الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

الأبيض فيها ليس له مثيل فى بلد آخر ولكن إذا ما حملوا التين الطازج فى سلة إلى خارج المدينة فقد لذة طعمه ، وهو سريع الهضم وهو مقو ، وتنتج ثلاث مرات فى العام ، وفيها الغنم والحملان كما أن دجاجها سمين كما تشتهر بخيولها وجمالها وسمكها ، ومن مصنوعاتها الوسائد المصنوعة من الجلد كما يصنع فيها الأبنوس وسن الفيل والشطرنج ووبر الجمال وصوف الغنم وسجاجيد الصلاة والسفن ، وفى جوانبها الأربعة مصاطب السوق تستحق المشاهدة وأمام قصر البك يحتشد جمع غفير من الرعاع والعرب وفى الديوان عديد من القاعات والحجرات وفى حديقة الديوان حوض ونافورات وسبل ، كما أن ثمة طيور تصدح بأنغام عذاب.

بيان من دفن فى تراب هذه البلدة من الأولياء

أولا بالقرب من جامع على بك وفى نهاية دهليز بابه الأيمن قبر صغير للشيخ المكى وهو من أهل الطريقة البكرية ، وحينما كان يحفر أساس هذا الجامع عثر على حجر مربع كتب عليه بالخط الكوفى :

(هذا قبر الشيخ محمد المكى سنة ١٠٤١ ، إن هذا العبد العاصى غادر تراب المذلة هذا وانتقل إلى أرض أخرى إنه مقامنا هو بيت الله ونحن نسكن بيت الله إلى أن تفنى هذه الدنيا).

وقد ظهر قبر هذا القطب أثناء بناء جامع على بك فنقل جثمانه من موضعه ودفن إلى جانب أساس الجامع ومنذ وفاته إلى بناء هذا الجامع ثمانمائة وتسعون عاما وما زال جثمانه غضّا وقد شهد على ذلك ألف وستون من الناس والكلّ يعرف كرامات هذا الولى ويقرأ عنها فى الكتب وهؤلاء المشاهدون كانوا يلتمسون منه البركات ، كما دفن هناك الشيخ المجذوب دهيش بن محمد ، وخارج البلدة الشيخ عثمان الصنافيرى وبالقرب منه ابن تميم الدارى ، والشيخ عبيد وقطب العالم الروحانى وحكمت المعدن الربانى الشيخ عبد السلام المقرى ، والعالم النصيح ذو اللسان الفصيح الشيخ صبيح ، والشيخ عباس ، والشيخ بياض ، وكذلك الشيخ عمر الحلوانى ، وفى جامع الفقراء الشيخ

٣٤١

منصور العالم ، وبجواره الشيخ حسن السعدى ومحمد أغا وفى الزاوية مقام الأربعين والشيخ عبد السلام وبجواره الشيخ عمر الحورانى وبجواره زاوية مقام الأربعين رحمة الله عليهم أجمعين.

ولله أحمد أنى قرأت الفاتحة لهم جميعا وطلبت البركة من أرواحهم الشريفة وقد قضيت عشرة أيام هناك فى بهجة وسرور وقد حملت فرمان إبراهيم باشا إلى حاكم جرجا وفيه ذكر لغرق سفينة الغلال وحملته إلى الديوان وبناء على شهادة الأهالى أخبرتهم بأن سفينة الغلال غرقت وأثناء أخذنا من ربان السفينة خمسمائة قرش ، وقدمنا للباشا خمسة أكياس ونلنا من حاكم جرجا أوزبك بك كيسا وقماشا من المخمل وجوادا وهجينين ، وفرو سمور كما نال كل خادم منا مائتى قرش ومعنا عشرين من حملة البنادق فودعنا أعيان البلاد جميعا وأرسلنا إلى الباشا جوادا وعشرة قروش.

بيان القرى والقصبات من جرجا إلى إسنا وأسوان والشلالات

وقد لقينا مشقة شديدة من شدة القيظ فى رحلتنا من جرجا إلى إسنا وأسوان والشلالات وأبريم وصاى وبربرستان وفونجستان ، وقد مررنا فى طريقنا على منازل وقرى وقصبات أولا فى شهر صفر من عام ألف واثنين وثمانين فى اليوم الأول من شهر صفر وفى معيتنا فرسان وعبيد اشتريناهم ومضينا لطياتنا وركبنا سفينة فى النيل ودخلنا ولاية شرقستان وفيها يسمون جرجا غربستان ، وإقليم شرقستان فى حكم أبى يحيى ، وله عشرة آلاف فارس يحملون الحراب وبلغنا مدينة :

أبو خالد

ونزلنا فيها ضيوفا ليلة ، وهى بلدة صغيرة بها مائة بيت ، ومضينا فيها إلى شيخها أبى يحيى وشرفنا بصحبته ، وهو من أبناء الشيخ خالد ، وإذا لم تضع امرأة حملها وغطت رأسها بسراويل الشيخ وضعت ، ويقول بعضهم إن هذه السراويل المذكورة ليس للشيخ إنها خاصة بخالد بن الوليد ، وقد آلت إلى الشيخ بالوراثة ـ والعهدة على الراوى ـ لأن هذه السراويل وما لها من خاصية معروفة مجربة أحضرت هذه السراويل من التكية فوجدتها سراويل حمراء ملفوفة ، ويقال لقوم الشيخ يحيى بنى خالد إنهم قوم فى نعمة

٣٤٢

ورغد كما أنهم مطيعون منقادون ، وخيولهم عجيبة ، وفى الجهة الشمالية من إقليمهم مساحة واسعة من الأرض ، وفى الجهة القبلية السويس ، وعلى شاطئ بحرها قلعة ميناء القصير وفى الجنوب مدينة مشا والشمال قضاء أخميم ، وهى حدود صغيرة إلا أن قراها عامرة كثيرة المحاصيل فيقع هذا الإقليم بين بحر القلزم والنيل وهو إقليم واسع ومن الصباح اتجهنا إلى الشيخ يحيى بكيس كان قد أرسل معنا أمانة من أغا غلال جرجا إلى الشيخ يحيى ، ومضينا مسيرة خمس ساعات على شاطئ النيل فبلغنا :

بلدة حمادى

وهى على ضفة النيل وتحوى مائتى بيت وجامعا ، ويسكنها أولاد الشيخ حمادى وهو من ذوى قربا الشيخ يحيى ، وهم يسكنون هنالك كذلك وفيها ألف فارس وأبو يحيى من الهوارة واجتزناها وبلغنا :

بلدة مزادى

وبها ستون بيتا وليس بها جامع ومضينا على ضفة النيل سبع ساعات وبلغنا قصبة بلابش.

أوصاف قصبة بلابش

إنها فى حكم جرجا وكاشفية قوص ويتبعها مائة وسبعون قرية تدر أربعين كيسا من المال وألف أردب من الغلال ، وكلها عسكر وهى قضاء فوه ، ويأتيها مرة فى الأسبوع نائب يحكمها ، وبها جامع ودار ضيافة وستون بيتا ولا آثار لعمران سوى ذلك وهى كثيرة المحاصيل ، وهم يزرعون نباتا يشبه شجرة ذات سوق ويعلو حتى يبلغ قامة الإنسان وله نور أصفر مثل النرجس ، وله رائحة طيبة ، ويجمع فى الربيع ويصدر إلى فرنسا ليصنع منه الصبغة ، ويشترى التجار القنطار منه بمبلغ ستين قرشا ، ثم يكتمل نوره ويمتلئ بالبذور وتجمع هذه البذور ويباع الأردب من هذه البذور بثلاث قروش ويستخرجون منها فى مصر وغير مصر الزيت ، وزيت السمسم زيت لذيذ المذاق وله رائحة طيبة مثل الكافور والمسك والعنبر وإذا وضع فى القناديل انبثقت منه شعلة مضيئة.

٣٤٣

وتجاوزنا هذه القرية ، وفى الجنوب على ضفة النيل رأينا جبلا على ساحله قرى عامرة وفى هذه القرى رأينا نوعا من الدوم ، وفى الطريق إلى الشمال رأينا بلدة تسمى بلد الدوم ، وفيها أخشاب ترتفع فى السماء معوجة وغير معوجة لكنها أشجار دوم ، ولكن هذا النوع من الدوم كل عذق منه يزن قنطارا أو قنطارين ، وكل دومة فيها تزن أربعين أو خمسين درهما ، وهو دوم أحمر اللون وحجمها فى حجم القبضة وهم يستأصلون من الدوم شوكها ويضعونها فى حق فيه الفلفل الهندى والتبغ فيصبح هذا الدوم لذيذ المذاق والفلاحون غالبا ما يأكلونه.

أوصاف قصبة فوه العليا

هى قصبة معمورة بعيدة عن النيل فيها ثلاثمائة بيت وهى تحت حكم جرجا ، وهى مع توابع قوص ، وبها مائتان من الجند المعروفين ، ب (سكسان) ويتبعها تسعون قرية تدر أربعين كيسا ويتحصل منها على ثمانمائة أردب من الغلال ، وليس فيها جند من الفرق الأربعة ولا قائد وبها دار ضيافة عظيمة ، وبها جامعان كبيران وسبع زوايا ومقهيان ، وليس فيها حمام ولا خان ولا سبيل ولا سوق ، ولكن فيها مكتبين للصبيان ، والكاشفون يقيمون بها فى خيام وحتى الخيام التى يقيم فيها الكاشفون تقام فى الرمال ، وفيها أعمدة قديمة منقوشة ، وعلى حد قول المقريزى كانت هذه آثار قصور يسكنها الفراعين فى الزمان الخالى ، أما فى يومنا الحاضر فليست سوى صحراء لا أثر فيها للعمران ولا وجود لروضة ولا بستان ، وكثير من أهلها مفاليس ، ووجوههم شاحبة أميل إلى الصفرة ، وجوها ثقيل وفيها ضريح الشيخ إبراهيم نورى ، وله قبر صغير إلى جانب جامع كبير ، وله مناقب مذكورة فى كتاب الطبقات للشعراوى وتجولنا بعد ذلك بين قرى وفيرة المحاصيل بالقرب من النيل حتى اقتربنا من السويس وبينهما مسيرة ثمان ساعات ونصف ، وكما عبرنا أكواخا من القصب يسكنها العرب وبعد سبع ساعات بلغنا قنا.

أوصاف مدينة قنا

مدينة قنا فتحها عمرو بن العاص وبعد عمرو وفى خلافة عثمان وحين كان محمد ابن أبى بكر واليا على مصر قدم قنا ، وجعلها عاصمة ثلاثة أعوام ، وقد أصبحت هذه المدينة بعمائرها مصر الثانية ، وأقيمت بها قلعة بالقرب من ميناء القصير فى تلك الفترة

٣٤٤

ومنها كانت ترسل الغلال إلى جدة ، وهى ميناء مكة ، وينبع وهى ميناء المدينة المنورة ، ومنذ هذا العصر وأهل قنا يشتغلون بالتجارة ، وفيها تجار عظام وأكثرهم من أشراف مكة والمدينة ، ولأن قنا ميناء صغير فهى كاشفية تتبع قوص وهى التزام يدر مائة كيس ، ليس فيها جنود من الفرق الأربع ولكن فيها انكشارية وعزب من مصر.

ولهذه المدينة مفتى على المذاهب الأربعة ونقيب للأشراف لأنها مليئة بأشراف مكة وهى قضاء يدر مائة وخمسين أقجه ليس إلا ولتجارها مخازن على شاطئ النيل وتتكدس فى هذه المخازن شتى أنواع السلع لأنها ميناء مكة والمدينة والحبشة واليمن وعدن ، ويأتى الأشراف من الحجاج ويقضون فيها أربعة أو خمسة أيام ، وهم فيها يسيرون على الأقدام أو يركبون الحمر أو الجمال ، ومنها يصلون إلى ميناء القصير ، وكراء (١) الحمار خمسة قروش ، ويركبون منها السفن ليصلوا فى ليلة أو ليلتين إلى ميناء ينبع ، وبعد ذلك يبلغون مكة فى خمسة أو عشرة أيام بإذن الله ، ويكلفهم الحج دينارا واحدا وهناك يلتقى جموع غفيرة من الناس ، ولكن الطريق وعر عسر.

وفى جنوب قنا على ساحل النيل على مسيرة خمسمائة خطوة أرض رملية بها قصور شامخة ومسافة تبعد جنوبا عن النيل قدرها ثلاثة آلاف وستمائة خطوة وهى مدينة جميلة وجوانبها الأربعة لها أبواب ، وعليها حراس ، ويغلقونها ليل نهار وفيها عشرون جامعا ، وسبع منها خطبة علاوة على كثير من الزوايا وفيها الجامع الكبير يؤمّه كثير من المصلين ويسمونه كذلك جامع أمير المؤمنين لأن عمرو بن العاص حينما فتح هذه المدينة أقام هذا الجامع للخليفة عمر بن الخطاب ، وطوله وعرضه ستون خطوة ، وفى داخل الجامع خمسون عمودا من الرخام يحمل سقفا وفى وسط حرمه خمس نخلات نبتت من جذر واحد ، لقد زرع عمرو هذه النخلات بيده ومحرابه ليس خاليا من النقوش ومنبره من خشب وعلى منبره تاريخ هو :

(بسم الله الرحمن الرحيم ، أنشأ هذا المعمارات المباركة والجامع الأمير حسن أغا فى تاريخ السابع عشر محرم سنة ١٠٧٩).

__________________

(١) كراء : أجرة.

٣٤٥

وقد تخرب هذا الجامع على مر الأيام وقد أنفق حسن أغا وهو ملتزم مدينة قنا من صلب ماله عشرة آلاف قرش لتعميره وترميمه ولا وجود لجامع كبير فى تلك المدينة سوى هذا الجامع ، وبالمدينة سبع تكايا ومدرستان وعشرة مكاتب للصبيان وعديد من الوكالات وسبع مقاه ومائة وخمسون دكانا وحمام وسوق للغلال وميدان ، ويقام فى كل أسبوع فى هذه المدينة سوق يأتى إليها جمع غفير من الناس من سبعين قرية بجوارها فيبيعون ويشترون.

ولاعتدال جوها نساؤها سمراوات جميلات ولقربها من الحبشة فإنهن من نسل الجوارى الحبشيات ، وإنهن يتحلين بالأساور والخلاخيل كما يلبسن القمصان الحريرية ، ولهن عيون كعيون الظباء ، وهن يلففن قوامهن بالحرير الأسود ، وبعضهن خليعات يرقصن فى المقاهى وليس هذا عيبا عندهن ، أما السيدات العفيفات منهن فيختلفن عنهن وهن لا يغادرن من منازلهن إلا إلى المقابر فى يوم الجمعة ، والرجال يلبسون العباءة وتشتهر المدينة بكرومها وعنبها المسكى وعناقيده تتدلى من السقوف وعنب قنا ينضج قبل عنب مصر والفيوم بخمسين يوما ، وذلك أنه فى أرض رملية وجوها شديد الحرارة ، أما الخوخ فتزن الواحدة منه مائة درهم ، وفيها المشمش طيب وحمامها مشهور ويأتى التجار من مكة ويأخذون الحمام من التجار ويضعونه فى أقفاص ليأخذوه ، ويطيرونه وهو مقيد الجناحين فيطير ويبلغ فى مدة تتراوح بين ساعة إلى خمس ساعات ثم يعود مرة ثانية إلى قنا ويضرب به التجار للناس المثل فى من يمضى إلى حيث يريد فى طرفة عين ، ويقولون أأنت حمام قنا ، وفى قنا يطيب عبد اللاوى ، وهو نوع من الشمام وأكل لبه وبذره مدر للبول كما يطيب البطيخ والشمام والخيار والعجور فى هذا البلد.

٣٤٦

بيان ما فى هذه المدينة من قبور الأولياء

فى الجهة القبلية من المدينة وفى الحدائق قبر الشيخ عبد الرحيم القناوى وهو الملقب بين الأولياء والصلحاء بشفيع الملّة وقد ذكرت مناقبه على التفصيل فى كتب تراجم الأولياء وطبقات الشعراوى وله باب يفضى إلى الجهة الغربية وعلى صندوقه الشريف زجاج رقيق وعليه سقف منقوش كما أن صندوقه مستور بستر أحمر وعلى عمود رخامى أمامه تاريخ مكتوب هو : بسم الله الرّحمن الرّحيم يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ...) إلى آخر هذه الآية الكريمة رقم ٢١ من سورة التوبة ، وبعدها (انتقل العبد الفقير إلى عفو ربه القدير الشيخ الإمام الحسينى ، النسيب علم الأعلام ، وبركة الإسلام وغياث الأنام ، قطب الدين عبد الرحيم الحسينى ، وتوفى يوم الجمعة بعد صلاة الصبح فى يوم ( ) (١) من شهر صفر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة هجرية قدسنا الله بسره العزيز.

وعند قدمه المباركة الشيخ أبو الحسن وبجانبه الشيخ سيد محمد اسكندرانى وبجواره الشيخ عبد الله القريشى وفى ركنى الشيخ عبد الرحيم من خلفاء الغار الشيخ إبراهيم أبو الدنيا أما سبب تسميته بأبى الدنيا أن ابنا له عندما انتقل إلى رحمة الله ، ولم يكن معهم درهم واحد لتجهيزه وتكفينه فانشقت الأرض عن كنز عظيم ، وحمل الأهالى ما فى الكنز من مال طوال ثلاثة أيام ، فاستغنوا بهذا المال ولذلك لقبوه بأبى الدنيا وقد عمرت قنا بهذا المال المستخرج من ذلك الكنز وبجانب هذا الشيخ العظيم ابنه الشيخ على الصابرى ابن الشيخ إبراهيم أبو الدنيا ، وأبوه كذلك قطب عظيم ، ولم يضع يده على هذا المال ، إنه كان رجلا نزيها ، إنه من ذوى قرابة الشيخ الزبيرى وقد توفى أيام الفتح زمن الصحابة الكرام ، والشيخ عبد النبى والشيخ سيد محمد والشيخ محمد الحسينى والشيخ سيد يونس ، وفى المدينة الشيخ عمر النسيم إنه قطب عارف بالله وله مناقب لا تدخل تحت حصر وخلف جامع عمر فى الركن الأيسر يرقد فى قبر متصل بجوار الجامع الشيخ محمد الأساسى وقد اعتزل أربعين عاما فى ركن وكان يغادر هذا

__________________

(١) بياض فى الأصل.

٣٤٧

الركن للتبول والتغوط ليس إلا ، وكان ينام ساعة واحدة ، ولم يشاهد ماشيا ، وقضى عمره أصم أبكم ، وقد شغلته الطاعة والعبادة عن كل شىء فى الدنيا وقد حكى البكوات الذين اختلطت بهم قالوا ، إنهم كانوا يزورونه كسيفى البال ولكن المسرّة كانت تدخل قلوبهم بزيارته وقد دفن فى هذه المدينة آلاف من الصحابة رحمة الله عليهم أجمعين ، وفى هذه المدينة يسمون العرب العبابدة ، وهم يشكلون قبيلة تسكن تلك المدينة ، إنهم قوم يعيشون فى نعيم وهم شجعان وعددهم ستة آلاف ، وهم على الدوام يحملون الغلال إلى ميناء القصير وهم يمضون فى أرض رملية حيث يقطعون مسافة فى الصحراء والجبال وتحت حرارة الشمس وفى القرى يتناولون الإفطار ، وتجاوزناها بعشر ساعات فبلغنا القصير.

أوصاف قلعة ميناء القصير

إنها على البحر الأحمر وهى بناء صغير وحصين ، ومحيطها خمسمائة خطوة ، وأول من بناها محمد بن أبى بكر ، وبعده الظاهر بيبرس والسلطان قايتباى وقد عمرها ، وهى قائمة على صخرة وليس لها خندق وبابها يتجه نحو الغرب ولها رئيس ومائتان من الجند وعتاد سبعة عشر مدفعا صغيرا وجامع وعشرون غرفة ومخزن للقمح وغرف للضيافة ، ولا وجود فيها لحمّام وليس فيها خان ولا سوق ، ولا أثر فيها لحديقة ، إنها أرض جزيرة ولها مرفأ عظيم ومرفأها يأمن الرياح جميعا ، وفى الجهة المقابلة ميناء ينبع ، والوصول منها إلى المدينة فى يومين وميناء مكة توجد على مسيرة ثلاثمائة وستين ميل ومن جدة إلى مكة ثمانية أو تسع ساعات ، وتأتى السفن من الحجار على الدوام إلى القصير ، وهذه السفن تبحث عن الغلال والعبابدة يبيعون الماء بالقطرة الواحدة وعندما قدمت هذه القلعة شكى لى أهلها من شدة الظمأ ، وبالقرب من القلعة دليل على وجود الماء ، ثم ركبنا جيادنا وقد بلغنا مكانا يسمى جيرك وحقيقة الأمر أنه مكان فيه ماء وعرضت شكوتهم على إبراهيم باشا وزير مصر وأوصلت أعيان القلعة إلى إبراهيم باشا فرصد عشرة أكياس ، ومع أغا موثوق به فأمر هذا الأغا المعتمد عليه بحفر بئر ، وأقام عنده مصطبة وقصرا فنبع منها ماء عذب ، ولله الحمد أن هذا تم بمسعى من هذا الرجل ،

٣٤٨

وبذلك تخلص من الظمأ الغادون والرائحون والحجاج والمقيمون فى تلك القلعة والدال على الخير كفاعله ، وقد جاء فى أحد التواريخ ذكر قلعة القصير والبئر والقصر الذى فى جانبها وتاريخ بناء هذا القصر هو عام ١٠٨٣.

ومضينا تسع ساعات فى طريق دلنا عليه العبابدة وصلينا الصبح على شاطئ النيل وتناولنا طعام الإفطار فى بلدة تسمى :

انبوطه

واسترحنا ثلاث ساعات ، وهى بلدة على بعد ثمانى ساعات من قنا بها خمسون بيتا ، واجتزنا على شاطئ النيل قرى بيوتها مبنية بالقصب وفى خيام العبابدة شربنا لبن النوق ، وبعد ثلاث ساعات بلغنا مدينة قوص.

أوصاف مدينة قوص القديمة

أقامها شداد بن عديم بن يود فى عهد شيرين قفطريم ، ومن أبناء قفط من يسمى قوص وهو الذى بنى المدينة لما آل إليه الملك ، وفى عام ١٤١٤ استبحر العمران فى مدينة قوص ، ففى هذا الزمان كان بالقرب من قوص مدينة خربة ومنها فر أهلها من خشية مرض الطاعون إلا أنهم لم ينجو من الطاعون وهلكوا مع أهل قوص ، ومنذ هذا العصر لم تعمر قوص ، ويقول بعض المؤرخين إن شداد بناها وكانت حديقة إرم ، وقد اختلف العلماء داخل مصر وخارجها فى بناء هذه المدينة. وعلى حد قول كعب الأحبار لم يجتمع العلماء على رأى فى من هو بانى قوص إنها مدينة طيبة الهواء يعجز الوصف من عظمتها إن جوها هو جوّ حلب أو جو معرّة النعمان ، وقبل فتح مصر استولى عليها الأسود بن مقداد من القبط ، وبعد الفتح بحثوا فى أرضها عن كنوز ووجدوا عمودا منهدما ، ولوجود العقارب بها فرّ العسكر وظلت المدينة خربة إلى أيام عبد الملك بن مروان من خلفاء بنى أمية ، وسبب خراب هذه المدينة طوال تلك الفترة هو كثرة العقارب ولكن العقارب لا تصيب أهل هذه المدينة بضرر ولقد شاهدت أنا هذا العمود المنهدم ، وقد رسم عليه صورة عقرب وقد كتب أسفل العمود سطور ، ويراه كل من يمضون فى

٣٤٩

الطريق لأنه على الطريق العام ، وهذه المدينة فى حكم جرجا ولها كاشف له مائتا جندى ، كما تحوى ستين قرية ويتحصل منها أربعون كيسا وألف أردب من الغلال ولكن ليس بها مستحفظون ومفتى ولا نقيب أشراف وإنها قضاء به ستون قرية ويتحصل منها فى كل عام ثلاثة أكياس وهى مدينة تبعد عن النيل بمسافة بعيدة وبها ثمانمائة بيت واسع ولكن ليس فيها كثير من القصور ولا البيوت الجميلة ، وبها ستة محاريب وأربع خطب وبالقرب من السوق جامع بناه المستكفى بالله حين نفى فى هذه المدينة إنه جامع بالغ الغاية فى الكبر وطوله وعرضه مائة خطوة ، وبه سقف قديم يقوم على مائتى عمود ، كما أن بها جامعين آخرين لا علم لى بهما إضافة إلى الزوايا ، وبها وكالتان وخمس مقاه وستة مكاتب للصبيان وثلاثون سوقا صغيرة وعشرون سبيلا ولكن ليس فيها حمام ولا مدرسة وأغلب ما فى حدائقها نخيل الدوم ، ونتيجة لذلك فإنها ليست مدينة عامرة كما أن جوها ليس مقبولا ولذلك فأهلها صفر الوجوه.

بيان ضرائح هذه المدينة

لما آلت الخلافة فى مصر للمستكفى بالله سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسى بنى بها جامعا كبيرا كما أن أتباعه من العباسيين سكنوا قلعة الكبش ، وكان الحل والعقد فى يد الظاهر بيبرس ، ولكن اسم المستكفى كان يضرب على العملة ويذكر اسمه فى الخطبة وقد وقع الصراع والنزاع بين ذوى قرباه كما وقع النفاق بينه وبين الظاهر بيبرس ، فنفى الظاهر بيبرس أهل المستكفى وأقاربه إلى تلك القلعة ، وأمر المستكفى جميع المغاربة والهنود الخبراء بالكشف عن كنوز ، فاستخرجوا مطلسمات مختلفة من عهد شداد بن عاد ولكن المستكفى توفى فى عام ٧٠٣ ، فدفن فى قبر صغير ، ودامت خلافته تسعا وثلاثين سنة ، وعمره خمسون سنة وهذا مسطور على قبره ، وأخو الحاكم بأمر الله هو إبراهيم الواثق بالله وبجانبه محمد عطاء الله بن إبراهيم الواثق بالله ، قد نفاهما الملك الصالح إلى قوص وهما مدفونان بجانب قبر المستكفى بالله ، ولحكمة الله أنهما نفيا إلى قوص معا ، فقد نفاهما الملك الصالح بن الملك الناصر إلى قوص وهؤلاء هم آل عباس

٣٥٠

المدفونون فى هذه المدينة ، وهذا ما قيل فى شأنهم وفى المقبرة التى بجانب ضرائحهم الشيخ ظاهر والشيخ كاظمى والشيخ نور الدين الشيرازى والشيخ علام الدين البصراوى وهؤلاء الأعيان كانوا من حاشية المستكفى الذين هاجروا معه من بغداد إلى مصر وبلغ مدينة قوص ، رحمة الله عليه ، وقد عبرنا على شاطئ النيل أراضى رملية وأراضى صخرية وأراضى خربة لمسيرة ست ساعات ، وبلغنا ولاية أشمون.

أوصاف ولاية أشمون (الأقصر)

إن بيطر بن حام بنى مدينة قديمة تسمى أقصرين بعد الطوفان وهو الأخ الأكبر لسام ويقال إن بيطر هذا أبو القبط ، ومن نسله ولد توأمان أحدهما أشمون ريف ، وآخر أشمون جاو وقد ولدا فى مكان واحد وأرسلهما بيطر أبوهما إلى إقليم مصر ، ولذلك سمى الإقليم أشمون وقد عمرت هذه المدينة ، وقد بنى الأخوان قصرين على شاطئ النيل ، وبعد بناء هذين القصرين سميت المدينة القصرين ، أى المدينة التى تحوى قصرين والكلام على هذه المدينة أولى به أن يكون وجيزا ، وهى تتبع كاشفية جرجا ، وبها مائتا جندى ويتحصل منها أربعون كيسا ، ولا يوجد بها مستحفظان ولا شورباجى ولا مفتى ولا نقيب أشراف ولا أعيان وقد كانت مدينة عظيمة على شاطئ النيل تحوى ألف ومائتى بيت ، وبها كثير من الأبنية العالية وكثير من القبور ، ولذلك تبقى منها أعمدة مطمورة فى الرمال ، وهذه الأعمدة بقايا لعمائر أقامها سلاطين مصر القدامى ، وفى جامع السليمانية أعمدة من هذه المدينة نقلها ربان الإسكندرية إلى جامع السليمانية فى استانبول وقد أنعم عليه بخلعة وألف دينار ، وقد نقلت هذه الأعمدة فى سفن فى البحر إلى استانبول ، وقد علمت أن أعمدة جىء بها إلى ميدان الوفاء وهذا ما سمعناه من والدنا رحمة الله عليه ، ولكن هذه المدينة ليست معمورة وبها عشرون محرابا وثلاث خطب ، وبها أسواق صغيرة وجامع فى وسط السوق فيه جمع غفير من الناس كما أن بها خانا وحماما والعديد من الزوايا المعمورة ومكتبا للصبيان وسبيلا ومقاهى ، وجوّها غاية فى اللطف وأما أهلها ففى غاية الفقر.

٣٥١

زيارة ضريح الشيخ أبى الحجاج

إنه مدفون فى مغارة بالقرب من جامعه ، وله كرامات كثيرة ، وإنه قطب عظيم وليست لمناقبه نهاية ، وهو الأخ الأصغر للشيخ عبد الرحيم القناوى الذى دفن فى مدينة قنا وله ملك خير الدنيا والآخرة ، وقد قرأت الفاتحة فى الضريح وقد وهبت ثوابها إلى روح الشيخ أبى الحجاج ، إنه قطب ذو مكانة وشهرة واسعة فى تلك المدينة ، وهو قريب الشيخ رمضان الفرغلى ، وهو كذلك قطب عظيم واسع الشهرة ، وغادرت هذه المدينة ، ومضيت جنوبا على شاطئ النيل فى أرض خالية وعلى مسيرة سبع ساعات شاهدت على ضفة النيل تماسيح وبلغت :

بلدة طوت

وهى بلدة معمورة تقع على أكمة فى ناحية من الأقصر وتضم مائة بيت ، تجاوزناها ومضينا وعلى يسرتنا النيل وقطعنا طريقا مدة ست ساعات وهو طريق فى وسط الصخور فبلغنا بلدة :

شحات

تتبع إقليم أقصرين وهى على شاطئ النيل ، وبها مائة بيت وجامع ، وهى بلدة عامرة ، ومضينا على شاطئ النيل مدة ست ساعات ، وبلغنا بلدة :

دير أم على

وبها كنيسة عظيمة ولذلك يسمونها الدير ، ورهبان هذه الكنيسة جميعا من القبط ويقولون إن هذا الدير بنى قبل ثلاثة آلاف سنة.

واتجهنا هذه المرة إلى الجانب الشرقى من النيل ، فبلغنا مرجا مخضوضرا وفيه قبر صغير للشيخ عبد الدايم وهو من أبناء الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ وقرأت الفاتحة لروحه ومضينا ست ساعات على شاطئ النيل ، ونزلنا ضيوفا على خيمة شيخ العرب لقبائل الحجيزة ، واسمه الشيخ ناصر الدولة وفى هذه الليلة تناولنا لحم الجمل وشربنا لبن الناقة وأكلنا حلوى التمر كما أعلفت خيولنا ورجال هذه القبيلة من الفرسان

٣٥٢

البواسل ، وقمنا فى الفجر وعبرنا أراضى حجرية وبعد ست ساعات كان الوقت الغروب فبلغنا :

ديار عشاير رده

وهم كذلك شجعان وهم عيّارون وشجعان يمضون إلى بلاد الحبشة ومكثنا فى خيمة شيخهم أبو عصيب ، وتناولنا لحم الجمل وشربنا لبن الناقة ، وحمدنا الله ، وأعلفت خيولنا الذرة ، وقوم رده هؤلاء لا يدينون بالطاعة إلى والى الحبشة ولا كاشف إبريم فهم جبابرة فى الأرض ، ومضينا على شاطئ النيل واجتزنا مدنا خربة وقطعنا المروج فى ثمانى ساعات فبلغنا قوم :

عربان الشبيكة

وهم ستة آلاف مقاتل من العرب وهم شجعان ، وشيخهم يسمى شجاع الدين ، وعندهم كثير من الذرة ولحم الغنم وخبز الذرة ولا وجود للقمح عندهم ، ولأنهم قوم عصاة متمردون لا يدفعون مال الغلال الذى على ما يزرعون ، فقمنا من عندهم ومضينا عنهم وولينا وجهنا قبل الجنوب ومضينا على شاطئ النيل ، وهو يأتى فى هذه الجهة من بلاد الحبشة ، وفى هذه البقاع عرب عصاة وفقراء ليس لهم إيمان كأنهم الحيوان ، وليسوا يتبعون ملك الحبشة ولا إبريم ولا بلاد الفونج إنهم رعاع عراة وقدمنا إليهم بعض الهدايا فغادرناهم سالمين ، وبعد أربع ساعات وصلنا إلى جبل السلسلة.

أوصاف قلعة السلسلة

إنها جبال شامخة توقع من ينظر إليها فى الخشية ، وفى هذه الجبال مئات من المغارات ولا يعلم عددها إلا الله ، حفرها قوم عاد وثمود وكانوا يسكنونها ، وسخرت لهم صخور الصوان وكأنما طحنوها وبنوا بها قاعاتهم وحجراتهم وكل حجرة ترتفع أربعين أو خمسين ذراعا ، وفيها عجائب وغرائب كأنها حية ، وفيها تماثيل وتصاوير غريبة وفى كنهها تحار العقول ، وفيها صور تنظر إلى مشاهدها وهى باسمة كأنها تبتسم ، وخلاصة القول أن جبل السلسلة هذا عجيبة من عجايب الزمان ، وعلى سطح هذه الصخور حصن حصين ، كما توجد قلعة قبالة النيل هى قلعة أتفود.

٣٥٣

قلعة أتفود

وأمامها يجرى النيل ، وفى زمان كانوا يجرون هاتين القلعتين إلى النيل بسلسلة ولذلك يسمون هاتين القلعتين قلعة السلسلة وبعدهما شلال بوغازى وشلال الولاية ، إنهم سبعة مضايق والنيل بعدهما يمتلئ بالجزر العامرة وليس فى هاتين القلعتين رئيس لهما ولا قواد ولا جنود ، ولكن يسكنها فوج من قبائل الجعفرية ، وقبالة هذه القلعة فى جزيرة قبر الشيخ كوم صياح.

زيارة قبر الشيخ كوم صياح

حينما يفيض النيل ويغمر هذه الجزيرة يصيح ، وهو يصيح موحدا بالله ولذلك يسمونها جزيرة الصياح.

وبلدة كليج

معمورة ويتبعها مائة قرية وجميع أهلها ملاحون ويسمونهم قبيلة بصلى وبها ثلاثة آلاف إنسان وقد أتوا من قوم الهوارة ، واستوطنوها ، وبعد ذلك مضينا خمس ساعات جنوبا على ضفة النيل إلى قلومبو

أوصاف قلعة قلومبو

إنها من بناء شداد بن عاد ، وهى قلعة كانت لملوك بعد ملوك ثم استولى عليها سيف بن ذى اليزن من القبط ثم اجتزنا صخور شلال بوغازى ويجرى النيل إلى صحراء نصف المغرب وفى مقابل جزيرة كريد يخلط ماؤه بماء البحر الأبيض وطريق جريانه خندق عظيم وفى عهد عثمان بن عفان استولى أبو عبيدة بن الجراح على هذه القلعة من القبط ، ولكن بعد أن استشهد عثمان استردها القبط ، وكل القلاع التى على النيل تحت حكم إبريم وفى قضاء أسوان ، وفى داخل القلعة ثلاثمائة بيت من حصير يسكنها بنو جعفر ، إنهم مسلمون ولكنهم على المذهب الجعفرى ، وإنهم يسكنون فى القلعة وفى الصحراء خارجها ، إنهم ستون ألف إنسان وهم قوم يعيشون فى رغد من العيش ، وفى الجانب الشمالى للقلعة ضاحية عظيمة ، ومضينا على النيل ثلاث ساعات ، ومررنا بأراضى صلبة كالحديد ، وفيها كل صخرة فى حجم الفيل وقد أصبحت سدا فى النيل ،

٣٥٤

ويسمى العرب هذا السد بخيط العجوز ، وفى الجهة الشرقية للقلعة مغارات بها ألف تمساح مكفن وقد تراكمت هذه التماسيح بعضها على البعض وأكفانها من قشور الدوم ، ومن العجب أن البلى لم يصبها ، ولكن لا تنبعث رائحة خبيثة من رممها كسائر الحيوانات ، وهذا أمر عجب ، وهذه التماسيح يسمونها جبل التمساح ، وقد فتح ذو اليزن فى الصخر طريقا ، والسفن تمر فى هذا المضيق ، وهذه السفن سفن صغار وتمضى إلى أسوان ، ثم تحمل الجمال أحمال السفن ، وفى هذا المكان سبع مضايق وشلالات من بعيد تتدفق مياهها وتمر فى جبال شوامخ وبين صخور ، وثمة بوغاز والنيل ترتمى مياهه فى هوة فى طول المأذنة.

ومن عجب أن بعض السفن تطير فوق هذه الصخور ثم تجرى ويجرى النيل فى هذه المنطقة وبين ضفتين عليهما جبال كأنها الجودى ويتشعب النيل فى هذه المنطقة وبين كل شعبة وشعبة جزيرة والجزر المعمورة تقع فى الجانب المقابل ، وسوف نتحدث عن هذا فى موضعه بمشيئة الله.

ومن يمضون من قلومبو إلى الحبشة يبدأون السير من هذا الموضع وبعض وزراء الحبشة يقدمون إلى هذه القلعة ، ومنها يجمعون الجند ويحملون المؤن على الجمال ويقطعون الصحراء إلى الحبشة ، وليس لهم طريق سوى هذا الطريق ، وهذا الطريق طريق حجرى والطريق إلى إبريم على ضفة النيل ويمضى جنوبا وطريق إلى الحبشة فى الجهة الجنوبية ، وقد مضيت مع جماعة من قلعة قلومبو فى الطريق إلى إبريم وسرنا ثلاث ساعات حتى وصلنا :

مدينة صين باس

كانت مدينة عظيمة فى قديم الزمان ومضينا بين خرائبها يوما بتمامه وفيها غرائب وعجائب وأعمدة ومطلسمات ، وفيها ما فى (آت ميدانى) فى استانبول من أحجار مربعة وعليها علامات غريبة ، إنها كانت قديما مدينة قوم عاد ، وقد خرج من الحبشة أبرهة فى سبعين ألف فيل ومضى إلى هذه المدينة فخربها وأهلك أهلها ، وهى الآن مدينة خربة ليس فيها سوى البوم والأفاعى.

٣٥٥

وعلى ضفة النيل مدينة بها مائتا بيت من الحصير وهى بلدة تشبه القرية وفيها جامع بلا مئذنة ، وبجانب هذا الجامع ضريح الشيخ رجابى ، وهو قطب عظيم ، وهذا الضريح فى غابة من أشجار الدوم وثمة ضرائح ثمانية وسبعين قطبا من الأولياء ، ولكن أجهدنا القيظ فلم نستطع زيارتها وإن كنا قرأنا سورة يس ومضينا لطيتنا ومضينا بين الصخور فى طريق ضيق من المرتفعات والمنخفضات ولقينا من سفرنا هذا نصبا حتى وصلنا أسوان.

أوصاف قلعة أسوان

يذهب المؤرخون المحققون إلى أن قلعة أسوان بناها عاد بن شداد بعد الطوفان لأنهم يسمونها دير عرياق وأنها دير عظيم ، والملك عرياق مدفون فى هذا الدير فى تابوت من النحاس وعلى الجوانب الأربعة لهذا التابوت كتابات بالعبرية ويسميه القبط عرياق بن عيوام ويقولون إن إدريس ـ عليه‌السلام ـ رفع إلى السماء فى عهد هذا الملك وفى زمان هذا الملك سجن هاروت وماروت فى بئر بمدينة بابل ، وخلف عرياق فى الملك ابنه ألوخيم وكذلك ألوخيم مدفون فى هذا الدير ، وخلف ألوخيم فى الملك ابنه خصيليم ، وهو أول من بنى المقياس فى النيل عند أسوان وآثاره باقية إلى اليوم.

ثم قدم مصر الخليفة المأمون العباسى من بغداد وبنى المقياس فى مصر وخرّب المقياس الذى فى أسوان حتى لا يكون هناك مقياس بناه أحد سواه ، وخصيليم هذا فرع النيل ترعا ، وفرش هذه الترع بالرخام وأمام مدينة أسوان هذه المنطقة من النيل أحجار فى حجم جثة الفيل ، وقد سوى هذه الصخور وصنع منها سدّا فى بلاد النوبة اثنتى عشرة قنطرة ، ولم تبق من هذه القناطر اليوم سوى واحدة ، وقد دمرتها الزلازل ، وأسسها ظاهرة فى النيل ، وظهر نوح فى عهد خصيليم هذا وقد ركب خصيليم هذا فى سفينة نوح عند الطوفان ، وقد عمّر ثمانمائة سنة ، ولذلك قال المؤرخون إن مدينة أسوان كانت قبل الطوفان لأن فيها آثار لخصيليم وأبيه ألوخيم وجده عرياق ، وهذا بالعبرية مسطور على الصخور ، ثم عمرها عاد ولكن خربها أبرهة بعد الطوفان وقد جاء ذلك على التفصيل فى كتب الخطط ومحمد بن إسحاق وتواريخ الشهابى رحمة الله عليهما ،

٣٥٦

ولكنى أحقق هذا فى يقين فأقول ما مجمله أنها بقيت بعد زوال دول ودول وهى مدينة قديمة ، وقد فتحها عمرو بن العاص وهى التزام تابع لجرجا ، ويتحصل منها أربعون كيسا كما أنها كاشفية تابعة لكاشف قوص ويتبعها ستون قرية يتحصل منها ومن توابعها المائة والخمسين ستمائة أردب من الغلال ولكن ليس فيها جند مستحفظون من أربع فرق وهى قضاء يدر مائة وخمسون كيسا وريعها السنوى ثلاثمائة قرش ويبقى لكاشفها بعد المصروفات خمسة أكياس ، ولها قلعة عظيمة على ساحل النيل ، وهى سامقة مثمنة الشكل بناها شداد ومحيطها ثلاثة آلاف وستمائة خطوة ، ولها ثلاثة أبواب وفى داخلها حدائق وخمسمائة بيت صغير للفقراء ولرئيس هذه القلعة مائة وخمسون جنديا ، وفيها فرقة موسيقية ومخزن للأسلحة وعشرون مدفعا ، وهى الآن حد عظيم لأن حولها عرب عصاة ، وبها جامع وسبع زوايا وثلاث مقاه ، وستمائة بيت وليس فيها حمام ولا خان ولا مكتب للصبيان ولا سبيل ولا أسواق ولا دكاكين ولكن تقام فيها سوق عظيمة كل أسبوع ، ويجتمع فيها خلق كثير من جميع الأجناس يبيعون ويشترون ويوجد فيها ما ليس له من وجود ، وخارج القلعة ضاحية بها حدائق وبساتين وسبعمائة بيت وبعض هذه البيوت خربة ولكنها رممت وسكنت ، كما أن فيها جوامع وزوايا ولكن ليس فيها سوق وبها بعض المقاهى المصنوعة من الخشب والأكواخ والدكاكين ، وكانت بها فى ماضى الزمان على مسيرة ثلاث ساعات على ضفة النيل أبنية كأنها قصر الخورنق ، وأعمدة لا حصر لها وضرائح عالية وخان وحمام وسوق للبزّ وعمائر كتبت عليها طلاسم ، وكأن هذه الطلاسم قد كتبت منذ هنيهة ، وقد اعتشت فى هذه العمائر الغربان والحمام والغربان فيها تنعق ، وفى الشتاء تغادرها كل الطيور ، ويأتى العرب ويسكنون هذه الخرائب ، وجو أسوان لا بأس به ، وفيها الأسلحة لا تصدأ وتبقى مصقولة ووجوه أهلها وردية ولاعتدال جوّها كان الجمال فى فتياتها وفتيانها ، أما شراب البوزه فيها فيبعث القوة فى الروح وشراب البوزه هذا مرغوب طيب.

٣٥٧

باب الأبواب

إنها جزيرة خربة فى بوغاز الشلالات بأسوان ، ويسمونها باب الأبواب وبما أن النيل يتشعب سبع شعب فثمة عدة جزر ، وفى كل من هذه الجزر يؤكد الكشفيون على وجود معادن جديدة ففيها النفط والقطران والكبريت والرصاص والكبريت المائى ، وفيها حمم ماؤها حار يستشفى به ، ولكن ليس فيها أثر للعمران ، وعند فيضان النيل تغرق هذه الجزائر جميعا ولا يبقى أثر لما فيها من معادن وحمم ، ولا يستطاع استخراج هذه المعادن منها ويفيض النيل وتخضوضر الأرض فى مصر ، وأهل الطب من أهل مصر لا يشربون من ماء النيل وإنما يحضرون الماء من بئر فى المطرية ويشربونه وإذا شرب الناس من النيل فى وقت الفيضان وهو أخضر تورمت أرجلهم مثل الطلومبة وارتعشت أجسامهم نعوذ بالله ، وأصل اخضرار ماء النيل واحمراره هو ما تجمع أمام تلك الجزر من النفط والكبريت والقطران ويتلون ماء النيل بألوان مختلفة ومنها تهلك الحشرات ولكنها تأتى ثانية ، وتختفى فى الترع وهذا هو سبب اخضرار ماء النيل وجنوب أسوان تسمى :

ولاية علوى

إنها ولاية واسعة تمتد حتى الحبشة ودمبستان ولاعتدال جوّ هذه الولاية يتصف فتياتها وفتيانها بالجمال فلهم عيون كعيون الغزلان ويتزوج أعيان أسوان من عذارى ولاية علوى ، ومن عذارى علوى من لم يبلغن المحيض ولكن يحملن وغالبا ما يمتن عند وضع حملهن ، والعهدة على رواية أهل أسوان ، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن لقمان ـ عليه‌السلام ـ نبى وقيل إنه نبى أسمر اللون ، ولد فى أسوان ، كما أن ذا النون المصرى من أسوان وأصبح من صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن النبى إدريس ـ عليه‌السلام ـ ولد فى هذه المدينة ، وقد زرت قبره وهو مدفون فى مغارة وقد مرغت وجهى الشاحب على أثر قدمه فى الأرض حين عرج فى السماء ، وكل أثر لقدمه يبلغ ثمانية أشبار طولا وعرض الأثر ثلاثة أشبار ، وكأن هذا الأثر حفرة كالصندوق ، وعند ما ينزل المطر فإن حفرة أثر قدمه تمتلئ بمطر الرحمة والوحوش والطيور تشرب منه ، وبجواره غار لقمان ومنه تفوح رائحة العقاقير ، وهى رائحة طيبة ولم تنقطع هذه الرائحة من ألف سنة ، فما من ريب

٣٥٨

فى أنه نبىّ ، وذا النون المصرى من ذريته وكان طبيب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأجيال الأطباء تنتهى إليه ، وفى جنوب أسوان ولاية النوبة العظيمة ويسمونها باب النوبة.

ولاية النوبة

إنها أرض غنية ومعدن الزمرد فى جبالها ، وتستخرج المعادن والزمرد منها ولذلك أهلها أثرياء منعمون وقد أمر حاكم جرجا باستخراج الزمرد ، وأمر أن يصنع منه الكؤوس والأقداح وقبضات الخناجر ودبوس من قطعة واحدة ، ولكثرة ما استخرج من الزمرد أصبح على بك عريض الثراء واسع الدنيا ، وإن كان استخراج الزمرد يتكلف نفقات باهظة ، وفى أرض أسوان أربعون نوعا من المعادن ولكنهم لا يعرفون كيف يستخرجونها ، وجنوب النوبه أرض خربة ، وبالقرب من أسوان شاة تلد فى السنة ثلاث مرات ، وفى كل مرة تلد حملين وهذا بسبب لطافة الجو : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٠].

عجيبة

وفى شمال أسوان شجرة منقطعة النظير وهى قائمة منذ عهد بنى إسرائيل وهى تثمر صيفا وشتاء ويسقط ورقها كل سبع سنوات ثم تورق من جديد ، وتسمى شجرة الخط ، وهى شجرة لها الشهرة فى بلاد أسنه وأسوان وسودان وفونجستان ونوبة ودوميية وعلوى وحبش ويحتضن جذعها عشرة رجال ولها أربعون فرع يحتضن كل شعبة منها خمسة رجال ، إنها دوحة عظيمة عالية ، يمكن أن تظلل أربعين ألفا من الغنم واتفق ذات مرة أن أحد الزنادقة استظل بها فسقطت عليه ورقة خضراء منها فأخذها الزنديق ، فأخذ العجب منه كل مأخذ من ذا الذى أنبت الورق على الشجرة فسقطت من الشجرة عليه ورقة أخرى بأمر الله ، وقد كتب على هذه الورقة من أنبت الورق على الشجر هو الذى شق السمع والبصر فى وجه البشر ، وفى التو نطق الزنديق بالشهادة ثم زفر زفرة وفاضت روحه وله قبر فى ظل هذه الشجرة ويسمى قبر الشيخ الزنديق ، ويزور الشجرة الخواص والعوام والآن أوراقها مخضوضرة ، وهى كذلك إلى ما شاء الله ، ولكن لا وجود لكتابة على أوراقها ، وهى فى الطريق من أسوان إلى النوبة فى مرج واسع الأرجاء وهى تبعد عن أسوان بربع ساعة.

٣٥٩

وقدم السلطان قايتباى من مصر فأمر بترميم قبر الشيخ الزنديق وأنشأ صفة ومحرابا له وكتب على عتبته تاريخ هذا الترميم.

وفى أسوان يستخرج أربعون معدنا ، علاوة على الملح والنطرون وشمع العسل والصابون ، والصابون كلمة عربية ، وتطلق على ما يصنع من الأعشاب والنباتات ، ويوضع فى الأكياس ، وإذا غسل به الثياب أصبحت بيضاء ، إنهم يأكلون شمع العسل من شدة الحر ، وإن النحل يصنع العسل وإذا ما نزل غيث الرحمة تسد خلايا النحل ، وينمحى العسل بالمطر ويخرج شمع العسل ويجمع ليباع ، إنه أكثر بياضا من الكافور وله رائحة كرائحة العنبر ولهذا الشمع أربعون فائدة ، وإنه ينفع فى ألم الوسط والصداع والمغص ، وإذا تناوله أحد فإن شمع العسل يساعد فى هضم الطعام ، ويصلح المعدة ويخلص من غازاتها ، وهو مقو ويزيد فى قوة البصر ومن تناوله أربعين يوما لم يبق فى جسمه أخلاط ، ويتورد وجهه ، ويصح بدنه وشمع أسوان كثير فى سوق الفحامين فى مصر تلك هى خواصه.

ومن العجائب

أن عمودا يوجد على ربوة من الرمل فى شرق أسوان على مسيرة ربع ساعة شرقا ويرتفع مائة ذراع ، وعند قمته صورة إدريس ـ عليه‌السلام ـ ، وكأنما يجلس حبشى على قمته وكأنه حى ويبتسم وهو يرفع أصبع الشهادة كأنما يشير إلى السماء ، وقد ولد إدريس فى أسوان ، وبعث فيها ثم عرج به إلى السماء منها ، فدخل أمته الحزن وجعلوا يبكون ويتجولون فى ذهول وحيرة إن إبليس اللعين ظهر لهم فى صورة شيخ ، وإنهم يبكون وينتحبون لفراق إدريس وفى التو أمرهم الشيطان بأن يرسموا صورة إدريس ، وعلمهم أن يسجدوا وبذلك كفوا عن النواح والنحيب ومرة كل عام يأتى إلى هذا العمود جميع الخلائق ويسجدون عنده ، وإن إبليس الشيطان اللعين يمثل تلك الصورة ومن هذه الصورة كان يتنبّأ لهم عما فى الغيب وكانت هذه حالهم إلى أن ظهر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم انتهى هذا الأمر ، والآن يسمونه رمال الصنم ، ويتجه القبط نحو الشرق ، ويركعون عند هذه الصورة.

٣٦٠