الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

السواح على ضفاف النيل ومئذنته فى وسط الفناء ، وجامع الحاج منصور المغربى وهو جامع صغير ، وما عدا تلك الجوامع مساجد ، ولكن زاويتا الست رقية وبلال الحبشى فى غاية العمران ، وبالمدينة وكالتان وسبيلان وثلاثة مكاتب للصبيان ، وسبع مقاهى ومائتا دكان ، وتنتشر مئات الدكاكين فى أيام المولد ، وبالمدينة حمامان ولكنهما معطلان أيضا.

وكل الأعمدة الحجرية الموجودة بالجوامع والمساجد والوكالات وأحجار العتبات من الأحجار تشبه المسلة الموجودة فى «آت ميدانى» (١) فى إستانبول ، وكانت بالمدينة بعض العلامات الحجرية ، إلا أن الظاهر منها الآن أساسها فقط ، وعندما بنت الملكة دلوكة تلك المدينة قام الكهنة بعمل ثلاث مائة وست وستون طلسما بالمدينة ، وقام الملك سوريد ببناء جسر عظيم على النيل أمام مدينة زياك ، ولكنه هدم على يد بخت النصر وتظهر دعاماته عندما تنخفض المياه فى نهر النيل ، وهى عشرين دعامة قوية بين كل دعامة وأخرى خمسين ذراعا مكية (٢) وقد تيسر للحقير رؤية تلك الدعامات ذات مرة ، وتعبر السفن الذاهبة إلى رشيد من تلك الدعامات بحيطة وحذر ، وهذه المدينة القديمة أبنية غريبة وعجيبة ، كما تظهر تصاوير عجيبة وغريبة على الأحجار المختلفة على الحوائط ، وطرقها على هيئة لوحة الشطرنج لأنها بنيت على علوم الحكماء فى الزمن القديم ، ولوقوع المدينة على نهر النيل فإن هواءها لطيف للغاية وبها قرى عامرة.

وحول المدينة سبعة آلاف فدان يتم زرعها ، ونظرا لهجرة الأهالى للمدينة فإن النسبة انخفضت حتى وصلت إلى ألفى فدان فقط يحصل منها خمسون كيسا مصريا وبقية الأراضى الأخرى خاوية ، ويقام المولد بالمدينة مرة كل عام ويكون عشرة أيام بلياليها ، يتجمع به رجال كثيرون ، يبيعون ويشترون ليلا نهارا ، حيث يعمّر كل ركن من أركان

__________________

(١) اسم ميدان أمام مسجد السلطان أحمد كان الرومان البيزنطيون يستخدمونه ميدانا لسباق الخيل ، عمره بعد خراب السلطان محمد الفاتح وأصبح ميدانا لسباق الخيل ومباريات أخرى ، وكان الإنكشارية يحتشدون فيه معلنين الثورة. وفى القرن التاسع سمّى ب «ميدان السلطان أحمد».

(٢) الذراع المكى ـ ويقال الهاشمية ـ مقياس ، طولها ٦٤ سنتيمترا.

٢٠١

المدينة فى تلك الأيام ، وتصطف الحوانيت على الطرقات ، وتشتهر النهارية بكتانها الذى يفوق كتان الفيوم ، لذا فالقماش هناك رقيق للغاية ، ولهم خبز أبيض خاص بهم وعندهم نوع من السمك يسمى شليه ، كما توجد مصانع النشادر على ضفاف النيل فى مدينة النهارية ، والنشادر التى تصنع هناك نظيفة خالية من الأوساخ والشوائب ، ومن العجائب الموجودة بتلك المدينة أيضا تلك الترعة التى قامت الملكة دلوكه بحفرها من أمام قرية الفرزدق وهى خاصة بنقباء الأشراف ، وهى ترعة شقت من النيل تمر من أمام قرية النهارية ، والعجيب فى تلك الترعة أنها حفرت بشكل يجعلها تجرى ناحية الجنوب بالرغم من أن النيل المبارك يجرى صوب الشمال حتى يصب فى البحر الأبيض عند رشيد ، وتمر تلك الترعة من مدينة النهارية ثم مدينة الأبيار ثم محلة المرحوم وتنتهى فى بلد شيب ، وإذا ما فاض النيل فإن المياه تزيد بها وتجرى نحو الجنوب حتى تصب فى نيل دمياط ، أما فى الأوقات العادية فتزيد المياه بها وتقل على حسب المد والجزر ، ويقولون هناك أن المياه موجودة بها بصفة مستمرة ولا تجف خمسة أو ستة أشهر مثل بقية الترع الأخرى وذلك لأن الملكة دلوكه دفنت طلسما أمام النهارية ، ويجرى النيل على عكس تياره من تأثير هذا الطلسم ، وهى على هذه الحال إلى ما شاء الله.

أوصاف مزار الأولياء بمدينة النهارية

أولا الموجودون وسط المدينة : ضريح الشيخ محمد بن زين وهو ضريح ذو قبة منخفضة فى أحد أركان فناء جامعه ، والضريح من الداخل لا توجد به زينات وزخارف كثيرة ، والجامع أيضا جامع صغير ، ولكن المصلين به كثير ، وبابه يطل على ناحية الشرق ، وله مئذنة بيضاء ذات طابق واحد ، وقبة الضريح مكسوة بالكلس الأبيض ، ولهذا الشيخ مناقب مشهورة عند العرب والعجم إحدى تلك المناقب ما يلى ؛ عندما أراد الشيخ محمد بن زين التوجه لأداء فريضة الحج ، قال بعض خلفائه : فى أى يوم ستخرج إلى الحج؟ وكم ناقة تحتاج يا مولانا؟ فقال لهم أنا يمكننى أن أحضر ناقة ، أما

٢٠٢

أنتم فدبروا حالكم ، وفى الصباح جاء أعرابى بناقة بيضاء جميلة إلى الشيخ وأعطاها له وقام الشيخ بتوديع الحضور فى المجلس وبينما كان الشيخ منشغلا بالذكر بقوله يا حى يا قيوم يا قوى يا متين أخذته الناقة على ظهرها وهرولت به كريح الصبا حتى خرجت من المدينة ، فتعجب المريدون من هذه الحال وأسرعوا خلف الناقة يبحثون عنها ، وقد وجدوا الشيخ يؤدى صلاة الظهر والناقة باركة بجواره ، وبعد الصلاة أرسل كل أحبائه إلى المدينة أما هو فجلس يذكر الله مع سبعة من الرجال ، ثم ركب الناقة وعزم على المسير وعندما رأى كل الحجاج هذا تحيروا ، حقا إنه سلطان صاحب قوة خارقة.

وقد قطع هذا الشيخ المراحل وطوى المنازل حتى وصل المدينة المنورة فى أربعين يوما ، وسارت به الناقة إلى باب السلام ، فقام الشيخ بتقبيل ضريح حضرة صاحب الرسالة ومسح وجهه بالروضة المطهرة ، ثم قال الرجل وهو يقف أمام روضة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا رسول الله لقد أحضرت لك جملا هدية وأتمنى أن تقبلها منى) وعلى الفور ظهر صدى من داخل القبر الشريف يقول : (يا محمد بن زين لقد قبلها الله أيضا وشفاعتى لك ، يا ابن زين إن ناقتك التى أحضرتها قد ماتت الآن لا تطعمها ولا تسقيها امتطيها واذهب إلى مكة وعرفات والمروة وبعد أربعين يوم سوف تذهب بك إلى النهارية لتدفنها هناك) ، وعندما استمع ابن زين لهذا الصدى من القبر الشريف حمد الله وقال لقد قبلت هديتى ، وعندما خرج وجد الدراويش الموجودين بجوار الصفة يصرخون ماتت الناقة ، فقال الشيخ محمد أيتها الناقة لقد سرت بى وأنت حية وسوف تسيرين بى وأنت ميتة بإذن الله ، فركب الناقة الميتة قائلا باسم الله وقال : (يا جمل قم بإذن الله) فنهض الجمل على قدميه وسار وهو ميت وذهب فى عشرة أيام إلى مكة وعرفات وأدى الشيخ الحج ، وقطع المنازل وطوى المراحل ، وفى اليوم الأربعين وصل إلى مدينة النهارية وهناك سكنت الناقة عن الحركة ، فقام الشيخ بتغسيلها بيده المباركة ودفنها ثم أنشئت بعد ذلك قبة عليها أطلق عليها قبة ناقة الله ويزورها كثير من الناس ، وقد شوهد ذلك كثير وشهد الذين ذهبوا إلى هناك بأنهم يسمعون ضجيج الإبل يخرج من القبر ، وفى تلك السنة توفى الشيخ ليحشر تحت لواء صاحب الرسالة قدّس سره العزيز.

٢٠٣

وهذه المناقب قريبة العهد وأحمد الله أن الحقير تسنى له زيارة الضريح ومسح وجهه به وقرأ الختمة الشريفة هناك مرتين ووهب ثوابها لروح الشيخ ، وقد رجوت شفاعته.

وضريح الشيخ السيد حسن القصرى بالقرب من جامع عطية البيه ، وفى قبالته ضريح الشيخ حسين وهو فى زاوية صغيرة ، وفى ضريح صغير يبعد عن قبلة باب الجامع بمائة خطوة قبر الشيخ إبراهيم قرانجة وفى مقابلته ضريح الشيخ ناصر الدين أبو العمايم ، وهو مدفون بجانب جامعه الذى يشبه حدائق إرم ، والضريح مزار للعام والخاص ، وقد مدحت أوصافه فى طبقات الشعراوى ، قدّس سره ، وقبر الشيخ سيد على وحيش وهو مدفون فى ضريح صغير داخل جامع صغير يقع بالسوق.

ضريح الشيخ حسين العجمى ، وفد هذا الشيخ مع ابنه إلى محلة المرحوم من ديار العجم وهو سلطان عظيم ، وقبر الشيخ عثمان الحنفى بفناء جامعه على ضفاف النيل وهو ضريح صغير داخل الجامع ، وبالقرب منه ضريح الشيخ بلال الأنصارى وهو من الصحابة الكرام وهو ليس بلالا الحبشى ، فبلال الحبشى مدفون بالشام عند باب النعجة ، أما بلال الأنصارى فهو مدفون بزاوية صغيرة بمدينة النهارية ، ثم ضريح الست رقية ويقع فى زاويتها ، وأكثر زواره من النساء ، ثم ضريح الشيخ أحمد السواح وهو ضريح صغير فى الناحية اليسرى من جامعه.

ثانيا : أما الأضرحة الموجودة خارج المدينة فهى : ضريح الشيخ نصر الدين أبو العلا ، وهو شيخ كبير له مناقب فى طبقات الشعراوى وضريحه أبيض اللون يقع خارج المدينة فى ناحية القبلة وله جامع فخم مزين ، وبالناحية الشمالية للمدينة ضريح الأولياء السبعة ويطلقون عليه مزار الأولياء السبعة لأن سبعة من الأولياء مدفونون به ، وكلهم من نسل النبى يوسف ، وعلى ضفاف النيل ضريح صغير للشيخ يوسف العجمى.

وعلى ضفاف الترعة الموجودة بمدينة النهارية على مقربة من المقهى ضريح على رفيعى وهو ضريح صغير وقد شاء المولى القدير أنه أثناء زيارة الحقير لهذا الضريح تهدم

٢٠٤

جزء منه ، وتم ترميمه على الفور بواسطة سبعة بنائين وعشرة عمال وعشرة قناطير من الجبس والكرج ، ثم تلى الحقير ختمة شريفة فى ثلاث ليال بالضريح ووهب ثوابها لروح الشيخ ليتقبل الله ، وبفناء الضريح شجرة سدر ، ويعتقد التجار المغاربة الذين يأتون للنهارية لشراء الكتان فى الشيخ لأقصى درجة ، ودائما ما يقومون بزيارته فلا يرون ضررا فى رحلتهم ، إنه سلطان عظيم.

ثم ضريح الشيخ عبد الله وهو ضريح صغير تحت شجرة سدر أمام باب وكالة الكاشف الواقعة على ضفاف النيل ، وبالقرب منه ضريح الشيخ محمد الحجازى وهو خال الشيخ أحمد البدوى ، سلطان عظيم من كبار الأولياء ، وبمدينة النهارية آلاف الأضرحة لكبار الأولياء ولكن ما ذكرناه هو ما ذهبنا إليه فقط.

وركبنا مع رفقائنا القارب ومررنا ببلدة قليبة المقابلة لمدينة النهارية وهى بلدة عامرة بها مائة منزل على ضفاف النيل ، وتقع تحت حكم عبد الرحمن أفندى أما قضاءها فثمانية أكياس ، وبها جامع كبير بزاوية من زوايا فنائه ضريح الشيخ عبد السلام قليبى وهو سلطان عظيم ، وهو عم الشيخ محيى الدين بن العربى المدفون بالصالحية بالشام الشريف ، أتى هذا الشيخ من المغرب ودفن فى هذه البلدة ؛ وقد قمنا بزيارته وقرأنا القرآن عنده ، وبالقرب من ضريح الشيخ السيد عبد الواحد ، ضريح صغير فى فناء الجامع الذى أنشأه الشيخ عبد الواحد من ماله الخاص ، ثم عدنا بالمركب إلى الناحية الأخرى من النهارية.

فى بيان مولد النهارية

يجتمع فى هذا المولد خلق كثير مثل مولد الشيخ أحمد البدوى ؛ إلا أنه لا يضاهى ذلك التجمع الموجود بمدينة طنطا ، ويوجد به كل العاشقين والصادقين ويجتمع التجار والزوار وأهل الصناعات والحرف فى هذا المولد بخيامهم الكبيرة والصغيرة ، وينصب التجار والصناع الخيام كحوانيت لهم ، ولا شك فى أن وجود تلك الحوانيت فى مدينة النهارية ينعشها ، وفى أيام هذا المولد تنشر أيضا مئات الخيام والحوانيت والمقاهى على ضفاف النيل تحت ظلال الأشجار حيث يبيعون ويشترون لمدة عشرة أيام بلياليها ، ولكون

٢٠٥

هذا المولد على ضفاف النيل ، فإن كل زواره وتجاره يأتون بالمراكب ويشكلون جمعا غفيرا يعجز اللسان عن وصفه ، وفى اليوم العاشر اعتزم كاشف منوف العودة إلى مصر مع جنوده ودقت طبول العودة أما كل الزوار والتجار فقد عزموا على التوجه إلى مولد إبراهيم الدسوقى.

وقد ركب الحقير زورقا مع مجموعة من خدمه ، وسرنا أربعين ميلا فى ترعة النهارية وشاهدنا على جانبى الترعة مئات القرى العامرة ذات حدائق النخيل والورود ، ثم دخلنا نهر النيل الرئيسى من عند نهاية تلك الترعة عند بلدة الفرزدق ، وقد شقت الملكة دلوكه ترعة النهارية من هذا المكان وبذلك جلبت الملكة مياه النيل إلى النهارية.

تقع بلدة الفرزدق فى أراضى الغربية بها مائتا منزل وجامع ، وهى قرية نقيب أشراف مصر برهان الدين أفندى ، عبرنا بلدة الفرصدق وسرنا نحو ثلاثين ميلا فوصلنا إلى قصبة محلة صا ويطلقونا فى تلك النواحى محلة على القصبة ، ومحلة صا تقع فى أراضى البحيرة بها مائتا منزل وجامع جديد بمئذنة وزاوية وعشرة دكاكين ومقهى ، ودار للضيافة ويقيم الملتزم والأمين فى تلك الدار ويطلقون عليها المسافر خانه ، ويقوم كل الأهالى هناك بتقديم بعض محاصيلهم ليتناول منها الضيوف والمسافرون ، إنها خيرات عجيبة وقد أقام الحقير ليلة فى هذه الدار.

وفى الصباح ركبنا المراكب وسرنا نحو عشرين ميلا فوصلنا إلى محلة أبو على وتقع على النيل فى أراضى الغربية ملتزمها هو عمر الجوربجى وهى قصبة عامرة يحصل منها سبعة أكياس مصرية ، قضاءها مائة وخمسون أقچه ويتبعها خمسة وأربعون قرية آهلة يحصل لقاضيها كل سنة ثلاثة أكياس ، وهذه القصبة قصبة لطيفة وعامرة على ضفاف النيل تمتد من الشرق إلى الغرب ، وبها ثمانمائة منزل أسقفها مغطاة بالتراب وهى للفلاحين ، وبها تسعة محاريب من بينها جامعان ؛ الأول منهما يقع بالقرب من المحكمة الواقعة على ضفاف النيل وهو جامع قديم به أربعون عمودا من المرمر ، وبفنائه شجرة سدر كبيرة مرتفعة جدا تتدلى منها الأغصان ، أما الجامع الصغير الموجود بالسوق فتقام به جماعات كثيرة ، وما عدا تلك المحاريب فهى زوايا ، وبالمحلة خمسون حانوتا ودكان

٢٠٦

وثلاثة أسبلة ومكتبان للصبيان ولا يوجد بها حمام ، وبها دار لملتزمها عمر الجوربجى وهى مثل القصر المنيف ، تمتلئ بالغرف والقاعات.

ومن هناك ركبنا الخيول وذهبنا إلى بلدة المجنون وهى بلدة عامرة على ضفاف النيل بها مائة منزل ، فى التزام مصطفى أغا أغا الانكشارية فى مصر ، عبرناها ثم اتجهنا ناحية الغرب فى أراضى الغربية ، فوصلنا إلى قصبة إبراهيم الدسوقى.

أوصاف قصبة إبراهيم الدسوقى

سميت هذه القصبة على اسم الشيخ إبراهيم الدسوقى لأنه كان يقيم بها ، وهى من أراضى الغربية وتبعد عن النيل بمقدار خمسمائة خطوة ، ملتزمها هو قيطاس أغا الشركسى وهى قصبة عامرة بها خمسمائة منزل وبها دار ضيافة ويحكمها شيخ العرب ، ويمتلك ألف جواد ويوجد مشايخ من أبناء الشيخ الدسوقى الآن فى تكية الدسوقى ، بها حدائق وبساتين كثيرة وستة جوامع وجامع من آثار السلطان قايتباى من سلاطين مصر يبلغ طول هذا الجامع من باب القبلة حتى المحراب مائة وعشرون خطوة ، وعرضه مائة وثلاثون خطوة وبالجامع خمسون عمودا مرمريا تحمل الكمرات التى تحمل السقف ، وهو سقف خال من الزينة ، المنبر ومحفل المؤذن من الخشب أيضا ، والمحراب قديم خال من الزينة ، نقش فوقه بالخط الجلى عبارة : (أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف السلطان قايتباى عز نصره).

والغرفة الموجودة أمام المحراب مدفون بها كبار الأولياء ، ودائما ما يسطع منها النور ، وللجامع أربعة أبواب اثنان منهما يطلان على القبلة والآخران يطلان على ناحية الغرب واحد منها باب للعمارة والثانى باب الميضأة ، أما الباب الصغير المكشوف على حوض الشافعى فهو باب صغير ويدخل منه من يريدون تجديد الوضوء ، والمكان من منتصف الجامع وحتى المحراب مرتفع يصعد إليه من مكانين بواسطة سلالم حجرية ترتفع لستّ خطوات ، وعند الباب الموجود فى الناحية اليسرى من البابين المطلين على القبلة توجد مئذنة موزونة غاية فى الجمال صنعت بدقة ومهارة تجعلها لا يوجد مثلها فى مصر وبقية

٢٠٧

الديار الأخرى ، ترتفع هذه المئذنة لمائة وخمسة أقدام وهى ثلاثة طوابق ، إنها مئذنة تثير العجب ، وأسفلها باب يتم الدخول منه إلى ضريح قطب الأقطاب الشيخ إبراهيم الدسوقى قدّس سره العزيز حيث يرقد فى هذا الضريح مستغرقا فى نور الله مرشد الناس السلطان العارف بالله الشيخ إبراهيم الدسوقى ، ولم تكن قبة الشيخ إبراهيم الدسوقى مزينة بنفس الزينة الموجودة فى ضريح السيد أحمد البدوى وتوجد بعض المعلقات فقط بالضريح من الداخل لم يكن بها تكلف.

على أية حال لم يكن لضريح إبراهيم الدسوقى هذا الحظ من الزينة ، وعلى الجوانب الأربعة للضريح مجموعة من القناديل ومئات الشموع والأعلام البرهانية ، أما أرضية الضريح فهى أرضية من المرمر ليست مفروشة ، ويطل باب الضريح على ناحية الشمال ويدخل منه الزوار إلى الضريح ويؤدون ركعتين بجوار المحراب ثم يذهبون ، وبوسط تلك القبة قفص خشبى بداخله صندوق الضريح وهو مغطى بالصوف الأخضر كما توجد عمامة خضراء عند رأسه فهو حسيب النسب من العرق الطاهر والسادات الكرام ، كان الشيخ إبراهيم الدسوقى معاصرا للبدوى وهم أبناء عمومة والبدوى كان من الدراويش الأميين ، أما إبراهيم الدسوقى فكان سلطانا مصنفا مؤلفا وله الآن مئات المجلدات والمؤلفات كلها كتب قيمة عن العلم اللدنى ، وله أشعار بليغة وفصيحة وهى أبيات فى التصوف تقرأ بين المتصوفة ، وله مئات الكرامات والمناقب المذكورة فى بعض مناقب الأولياء وطبقات الشعراوى ، لم يشتغل الدسوقى باللهو واللعب مع الصبيان فى زمن صباه فقد كان يقوم الليل ويصوم النهار وأصبح صاحب سجادة لآلاف المشايخ وأرشد آلاف الرجال ، ولا يستمع أى شخص تارك للصلاة أو شارب للخمر من أهل الهوى إلى أبيات الشيخ الدسوقى إلا ويتوب على الفور ويصبح من أهل السلوك ، وقبة ضريح الدسوقى مغطاة بالكلس الأبيض يعلوها علم كبير من النحاس الأخضر ، لو حدثت أى مصيبة كبرى أو مات أى سلطان فإن هذا العلم النحاس الأخضر يميل ناحية الشرق أو الغرب من ناحية القبلة وبذلك يعلم جميع طوائف العربان الموجودين هناك أنه

٢٠٨

قد حدثت مصيبة بتلك الديار التى مال العلم ناحيتها لذا يقول طائفة العربان وهم يصيحون يا دسوقى يا مولى النحاس.

وفى اليوم الذى استشهد فيه السلطان إبراهيم فى الروم مال هذا العلم نحو الغرب ولا يستطيع أحد أن يضع يده على هذا العلم ، ودوران هذا العلم هكذا كرامة ، وتلك كرامة أخرى حدثت فى ضريح الدسوقى عندما كان الحقير يقوم بزيارة إبراهيم الدسوقى رأى رجلا يصيح داخل الضريح ، إنه رجل من حجاج الروم وضع ألف عملة ذهبية فى حافظته وذهب لزيارة إبراهيم الدسوقى وبينما هو فى هذا الخضم العجيب من البشر قام لص محترف بسرقة الألف عملة ذهبية منه فصاح الرجل يا دسوقى هل هذا يليق بك؟ لقد زرتك وقلت فى نفسى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] ، ولكن سرقت منى أموالى الذهبية التى أنوى الذهاب بها إلى الحج الشريف ، سرقت منى على أعتابك هل هذا يصح؟ والله سأشتكى منك لله ، وعلى الفور تجمع الناس عند باب الضريح حيث كان هناك رجل يرتدى عباءة سوداء وعيونه مكحلة ويمسك فى يده المسبحة ، كان الرجل قد أصابته نوبة صرع سقط فى الضريح لا يستطيع التحرك ولكن لسان حاله كان يشير على بنطاله ، حاول أحد خدام الضريح وأحد خدام الحقير إخراج جسد الرجل من الضريح ولكنهم لم يستطيعوا ذلك واستخرجوا من جيب بنطاله الألف قطعة ذهبية وردوها لصاحبها ، فصعد الرجل على الفور إلى حرم الجامع وأعطى لكل حافظ من الحفاظ العشرة عملة ذهبية وذلك ليقرأوا ختمة شريفة لروح إبراهيم الدسوقى ، كما تصدق بمائة عملة ذهبية على الفقراء الموجودين فى حرم الجامع ، أما اللص فقد قضى ليلته فى فناء الجامع وهو جريح فقام بعض المشايخ بقراءة حزب البحر وبعض التعازيم عليه حتى شفى إلا أن يديه كانتا فى حكم المشلولتين وذهب الرجل على ذلك ، وقد رأينا هذا الشخص فى الإسكندرية عندما ذهبنا إليها بعد ذلك فكانت يداه معوجتين.

خلاصة القول أن إبراهيم الدسوقى سلطان. وقد شاهد تلك الكرامة المارة الذكر مئات البشر عندما حدثت قدّس سره العزيز.

٢٠٩

وفى الناحية اليمنى لهذا الضريح يوجد لوح من المرمر عليه أثر قدم النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أحد الحجارة ، ومكان قدم النبى وضع ماء الورد يقوم كل الزوار بالأخذ منه ويمسحون به وجوههم ثم يقبلون الحجر الموجود عليه أثر قدم النبى ويطلبون الشفاعة وعند رأس الشيخ إبراهيم الدسوقى نقشت عبارة : (أمر بتجديد هذه الشبكة المباركة بهرام أغا ابن شيخ محمد) بالخط الجلى على لوحة مرمرية ، وفى الناحية اليسرى لمحراب الضريح باب صغير يتم الدخول منه إلى حجرة صغيرة بها ضريح الشيخ سيد موسى بن الشيخ إبراهيم الدسوقى وليس بها أى زينة تذكر ، بالإضافة إلى قبتين صغيرتين فى فناء الجامع ، أما القبة الموجودة فى ناحية باب العمارة فمدفون بها بهرام أغا الذى قام بتعمير وترميم ضريح إبراهيم الدسوقى ، والصفة الخارجية والسطح والقبة الموجودة على يسار هذه القبة مدفون بها حفيد إبراهيم الدسوقى وهو الشيخ عبد الله أبو الطيور ابن الشيخ موسى كان هذا الشيخ خليفة للدسوقى بعد وفاته.

وأبواب هذه القباب الصغيرة كلها مكشوفة ناحية الشمال ، وبكل قبة منها نافذة أو نافذتان تطل على الحرم ، وبعمارة هذه التكية أوعية كبيرة للغاية يوضع فى كل واحدة منها أيام المولد ثلاثة أو أربع من الجاموس أو عشر نعاج ، ويطبخ فى أحد تلك الأوعية شوربة القمح كما يتم صنع عشرين ألف رغيف خبز وتقدم كل تلك الأطعمة للفقراء والمساكين ويقدم الطعام على هذا المنوال عشرة أيام بلياليها. أما فى الأوقات المعتادة فيتم طهى إناء واحد فقط من شوربة العدس والقمح وثلاثة آلاف رغيف وتقدم للفقراء والمساكين والطلاب ، وذلك لأن غرف الطلاب والمريدين وهى تزيد على مائة غرفة تصطف على الجهات الأربعة حول فناء الجامع بها أناس يشتغلون بالعلم والطاعة والذكر وناظر تلك الأوقاف هو السيد يحيى من أبناء إبراهيم الدسوقى وابنه الشيخ سيد شريف الدين ودائما ما يقوم بالإنفاق على المريدين والمساكين ومنازل المذكورين تقع فى فناء الجامع.

وبتلك القصبة خانان وعشرة حوانيت ولا يوجد بها حمام أو مدرسة ، وبها سبيل للمياه ، بفناء الجامع ، يشرب منه كل الزوار إنه ماء الحياة ، عبارة عن صهريج مثل البحر

٢١٠

لا ينقص قطرة ، والحوانيت المذكورة موقوفة على هذا السبيل وفى أيام المولد تنصب آلاف الحوانيت والدكاكين من الخوص والغاب والكليم والخيام فى مكان المولد وبطول ساحل النيل ولا يعلم عدد تلك الحوانيت سوى الله حيث يأتى تجار الأقمشة من الهند واليمن ويستمر البيع والشراء عشرة أيام بلياليها ، ويقدر هذا البيع والشراء بمئات الآلاف من القروش ، وبخلاف الحوانيت فإن الطريق الرئيسى قد زين من على جانبيه بالمقاهى وبائعى الخبز وهو ما يضفى الجمال على الطريق بأكمله ، وبكل مقهى من تلك المقاهى توجد الراقصات وأهل الغناء ومن يعزف الرباب ، كما تنتشر الأسواق فى فناء جامع إبراهيم الدسوقى وخارج الفناء وتباع فيها الأشياء القيمة.

وهذا المكان مكان جيد للبيع والشراء لأنه داخل المدينة ويزيد مولد إبراهيم الدسوقى على مولد البدوى بأنه يأتيه أناس كثيرون وذلك لوجود المدينة على ساحل النيل فيأتى الزوار فى ألفى مركب وسفينة وصندل وزورق من كل المناطق الواقعة على نهر النيل من الإسكندرية وحتى الصعيد وبذلك يجتمع أناس كثيرون فى مولد الدسوقى ويكون هذا الجمع كاليم ، وترسو تلك السفن والمراكب على شاطئ النيل وقد تزين كل مركب منها بأربعين أو خمسين أو مائة أو مائتى راية وعلم كما يوجد بها آلاف القناديل ، وبكل سفينة من السفن الجريم والعقبة الآلات والأسلحة ، ويتم تجهيز المقاعد للضيوف القادمين ، ويضاء كل ليلة مئات الآلاف من القناديل حتى وقت السحر وتطلق الأعيرة النارية والفشنك ، وتدق الطبول فى كل النواحى ، فتكون كل ليلة ونهار من تلك الأيام بمثابة عيد الأضحى.

كما يقوم أصحاب الخيام والحوانيت برش المياه أمام الخيام والحوانيت مما لا يسمح بوجود ذرة غبار واحدة ، ويطيب النسيم فيحيى العاشقين ، ويخرج العاشقون من المراكب والسفن وينتشرون على ضفاف النيل وينصبون خيامهم تحت أشجار النخيل ويطهون الأطعمة النفيسة ، ويعيشون على ذلك ليلا ونهارا ويصبح مجلسهم مثل مجلس حسين بيقارا بسبب المطربين والعازفين ففى كل ناحية وزاوية تجد جماعة تجلس مع

٢١١

بعضها يتسامرون أحيانا ويذكرون تارة أخرى وبالرغم من ذلك يكون عدد الخيام فى مولد أحمد البدوى أكبر من عدد الخيام فى مولد إبراهيم الدسوقى ، وذلك لأن حوالى أربعين أو خمسين ألف من الفلاحين والملاحين يرقدون فى السفن والمراكب ، أما بالنسبة لعدد الرجال فمولد الدسوقى أكبر من حيث العدد والجمع به يكون مثل البحر ، حيث يختلط الكتف بالكتف من شدة الزحام وتأتى السفن من كل البلدان بالطعام والشراب ، وينصب مشايخ الطرق خيامهم فى أحد أطراف تلك المدينة على المراعى والأراضى الخضراء وينشغلون بالذكر فى كل ليلة حتى الصباح ، ويصل صدى ذكرهم إلى عنان السماء.

وفرقة أخرى تركب السفن ليلا وتصل حتى محلة أبو على ويطلقون الأعيرة النارية والفشنك وهم يهتفون باسم السلطان محمد خان ، ويدقون الطبول ويسيرون مع النيل ثم يأتون إلى مركزهم ويستقرون به ، أما طائفة العربان فإنهم يصفقون ويقولون : (الله ينصر السلطان) وتصبح خيامهم وأسواقهم بذلك أشبه بضجيج الهند كما يبقى فى كل سفينة ومركب ألفى رجل يقومون بالدعاء بالخير للسلطان وكل سفن المشايخ فى مولد الدسوقى مثل سفن المشايخ فى مولد البدوى أربع طبقات.

وفى اليوم الثامن من مولد الدسوقى وهو يوم الأربعاء ينادى الدلالون فى قصبة دمنهور بولاية البحيرة بالمولد الشريف فيذهب موكب عظيم به سبعمائة من المشايخ وعشرين ألف من الدراويش والمريدين بالكسوة الشريفة الخاصة بالشيخ الدسوقى ويضعونها على صندوق ضريحه وفى يوم الجمعة يخرج الموكب العظيم على دقات الطبول والتوحيد بوضع الكسوة على ضريح الشيخ إبراهيم الدسوقى ، ويكون بهذا الموكب سبعمائة من المشايخ وأربعين ألف مريد ودرويش من مريدى الطرق البرهانية والرفاعية والجيلانية ويقومون بتجديد الكسوة على الضريح ثم يدعون للسلطان وكل سلاطين آل عثمان ولأصحاب الخيرات بالخير.

وفى ذلك اليوم يؤدى كاشف الغربية خدمة أيضا ، حيث يذهب كل الزوار والتجار

٢١٢

إلى أوطانهم بعد انتهاء المولد ، وتفترق كل الجماعات عن بعضها البعض ويصبح ميدان دسوق وهو يضطرب بين ساعة وأخرى ولكن يبقى من هذا الجمع الغفير سبعمائة شيخ من الخلفاء ، وبعد رحيل كل الزوار وانتهاء الضوضاء وسكون المكان ، يذهب هؤلاء المشايخ ليلة السبت إلى جامع إبراهيم الدسوقى ويجتمع الصلحاء والمشايخ والدراويش فيكون المولد الشريف فى تلك الليلة المباركة ويحرقون العود والعنبر والبخور ، وينثرون ماء الورد فى تكية الدسوقى ، ويتناولون الأرز باللبن والسكر ويشربون المشروبات الممزوجة بالمسك ، وهذه العادة من كل حسنات سيد مصطفى أغا مندلى زاده فى رشيد ، ويقوم كل المريدين بإحياء تلك الليلة حتى الصباح فيختم مئات حفاظ القرآن الكريم ويجلسون جماعات جماعات يذكرون الله بذكر لا يخص أى طريقة ، وبهذا التجمع روحانية وأسرار شوق لا يشعر بها سوى العاشقين فقط ولو استمع أى جاحد أو صاحب قلب متحجر لهذا الذكر فإنه سيتوب على الفور ، إنه الطريق البرهانى وهو مشهور بين طرق أهل التوحيد.

ولا يستطيع أى مريد من أى طريق آخر القيام بهذا التوحيد الخاص بالطريق البرهانى ، ويتحمله فقط القادرى والمطاوعى ، وتعد تلك الليلة بمثابة ليلة الإسراء ، بعد ذلك وفى صباح اليوم التالى يقومون بزيارة الوداع ، ويستأذن كل المريدين من الخليفة وبذلك لا يبقى شخص واحد فى ميدان دسوق ، حيث يركب كل المشايخ المراكب ويذهبون إلى ديارهم ، وقد أدى الحقير زيارة الوداع هذه وختم القرآن وأهدى ثوابه لروح الدسوقى وطلب منه الشفاعة ليتقبل الله ، ثم قبلنا يد الشيخ شرف الدين وسرنا لمسافة ثلاثة أميال فى نهر النيل فوصلنا إلى بلد مرقاص وهى فى أراضى البحيرة على ساحل النيل وهى عبارة عن قرية عامرة بها مائة منزل وحدائق النخيل ، وينزل كل المشايخ فى تلك القرية حيث يحتفلون بمولد الشيخ أبو المجد بن الشيخ إبراهيم الدسوقى وهو مدفون فى ضريح عال يقع فى حديقة نخيل وورود بجوار الجامع الكبير الموجود بالقرية حيث يحتفلون به ليلة واحدة ، وللشيخ أبو المجد مئات المناقب والكرامات منها أنه أدى الحج ماشيا سبعين مرة.

٢١٣

توفى عام ( ) (١) أما الشيخ إبراهيم الدسوقى فقد ولد عام ( ) (٢) ومدة عمره ( ) (٣) وتوفى فى عهد ( ) (٤) ، ويجتمع فى تكية الشيخ أبو المجد آلاف العاشقين الصادقين العارفين ويتسامرون يوما وليلة ، يقرأون فيها المولد ، وتتلى فى تلك الليلة مئات الختمات الشريفة ، ثم يركب الجميع المراكب ، ويذهبون إلى بلادهم وقد قام الحقير بتوديع الشيخ الشناوى والشيخ شرف الدين وحصل منهم على الدعوات بالخير وركب المركب وأبحر فى النيل حتى وصلنا إلى بلد الرحمانية المقابلة لمدينة إبراهيم الدسوقى وتقع بلدة الرحمانية فى أراضى البحيرة وهى فى التزام قيطاس أغا الشركسى وهى قرية عامرة بها خمسمائة منزل وستة حوانيت وثلاثة جوامع ومئذنة واحدة ومصنع سكر وستة مقاه ودار الضيافة بها عامرة للغاية وكأنها القصر العالى المنيف ، وتشتهر تلك القرية بمزارع قصب السكر ويتحصل للملتزم منها سنويا من محصول السكر والمحاصيل الأخرى عشرة أكياس ، وأحد الجوامع الثلاثة المذكورة من بناء السيد نفيس ويوجد أمام محراب الجامع أربعة أضرحة مدفون بها أربعة من أبناء الشيخ سيد نفيس وهم الابن الأكبر الشيخ سيد محمد يليه الشيخ سيد سليمان يليه الشيخ سيد محمود وكلهم من السادة الكرام وبخلاف تلك الأضرحة توجد أضرحة أخرى لكننا لا نعلم لمن كانت تلك الأضرحة وكلهم خلفاء للطريقة البرهانية ، والجامع جديد وعامر قبته مطلية بالكلس الأبيض وبه مئذنة وعلى منبره آية : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨] وقد قرأ الحقير فى هذا الجامع ختمة شريفة لروح كل واحد من المدفونين فى هذا الجامع ، ثم ذهبنا إلى قصر قيطاس أغا وركبنا الخيول الكحيلانية مع حضرة الشيخ الشناوى وسرنا على دقات الطبول والدفوف إلى مدينة دمنهور لحضور مولد الشيخ أبو الريش.

__________________

(٤:١) بياض فى الأصل.

٢١٤

المنازل التى مررنا بها فى طريقنا إلى دمنهور

عبرنا غربا من بلدة الرحمانية حتى وصلنا إلى بلدة الداودية وهى قرية عامرة بها مائة منزل وجامع وبها ضريح الشيخ عطا الله السنهورى وهو بين الأشجار على الطريق العام وقد قرأنا الفاتحة لروحه ثم سرنا ناحية الغرب فى صحراء كبيرة فوصلنا إلى بلدة السنهورية وهى قرية تقع فى أراضى البحيرة فى وسط الصحراء بها ثلاثمائة وعشر منازل وجامع على هضبة مرتفعة ثم سرنا غربا فى الصحراء على ضفاف ترعة الملك الأشرف فوصلنا إلى دمنهور.

أوصاف المدينة القديمة دمنهور

يطلقون عليها خطأ دمنهور من كلمة دم نهور وسبب تسميتها بهذا الاسم أنه عندما فتح عمرو بن العاص مصر فى عهد عمر بن الخطاب وبعدها بسبع سنوات أرسل عمرو ثلاثة آلاف جندى للبحيرة لتأمين مسيرة الحجاج المغاربة فقام الملك قوطيس القبطى أخو الملك المقوقس بحصار البحيرة ودارت الحرب بينه وبين جند المسلمين لمدة سبعة أيام صارت الدماء فيها مثل الأنهار فأطلق عليها بعد الفتح دم نهور وأصبح يقال عليها خطأ دمنهور ، ولا توجد حكومة تملك إيالات كثيرة أكثر من دمنهور فى أقاليم مصر فتمتد حدودها حتى الجنوب إلى الصعيد وإلى طرابلس وإلى الجبل الأخضر وإلى الواحات ويلزم لها كاشفون ذوى جرأة وشجاعة يعملون على الضبط والربط لشتى صنوف الأهالى الموجودين فى تلك البقعة الواسعة.

ويحصل منها مائتى كيس وبها ثلاثمائة وستون قرية تابعة لها ولحاكمها خمسمائة جندى من الخيالة وخمسمائة مسلح بالبنادق وهذا أقل ما يكون بجانب حاكم إيالة دمنهور والسبب فى ذلك العربان العصاة الذين يأتون من الجبل الأخضر وهم قبائل الجندارى وهم يمتلكون عشرة آلاف جندى وقبائل بهجة ويمتلكون نفس العدد وقبائل البدو ولا يعلم عددهم إلا الله ، وقبائل أولاد رجعيم ابن سيدنا سليمان وبها ثمانية آلاف بدوى ، وقبائل بنى عون ، وعندهم سبعة آلاف جندى وقبائل بنى نخمة وعددهم

٢١٥

ثلاثة آلاف ، ويتصفون بالشجاعة ، وقبائل الضعفا وهم ثلاثة آلاف رجل يقيمون فى أراضى البحيرة والفيوم حيث يتنقلون من مكان إلى مكان وهم قوم مطيعون ، وقبائل أفراد وجوابى وربانسه وطرحونه طرفة وأولاد حسن ونداره وسمه لوس وطويلى وسعادى وجلاسى وبنى قمامطة وبنى هداهد وعربان محاريب وعربان زرق وأولاد بنى وفا وهؤلاء وفدوا من المغرب واستقروا هناك وعندهم من الجند خمسة آلاف ، وبخلاف هؤلاء يوجد مئات القبائل من العربان ولكن لاختلاطهم اكتفينا بذكر المذكورين فقط وهم عربان غرباء يحتاجون للغلال ، وإذا ما جاء موسم الحصاد ينهبون الغلال بالرماح فينهبون القرى ويغيرون عليها ويأخذون ما فيها مجانا ، ثم بعد ذلك يذهبون إلى الصحارى التى يقيمون بها ، لذا يجب أن يكون كاشف البحيرة حاكما ذا جرأة وشجاعة ومعه من الجند ما يكفيه ، ولمدينة البحيرة محافظ على ألف جندى من جنود البلوكات السبعة لجند مصر وقائد للإنكشارية ورئيس لجنود العزب ونقيب للأشراف ، ويوجد كاشف آخر تحت الكاشف الرئيسى للإيالة ، أولا كاشف روم بيه ويقيم فى مدينة حوش عيسى وكاشف طرانه وكاشف صيف درج وكاشف مجيلة وكاشف البحيرة المالحة ، وقد استطاع أشقياء طرابلس الغرب أن يغصبوا الذهب بالقوة لمدة ستة وعشرين سنة.

وكل كاشف من الكاشفين المذكورين له خمسمائة أو ستمائة جندى وله راية وكلهم يمنحون الخلعة من كاشف إيالة البحيرة وليس من ديوان مصر ، والحاصل أن كشوفية البحيرة عبارة عن حكومة لدى قضاء البحيرة ويحصل سنويا ثلاثة آلاف قرش ، حيث يوجد بقضاء البحيرة ثلاثمائة وست وستين قرية وستة نواح هى نواحى طرانه والرحمانية وحوش بنى عيسى وصيف درج وناحية المدينة ومعظم أهالى تلك النواحى عصاة غير مطيعين ، أما مدينة دمنهور فتقع على ضفاف ترعة الملك الأشرف فى وسط صحراء البحيرة على الناحية الشرقية لها وتبعد عن النيل بمقدار أربع ساعات وهى ناحية الرحمانية ، أما الناحية الشمالية فتقع على ضفاف بحيرة مالحة يطلقون عليها ترعة الناصرية تبعد نصف ساعة عن النيل وعلى مسافة عشر ساعات بعد عبور عدة قرى عامرة توجد مدينة الإسكندرية ، وطول مدينة دمنهور من الشرق إلى الغرب ثلاثة آلاف

٢١٦

خطوة وبها خمسة آلاف وخمسمائة منزل مسقوفة بأسقف بنيت من الطين ، كما توجد بها منازل للفقراء ، وعشرين محلة وسبع وسبعين مصلى بالتفصيل على ما يلى : جامع الأمير عامر بمحلة المنيل الواقعة بالجهة الشرقية لدمنهور وهو جامع كبير وقديم وتقام به جماعات كثيرة وهو جامع فسيح يبلغ بالخطوة المتوسطة مائة خطوة بالتمام طولا وعرضا ، وبه اثنان وثلاثون عمودا من المرمر تحمل السقف المنقوش أما سطح الجامع فهو مغطى بالكلس ، وللمسجد ثلاثة أبواب باب القبلة وينزل منه للجامع بواسطة أربع درجات سلمية والبابان الجانبيان أيضا لكل باب منهم سلم يبلغ أربع درجات سلمية وتوجد مئذنة مربعة ذات ثلاث طوابق تقع خارج الجامع وهى بعيدة عن باب القبلة ، وهى مئذنة مرتفعة بنيت بمهارة أظهر فيها صانعها مهارته وخبرته.

وبوسط فناء الجامع توجد شجرة سدر قديمة ولكنها تثمر نبقا عجيبا ، ومحراب الجامع على الطراز القديم أما المنبر فهو من الخشب المحفور وعليه لوحة خطية وعلى باب المنبر توجد لوحة منقوش عليها بالخط الجلى المحفور على الخشب عبارة :

(بسم الله الرحمن الرحيم إنشاء هذا المنبر المبارك والجنابى العالى الأمراء الكبير عامر بن المرحوم الرابى إسماعيل بن عامر غفر الله والديه والمسلمين وكان الفراغ من هذا المكان سنة اثنين وسبعمائة).

وعلى الحائط الأيمن لهذا المنبر توجد لوحة بطول الحائط من المرمر الأبيض نقش عليها بالخط الجلى عبارة :

(تعمر هذا الجامع سنة أربع وخمسين وثمانمائة).

وعلى مقربة من هذا الجامع يوجد جامع صغير ذو مئذنة من طابق واحد هو جامع أبو السعود ، وبالسوق جامع به عشرون عمودا من المرمر يطلقون عليه جامع التوبة وجامع العرب ، وهو جامع مزين من على حوائطه بالأحاديث النبوية المكتوبة على الحوائط بين المصابيح والمشاريق وله باب يطل على السوق ومئذنة موزونة ذات ثلاث طوابق ، وله باب أيضا على يسار المحراب وباب آخر للحرم أما محفل المؤذن فهو محفل فى غاية المهارة من حيث الصنع مرفوع على أربعة أعمدة مرمرية محيطة مقدار ذراع أى

٢١٧

أن العمود مثل الذراع لذا يخاف أى شخص يصعد إليه ومحراب الجامع قديم ، على جانبيه عمودان مرمريان فى غاية الجمال ، وبداخل المحراب نقش خطى بخط الثلث مكتوب على أرضية مرمرية وهو لآية قرآنية : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور : ٣٦].

وأمام قصر الكاشف جامع المرحوم وهو جامع عتيق ، وقد سمى بجامع المرحوم نظرا لأن كل صلوات الجنازة تؤدى فيه ، طوله وعرضه مائة خطوة ، بديع البناء للغاية ، وبه اثنين وثلاثين كمره تشبه الأعمدة تحمل السقف ، وليس بالجامع قبة ، وللجامع ثلاثة أبواب اثنان جانبيان وواحد للقبلة ، وبوسط فناء الجامع شجرتى نخيل وشجرة سدر ، تحت تلك الأشجار توجد صنابير على حجر أزرق يقوم أصحاب المذهب الحنفى بتجديد وضوئهم منها ، ولهذا الحجر قصة وهى أنه كان قديما قبرا لأحد ملوك القبط وعند ما استولى العربان عليه ألقوا التابوت خارجا واستخدموا مكانه كمرحاض (بيت خلاء) وعلى الجوانب الأربعة للحوض توجد نقوش خطية للكهنة القدامى وقد تجولت فى أقاليم مصر ثمانى سنوات ولم أر مثل تلك النقوش فى إسنا أو أسوان فهو حجر ملئ بالغرائب والعجائب ، ويقول بعض أصحاب الحرف أنهم يعجنون هذا الحجر ويستخدمونه فى بعض الخزف والصناعات ، ولا يوجد بهذا الجامع أى طلاءات بالكلس وليس له مئذنة.

وتوجد ثمانية أعمدة مرمرية على الجهة الجانبية على جانبى باب القبلة ، أعمدة فى غاية الجمال لا يشبهها أعمدة ، ولكن نظرا لتوقف أوقاف الجامع فقد بقى الجامع معطلا ، وعلى منبره نقوش محفورة على الخشب نقوش عربية ونجوم وقطع القيشانى وأفرع نباتية ، إنه منبر عجيب وغريب كاللوحة الفنية حتى أن بعض الرسامين سرقوا الصنعة منه ، وعلى باب هذا المنبر لوحة بها نقش خطى مكتوب بالخط المحفور كتب بها عبارة :

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين جدد هذا

٢١٨

الجامع المبارك العبد الحقير إلى الله تعالى الأمير الكبير الشريف عيسى بن الجناب العالى المرحوم المخدوم إسماعيل المرحوم الزينى أمير عامر عربان إقليم البحيرة أعز الله أنصاره ورحمه وكان الفراغ من ذلك فى شهر محرم الحرام سنة ٦٣ وسبعمائة بعد الهجرة النبوية).

وعلى مسافة خمسين خطوة من الناحية الشمالية لهذا الجامع جامع السلطان قايتباى ومرقوم عليه أنه جامع سيدى شعبان وهو جامع أنور له روحانية به جماعات كثيرة وله مئذنة ذات طبقة واحدة وبالجامع عشرة أعمدة مرمرية تحمل السقف المزين وعلى باب منبره الخشبى نقش خطى بالخط البنفسجى المذهب عبارة :

(بسم الله الرحمن الرحيم أمر بإنشاء هذا المنبر المبارك فى أيام مولانا السلطان مالك الممالك الأشرف أبو النصر قايتباى أعز الله أنصاره فى شهر ذى الحجة الحرام سنة أربع وستين وثمانمائة بعد الهجرة).

وبالسوق جامع صغير هو جامع الشيخ أحمد الدواوى وبه مئذنة طويلة ذات ثلاث طوابق ، وعلى مسافة سبعمائة خطوة خارج مدينة دمنهور من الناحية الشرقية جامع صغير ذو مئذنة منخفضة هو جامع أبو الريش وبفنائه شجرة سدر كبيرة وبالجبانة التى تقع خارج المدينة جامع العباس وبه مزار خال ولكنه مزار للخاص والعام ويتم الآن بناء الجامع الجديد الذى أمر ببنائه أحمد أغا رئيس جنود العزب فى الميناء الواقع على ترعة الملك الأشرف وهو جامع صغير بنى بمهارة وإبداع ظاهرين وملحق به مئذنة مبهجة للقلوب اللهم يسر إتمامه بالخير.

وبمدينة دمنهور عشرة مآذن وهى العشر مساجد التى ذكرناها آنفا ، وباقى الجوامع الموجودة بالمدينة عبارة عن مساجد صغيرة ، وبالمدينة سبع تكايا وأربعين مكتبا للصبيان وأحد عشر سبيلا وفى بعض زوايا المدينة توجد قباب لأسبلة صغيرة ، وبالمدينة ثلاث مدارس وحمامان ، أحدهما يقع فى فناء جامع المولى وهو حمام قديم وبناءه وهواءه لطيف أما الحمام الموجود بالسوق فهو حمام منخفض وهو حمام الشيخ أبو السعود وهو حمام صغير وبالمدينة ستمائة وثمانون حانوتا وبها ثمان خانات وسبع مقاه وسبعة

٢١٩

وأربعون مغزلا لنسيج الأقمشة ومائتى حانوت لأعمال الطلاء وسبعة مصانع للطلاء أميرية.

هذا السوق السلطانى مغطى من أوله إلى آخره من أعلى والطريق العام بالمدينة واسع ، وكل منازلها سواء كانت للفقراء أو الأغنياء منازل عامرة ذات طابقين ، وكل مياهها من الآبار وبها نسبة ملوحة وهناك مياه خاصة يستخدمونها للشرب ويوجد بئر على طريق أبو الريش يشرب منه أعيان وكبار المدينة مياهه لذيذة وهى عبارة عن ماء البرد وطقس المدينة ليس مرغوبا فيه.

ولا يوجد بالمدينة حدائق أو بساتين إلا أن أشجار النخيل تحيط بجوانبها الأربعة وتأتى معظم فاكهة تلك المدينة من بلدة صف درج وبالمدينة نوع من العنب أجود من عنب الفيوم ، ولأن أرض تلك المدينة مالحة إلى حد ما فإن محصولها من القمح قليل ، ولون بشرة الأهالى هناك قمحية ، ويتزاوج عربان بهيجة وضارى من بعضهم البعض وتتزين معظم النساء والفتيات هناك بالوشم الأزرق على أيديهن وأذرعهن وأيضا بالكردان والخلخال (١) الفضى والذهبى وترتدى النساء الأثرياء هناك البرقع الأسود ويرتدين الأقمصة الحريرية ، ويرتدى الأعيان من الرجال الملابس الصوفية ، أما فقراءهم فيرتدون الفرجية (٢) المصرية. والقماش فى دمنهور من أكثر الصناعات هناك شهرة خاصة الأزرق والأحمر الفاتح منه والكليم من أشهر صناعات القماش فى دمنهور فهم يصنعون كليما بطول أربعين أو خمسين ذراعا ويمكن أن تستعمل أربعين أو خمسين عاما ، كما تشتهر المدينة بالزيت الحار أى زيت بذر الكتان والخبز الأبيض والباذنجان الكبير التى تبلغ الواحدة منه مثل حجم رأس الإنسان والملح والحصير المتعدد الألوان ، كما يوجد ببحيرة المدينة أنواع مختلفة من الأسماك ، وبقرية صفد أنواع كثيرة من الثمار والعنب الجيد ، والحاصل أنها مدينة كبيرة ولكن لوجود اللصوص بها لا يستطيع

__________________

(١) الكردان : حلى تزين الصدر وتلبس فى الرقبة كالقلائد ، والخلخال : تلبسه النساء فوق الكعبين وكلاهما مشهور معروف.

(٢) ثوب واسع من الصوف طويل الكمين.

٢٢٠