجات ، وطوله وعرضه ستون خطوة وفى داخله ثلاثون عمودا من حجر أبيض تحمل سقفه ، ومحرابه ومنبره خاليان من النقوش ، وفى أطراف حرمه اثنان وعشرون عمودا ، وله ثلاثة أبواب ومنارة ولا وجود لمنارة أخرى فى تلك البلدة ، وفى البلدة جامعان آخران علاوة على زاوية كما أن فيها حماما وأربعمائة دكان على الطريق وصاحب هذا الجامع يوسف بك ، وهذا الجامع وقف ليوسف بك ، ومائة دكان تبرع بهما محمد بك حاكم جرجا ، وكل الدكاكين مغطاة سطوحها ، وشوارعها الرئيسية نظيفة يسقى به السقاءون ماء النيل وبها ثلاثة خانات وسبعة مكاتب للصبيان وسبع مقاه ، وستة سبل وبيوت للعسكر وخمسون طاحونة مائية تديرها الخيول ، وسبع طواحين للزيت ، ولم أر فيها مخابز ، إن جميع الأهالى فى هذه البلدة يخبزون خبزهم فى بيوتهم ، يسكنها سبعة عشر ألف شخص ، ولكنهم يحبون ويضيفون الغرباء ، وفى جوانب المدينة الأربعة أبواب كأنها أبواب القلاع ، وهى من الخشب ، وعليها مزاغل ، ومنها تطلق النار على المجرمين من العرب إذا أغاروا على المدينة ، وفى كل ليلة يسد الحراس هذه الأبواب ويسلمون المفاتيح التى تخص أبواب المدينة إلى شيخ البلدة ، إنها مدينة مستتب فيها الأمن وجوها معتدل ، وأهل ملاوى مشهورون بالجمال ، ومحصولاتها معروفة ومشهورة وصناعتها أعرقها السكر والسكر النبات ، ولا وجود لمثله فى أراضى مصر ، ولكنه يأتى من الشام ، وفى بساتينها عود قصب السكر يبلغ فى الطول ثلاث قامات إنسان وهو فى غلظ الذراع وكل أنبوبة فيه قدر شبر ، وهو لذيذ كثير الماء ، وقد قطعت أنبوبة منه وعصرتها فى كوب فكانت مثل ماء الورد فكانت شرابا يجدد الحياة وهو مفيد للجسم وقشره رقيق ، ومجمل القول أنه لا وجود فى أرض مصر لما فى ملاوى من سكر وقصب السكر ، وهذه البلدة واسعة الشهرة بذلك وفيها كذلك أشياء أخرى كثيرة ، ولكن السكر هو أفضل ما فيها ، ولكنى لم أزر ضرائح كبار الأولياء فيها وإن كنت قرأت لهم سورة

٣٢٠