الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

١

الإهداء

إلى الصديق البحرينى

الدكتور سمير فخرو

أحد الأعمدة الأساسى

فى النهضة العربية المعاصرة

محمد حرب

٢

الفصل الثالث والخمسين

فى بيان مواكب مشايخ منبع الأسرار

وقطب الأبرار القطب العلوى السيد أحمد البدوى

لأننا كنا فى بداية السنة القبطية وبقى على قطع النيل ستون يوم ، وفى اليوم الذى تسقط فيه أول نقطة فى النيل يكون هذا متوافقا مع ميلاد عالم الفقراء السيد أحمد البدوى ، ويقوم أتباعه من الفقراء بالتجول فى الأسواق يعلنون عن قدوم مولد السيد البدوى (بالدفوف والطبول) ويقرأون القصائد ويوحدون وبعد ذلك يتبقى على قطع النيل خمسة وخمسين يوما ، ويتم إخبار كافة مشايخ ودراويش مصر فى ثلاثة أيام وثلاث ليال بميلاد مشهور الآفاق القطب على الإطلاق السيد أحمد البدوى ، ويتجول فى بداية الشهر المذكور ما يقرب من خمسة عشر ألف أو عشرين ألف من فقراء ومشايخ مصر بآلاف الرايات والسناجق فى الأسواق وهم يطبلون على الدفوف والنقارات والطبول وينفخون فى الصور وحينئذ ينشغل سبعمائة شيخ بالتوحيد ، حيث يسير موكب عظيم من الفقراء والمشايخ فى جماعات وصفوف إلى قصر الباشا الوالى وهم يرددون «يا رزاق» وعندما يصلوا إلى قصر الباشا يقوموا بالتهليل ، ويظل المنكرون لذلك فى حيرة وتعجب من هذا المشهد.

بعد ذلك يخرج كافة المشايخ لمقابلة جان بولاد زاده حسين باشا أمين الديوان العالى ، يرجونه استصدار فرمان ببدء مولد أحمد البدوى ، وبعد الدعاء والثناء ، يصدر الفرمان لخليفة البدوى بأن يقوم هو وكافة المشايخ بالتوجه بالسفن مع كافة الفقراء من بولاق فى موكب عظيم ، حيث يتجهون إلى الغربية ويخطر حاكم الغربية حسن بك وحاكم المنوفية ميرزا كاشف بأن يقوم الجنود بحراسة كافة المشايخ والفقراء الحاضرين فى الموكب لمولد السيد أحمد البدوى وينبه عليهم بأن تكون جنودهم فى حراسة خيام هؤلاء القادمين للمولد ، وإذا ما صادف أحد الجنود أى مشقة من أشقياء العربان يحمل نبوت أو عصا أو سلاح فيقوم الجنود على الفور بقتله ، ويحرر الأمر الشريف ويعطى للمشايخ ويقوم كبار المشايخ بالدعاء بالخير للباشا الوالى ، ويقوم الباشا الوالى بإعطائهم خمسين سفينة

٣

يركبها الفقراء الذاهبين لحضور مولد السيد أحمد البدوى ، ويأخذون من المحتسب خمسين قنطارا من البقسماط والبصل والجبن الحلوم ، ويقوم الباشا الوالى بالإحسان على قبر أحمد البدوى بقطعتين من القماش الأخضر وكيلتين من العود وسجادة من الإبريشم ، وشمعتان من شمع العسل تزن الواحدة خمسين أوقية ، وخمسون عملة ذهبية لختم القرآن الكريم خمسين مرة.

وبناءا على قانون التشريفات يقوم الوالى بتوديع كافة المشايخ وينزل إلى ميدان القصر ويقوم شيخ الجلادين بقراءة المولد أمام جميع أهل الديوان فى ميدان القصر ، ثم بعد ذلك يذهب كافة العاشقين الصادقين مع جملة الفقراء المجازيب من المدينة وهم يقولون «حى» «هو» ، ثم يسير الخليفة (خليفة البدوى) فوق الجواد محييا عن يمينه وشماله ، ويكون شيخ المشايخ الشيخ مصطفى الروملى خليفة حضرة الشيخ مرزوق الكفافى قائدا لكافة المشايخ ، ويعبر الموكب حيث ينادى الدلالون أن مولد البدوى يوم كذا القادم ، وينزل موكب الشيخ الخليفة عند تكية الشيخ مرزوق الكفافى ، وهنا يذهب كل العاشقين إلى ديارهم ، وبهذا تعلن بداية مولد الشيخ البدوى ، وبعد ذلك بعشرين يوم.

أوصاف موكب مولد الشيخ إبراهيم الدسوقى

هذا أيضا موكب عظيم ، حيث يسير عدة آلاف من الفقراء والمشايخ على دقات الطبول ، ويرفعون الرايات ، حفاة الأقدام عراة الرأس يقولون : «يا رزاق» ويعبر موكبهم بالذكر والتهليل وهم فى خشوع وخضوع متأدبين بآداب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يوجد فيهم ملاميون أو مجاذيب ، حيث أن تلك الطريقة هى الطريقة البرهانية الطريقة السلطانية ، ويكون هذا الموكب على نفس نسق الموكب السابق ، حيث يذهبون إلى قصر الباشا الوالى ويستأذنون منه ، ويعبر موكبهم وهم يوحدون ، وليس لهذا الموكب عطايا مثل الموكب السابق ولكن وزير مصر يقوم على سبيل المرحمة بتقديم قطعتين من القماش الأخضر وأوقية من عود البخور ، هبة من وزير مصر حيث أن قانون التشريفات فى مصر ليس به منح أو عطايا لهذا الموكب ، وشيخ هذا الموكب هو الشيخ شرف الدين ويسير بموكب عظيم ، ثم يسير المشايخ إلى منازلهم ويذهب كل شخص إلى داره ، وبعد

٤

تلك المواكب الخاصة بالموالد تكون كل ليلة فى مصر مولدا للنبى وبذلك يكون ثلاثمائة وخمسة وستون مولد نبى ، ومن تلك الليالى ليلة الإسراء وليلة القدر وليلة العيد الأكبر ، وتكون كل تلك الموالد بفرمانات من الوزير ، حيث يصل عدد تلك الفرمانات إلى اثنى عشر ، وينادى الدلالون بها. من تلك الليالى ليلة مولد أحمد البدوى وليلة مولد إبراهيم الدسوقى وليلة موكب أمير الحج وليلة السابع من شهر صفر وليلة مولد الجانبولادية عند باب النصر ، وقد تحرر هذا فى مواكب الحج ، وهذا أيضا يكون بفرمان من الوزير ، ورابع تلك الموالد.

أوصاف مولد حضرة الشيخ البكرى

فى ليلة الإثنين الموافق الثانى عشر من شهر ربيع الأول تزين مآذن مصر بمائة ألف قنديل لعدة مرات ، حتى أن المدينة تصبح مضيئة تماما ، ويقام فى تلك الليلة على جانب بركة الأزبكية مولد الشيخ البكرى ، حيث تقام الموائد قبلها باثنى عشر يوما وليلة لجملة أعيان مصر ، وتكون تلك الموائد لكل طبقة من الأعيان على حدة ، فليلة للأئمة والخطباء وليلة للعلماء والصلحاء ، وليلة للمشايخ الشرفاء وليلة لأعيان الأشراف ، وليلة لنقيب الأشراف وليلة مشايخ المذاهب الأربعة وليلة للمدرسين وليلة للقضاة وليلة لقاضى مصر ، وليلة لوزير مصر ، وفى حالة ما إذا كان لا يقوى على السير يأتون هم إليه محبة منهم ، لا سيما وأنها تكية عظيمة ، وليلة لكافة الأمراء المحمديين ، وينسحب الشيخ أبا بكر ويأتى بالإحسان والهدايا الكثيرة الوافرة ويأخذ منها الخاص والعام ، ولا تبقى مياه فى بركة الأزبكية ، حيث يمكث كافة المشايخ والأعيان فى الخيام فى مساحة ألف فدان فى الصحراء الشاسعة ، ويجتمع فقراء مائة وأربعين طريقة وينشغلوا بالذكر والتوحيد كما يؤسس سوقا فى جهة منها ، وتباع الأطعمة والمشروبات ، وتكون أسواقا كثيرة.

ويقوم أصحاب المنازل الواقعة على الجوانب الأربعة لبركة الأزبكية بإنارة مائة ألف قنديل عدة مرات ، وتطلق الأعيرة والألعاب النارية والفشنك وتقرع الطبول وتعزف الموسيقى ، بما تعجز الألسنة عن وصفه ، كما تزين التكايا بالقناديل وتموج كل النواحى بالبشر وكأنها البحر ، ويأخذ بنى آدم الذوق والصفا من هذا المشهد ، وفى تلك الأثناء

٥

يستعد الشيخ لقراءة المولد النبوى فى حضور العلماء والصلحاء والمشايخ على ضفاف حوض القاضى الأعظم ، ثم يقوم بتلاوة التواشيح الدينية بنغمة حزينة ، ويقرأ كافة الحضور المولد النبوى ، ويقوم سبعون أو ثمانون خادم يرتدون البناطيل الحمراء بإشعال أعواد العنبر الخام ، وتتعطر رءوس العاشقين من رائحة المسك والعنبر ، ويوزع عليهم سكر النبات والمشاريب ذات المسك والمعطرة فى أوانى مزينة ، ويقرأ المولد الشريف ثلاث مرات ويحسن على الموشحين والقارئين بالهدايا فى الصباح ، ثم يتوجه كل شخص إلى وجهته ، والحاصل أن اللسان يعجز عن وصفه ، وفى تلك الليلة أيضا يكون مولد :

مولد تكية الشيخ إبراهيم الكلشنى

يقام هذا المولد ليلة الثانى عشر من شهر ربيع الأول ومن الصوفية من يذهبون إلى مولد سيدى الشيخ البكرى ويمضى البعض الآخر إلى مولد سيدى إبراهيم الكلشنى وهناك من يذهب إلى مولد البكرى ، ثم يأتى إلى مولد إبراهيم الكلشنى.

إلا أن مولد الكلشنى هذا ليس مولدا للفلاحين ولا العوام من الناس بل هو لخواص الخواص ، ويحضره جميع الأتراك وطوائف الجند وأرباب المعرفة والمتصوفة والظرفاء والشعراء. ولا يحضره الغرباء ولا الجهال.

وبعد العشاء يبسطون السجاجيد الحريرية الخضراء النفيسة فى الحرم المجلو والمصقول أمام الضريح المنير والمعطر لسيدى الشيخ العزيز ، ويأتى الصوفية زرافات زرافات وبعد أن يؤدى جمع حاشد من الناس صلاة العشاء يشكل جميع المتصوفة حلقة طبق المراسم الكلشنيّة وتتلى سورة «الملك» ، ويتلو جميع الصوفية الأوراد والأذكار فى صوت واحد وبقلب واحد وبينما ينشغل عشرون بالذكر فى جانب وعشرون آخرون فى جانب آخر يقع بعض الصوفية فى حال الوجد فينهضون ويبدأون فيما يعرف بالسماع ، ويدور جميع المتصوفة حول أنفسهم ، وتصدر عن الذاكرين أشعار وأنغام شتى مختلفة المقامات الموسيقية ، وهى كثيرة يصعب حصرها ، وتختلط اثنتا عشرة حلقة من حلقات المتصوفة بعضها ببعض متصادمين وقد امتلأت قلوبهم بصفاء المحبة فيقعون فى حال الجذب كما

٦

يقعون فى حال الوله وهم فى دورانهم ، ويتغنون بالمنظومات الدينية فى صوت حزين والتى تسمى الواحدة منها «إلهى» ويداوم الذاكرون على ترديد كلمة «اللهم» فى ارتفاع وانخفاض من سمعها وكان مكدودا مهموما كاسف البال ـ دب فيه دبيب الحيوية والتفاؤل ، والله أعلم.

وجملة القول أنه على هذا النحو ينشد اثنى عشر فصلا من التوحيد السلطانى فى اثنى عشر مقاما ليست لواحدة من الطرق الصوفية المائة وأربعين ، وربما كانت للطريقة المطاوعية أو الطريقة البرهانية.

وبعد هذه الفصول يخرج «جلبى أفندى» من خلوته فيحيه جميع الصوفية ويتقدمون لتقبيل يده ، فلا يأذن بذلك إلا لمن بايعه وتشرب تعاليمه ، وأصبح موضع سره ومن أهل طريقته ؛ ولذا يقبل كف يده اليمنى.

و «جلبى افندى» هذا لا يغادر حجرته قط ولا يختلط بأحد من عوام الناس. إلا أنه يخرج مرة واحدة فى العام هى ليلة المولد. وهو يمتنع دوما عن الكلام صوام النهار قوام الليل دائما فى طاعة وعبادة منقطع لتلاوة القرآن الكريم.

ولكى يتعيش يشتغل بالخطاطة فهو جميل الخط ، إنه يخط بعض الرسائل يرسلها إلى بعض المتصوفة تبركا على سبيل الهدية.

وسبب خروجه يوم المولد هو أن بعض المتصوفة يبايعونه ويدخلون فى طريقته وبعضهم ممن لديه الاستعداد للإقامة فى التكية طيلة أربعين أو خمسين سنة يتلقون على يده كيف يصبحون أصحاب سجادة فى بلد آخر. كما أن بعض المتصوفة يشرفون بلقائه مرة فى العام ويظفرون منه بخير الدعاء.

يجلس المتصوفة على السجادة الموجودة على يمنة المحراب فى سكون وخشوع وبعد أن يفرغوا من التوحيد والذكر يصعد المنبر عالم فاضل لتلاوة الأوراد ويردد الموشحات فى صوت واحد ، ثم يبدأ ذلك الشيخ الفاضل فى قراءة «مولد سليمان جلبى» (١) فى صوت رخيم فى اثنى عشر مقاما ، ويحيون الليلة حتى مطلع الفجر وهم على تلك الحال.

٧

وعند ما تحل لحظة ولادة النبى وتذكر مولد خير الأنام ينهض المتصوفة جميعا إعظاما وإجلالا وينشدون هذه الأبيات فى صوت حزين :

ألم يكشف جمالك الدّجى يا رسول الله

ألم يبلغ كلام حبيبك ذروة العلى

ثم يبدأ خدام المتصوفة الكلشنيين فى توزيع أنواع الحلوى على الحضور من الأعيان والأشراف ، وبعضهم يوزع لفائف النّقل والأشربة المعطرة ، وفى أثر ذلك توزع فناجين القهوة والشاى واللبن والفالوذج والسحلب هنا وهناك.

وبعد ذلك ينثر الصوفية ماء الورد وما أشبه على الحضور ، ويحرقون العنبر والعود فى المباخر فينتشى الصوفية من شذاها.

وبذلك نكون قد انتهينا من ذكر مولد آخر ، ويذهب من يذهب ويبقى من يبقى ، ويبدأ الصوفية فى تلاوة التوحيد ثانية وبعد الفراغ من تلاوته يتلون العشر الشريف : «بسم الله الرحمن الرحيم» (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) [الزمر : ٧٣].

وبعد الدعاء يتوجه بعض الصوفية لزيارة سيدى الشيخ العزيز فى داره ثم يذهبون إلى منازلهم.

وجملة القول أنها تكية طريقة طاهرة يعجز اللسان عن امتداحها والسلام.

وفى ليالى هذا الشهر يزين فاعلوا الخير المنارات بالعمائم والمناديل والأقمشة لقراءة المولد ، ويعلم من ذلك أن ثمة مولد سوف يتلى تلك الليلة فى ذلك الجامع فيحتشد الناس جميعا فيه. وفى تلك الليلة توصل الحبال من دار إلى دار فى الحارة وتعلق فيها القناديل ، كما تزين المقاهى والحوانيت بالقناديل كذلك. وهذا ما لا وجود له إلا فى القاهرة.

__________________

(١) منظومة تركية هى الأشهر عند الترك فى مدح الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تعرف ب «وسيلة النجاة» وقد نقلها نظما وشرحها وعلق عليها الأستاذ الدكتور حسين مجيب المصرى ، ونشرت بالقاهرة ١٩٨١.

٨

ومن الحق قولنا أن مصر نادرة الزمان.

ومن الناس من يتلو الموالد فى المنارات وأيا كان عدد من يتلون المولد فإنهم يأخذون العمائم الحريرية الموجودة فى المنارات. وثمة منارات تتسع الواحدة منها لأكثر من أربعين رجلا ، لأن كلا منها بنى طبقة فوق طبقة كأنها البرج وكل طبقة منها تتسع لخمسين رجلا.

ويردد أكثر من أربعين من البدو المولد حتى مطلع الفجر للحصول على صرة وتبلغ أصواتهم عنان السماء.

أوصاف مولد سيدى أحمد الرفاعى

إنه برهانى الطريقة ، يقام هذا المولد فى ليلة الجمعة الأولى من شهر رجب ، والتكية الرفاعية تكية عظيمة عند جامع السلطان حسن فى حارة «صانعى الرماح» ، وقد سبق وصفها ضمن حديثنا عن التكايا فى القاهرة.

وهذا المولد ليس مزدحما إلى حد ما ، ويحضره حشد من أهل التقوى والصلاح من ذوى الكرامات. يا له من ملتقى لخواص الخواص.

أوصاف مولد سيدى عمر بن الفارض

تكية عظيمة فى سفح جبل الجوشى الواقع جنوب القاهرة ، يقام فيها المولد مرة فى العام يحضره مائتا ألف من الناس.

وتجتمع كلمة علماء مصر على أنه فى ذلك اليوم تحضر روح النبى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لأنه وقت إقامة هذا المولد يعم الضياء ، ويخطف البرق فى داخل الجامع ، وهذا ما لا حدوث له فى جامع آخر.

وما أن يصل متكبر أو متجبر إلى هذا المولد حتى يتعلق قلبه بهذه التكية. ويتوافد على هذه التكية جميع المتصوفة والمساكين والغرباء وفى ليلة المولد تلك تتجلى كرامات بعض المتصوفة.

كرامات الشيخ محمد اللبنانى

بينما كنت أجلس مع إمام الدفتردار أحمد باشا داخل محفل المؤذن نهض الشيخ

٩

محمد اللبنانى وهو من أصحاب الكرامات واتجه بالخطاب إلى إمام الباشا وسط حشد من الناس قائلا : «يا إمام الوزير إنزل بالعجل إلى مصر ، روح إلى الروم بالسلامة» ثم انزوى هذا الدرويش أسفل العمود الذى اعتكف تحته منذ سبع وأربعين سنة وكل من سمع هذا من قوله قال : انزل يا إمام انزل.

فمنهم من ظن أن الإمام سيموت ، ومنهم من ظن أن المحفل الذى يجلس فيه سوف ينهار.

فخاف الإمام ونزل أما أنا فلم أحرك ساكنا قط ولبثت فى مكانى رابط الجأش.

وفى اليوم السابع خلع أحمد باشا الدفتردار وإمامه وعمت الثورة القاهرة. ولعل هذا كانت نبوءة الشيخ اللبنانى.

أى أن تكية عمر بن الفارض تلك بها العديد من أصحاب الكرامات ممن لا سبيل إلى امتداحهم أو وصفهم. وهذه التكية زاوية اعتكاف أهل الحال ممن يتحدثون بالتخاطر ويصلون إلى هذه المرتبة بالرياضات والمجاهدات. إنهم صوامون يفطرون مرة فى الأسبوع وهم أناس أطهار أبرار.

وأثناء مقامى فى القاهرة (فى كل يوم جمعة عقب الصلاة رأيتهم يقيمون شعائرهم) ويحتشد آلاف من الناس وكنت فى ذلك اليوم بالذات ألتقى بهذه الطائفة الخاصة وكم شاهدت لبعضهم من كرامات. وطيلة إقامتى فى القاهرة لم أتخلف عنهم قط فى يوم جمعة ، لأنى كنت أكتسب من ذلك صفاء الروح وأقف على مختلف أسرار أحوالهم.

وفى يوم الجمعة فى تلك التكية تنشد القصيدة «التائية» لعمر بن الفارض ، وعندئذ يغيب المتصوفة فى نشوة الوجد ويضربون الأعمدة برءوسهم فلا يصيبهم من ذلك أذى بإذن الله. ويتبارى العديد من أصحاب الصوت الرخيم فى تلاوة العشر الشريف وقصائد مدح الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

إنها تكية يستجاب فيها الدعاء والمولد المقام فيها مولد يحضره جميع المتصوفة.

١٠

مولد أبى السعود الجارحى

ثمة بلدة تقع بين مصر العتيقة ومصر الحديثة يقام فيها المولد فى يوم الأربعاء من كل أسبوع إلا أنه يزدان بمئات الآلاف من القناديل ، وتهتز السماء والأرض من دوى التوحيد طيلة ثلاثة أيام بلياليها حتى مطلع الفجر.

ولأن هذه البلدة تبعد عن جنوب القاهرة بثلاثة آلاف خطوة يمضى إليها مائتا ألف على ظهور الحمر ، فيمتلء ذلك الوادى بالحمر ويتزاحم الناس فيه وكأنهم فى موسم الحج. ولأن سيدى الشيخ أبى السعود الجارحى قريب عهد بهم فهم يذكرون عنه الكرامات ويحتفون احتفاء لا مزيد عليه بمولده.

لقد عاش الشيخ أبو السعود فى عهد السلطان سليم وهو القائل : «تعال يا سليم اجلس على تخت مصر».

مناقب الشيخ الفانى

وثمة من عمر وشرف بصحبة الشيخ أبى السعود الجارحى واتفق أن أتوا به إلى مجلس جان بولاد زاده حسين باشا وقبل الباشا يده الشريفة ، ونال منه خير الدعاء إنه الشيخ الفانى (بير فانى) ، وهو ليس من أهل القاهرة بل هو من المنوفية ، وبما أنها تمتاز بجو لطيف فقد عمر طويلا ، ولقد ظفر بدعاء سيدى الشيخ أبى السعود فنبتت أسنانه اللبنية فى فمه وكف بصره ، وصارت عيناه وكأنها قديد ، وكان يبكى كالأطفال قائلا : إننى جائع منذ ساعة.

ها هو من يعمر ببركة دعاء سيدى الشيخ أبى السعود له. ولله الحمد أنى شرفت بتقبيل يد هذا الشيخ الهرم الذى شرف برؤية صباحة وجه الشيخ أبى السعود الجارحى وبلغ السبعين بعد المائة من سنيه ، وظفرت منه بخير الدعاء.

ولأن الشيخ أبى السعود أحد أقطاب الصوفية العظام يقام له مولد عظيم.

١١

مولد الإمام الشافعى. رحمة الله عليه

يمضى آلاف الناس لزيارته كل ليلة سبت ويختمون القرآن الكريم مئات المرات حتى مطلع الفجر شريطة أن يقوم بذلك شيوخ المذهب الشافعى. وهناك من لم ينقطعوا عن حضور هذا المولد منذ أكثر من أربعين سنة وهم كثرة.

وفى كل عام تقام سوق عظيمة ثلاثة أيام بلياليها فتصبح بليدة الإمام الشافعى بحرا زاخرا من البشر. وكم من أناس دفنوا تحت الضريح العالى ممن استشهدوا فى شدة الزحام ولا حاجة لنا للإسهاب فى هذا الباب.

وليعلم إخوان الصفا أنه ليلة إقامة المولد فى أيامنا تلك يختم القرآن الكريم أربعمائة وثلاث وعشرون مرة لأنه فى تلك الليالى يجتمع الآلاف من حفاظ القرآن الكريم ويقال إنه فى إحدى السنوات على عهد إبراهيم باشا ختم القرآن سبعمائة وأربعين مرة ، كما يقال إن أرواح جميع الأقطاب والأولياء تحضر فى تلك الليلة داخل الجامع لذا وقبل بدء المولد بخمسة أيام أو أكثر يستأجر أشراف القاهرة وأعيانها المنازل فى بليدة الإمام الشافعى بخمسة أو عشرة قروش ، ويأتون بأهلهم وعيالهم وأطعمتهم وأشربتهم ويمرحون وينعمون. ويأتى التجار بمئات من خيامهم لبيع الأطعمة والأشربة وبذلك تقام سوق عظيمة. تزين مئات الخيام من خيام الزوار بالقناديل كما تزين جميع المنارات وأسطح المنازل بمئات الآلاف من القناديل فتبدو المدينة فى كامل زينتها. وبذلك ينتهى حديثنا عن مولد الإمام الشافعى.

وقبل أن ينفض جمع المجتمعين ينطلقون إلى مولد سيدى أبى الليث على مقربة من الإمام الشافعى.

مولد تكية سيدى الشيخ أبى الليث

وهو يشبه مولد الإمام الشافعى إلى حد بعيد ، يحضره المؤلفون والمصنفون ومعهم آثار عبقريتهم ويلتقى فيه شيوخ الإسلام على المذاهب الثلاثة وتعرض جميع المؤلفات والرسائل على أهل العلم والفضلاء لقراءتها ، وإذا رأوا مؤلفا قيما ختموه ووقعوا على صفحات الكتاب مجيزين بذلك تلاوته وتداوله.

١٢

ويضعون هذه المؤلفات ليلة أو أكثر فى الصندوق الذى يعلو ضريح سيدى «أبى الليث» واتفق أكثر من مرة أن أخرجت تلك المؤلفات من موضعها فى الصندوق ولو حظ أن بعض مواضع فيها قد شطب وبعض مواضعها الأخرى صوّب ، كما وجدت رسالة فى العقائد لأحد المؤلفين محترقة داخل الصندوق ووجدت النسخة الأخرى منها فى الصباح ـ محترقة ـ وقد حدث ذلك فى عهد أبى النور محمد باشا. فأبو الليث إمام همام يحتشد فى تكيته العلماء والصلحاء والحفاظ يختمون القرآن الكريم آلاف المرات طيلة ثلاثة أيام بلياليها حتى مطلع الفجر. وهكذا تكون موالد أعاظم العلماء. وهذا ما يعجز عنه الوصف.

بعد ذلك يمضى المتصوفة إلى الشيخ عقبة.

مولد سيدى الشيخ عقبة الجهينى ـ رحمة الله عليه ـ

لحق بهذه التكية الخراب على نحو ما أسلفنا ذكره ، لذا تعذر إقامة مولده لفترة ، وفى عام ١٠٦٣ رأى خاصكى محمد باشا المشهور بأبى النور محمد باشا الشيخ عقبة فى منامه ؛ فجدد هذه التكية وبنى بها جامعا شامخا وسبيلا وساقيتين ومطبخا ومهبطا للنور فوق ضريح الشيخ ، وأنفق على بناء ذلك مائتى كيس مصرى ، وجعل لها أوقافا عظيمة ، وأوقف على إقامة مولده ألف قرش فى كل عام ، وعين لها ناظرا من فرقة الإنكشارية.

وهذا المولد مولد سلطانى كغيره من الموالد السالف ذكرها يقام فتطيب به روح سيدى الشيخ عقبة الجهينى العامرى. ولكثرة ما لهذه التكية من أطعمة وأشربة ترد إليها من أوقافها توزع على العلماء والصلحاء والمتصوفة.

وفى سفح جبل الجوشى :

مولد الشيخ شاهين (قدس‌سره العزيز)

موضع نزه يستحق المشاهدة يقام فيه كذلك المولد يوما وليلة ، ولأنها تكية واقعة على ربوة قائمة فهى ضيقة ، لذا فهى ليست كثيرة الزحام إلا أن المولد الذى يقام فيها مولد عجب.

١٣

مولد الشيخ الجوشى

تكية عالية قائمة على قمة جبل المقطم ، تبدو مدينة القاهرة من هذا الجبل تحت القدم ، تضرب الخيام على قمة هذا الجبل يوما وليلة لإقامة مولد عظيم ، وقد شيد هذا الجامع وأوقف عليه أمير الجيوش أبو النجم بدر الجمالى وزير المستنصر بالله العباسى وسمى الجبل الجوشى نسبة إليه أما اسمه فهو «جبل المقطم».

مولد أثر قدم النبى

إنها تكية واسعة بها جامع كبير وقبة عالية أسفلها أثر قدم النبى ، وكل هذه الأبنية من إنشاء إبراهيم باشا الدفتردار. وقد سبق لنا أن وصفناها. ويقام فيها كذلك مولد عظيم يدوم يوما وليلة وفيه تتعالى الأصوات بالدعاء لصاحب الخيرات ـ إبراهيم باشا الدفتردار.

مولد الشيخ السادات

يقام هذا المولد فى التكية التى دفن فيها أجداده العظام فى الموضع الذى يسمى ( ) (١) فى القرافة الكبرى وذلك فى منتصف شهر شعبان ، وتقام الخيام والسرادقات فيها ثلاثة أيام بلياليها ، ويتوافد عليها البكوات من مريديه ، ويزينون منارة الجامع وجدران التكية وأبوابها ، وجميع الخيام بمئات الآلاف من القناديل ، ويأتى جمع غفير من الناس وتوزع الأطعمة على الغادى والرائح. إنه مولد عظيم وهو واحد كألف ، يحتشد فيه مئات الآلاف من الرجال والنساء والكبار والصغار ، وذلك فى صحراء مترامية الأطراف ، ويمضون هنا وهناك للزيارة ، ذلك أن ثمة أضرحة لكثير من الصحابة الكرام والأولياء فى تلك النواحى.

كما دفن فى هذه الجهات من أبناء الأنبياء «بنيامين ابن سيدنا يعقوب عليه‌السلام» و «افرايم» بن يوسف الصديق الذى ولد فى مدينة الفيوم. وغيرهم الكثير. وسوف توصف هذه المزارات فى حينه.

__________________

(١) بياض فى الأصل.

١٤

ذكر مناقب الشيخ السادات (أبو التخصيص)

وسيدى الشيخ السادات أبو التخصيص شيخ رفيع المنزلة ، لذا لا يتخلف أحد من العلماء والصلحاء والأعيان والأشراف عن زيارته قط ، فهم منجذبون إليه إلا أنهم عند ما يحضر إلى تكية أجداده ليلة المولد يأتى وفى معيته ألف أو وألفين من المشايخ الكرام ويستوى الشيخ أبو التخصيص على سرير خلافته وقد أصبح الضريح نورا على نور من مئات الآلاف من القناديل وشمع الكافور ، وعندما يتلو ألفان من المشايخ أوراد السادات فى صوت واحد يغيب المرء فى نشوة الوجد ، وينصرف عن الدنيا وما فيها ، ويغمر النور وجهه وقلبه ، وفى تلك اللحظة يسأل الشيخ عن اسم أو من قبل يديه فيكنيه بكنية ويلف عمامة الرضا ـ التى يبلغ طولها أكثر من ذراعين ـ حول عنقه وبذلك يمنحه الإجازة ويعتبره فى عداد المتصوفة.

وفى كل مولد يقام يلف الشيخ عمامة الرضا حول عنق أكثر من ثلاثة آلاف رجل ويخلع على كل واحد منهم لقبا. يا لها من حكمة عجيبة. وليس لأحد أن يتنازل عن كنيته التى منحها الشيخ له ، وفى عهد خلافته لم يخلع لقبا واحدا على شخصين وهذا سر إلهى عجيب وكان يخلع هذه الألقاب على مريده بإلهام ربانى ، وقد منحنى كنية هى «أبو الصفا» وببركة نفسه المبارك أنعم بالصفاء والطمأنينة ، وقد لف حول عنقى شالا كشميريا ومنح بعض الأشراف كذلك الشال اللاهورى والشال الكيلانى ودعا لنا بكل خير.

وكان الشيخ إذا ما رأى شخصا كناه بكنية منذ عشرة أعوام ناداه بكنيته قائلا :

يا أبا الوفا أو يا أبا العال. فما أقوى حافظته التى لها مرتبة القداسة ، وكان إذا خلع عمامة الرضا على شخص وجاء إليه هذا الشخص ثانية خلع عليه أخرى وهذا بذل عظيم للمال كذلك.

وجملة القول أنه لا يمكن الوقوف على حقيقة أمر هذا الشيخ بأى حال من الأحوال.

وفى كل عام يمضى كل من هؤلاء السادات بثلاثمائة من الجمال وأكثر من خمسمائة خادم إلى الكعبة الشريفة ويتصدقون بجزيل الأموال ويعودون بسلام.

١٥

إنها طائفة مؤدبة وعظيمة الثراء وليس فى طبعها التباهى ، إلا أنهم يقيمون مولدا عظيما مرة فى العام يشرف بحضوره كثير من المريدين والأحباب.

مولد الشيخ البكرى

فى يوم الخماسين من شهر يوليو يقام مولد عظيم فى تكية أجداد الشيخ البكرى الواقعة أسفل ضريح الإمام الشافعى. ويواكب هذا المولد مولد الشيخ السادات وتوزع فيه الصدقات ويغنى جميع أهل القاهرة عن السؤال وتضرب فيها كذلك الخيام والسرادقات وتقام الأسواق ويضاء الجامع ومنائره وقاعاته بمئات الآلآف من القناديل مما يجعل الليل نهارا ، ويحيون المولد حتى مطلع الفجر ويتلى مرات ثلاثا. إنه مولد عظيم.

مولد أم القياس

سبق أن أشرنا أثناء الحديث عن أوصاف أم القياس إلى أنه عندما تقوم كتيبة من الإنكشارية بتطهير حوض أم القياس تعم البهجة سبعة أيام وسبع ليال ، وفى الليلة الثامنة يمضى العسكر وفى ليلة الجمعة يقام مولد عظيم وفى الصباح ينتهى رئيس الجاويشية من إقامة المآدب.

المولد الثانى لأم القياس

بعد ذلك فى ليلة سقوط النقطة إلى النيل (ليلة وفاء النيل) يقام المولد الثانى لأم القياس ، ويحضره جميع أشراف وعلماء وصلحاء القاهرة ويقيم وكيل مصروفات الباشا السماط ثلاث مرات من صلب مال الباشا احتفالا بالمولد الشريف ، وينتظر جميع العلماء زيادة ماء النيل. وتعهد مهمة إقامة هذا المولد إلى رئيس التراجمة إلا أن نفقاته من صلب مال الباشا.

مولد المحمودية

يقام هذا المولد فى جامع المحمودية وهو على مقربة من السلطان حسن.

وبالقرب منه :

مولد أمير أخورية

يقام فى جامع أمير أخورية.

١٦

مولد السادات

ثمة مولد آخر لشيوخ السادات ويقام هذا المولد داخل الأزهر.

مولد السلطان قايتباى

يقام هذا المولد خارج القاهرة وهو كذلك مولد عظيم وتوزع من مبرته الأطعمة على الفقراء والمحتاجين والمقتدرين كذلك ، ويقام هذا المولد مرة فى العام ويحتشد فيه خلق كثير.

مولد إبراهيم الكلشنى

يقام فى تكية الكلشنية فى بولاق وسوف نذكرها فى حينها.

مولد الشيخ الطشطوشى

وهو مولد آخر لأتباع الطريقة البكرية ، وهو كذلك مولد عظيم بالقرب من السلطان الشعراوى.

مولد الشيخ الشعراوى

إنه كذلك مولد عظيم لجميع العلماء الكبار. وجامعه ضيق ، لذا لا يتسع لخلق كثير إلا أنه فى هذا المولد تغمر الجامع روحانية عجيبة.

مولد الشيخ الحنفى

وفيه كذلك يحتشد خلق كثير

مولد الشيخ الخلوتى

بالقرب من قنطرة السنقور ، إنه كذلك مولد المشايخ إلا أنه ليس عظيم الزحام كغيره من الموالد.

مولد النبى المقام فى تكية سيدنا الحسين

قبل سبعين عاما عطلت إقامة هذا المولد بإيعاز وإغواء من المنكرين ، بعد ذلك فى عام ١٠٨٩ ذهب جميع الأشراف إلى مجلس عبد الرحمن باشا وبسطوا إليه الرجاء بإقامة المولد الشريف فى المشهد الحسينى فى هذه السنة المباركة. فوقع ذلك موقع القبول لديه وأصدر أوامره إلى الصوباشى والمحتسب وقاضى العسكر فى صورة مرسوم وجاء فيه :

١٧

(لتضاء القناديل فى جميع المنائر ليلة عاشوراء (أى الليلة الثانية عشرة من شهر المحرم ولتزين جميع الأسواق والحوانيت ليل نهار بالقناديل كذلك) وأمر الدلالين أن ينادوا بذلك ولإقامة المولد داخل المشهد الحسينى قدم عبد الرحمن باشا ستة آلاف پاره وعمامة خضراء وأوقية من العود وقنطارا من شمع الكافور.

وإلى الآن يقام هذا المولد من أوقاف عبد الرحمن باشا وجميع الأشراف وأهل القاهرة يدعون له بالخير.

قاعدة حسنيات القاهرة

بحلول اليوم الحادى عشر من شهر محرم ليلة مولد الإمام الحسين يجتمع عدة آلاف من يهود القاهرة ، كل ثلاثة فى مكان وفى أيديهم زنابيل ، وأثناء بيعهم ما فيها من عطور وبخور يصيح الثلاثة فى صوت واحد وتبلغ صيحاتهم عنان السماء وتتردد داخل الأسواق والحوانيت. وهذه عادة قديمة ، ويعطر بخورهم وعطورهم القاهرة حتى الثانى عشر من شهر محرم. إنها ظاهرة ذات مغزى.

وعلاوة على هذه الموالد يقيم أصحاب الخيرات عدة آلاف من الموالد فى بيوتهم ومساجدهم وزواياهم. وإقامة المولد الشريف فى جميع البلاد فى شهر ربيع الأول ولكن فى القاهرة يقام آلاف الموالد فى جميع شهور السنة ويحتشد فيها كثرة من الناس.

وفى بعض الأحياء يقام فى الليلة الواحدة أكثر من خمسة موالد. ويبذل أهل القاهرة المال الجزيل لفرط محبتهم للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لذا أصبح لهم ذائع الصيت بإقامة المولد الشريف.

وبعض الموالد سالفة الذكر يقام بمرسوم من الباشا وبعضها الآخر يقام حسب مراسم الشيوخ ولقد عرفت مئات الموالد غير التى تحدثت عنها ولكن تعذر على الحديث عنها كلها ، لذا اكتفيت بما ذكرت منها. وحضرت معظم الموالد الشريفة المقامة خارج القرى والقصبات والتى تقام طبقا لمرسوم الباشا وسوف نذكر كل منها على قدر طاقتى فى موضعه.

١٨

الفصل الرابع والخمسون

الأماكن النزهة التى يرتادها أهل القاهرة العام منها والخاص ـ بلدة البساتين :

بلدة عامرة تقع جنوب القاهرة على بعد ساعتين ، وهى تحت إدارة نقباء الأشراف وبها حديقة قريبة من ساحل النيل كأنها الجنة. يتوسط هذه الحديقة قصر شامخ كأنه قصر الخورنق ، وفى وسط هذا القصر حوض لطيف. إنه موضع نزه جميل به عدة قاعات علوية ومطبخ وسواق. إنه موضع تنشرح الصدور لرؤيته.

ـ متنزّه قدم النبى :

من خيرات إبراهيم باشا الدفتردار ، وهو أثر جد عظيم ينتشر به القصور والقاعات ، وبه مطبخ وتكية عظيمة الاتساع وزوايا وسواق. وهذا كله من إنشاء إبراهيم باشا وقد ذكرنا تواريخ كل هذا سلفا.

ـ مخازن يوسف (أنبار يوسف):

مكان عجيب غريب

ـ متنزه أم القياس :

سبق وصفه.

ـ متنزه الروضة :

فى جزيرة أم القياس كذلك ، وهى حديقة انتقلت ملكيتها من يد حاكم إلى حاكم آخر وبداخلها حوض عظيم ويتوسط هذه الجزيرة قصر جميل شامخ يعبر إليه على جسر وبه قاعات متصلة جديرة بالمشاهدة.

ـ مصاد جبل الهرمين :

يسميه الناس «جبل الأهرام» ويسميه عوامهم «جبال فرعون» ، أما فى اللغة القبطية فتسمى هذه الأهرام «أهرام برابى» وجاء فى تاريخ «ابن جلال» أن أول من بنى هذه الأهرام «برابى بن درمشيل بن مخويل بن خنوخ بن قاين» ولذا تسمى «بأهرام برابى» وتقع هذه الأهرام فى الجانب الغربى من النيل وهى جبلان كبيران وجبل صغير ، وعلى مقربة منها يصاد الغزال والثور الوحشى والذئب والأرانب وما أشبه.

وسوف نبين فيما بعد من بنى هذا الطلسم ولأى سبب بناه.

١٩

 ـ مراعى أمير آخور :

تقع فى منطقة الجيزة عند حدود امبابة. إنها واد ذو زرع ترعى فيه خيول أهالى القاهرة ووزيرها. إنها موضع مخضوضر ينشرح له صدر من يراه. ولكن ما فيها من زرع من غرس الإنسان. فبذور العشب المسمى «بالبرسيم» إذا بذرت فى ليلة نمت فى صبيحة اليوم التالى فبلغت فى الطول إصبعين وفى اليوم الثالث يمكن للدواب أن ترعاها وجميع خيول القاهرة ترعى هذا العشب والذى يعرف فى بلاد الترك ب «يونجه» ، وتضرب طائفة الجند وأمير آخور خيامهم فى هذه البقعة لرعى خيولهم ثلاثة أشهر بتمامها ، وهناك ينعمون كذلك بالراحة والمتعة.

إنه سهل فيه مروج ورياض وأمير آخور الباشا حاكم مطلق عليه بتفويض من الباشا ومهمته تتبع اللصوص والضرب على أيديهم وإعمال السيف فيهم.

ولأن هذه المنطقة تدخل فى حدود أولاد خبير يأتى منهم كل ليلة ألف من فرسان البدو ـ بخيولهم لحراسة جياد الباشا وغيرها من جياد طائفة الجند.

ويتعين على الأمير آخور أن يقيم للباشا سماطا عظيما ، وأن يهدى إليه ثلاثة أكياس وثلاثة من الطواشية وثلاثة جياد أحدها ذا سرج مرصع بالجواهر ، فيخلع الباشا عليه خلعة من فرو السمور. كما يقدم الأمير آخور جوادا إلى كل من كتخدا الباشا والخزينة دار ويوزع الهدايا كذلك على سائر رجال الباشا. ولأن عوائد وضرائب أمير آخور القاهرة والكتخدا معا ينص القانون على تعيين «أمير أمراء» الشام من بين أمراء آخور القاهرة.

ويتحصل لأمير آخور مائتا كيس من بيع العشب بالإضافة إلى دخل آخر من مصادر أخرى يقدر بمائتى كيس كذلك.

ويهدى الباشا ألفا من الجياد فى العام يلزم بأن يمنح الأمير آخور قماشا من صوف على كل جواد من هذه الجياد الألفين.

وقياسا على ذلك فإنه بقدر ما تكون الأموال المتحصلة لأمير آخور وبقدر ما يكون شخصا ذا وقار فإنه يتقاسم الربح مع الكتخدا.

٢٠