الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

فى مدح قلعة واردان

إنها قلعة جميلة حصينة على الضفة الشرقية للنيل إنها تحت حكم ملك فونجستان وعاصمته وهى مدينة معمورة جميلة للغاية ، وبها سبعة عشر ألف جندى من سمر البشرة مائتا ألف من الزنوج والبربر والفونج من حملة الرايات ، وهم مسلمون مؤمنون على المذهب الشافعى ، وبها سبعة جوامع وأربعون زاوية وخان وحمام وسبع وكالات وستمائة دكان ومكتب للصبيان وسبل ، ولكن ليس فيها أبنية على طرز أبنية الروم والعرب ، وليست هذه المبانى مزينة ، وفيها حدائق هنا وهناك وفيها بساتين كثيرة ، ومن شدة حرها تشوى الإنسان ، وجملة أهلها من التجار ، ومتى بلغوا بلدا حملوا السلع على ظهور الجمال والفيلة وعند السير إلى الجهة القبلية تطلع الشمس من خلف الكتف اليمنى ، وتقع هذه المدينة عند خط الاستواء فى الحبشة ، وعلى الضفة الغربية للنيل أرض مخوفة ؛ ولا يسكنها من أحد ، إنها صحراء قاحلة وفيها فيلة ، وعقبان ووحيد القرن فسرنا بمحازاة القلعة ، وصدنا الفيل ووحيد القرن وبعض الحيوانات الأخرى فى الكمائن بالأوهاق (١) والحراب.

وقد ألحق حاكم واردان حمل ألفى جمل من المؤنة وعشرة آلاف جندى مع جندنا ، ولم نتلبث (٢) بهذه الصحراء وقد رأينا بشاعة ما فيها وسرنا ثلاثة أيام بلياليها وبعد أن أخذ منا التعب مأخذه بلغنا ساحل النيل.

صحراء هانقوج العظيمة

إنها تحت حكم ملك فونجستان ، وهناك مكث عسكرنا وسمعنا فى الصباح صوت يقول الله كأن جيش كور حسين خان كان فى انتظارنا ، وكأن خيولنا وجمالنا مهيأة للتقدم ، وقد جاءنى خطاب يأمرنا بالتقدم سريعا فمضينا فى الصحراء ثلاث ساعات ، فوجدنا أنفسنا وسط كثرة من الرجال والجمال ، وهم يحملون الحراب والسهام والقسى ، والمزاريق ولا يعلم عددهم إلا الله ، وتجاوزناهم ، ووجدنا أنفسنا فى جيش تفوح من

__________________

(١) الأوهاق : الحبال ومفردها : وهق.

(٢) تلبّث بالمكان : توقف فيه وأقام.

٣٨١

رءوسهم رائحة ذكية ، وهم قوم سمر البشرة فى وجوههم مسحة من الجمال ، وقدم للمدد من ملك قرمانقه مائة ألف جندى وتجاوزنا خيامهم ، ثم وجدنا أنفسنا فى جنود ، وفيهم من يشبهون جنود المصريين والعثمانيين ، ورأينا لهم خياما تشبه خيام العرب فدخلنا السرور ومضينا إليهم ولهم ألفى خيمة من الحرير الملون وقد انعكست أشعة الشمس على مدافعهم فكان لها بريق يبهر عيوننا ، وقد مضيت إليهم غير خائف ولا وجل وتحدثت إليهم بكل أدب وقد استقبلونى عند الباب ، وبعد أن تصافحنا وعظّمته وركعت على ركبتى وقال لى بلسان تركى فصيح مرحبا بك ، فاطمأنت روحى ، وكأنه كان يعرف التركية الفصحى فبالقرب من أسوان كانت قبيلة من العرب مقيمة ففرحت بذلك ، وقلت : إننا قدمنا دون طعام فقدم لنا الشاى فشرب كل منا فنجانا من الشاى ، وقبّل كل من قدم معنا من القلعة يده.

كما أنه وقر ملك بربرستان كل التوقير فى البداية عند مقدمه ، وقبّل يد ملك الفونج الذى كان واقفا على يمنته ، والتقينا به طبق القانون المرعى ومنح من معنا من الجند المؤن ، وقال سوف نمضى لمواجهة العدو فى الصباح بإذن الله ، وقلت قدموا لنا الطعام كذلك فقال مرحبا ، وقد قدمت رسائل وزير مصر ورسائل أعيان جرجا ودراو ، وصاى وإبريم ، وقرأها ملك الفونج بلسان عربى بليغ ففهموا ما تضمنته هذه الرسائل ، فوقف فى التو واللحظة وأراد أن يقبل يدى ، وأمر وكيله بأن يهيىء خيمة بكل ما يلزم فيها فأقمنا بها ، كما أنه كان يحمل عنزا فى يده فقدمه إلينا كما كنت أحمل إزارا مزركشا فقدمته إليه ، فلفه حول رأسه فقال لله نحمد أننا تسلمنا هدايا الروم فوقفت ومضيت إلى الخيمة واسترحت فيها ساعة ، وقدم إلى خيمتنا بعد أن أصلحها العسكر والخدم ، فرفعنا من التراب وأكلت بعض الحلوى التى أحضرها وشربت كوبا من الشراب وسرّ كثيرا لما أحضر إلينا من حلوى وشراب ، وأهدينا إليه الحلوى والشراب المعطر فسر لذلك سرورا لا غاية بعده ، وقدمنا جميع المؤن على الجند ، وصاح العسكر طالبين إلىّ أن أتقدم ، وفى جوف الليل قرعوا الطبول ، وقودوا كل الخيام ، وكانوا على تمام الأهبة ، ولما أصبح نفخ فى البوق ، وانطلقوا فى طريقهم وطلبوا إلىّ أن أركب فيلا فصعدت سلما لأركب على ظهره

٣٨٢

فتلوت المعوذتين ، ومضينا فى الطريق وفى طليعتنا ملك البربرستان ودعا ثلاثة عشر منا لركوب الفيل وعلى ظهر الفيل تناولنا فطورنا وطوينا المراحل وبعد الطعام سرنا طاوين مراحل بعيدة وقد امتلأ طريقنا بالعرب ، وكانوا يمضون أمامنا زرافات زرافات ، وعلى ألف فيل حملت الأسلحة والمجانيق ، كما حملت المدافع ألف فيل وحملت الأسلحة والعتاد على ظهور مئات من الجمال ، كما أن المشاة كانوا لا يحصون كثرة ومضينا فى صحراء على النيل سبع ساعات.

أوصاف قلعة طومبو

إنها فى جزيرة عظيمة فى النيل وهى قلعة حصينة مربعة الشكل وفيها ألفان من الجند وعشرون ألف من الرعايا الزنوج ، وفى القلعة جامع وقد مكثنا قبالة هذه القلعة وقد قدم إلينا حاكم القلعة حمل خمسمائة جمل من الذخائر ، ولما أصبح الصباح ألحق بنا عشرة آلاف جندى من العرب وقد أهدى إلىّ حسين خان فيلا لأركبه فى رحلتنا ، فركبنا جميعا ، وقد بلغنا القصر واسترحنا من شدة الحر ، وصلينا ، ومضينا على ضفة النيل تسع ساعات.

فى تعريف قلعة جلته شوكزاوى

بما أن الشيخ شوكزاوى مدفون فى هذه القلعة لذلك سميت القلعة بقلعة شوكزاوى ، إنها على الضفة الشرقية للنيل وهى قلعة حصينة وعاهل الفونج له من الرعية خمسون ألفا وفى القلعة جامع ، ومنها يأتى المدد والذخائر ، ولما أصبح الصباح سرنا على ضفة النيل عشر ساعات.

أوصاف قلعة حفير فونجستان

إنها بناء على الضفة الشرقية للنيل ، وفيها جامع وأسواق صغيرة وحانة للبوزه ، وللقلعة رئيس ويقيم بها ستون ألف من الرعايا ، وقد قدمت إلينا كذلك الأطعمة ومضينا على ضفة النيل جنوبا وكان الحر غاية فى الشدة وفى الساعة الحادية عشرة بلغنا قلعة مشو.

أوصاف قلعة مشو

إنها قلعة على الضفة الغربية للنيل وهى تحت حكم الفونج ، وفيها جامع ولها قاض

٣٨٣

وعدة مقاه وحانة للبوزه ، وقبالة هذه القلعة قلعة طومبول ، وبها جامع بلا مئذنة ، وحاكمها هو ناصر بن طومبول ، وطومبول اسم قوم عظام وقد شاهدناها ، وعبرنا إلى الضفة الغربية ، ومكثنا فيها ثلاثة أيام بلياليها ، وقد وزعت الأسلحة على جميع الجنود ، وأخذوا أهبتهم للحرب ، وفى اليوم الرابع مضينا إلى الجانب الغربى فى جنود لا يقعون تحت حصر ، وقد مكثنا عند بحيرة فيله ، ويحمل من البحيرة فى كل يوم حمل مائة ألف جمل من الماء ، وفى الصباح مضينا ، وجملة القول أننا طوينا مرحلة بعد مرحلة فى مدة يومين وثلاث ليال.

صحراء ادريسك

فيها أربع قرى وفيها دارت رحى القتال وفى الصباح كانت المجانيق تنطلق من فوق ظهور الفيلة والمدافع أيضا تنطلق من فوق ظهور الفيلة وزحفنا نحو العدو ، وتلوت الفاتحة وأنا إلى جانب حسين بك ، ومضينا فى الصحراء أربع ساعات ، وهناك رأينا جند من الكفرة هبطوا علينا من الجبال وكانوا جندا كموج البحر ، وواجهوا جنودنا ، ولكننا لم نتقهقر حتى تقهقر العدو إلى الجبال ، وتفرقوا فى الصحراء ، أما جنودنا فصاحوا جميعا فى صوت واحد قائلين الله الله ، وهاجمونا بالخيول والجمال والفيلة ، وقد أطلقوا المجانيق وقد اختلط جنودنا بجنودهم فواجه الجندى جنديا.

وخلاصة القول أن المعركة دامت سبع ساعات وكانت غاية فى شدتها وضراوتها.

وفى وقت العصر عندما قيل انهدم بيره مخاف اطمأنت قلوب جنود الإسلام وقرت عيونهم أخبر حسين بك بقية جند الكفاح بالمجىء فقدموا وقت الغروب فمضيت إلى حسين بك وقدمت إليه التهنئة قائلا بارك الله فى غزواتك فرد بقوله هذا من فضل ربى ، ولفرط سروره بذل الأموال لنا جميعا ، وفى الصباح ارتحل عن هذا المكان وأمر الجند بالإغارة على عبدة النار ، أما غير الجند فبقوا تحت :

قلعة فردانية

ومضى الجند أفواجا لتخريب ديار عبدة النار ووجدوا فى قلعة الفردانية جميع

٣٨٤

الأموال والأرزاق ، ودخل القائد المعظم حسين خان مع جنوده القلعة ، واستولى على كل ما فى القلعة من خزائن وأمر جنده بالرحيل إلى القلعة ، وأقام فى قلعة عبدة النار ، ومضيت إلى قصر رئيس عبدة النار ولكن هؤلاء القوم حفروا داخل وخارج القلعة وخربوا هذه القلعة ، فأخرجوا ما لا يحصى كثرة من الفؤوس ، أى أنهم وجدوا أرض الذهب ، كما عثروا على سن الفيل وقرن وحيد القرن والمسك والعنبر والذهب والأقمشة الفاخرة فهى نادرة فى هذه الديار ، وأموالهم هى الفيل والفرس والجمل والكبش والعجل والجاموسة وهى كثيرة عندهم لا تعد ولا تحصى ، أما ما يستحسنه أهل هذه البلاد فهو ما يأتى إليهم من مصر من كتّان ومن حرير ، وقسى ورماح وسيوف وقد بناها كنعان بن نوح الذى ارتد عن دين أبيه ولم يركب معه السفينة ، وهذا على حد قول عبدة النار ، إن هذه القلعة على ربوة تطل على بحيرة وكل حجر فى بنائها يبلغ فى الطول والعرض خمسين أو ستين شبرا ، وقد بنيت على شكل مسدس ، وتتألف من طابقين ومحيطها ثلاثة آلاف خطوة ، ولها باب يفضى إلى الشرق وفى داخلها بيوت مبنية بالحجر ، وفيها عدة بيوت تحت الأرض وكأنها غار الجحيم ، وفيها قوم ليسوا من عبدة النار ، لأنهم من عبدة الشمس وقد أغرنا على هذه البيوت وقد أخرجنا منها كثيرا من الغنائم ، وليس فى هذه القلعة أثر يدل على أنها كانت كنيسة من قبل ، وفى وسطها ميدان ويجتمع عبدة النار فى هذا الميدان كل صباح فى ظل أشجار السنط والسنديان والأبنوس ويسجدون وفى جوانب هذا الميدان الأربعة أشجار كأنها الجبال ويحضرون منها الحطب يحملونه على ظهور الفيلة والخيول ، ولكن فى بيت النار هذا طائفة الفونج والقرمانقى والققانى أطفئوا النار وتبولوا وتغوطو عليها ، وقد رأينا بعض الأسر يصيحون ويبكون وقد عرفنا أن بيت النار هذا لم تنطفئ فيه النار منذ ثلاثمائة عام ، وفى زعمهم أن هذه النار هى النور الإلهى ولكنها لا تدوم وتنتهى ، وهذه هى حال بيت عبادتهم ، وهذا ما أحزنهم ، أما عبدة النار الذين يسكنون تحت الأرض ، فليس لهم كنيسة ولا بيت للنار ، ولكن على غارهم بحيرة واسعة يطل عليها عمود ، وقد حفر فى هذا العمود محراب متجها إلى الغرب ، وجميع عبدة النار يجتمعون ويسجدون للشمس حينما

٣٨٥

تشرق الشمس وترسل أشعتها على شرق هذا المحراب ، ثم يرقصون وينصرفون ويفعلون مثلما فعلوا عند غروب الشمس ، فهم يقيمون شعائرهم هذه كل يوم ، وقد أبطل حسين خان هذه الشعائر ، وجملة القول أننا مكثنا فى هذه القلعة شهرا بتمامه ، وقد أغرنا ليلا إلى أسوان على عبدة النار وعبدة العجل وعبدة الفيل وعبدة الشمس وقد غنمنا كثيرا من الغنائم فى كل يوم ، وانطلق جنودنا وعادوا بالغنائم من فيل ووحيد القرن وفرس وجمل وحمار وجاموسة وثور وكبش ، وعلى كل فيل عشرون أو ثلاثون أسيرا وعلى كل جمل خمسة أو ستة أسرى كما جاءوا بخيول وحيوانات ومن كل ولاية جاءوا بفتيات وفتيان وزنوج ، وبعد ذلك فى أحد الأيام من عام ألف وثلاثة وثمانين خربوا قلعة فردانى وكان المسير على شاطئ النيل فسرنا نحو الشرق إحدى عشرة ساعة ومكثنا على ضفة البحيرة ، ثم قمنا ومضينا شرقا فسرنا سبع ساعات على شاطئ النيل وقد سبق لنا أن عرفنا قلعة مشو ومكث الجند مع غنائمهم على ضفة النيل ، وبعد إحدى عشرة ساعة أمرنا بالبقاء فى هذه القلعة على ساحل النيل لمدة ثلاثة أيام ، والتفت كلّ منّا إلى غنائمه ، ثم مضيت إلى حسين خان وقلت له لله أحمد أنك نلت النصيب الأوفى من هذه الغنائم ، ووصلنا إلى مملكتنا سالمين غانمين ، ونحمد الله على أنك كنت سببا فى نيل هذه الغنائم ولقد خدمنا شهرين ، فأذن لنا أن نمضى إلى ملك فونجستان حتى نسلمه الرسائل والهدايا ، وقد تفكر طويلا فى هذا مما قلنا له ؛ فقال لقد سررت كثيرا لمجالستك ومحادثتك ومصاحبتك ولقد تعشقناك ولكن لنا نصيحة فاقبلها منا ، فأنت من قوم الروم وغريب الديار وأنت الآن ضيف لنا وأنتم مسلمون ، ولقد جعلنا ديار عبدة النار خرابا يبابا وقد غنمنا من ديارهم الأنعام والأسرى وأخذنا منهم الأسرى ولقد منّ الله علينا بذلك بلا حدود ولا حساب ، وقضينا على عبدة النار إلى آخرهم ، وسلكنا طريق الفونجستان والبربرستان إنهم قطاع الطريق ، وأعداؤنا فى جميع الأرجاء تم لنا قهرهم ، فارجعوا إلى ولايتكم وسنرسلكم إلى فونجستان فى الموسم فى السفن ، ولتبقى جميع خيولكم وجمالكم عندنا وهذه هى نصيحتى لك وسوف يتيسر أمركم بمشيئة الله ولكن هذه النصيحة لم تصادف رضا وقبولا ، وقد استأت لهذه النصيحة ، وصبرت على

٣٨٦

تكراره لهذه النصيحة ، فقدم رجل ومعه ستار أبيض واضح اللون فألقاه أمام حسين بك وسجد عليه ، وقال يا مولاى إن ملك بربرستان قادم فقال له : ليقدم ، وسرعان ما فتح باب الحجرة فقدم بربر رءوسهم عارية وقد جلس ملكهم إلى جانب الخان وتعانقا وبعد ذلك حييناهم وقلنا فلنمض إلى ولايتكم ، لأننا لا ننسى تسلط العدو علينا ، وقد طلبوا من حسين خان المدد لولايتهم فقال لهم على السمع والطاعة ووجهوا الكلام إلىّ قائلين ، ولقد يسر الله لك عملك ها هو ذا ملك الفونجستان يمضى فى مائة ألف جندى إلى ولايته ، وهو يمضى معهم إلى بربرستان وسوف نسر كثيرا إذا ما أطلعت ملك فونجستان على مطلبه وامدده بما طلب من الجند فقال الملك على السمع والطاعة ، وقام من مجلسه وأراد أن يقبل يدى ولكنى لم أمكنه من ذلك فجذبت يدى ، وكأنما كان المحبة لهم دأبا قديما ، وكانوا يشترطون لتعظيم أضيافهم تقبيل يدهم ، ولله أحمد أنى وجدت رفيقا عظيما ، فشكرت الله وقد خاطبنى ملك من ملوك الأرض ، فقال في الصباح امضوا إلى طراود ، وقد ودع حسين خان ثم مضى ، وذهبت إلى خيمتى واسترحت فيها ساعة فرأيت الخان قادما ، فوثبت قائما لأستقبله وصافحته فأتى إلى خيمتنا وخلفه قافلتان من الجمال تحملان ليف النخيل وفى غرائر سن الفيل وعشرون من العذارى الجميلات الحسناوات السمراوات ، وعشرة جمال عليها عشرون من غلمان عبدة النار وهم سمر البشرة حمر الوجوه وقد وهبنا هذا كله كما وهبنا أفيالا وجمالا ، وعددا من الزنوج الأسرى وقد قيدنا الأسرى حتى لا يفروا وقد نصحنا بأن نحذرهم ونحرسهم فى الليل كما منحنا فأسا من الذهب وعشرة قرون من قرون الثيران وعشرة أقفاص فيها ببغاوات ناطقة وصندوق من المسك وآخر من العنبر وحمل جمل من الكاكاو وبعد كل هذه الهدايا حيّانا بأحسن تحية وقال وفى عودتكم بخير مروا بقلعتنا ، ثم مضى إلى مسكنه ، وفى الصباح هيأنا أحمالنا ومضينا إلى جند بربرستان وقد أرسل إلينا حسين خان ألف جندى لتوديعنا ثم مضينا سبع ساعات وبلغنا قلعة دفنا.

قلعة دفنا

إنها قلعة صغيرة مربعة الشكل فى جزيرة عظيمة فى النيل وبها كثير من المدافع والفيلة وبها خندق وسوق ولا عمران فيها سوى ذلك وإن كان فيها جامع صغير بلا

٣٨٧

مئذنة وهذه تحت حكم ملك بربرستان ووصلنا بكل هذا القدر من الهدايا التى كانت معنا إلى هذه القلعة التى ليس فيها شىء يذكر ، إنها فى الصعيد العالى والقوم هناك هزيلو الأجسام لا يزرعون وعلى ضفة النيل ينبت القطن والكتان والبرسيم والسمسم والفول والأرز والعدس ، وفى أرضهم الذهب إلا أنّهم قوم عبيد متمردون ، وفى الصباح خصنا رئيس قائم مقام القلعة بخمسمائة جندى لأن فى هذه الليلة فرّ منّا زنجيان من عبدة النار ثم بعد ذلك مضينا جنوبا وسرنا على شاطئ النيل وبعد مسيرة عشر ساعات على ضفة النيل بلغنا قلعة أمداج أرقو.

قلعة أمداج أرقو

وهى قلعة واسعة فى جزيرة فى نهر النيل قريبة من الجانب الشرقى وهذه الجزيرة قليلة السكان ، وفى الجزيرة غابات أشجار الأبنوس وقدمنا إلى حاكمها الهدايا وسرنا جنوبا تسع ساعات وبلغنا قلعة بنى.

إنها كذلك قلعة فى جزيرة فى النيل تحت حكم البربر ، إنها بناء مربع مرتفع ، وقلعة جميلة ، وقد أتى إليها الإمام مالك فى سياحة له ، وقد شرفوا بالإسلام ، وبعد أن اعتنقوا الدين الحنيف وبناء على اقتراح الإمام مالك أقاموا هذه القلعة ، وعلى باب القلعة كتابات للإمام مالك بالخط الكوفى ، ومقدم الإمام مالك إلى هذه القلعة لأن قطب الأقطاب الشيخ عز الدين كان على قيد الحياة فالتقى به فأصبح فريد زمانه ، والشيخ عز الدين مدفون فى هذه القلعة ، ولخوفهم من هذا القطب سكن جميع سكان الجزيرة خارج هذه القلعة ولا وجود لإنسان داخل القلعة ومن يدخلها من بابها يخلع نعليه ، ولا يستطيع أحد أن يتبول أو يتغوط وهو فيها ، ولقضاء حاجتهم يخرجون إلى ضفة النيل فقد بقى بداخله ثلاثة بلا تغوط ولا تبول وهم لا يربون من الأنعام إلا الحصان والجمل لأن نجاسة باقى الحيوانات نجاسة غليظة ، ولأنه قطب عظيم ولا يجرؤ أحد فى تلك الجزيرة على أن يفعل السوء أو يرتكب إثما أو يظلم أحدا فهو قطب طبق صيته الآفاق ، وقومه من الموحدين ، ومؤمنون من أهل التقوى ، ويقصده المرضى والصغار ليشفوا من مرضهم ؛ فيزول عنهم ما بهم قبل أن يصلوا إلى ضفة النيل ، وسرنا ثمان ساعات على ضفة النيل وبلغنا قلعة أرتد.

٣٨٨

فى وصف قلعة أرتد

إنها تقع على الضفة الغربية للنيل إنها مربعة الشكل ، وحاكمها زنجى وهو يقدم الهدايا إلى حاكم بربرستان ، وهو من أهل القلعة ، وسرنا على شاطئ النيل لشدة حرارة الجو فبلغنا قلعة أرنش.

وصف قلعة أرنش

إنها قلعة فيها جامع ، وبها من الرعايا خمسون ألف إنسان وألف جندى ، وهى قلعة معمورة وحاكمها فرجون فهو بربرى ولا يوجد فيها سوق وبعد أن تجاوزناها بخمس ساعات بلغنا قلعة جبرية.

قلعة جبرية

إنها قلعة جميلة وبداخلها ثلاثمائة بيت من قصب ، وبها جامع بلا مئذنة كما يسكنها خمسمائة إنسان ، ولكن خارج هذه القلعة فى الصحراء وحولها تسكن الصحراء قبائل الجبرية ، وكلهم على مذهب الجبر ، وليسوا على المذهب المالكى ، وهم لا يؤدون الصلاة فى أوقاتها الخمسة ، ويؤخرون الأذان عن أوقاته الخمسة وأذان الصلاة عندهم بكيفية خاصة بهم أما نحن فنقول حى على الصلاة مرتين ، وحى على الفلاح مرتين أما هم فيقولونها فى أوله وآخره ، أما نحن فنقولها مرة واحدة فى الأذان وليسوا أصحاب سنة إنهم يصلون خمس مرات فى أربع وعشرين ساعة ولكن أى وقت كان وبعضهم يجمع الصلاتين بالقصر ، ويصلون الصلوات الخمس بإقامة واحدة ، فهم لا يكررون الإقامة ، وهم قوم أكثر العدد على المذهب الجبرى ، وعلى مسيرة اثنتى عشرة ساعة قلعة حنّاق.

قلعة حنّاق

إنها قلعة كبيرة مخمسة الشكل فى داخلها سبعمائة بيت من قصب وكل فرد فيها له منزل ، وبها جامع وحول القلعة فى الصحراء بدو على المذهب المالكى إنهم قوم زنوج على المذهب الجبرى وعددهم مائة ألف من الرعايا إنهم فى إقليم الفونج وهم أشداء شجعان وليس فيهم من يركب الخيل ولا الفيلة ، وخانهم الشيخ عشاب ابن ملك الخاقان ، أما القلعة فحاكمها هو حسين الفونجى البربرى فقد أتى إلى الملك ومعه الهدايا ، وبعد سبع ساعات بلغنا قلعة خندق.

٣٨٩

قلعة خندق

إنها قلعة صغيرة على الضفة الغربية للنيل بها جامع ومن بين مدافعها مدفع من الذهب وهى قلعة تشبه الخندق الصغير فى خارجها خندق عميق فى الأرض ، ولذلك سميت القلعة بقلعة الخندق ، وبداخلها مائتا بيت من قصب ولا يسمح للجبرية بدخولها ، ويمشطون شعورهم على جانبين ، وهم يحلقون أقفيتهم ، وبذلك يعرف أنهم من الجبرية ، وأنهم بدو ، وقد قدم حسين بك إلى حاكم القلعة هدية من مائة قربة من البوزه وقد أتى علينا عيد الأضحى ونحن فى ضيافة البربر ، وبعد اثنتى عشرة ساعة بلغنا قلعة قولى.

قلعة قولى

قلعة على الضفة الغربية للنيل ، وبها جامع وثلاثمائة بيت يسكنها البربر ورئيسها سليمان بن بشير ، وقد قدم لنا مائة خروف وخمسة جمال صغيرة وسبعون قربة من لبن النوق المجبن وعشرة جمال محملة بخبز الذرة ومنها بلغنا قلعة بقر.

قلعة بقر

إنها قلعة تقع على الضفة الغربية للنيل والجانب الشرقى منها منهدم ويسكنها فقراء من البربر ، وحاكمها حسين الفونجى ، وقد أهدى إلى ملك البرابرة جوادا وثلاثة جمال وما غنم ملك البرابرة من فيلة وجمال ومما لا يلزم من أنعام أطلقها إلى صحراء قلعة بقر مع الجمالة والفيالة لترعى النباتات والأعشاب وبذلك ردت عليها الروح ، وأهالى دونقله خرجوا جميعا لاستقبال الملك زرافات زرافات قائلين بارك الله لكم فى غزوتكم وقدموا الهدايا كما وزع على العلماء من مال الغنائم لكل فرد منهم خمسة أو عشرة خراف وقد عرفت من ذلك أن ملك البربر شحيح لقلة ما أهدى إلى العلماء ففى هذه الديار يقدمون عشرة خراف ثمنا لذراع من الحرير أما الحرير فى جرجه فالذراع منه ثمنه منقرتين ، وفى خيمته كان يأكل لبن النوق وخبز الذرة ، وعلى الدوام يطلب المتعة ، فيطعم ويشرب ، ويدمن شرب البوزه فما التفت إلىّ إلا أننى كنت أحسن العشرة.

وفى الصباح لبس جميع الجند البربر ثيابهم النظيفة وقد تزينوا بأسلحتهم ولملك بربرستان جنود يحملون الحراب يحيطون به ، وهم يؤلفون جناحا أيمن وآخر أيسر ، فى

٣٩٠

انتظام كما كان طليعة جنده خمسين ممن يحملون السهام وقد تغنوا بلغتهم وانطلقوا فى طريقهم ، وقرع أتباع الملك الطبول وعلى هذه الحال مضينا سبع ساعات على ضفة النيل.

أوصاف بلاد السودان

وصف قلعة دنقله المدينة العظيمة والعاصمة القديمة لبربرستان

على حد ما ورد فى تواريخ القبط أن أول من بنى هذه المدينة هو نقول بن حام بن نوح ـ عليه‌السلام ـ ، ونوح نبى عاش ألف سنة وبعد أن أنجاه الله من الطوفان جعل يتجول وقد استوطن هذه البلاد ، ثم زوج ابنه حام فتاة فولدت له ولدا اسمه فى العربية دنقل وعلى مر الأيام كثر أولاد حام ونزل نوح وأولاده وقومه ذات يوم ضيوفا على حام ولحكمة يعلمها وجد الراحة عنده ، وانكشفت عورة نوح وهو نائم فقدم ابنه حام فرأى عورة أبيه قد انكشفت فجعل يقهقه ومضى بعيدا ودلّ على ذلك سام ويافث فأخذهما الخجل لما شاهدا عورة أبيهم وخرّا مغشيّا عليهما من فرط الخجل ، وبينما كانا يستران عورة أبيهما بإزار أفاق من نومه وجعل حام الغرير يضحك ، ونظر حام الغرير إلى أبيه فسأله نوح عمّا يضحكه؟ فقال : إن يافث وسام حدثاه عن انكشاف عورته.

وطلب نوح من الله الملك ، وأن يعمر ابنه سام ، كما دعا الله أن تملأ ذريته الدنيا ، ودعا الله أن يعمر ابنه يافث وأن يكون ملوك الأرض جميعا من ذريته ، ولا تنقرض ذريته إلى قيام الساعة ، كما استجاب الله دعاءه بأن يكونوا مرفوعى الهامة فى الدنيا والآخرة ، وأن ينتهى نسب جميع ملوك وسلاطين الأرض إلى نوح ، وأن نسب جميع العرب والعجم وجميع المرسلين والأنبياء إلى سام ابنه وأن يعمر ابنه حام فى هذه الأرض الشديد قيظها ، وأن يكون أولاده فى جزيرة مصر وأنعامه لا تدخل تحت حصر وقد دعوت الله أن يجعل أبناءك فى هذه الأرض يمشون عراة لأنك ضحكت ولم تستر عورتى ، وأن يمشوا عراة سود الوجوه إلى أن تقوم الساعة ، كما دعوت الله أن يجعل وجه حام أبيض فى الآخرة فأمر الله أن يستقر حام فى دنقل ، وأن من ذكر انكشاف عورة أبيه اسود وجهه ، وجميع العرب ينتهى نسبهم إلى حام ، وقدم نوح مع غير هؤلاء من أولاده إلى مصر وبقى حام المذكور

٣٩١

فى منطقة خط الاستواء وكان له من الأبناء مائة ألف وكانوا سود الوجوه ثم مات حام الأسود وأفضى حكم دنقل إلى أولاده ولأنه بنى قلعة دنقل أثناء حكمه ، سميت هذه القلعة ولاية أسوان باسم دنقل ولتخفيف الكلام حذفت الألف فأصبحت أسودان فى سودان وكانت بلادا عظيمة فى الزمان الخالى ، وأساس عمائرها ما زالت ماثلة ، ولقد خربها كذلك أبرهة اللعين ولكن تبقى بعد ذلك جزء من قلاعها وبيوتها وعمائرها وقلعتها مبنية بالآجرّ الأحمر وتقع على الضفة الشرقية للنيل إنها قلعة قديمة لا خندق لها ، ولها ثلاثة أبواب منها باب يطل على النيل ، وفى داخلها بيوت من الجص تبلغ ستمائة وخمسين بيتا وهى من الحجر المحروق يسكنها البربر وفيها سبع جوامع وتسع مساجد وستة مكاتب للصبيان ، ولا أبنية فيها غير ذلك ، إنها تقع على صخرة قائمة ، كما أن قصر الملك قلعة ، وليس فى هذا البلد بيوت عامرة ، ولكن خارجها ثلاثة آلاف بيت للبربر ، وبعضها من اللبن وبعضها الآخر من القصب ، وفيها عشرة جوامع يدعى فيها لسلطان العثمانيين ثم يدعى بعد ذلك لملك الفونج لأن السلطان العثمانى خادم الحرمين ؛ إنهم قوم أتقياء على المذهب المالكى ، ولا يعرفون الغيبة ولا النميمة ولا سوء الظن ولاستقامتهم وحسن أخلاقهم فيجمع خدم التجار من البرابرة ، ويسمون الجندى بالبربرى ، وهم ستون ألف ، أما البرابرة فعددهم ثلاثمائة ألف رجل والبرابرة يشتغلون بالزراعة والتجارة فيزرعون الشعير والذرة ويحصدونها وطعامهم خبز الشعير والذرة ولحم الطير ولحم الجمل ولبن النوق ، وبوزتهم جيدة للغاية ، ويأكلون لحم القطط فهو عندهم مباح فهم يقولون : (جدى قطه) أى : القط اللذيذ ، وإنهم يأكلونه عند الضرورة ويشربون ماء النيل ، ويصيدون فى الصحراء الفيل والزرافة ووحيد القرن والغزال وأظافرهم كالمخالب وبها يتناولون الطعام.

وصف الزرافة

إن خدام صاحب بيتنا يحترفون صيد الزرافة ، ويصنعون منها الكباب ولكن لحمها دسم للغاية ، وطلبوا إلى أن آكله وقالوا إنه حلال إن شاء الله فلم نر لها ذكرا فى القرآن الكريم ، ولا وصف لشكلها ولا جسدها فجلدها مثل جلد العجل ولها عنق طويل كعنق الجمل ، ورأسها كرأس العنزة إلا أنه أكبر ، وهى تفاحية العين ، وأذنها كأذنى الجمل

٣٩٢

وعلى ظهرها خطوط سوداء وذيلها كذيل العجل وقوائمها طويلة وحوافرها من شطرين ، وعنقها كالمئذنة تبلغ به الشجر العالى ، فتأكل من الأغصان كما أنها ترعى أنواع شتى من الأعشاب فى الأرض ، إنها حيوان جميل ولحمها ألذ طعما من لحم العجل ، والبربر يصيدونها بالحيلة وللحم الخراف فى هذه الديار رائحة كرائحة المسك لأن الماء عذب فرات ولذلك تنمو به الزروع المختلفة التى ترعاها ولا يشبهها علف فى بلاد أخرى ، كما أن طيب الهواء سبب فى جمال النساء فى تلك الديار ، ولهن عيون الغزال وسمر الوجوه كأن ثغورهن البراعم ، إنهم حقا من نسل نوح ، ولكن الناس لا يلبسون ثيابا ، وإنهم يكتفون بإزار عليهم ويتلففون به ويفرقون شعورهم ، ولشدة القيظ كأنهم فى جهنم ، وأجسامهم نحيلة ، ولكنهم يتصفون بالجرأة والشجاعة ، ويتصفون بالبخل والطمع والجشع وهم يتجولون وهم جياع ، ويطعمون ما يجدون ، إنهم حفاة لا يسترون رءوسهم وحاكمهم هو رفيقنا محمد بن حسين ، وهو تابع لملك الفونج ، وكان معنا فى محاربتنا لعبدة النار ، ولكن بلادهم يسود فيها الأمن والأمان ، وإذا ظهر فيها قطاع للطريق بادروا إلى قتلهم ، ولا وجود للنقود فى هذه الديار ، كما لا وجود لسوق ولا خان ولا حمام ولا مبرّة ولا سبيل ولا مدرسة ، ولكن يوجد بها حانات للبوزه ، ومقهى ، ولا وجود لحدائق والقردة كثيرة ، ولا وجود للفاكهة ، ويكثر الشمام والبطيخ فى البساتين ولا وجود فيها للمآذن ، وفى أيام الجمعة يحتشد الرعاع ، وتقام سوق فى ميدان وسيع ويشترى كل ما يريد من سلعة ويشاهد النخيل فى جهات متفرقة وبين هذه البلاد وبلاد النوبة مسافة طويلة ، وفى غرب هذه البلاد مدينة :

مدينة زغاوه

تقع هذه المدينة فى الإقليم الأول ، وقد كانت مدينة عظيمة فى قديم الزمان ، وكنت فى دنقل أتحدث مع الملك طيلة ثلاثة أيام وأخذت من الغنائم التى غنمها حسين خان حاكم حفير وهى ما أقدّمه هدية إلى ملك الفونجة ، والتى أحضرتها إليه ، ومن أمواله قدمت ألف جمل وسبعين فيلا وألف عجل وستة آلاف خروف وخمسمائة أسير من

٣٩٣

عبدة النار ، ومضيت إلى ما فى المدينة من المزارات ففى المقبرة ضريح الشيخ بن عيسى وعلى ضريحه يهبط فى ليالى الجمعة نور ، وفيها كذلك ضريح الشيخ أعوا كما أن هناك ضريح الشيخ أبو بكر والشيخ أبى القاسم.

وفى نفس المقبرة ضريح الشيخ بلبل والشيخ غلام الله ، وقد زرت هذه الضرائح وعند ما عدنا إلى بيتنا قدم علينا ملك بربرستان ، فشرفنا بزيارته لنا فمنحنا اثنى عشر جملا وفيلا أسود ، وعشرة من الجمالة ، وعشرين عبدا أسود ، وست نساء وشمعدان من الفضة ، وحقا كبيرا فيه حجر سيلان الثمين وكأن كل حجر منه ياقوت بدخشان ، كما منح كل خادم من خدامنا ثلاثة جمال ، وطلب المعذرة ، كما عين جنديا من جنود القلعة لحراستنا فى مسيرنا إلى فونجستان كما قدم إلينا وسادة مخططة وعمامتين وإزارين وقد رقصوا من فرط السرور لأنهم لم يجدوا مثل هذا فى بلاد الروم وقد تقبلنا هذا ، ثم مضى إلى قصره فأرسل لنا بعد ساعة خمس من العذارى الجميلات وحمل جملين من سن الفيل وقد أمر القاضى بأن يحمل هذه الهدايا إلى ملك الفونج ، وفى الصباح ودعنا الملك وعزمنا على الرحيل ، ومضينا على الضفة الشرقية للنيل ثمانى ساعات حتى بلغنا سور طوشى.

أوصاف سور طوشى

إنها قلعة فى جزيرة فى النيل فى الجانب الغربى من الجزيرة وقد سألت عن بانى هذه القلعة فما عرفوه ، وهى كذلك كقلعة دنقل لها ثلاثة أبواب ، ولكنها ليست قائمة على صخرة كقلعة دنقل ، إنها قلعة عظيمة مربعة الشكل ، إنها تحت حكم فونجستان وبداخلها بيوت للبربر وحولها حانة للبوزه ، وجوامع ولا عمران فيها غير ذلك ، ولحاكمها ثلاثة آلاف من الجند وسبعة آلاف من الرعايا البرابرة ، وكان أكثرهم معنا فى حربنا فى الفردانية ، وفى هذه الجزيرة كثير من التماسيح ، إنها تختطف الخراف والعجول والجمال وتجذبها إلى الماء فتغرقها ، إنها تماسيح أسوان اللعينة ، وطول الواحد منها من أربعين إلى خمسين ذراعا ، وسرنا على شاطئ النيل فى غاية القيظ لمدة ثمان ساعات.

٣٩٤

وادى العفاريت

مكثنا فى صحراء مترامية الأرجاء وفيها من أشكال العفاريت كل عجيب وغريب ، إن هذه الأشكال الغريبة على ربوة مرتفعة فى ميدان واسع ، وفى جوانب هذا الميدان الأربعة كراسى ، وفى الجانب الغربى من هذا الميدان سبعة أعمدة ، وعلى ذروة هذه الأعمدة حجر كبير يصل بين هذه الأعمدة ويغطى هذه الأعمدة السبعة ، وهو يحمل فوق الأعمدة ، ويقوم على هذا الحجر تمثال لامرأة من النحاس الأصفر وإذا ما شاهدها إنسان انشقت مرارته وقد ارتفع رأسها ارتفاعا عظيما كما أن غدائرها منتشرة متفرقة ، وقد حدقت بعينها فى الشمس فكان لهما بريق شديد ، وفى حضنها طفل من النحاس الأصفر كذلك تجلسه على ركبتيها ، وكأنها تحتضنه ، يا له من تمثال عجيب يلقى الرعب فى القلوب إنها كبيرة الثديين وقد رفعت ذراعها اليمنى وهى تشير بها إلى الجانب الجنوبى من النيل بإحدى أصابعها ، والتمثال مصقول ، وكأنه من الذهب الخالص ، وأمام قدمى التمثال حوض عظيم وقد نحت فى الحجر الصلد مساحته عشر فى عشر ، وفى الإمكان أن تجرى فيه سفينة إنه عجيب المنظر ، وهذا التمثال الذى يقوم على الأعمدة من عجب أن تسيل دموع من الدم على ركبتيه ويجرى الماء من أظافرها كأنه مذاب منذ ألف عام ، وهذه الدموع الدامية إذا سقطت نزلت فى الحوض وأصبحت ماء بعد أن كانت دما أحمر ، والماء يتغير لونه فى هذا الحوض فى شهر تموز ويصبح طعمه كطعم الكبريت والمرضى يشربون منه مرة فى العام فيتم لهم الشفاء ، فيشفون من جميع الأخلاط التحتانية ويحمر وجه من يشربون من هذا الماء ، وبعد انقضاء شهر تموز يصبح ماء عذبا نميرا ، وقد أكب على هذا الماء من من معنا وشربوا منه لشدة القيظ حتى أفرغوا ما فى الحوض من الماء ، وقد شربت منه فنجانا ، حقا إنه ماء زلال وكفار البرتغال يملأون الجرار من هذا الماء فى مدينة زيلع ويقدمنها هدية ويحضرونها إلى الهند وأوربا ، ويسقون هذا الماء المصابين بالجذام ومرض الزهرى ، وهو نافع من هذين المرضين.

أما الأعمدة التى فى الجنوب فقد كتبت آيات شريفة ، والكتابة هى : (يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩] ، ولم يكتب تحتها تاريخ ، وقد خطت علامة تحت هذه

٣٩٥

الآية وفى الصباح شددنا الرحال ، وسرنا إحدى عشرة ساعة على ضفة النيل إلى الجنوب ، وكان القيظ غاية فى شدته.

وصف حصار كنيسه

على الضفة الغربية للنيل قلعة عظيمة كأنها سد يأجوج ، وبانيها هو أزرق جادو وليس فى مبناها جص إنها مبنية على الطراز القديم ، ولكنها حصينة إلى أبعد غاية ولها بابان أحدهما غربى والآخر ينفتح على النيل ، إنها مربعة الشكل ، وبداخلها مائتا بيت وجامع ، وخارجها ألف بيت وفيها سبعة جوامع وزاوية وأربعون حانة للبوزه وأسفل أبواب هذه القلعة قناطر عليها جلد تمساح ، والقوم هناك سمر البشرة من البربر وسبب تسمية هذه القلعة بالكنيسة أنه غرب هذه القلعة على مسيرة ثلاث ساعات بنى جامع يشبه الكنيسة لسليمان بن داود ، ومحرابه فى جهة الرياح الشمالية ويتجه إلى القدس الشريف ولهذا سميت هذه القلعة بهذا الاسم.

فى وصف الجامع القديم

بجانب هذا الجامع بحيرة عذبة الماء ، إذا ألقيت فيها جثة الميت سرت فيها الحياة ، وقد حكم سليمان الإنس والجن والوحوش والطيور ، ولما كانت تطير رأت فى طيرانها هذه البحيرة فسأل سليمان وزيره آصف عن هذه البحيرة فأجابه يا سليمان إن اسمها «قرجلائقه زيد درسان» ، وهى تعنى : بحيرة تخرج من باب الجنة ، فأمر نبىّ الله فى التو الريح بأن تنزل جميع مخلوقات الله ومكثوا فى هذا الوادى وتجولوا فى جوانبه الأربعة ، وشربوا من مائها العذب ، فكأنما ارتدت إليهم روحهم وأمر الشياطين بأن يقيموا له قصرا شامخا فى ذلك الموضع وجامعا عظيما ، فبنوا هذا الجامع الذى يعجز عن وصفه القلم واللسان ، وقد شرف هؤلاء القوم باعتناق الإسلام بعد الهجرة ، وولوا القبلة شطر المسجد الحرام بعد القدس.

وخلاصة القول أنه جامع منقطع النظير فى جماله ، وكأنما أنشأت يد القدرة أعمدته وجدرانه الأربعة ، وفى استانبول آيا صوفيا ذو القبة العالية من طابقين وست قباب

٣٩٦

صغيرة ، وفى وسطه قبة بيضاء تحيط بها القباب من حولها ، وفى الليلة التى ولد فيها النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت ليلة الاثنين انهدم «طاق كسرى» «وقزل ألما» وهذه القبة العالية ، وفى زمان كفاح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هذا الجامع معبد صنم وظل بناء بعيدا عدة قرون وفى جوانبه الأربعة نزلت صحف كانت فيها إشارات كتبت بالعبرية عن الأنبياء ، ونزلت صومعتهم ، وفى داخل الجامع عدد ألف وسبعمائة عمود أحمر اللون ومرتفع مصقول إنه مثل ياقوت بدخشان ، ولا وجود لثغرة بين عمود وآخر ، ولا نظير لهذه الأعمدة فى المقدس ولا دمشق ولا مصر ، ولكنها منها كثير فى الإسكندرية واستانبول وأثينا ولأن سليمان أقامها من أجل بلقيس فهى غاية فى الجمال ، وكم من عمود راقد فى الرمال ، ومساحة هذا الجامع خمسمائة خطوة طولا وعرضا فهذا الجامع فى السودان أكبر من جامع الغبق فى مكة ، وجامع إبراهيم فى جبل عرفات ، وجامع المزدلفة أى المشعر الحرام فى جبل مزج بين عرفات ومنى وأكبر من جامع عمرو بن العاص فى مصر وجامع أمية فى دمشق وجامع آيا صوفيا فى استانبول ، لأن هذا بناء الإنس والجن ولذا ما شاهد معمار واسع العلم بالهندسة هذا الجامع إلا وأدرك أن سليمان النبى كان بارعا كل البراعة فأظهر معجزاته ولقد تجولت ما تجولت فى البلاد فلم تقع عينى على مثل هذا الجامع إنه مكسو فى الداخل والخارج بالرخام وفرش بالصدف الهندى وفى بسطه اللؤلؤ واللازورد والعقيق والصدف والفيروز ، وجدرانه فيها نقوش ملونة وأحجار الجدران مصقولة كأنها ورق الصين ، وعلى الجدران أيضا كتابات شتى وهذه الأحجار مصقولة وكأنها مراية ، وفى أطراف محرابه آيات من الزبور وهى بخط الوزير آصف بن برخيا وهذه الكتابات على الرخام وداخل قبابه الست أحجار منقوشة ، أما منبره فهو يشبه كرسى يصعد إليه من مسافة قدرها ثلاثة خطوات ، ولا وجود لمنارة له ، ويصعد فيه الأذان على الدوام والأحجار التى خارج الجامع كل حجر منها حجمه أربعون أو خمسون ذراعا ، حقا إنه من عمل الشياطين لأن هذه الأحجار يعجز عن حملها الإنسان لثقلها ولو وجد هذا الجامع فى أرض عامرة لكان جنة ولكن هذا درّ يتيم ، ولكن يجتمع على هذه البحيرة من مصر مئات الآلاف من الناس والحيوان ، ويقيمون مئات الآلاف من الخيام على

٣٩٧

ضفافها ويقيمون سوقا أربعين يوما بلياليها ، وحول هذه البحيرة يلتف جمع غفير من الناس والكائنات إنهم يتبركون بالشراب من مائها لأن سليمان ـ عليه‌السلام ـ شرب منها ، وإذا شرب منها المرضى تم لهم الشفاء بمشيئة الله وفى اليوم الأربعين لهذه السوق المقامة عند البحيرة يحمل الماء على ظهور الفيلة والإبل والحمير فى قرب لا يعلم عددها إلا الله وتحمل إلى بلاد الكفر وبلاد العرب ، ولا يبقى فى البحيرة قطرة من ماء ولكنها تمتلئ فى العام المقبل بأمر الله ، إنه جامع عظيم ، أما فى داخل الجامع فالخدم والشيوخ على المذهب المالكى.

أما قصر سليمان فقد تخرب ومكانه مبرّة ، ولكن القوم ليسوا بنى آدم ، وقد شاهدت ذلك وصليت فى الجامع ومضيت فى حمله على الكنيسة ، وفى مضينا على الضفة الغربية للنيل مررنا بضريح الشيخ دليب وتجاوزناه ثم سرنا ثمانى عشرة ساعة فى شدة القيظ ثم استرحنا فى ظلال غابة من أشجار الأبنوس والسنديان ، وبعد مغيب الشمس ، بلغنا على الضفة الشرقية للنيل حصن اتقور الحصين.

وصف حصن اتقور

إنه قلعة مربعة الشكل على الضفة الشرقية للنيل ، وفى داخله مائتا بيت وجامع وحاكم الحصن يسمى كورجه وهو من قبل حاكم فونجستان ، وللقلعة بابان ولا وجود فيها لدكاكين ولا حمام ولا وكالة ، وهم قوم غلاظ شداد وليس فى قلوبهم رحمة ، وهم سمر البشرة حمر الوجوه فتجاوزناها وبعد ثلاث ساعات بلغنا بلدة أرقى.

بلدة أرقى

ليس لها قلعة ، ولكن بها بيوت كثيرة وجامع شديد الضيق وثمة ضريح الشيخ كرام الله الركابى على مقربة منه ضريح الشيخ حاجى ماجد وإلى جانبه ضريح الشيخ حاجى محمود وعلى مقربة منه الشيخ حاجى نقوز إنهم جميعا يرقدون فى قبورهم الصغيرة ، وقد قرأت الفاتحة لأرواحهم الشريفة ومررنا على ضفة النيل بسبع قلاع خربة. ومضينا فى الصحراء إحدى عشرة ساعة فى طريق يخلو من الفيلة والقردة

٣٩٨

ووحيد القرن والزراف.

وصف رباط دفّاره

إنها قلعة جديدة على الضفة الشرقية للنيل على هيئة الأوزه وقد تظلم أهل فونجستان من حاكمهم إلى سلطان مصر فى ذلك الوقت أيبك التركمانى فأمر سلطان مصر ببناء هذه القلعة ليتحصن فيها ملك الفونج لما كان بينه وبين ملك الفونج من صداقة ومحيطها ألف خطوة وبداخلها جامع وفيها ثلاثمائة بيت للبربر ولها باب من الخشب يتجه نحو الشمال وعليه جلد تمساح ولا وجود على الباب لتاريخ بناء القلعة ، وسرنا ست عشرة ساعة حتى بلغنا قلعة الملك إدريس.

أشكال قلعة الملك إدريس

إنها قلعة صغيرة الشكل على الضفة الشرقية للنيل فى صحراء واسعة وفيها جامع وسبعمائة بيت وبابها يتجه إلى الشرق وأهلها بربر سمر البشرة وهم على المذهب المالكى ، وهم غاية فى التقوى ولم تصدر منهم فتنة ولا عصيان ولا كذب أو طغيان ولا بهتان وهم يمضون إلى مصر للخدمة وهم أهل ثقة ، وقد تجاوزناها وبعد تسع ساعات بلغنا قلعة غرى.

قلعة غرى

إنها قلعة صغيرة على الضفة الشرقية للنيل وهى خربة ومحيطها ألف خطوة وفيها جامع ولا أبنية سواه فيها ، وفى الصباح سرنا على شاطئ النيل ست ساعات وعبرنا سهولا ذات زروع وبلغنا قلعة خلفاهى.

المدينة العظيمة قلعة خلفاهى

إنها أيضا على الضفة الشرقية للنيل وبها بيوت وجامع ولا وجود لأبنية أخرى ، وجملة أهلها من الزنوج غلاظ الشفاه وهم قوم جبابرة أشداء ، ومضينا عنها ، وبعد ثمان ساعات ، بلغنا ايلغون دنقله.

أوصاف مدينة ايلغون دنقله العظيمة

كانت هذه المدينة فى الزمان الخالى تحت حكم ملك بربرستان ثم تولى عليها سلطان الفونج وجميع أبنيتها من عمل البربر ، إنها مدينة غاية فى الجمال ، وعند ما فتحها الفونج

٣٩٩

تهدمت أماكن فيها ، ويقول أهلها إن دنقلة جنتنا فى الدنيا فإن كان لنا جنة فهى جنتنا ولا حاجة لنا بالجنة ، إن جوها ليس بحار ولا بارد فكأنها إرم ذات العماد ، وفى الزمن الماضى كان من يشاهد أسواقها وقصورها الشامخة يأخذ منه العجب كل مأخذ ، وفيها غرائب وعجائب كأنها أسوان ، ولاعتدال هوائها فى بساتينها الليمون والسفرجل والتمر وأنواع شتى من الفاكهة ، وأهلها مع ضآلة جسمهم وسواد بشرتهم إلا أنهم فى صحة جيدة ، ولاعتدال جوها يلد نساؤهم وأنعامهم التوائم على الدوام ولكن شياههم تلد فى العام ثلاثة حملان إلا أنها غاية فى ضآلتها ، وفتياتها يبلغن مبلغ النساء فى سن العاشرة ، وتلد المرأة فى شهرها السابع والثامن ، وهم يزرعون الذرة ، ولهم كثير من البساتين والإبل والعجول ، ولا وجود فى أرضهم للمعادن ، ولديهم حمامات المياه الحارة ويأتى إليها أهل الممالك المحروسة ، ويدخلونها فتشفى أمراضهم فيصبحون كما ولدوا لذلك فالقوم فى أسوان وفونجستان وايلغون يتّسمون بالجمال ، وهذه المدينة تحت حكم ملك بربرستان ولكن زالت دولته فأصبحت تابعة للفونجستان ، ومضينا عن هذه المدينة وسرنا فى أرض كثيرة الأحجار والصخور جنوبا ، وبعد مضى ثمانى عشرة ساعة بلغنا مدينة قوثراى.

فى مدح مدينة قوثراى العظيمة

كانت هذه المدينة على الضفة الشرقية للنيل وقد ذاعت شهرة مبانيها فى الآفاق ولم يبق منها إلا سبعمائة بيت ، وجامع وثلاث شجرات للدوم ، وبعد أن سرنا إحدى عشرة ساعة بلغنا مدينة عدى.

مدينة عدىّ

إنها فى حكم الفونج وركبنا سفينة وعبرنا من الشرق إلى الغرب ، وشاهدنا مدينة عظيمة وكانت كذلك فى العصور القديمة ، ولقد تبقى من عمائرها القديمة بعض آثار.

ولقد كانت مدينة عدى تزدان بالقصور ، وفيها اليوم ألفا بيت للبربر ، إن أهلها على المذهب المالكى ومنهم على المذهب الجبرى ، وقد عمرها ملك الفونج ، إنهم قوم فيهم

٤٠٠