الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الثالث والسبعون

بيان المنازل التى قطعناها

من السودان من مدينة أرباجى إلى الحبشة

من مدينة أرباجى مضينا فى ثمانية آلاف جندى من جند الإسلام فاجتزنا خلال ثمانية أيام ، غابات وأرضا ذات أحجار وغابات شجر الأبنوس وأحيانا غابات شجر السنط ، واتجهنا نحو الشمال الشرقى فبلغنا وادى قوز.

أوصاف وادى قوز

إنه أرض خصبة تقع بين ضفة النيل الشرقية والصحراء ، وهذا الجانب من الحبشة يقع تحت حكم ملك السودان ولكن الحبشة ودنقلا ودمبيه وزنجيه لا تقع تحت حكم السودان إنها حدود فونجستان وتقع تحت حكم قوز وزير قوز على الضفة الغربية للنيل يسمونه وزير خان ، وعلى الضفة الشرقية للنيل من وزراء قوز الوزير صاغ قول ، ويسمونه قوز ، وله ثلاثمائة ألف جندى وألف ألف من رعايا قوز وكلهم مؤمنون على المذهب المالكى ، وهم يسمون باسم قوز كذلك إنهم قوم قوز وإنهم شجعان بواسل وكلهم من العرب وهم يسترون عورتهم بجلد الغزال والأسد والنمر ، وفى هذه البقعة لهم أربعون ألف بيت من القصب أما حاكمهم فيسكن قصرا من الحجر والخشب ، إلا أنه متين حصين ، وهذا القصر هو قلعته ويزينون ديارهم بريش وبيض النعام ، وفى حدائقهم أنواع من الثمار والذرة عندهم وفيرة ولا يزرعون القمح ولا الشعير ولا البرسيم ، وفى جبالهم الحجر الصماقى ، والرصاص والكبريت والذهب والفضة ، ولا يعرفون الماس ، وفى جوانب هذه الأرض الأربعة أودية ، وفى واد من أودية الجهة الغربية من هذا المضيق فى يوليه يمتلئ بالماء عند فيضان النيل فتغرق تلك الأرض ثلاثة أشهر وتصبح هذه المياه بحيرة ، ويشرب من هذه البحيرة الناس جميعا وفى تلك البحيرة قوارب صيادون ويصيدون منها أنواع السمك ويسكن أهل قوز على جوانب هذا الخليج الأربعة ، وقد قدم حاكم قوز هدية ، وهى ثلاثة من الإبل وعبد ومائة مرافق ، ومن الغد وبينما كنا

٤٤١

نجتاز الصحراء الشمالية ظهر لنا غبار أسود يرتفع إلى عنان السماء وتقدمنا فى سيرنا إليه فكان نسر صاد فيلا صغيرا وبينما هو يمزقه وينهشه جاءت أم الفيل فنشب الصراع بينهما ، وهذا هو سبب الغبار الذى ثار ولكن النسر تغلب على أم الفيل وحطت على رأسها ، ومزقت لحم أنثى الفيل وشاءت أن تحمى الفيل الصغير بخرطومها ولكن بلا جدوى ، فأشفق رفقائى عليه فارتفع صوتهم بقولهم الله الله ، وأطلقوا على النسر بنادقهم فطار وقد أظل بجناحه الأرض فستر شعاع الشمس واكفهر الجو وفرت أنثى الفيل ووصلنا إلى الفيل الصغير ، فإذا عيناه قد فقعت من منقار النسر وجعل الفيل يأكل من حوله ومضينا ، فإذا بالنسر يطير خلفنا وظل فى موضعه وحط عليه النسر وجعل ينهش لحمه ، وتجاوزناهم فى وقت الغروب ، وبلغنا جبل ترجاش.

جبل ترجاش

ومضينا فى غابة من شجر الأبنوس وحطمنا أشجار تلك الغابة ومضينا طوال الليل فى نور القمر وخلدنا إلى الراحة فى سهل فى الغابة ، وأعلفنا جيادنا وبلغنا حدود دومبيه وطلب إلينا قائد القافلة ونائب الكتخدا أن نحمل أسلحتنا ونمضى متفرقين ، وبلغنا أرضا فيها مجرمو دومبيه وأرض كثيرة القردة وبها وحوش ضارية كما قيل لنا : خذوا حذركم من ذلك الخطر الذى يتهددكم ، ولم نضع أحمالنا مدة ستة أيام وست ليال ومضينا شمالا نطوى المراحل واجتزنا بعض قرى دومبيه ، وجعلنا نأكل لحم الإبل ووحيد القرن ونشرب لبن النوق والبوزه وبلغنا حدود دومبيه فبلغنا مدينة بورغه الواقعة بين الصخور السود ، ورأينا جثث بعض النسور وذيول الأفاعى وقد نشب الصراع بينهما ، وقد هلكت النسور من سم الأفاعى وكذلك هلكت الأفاعى من مناقير النسور ولكن لا يمكن الاقتراب من هذه الجثث لخبث رائحتها ، إن رائحتها الخبيثة تشبه السم ، وكان فى تلك الصخور التى وقفنا بها أوكار للنسور ، وكانت ليل نهار تصعد أصداء أصواتها وكل نسر يطير وإذا ما مد جناحيه فكأنه شراع وهذا هو حجم تلك النسور ، وكل نسر يصيد فى كل يوم فيلا أو وحيد قرن ويحمل ما يصيد إلى الجو ثم يسقطه على الأرض وينهشه أما إذا وقع ظل

٤٤٢

جناحه على طائفة من الجند العثمانيين لم تمس حاجتهم إلى مظلة ولا خيمة ، وقد انتظرنا حاكم بورغه ذات ليلة كما قدم إلينا بعض الرعايا هدايا ، وكان ذلك من حكمة الله تعالى ، ولهم بيوت من الحصير والقصب ولهم جامعان ومئات من البيوت ، وقد عين كل منهم فى داره قدر من مسك الهر.

أنواع مسك الهر

هؤلاء القوم فى كل صباح يخرجون القمامة من بيوتهم فلا وجود لديهم من نجاسة ولا قذارة ويعرقون بقدر ما يعرق الهر ، ومخالب هذا الهر فى أرجله الأربع فليس مخالب هذا الهر مثل مخالب الكلب وليست لحيوان مفترس ، إن هذا الهر صغير الرأس ورأسه وأنفه يشبه أنف كلب الصيد إنه وحشى وليس أليف كالهرة ، ويربونه فى قفص على سطح البيت ويقدمون إليه الطعام ، وقد أهدى إلى حاكم قوز قفصين من هذا النوع من الهررة أحدهم أبيض والآخر أسود ، ولا يحتمل أن يكون هذه الهررة لون آخر غير الأبيض والأسود ، ولكن رائحة هذا الهر عطره ولما غادرنا مدينة بورغه فى اليوم التالى وسلكنا واديا واسعا فقابلنا أحد عشر فيلا ومضت الفيلة على يمنتنا ويسرتنا ووقف أمامنا فيل ضخم ولم يتحرك ، واقترب مرارا من الجنة وكأنه يحدثهم عن نفسه أنه حيوان وقّاد الذكاء ، وكل رجل من أرجله كأنها مأذنة وكل سن له كأنه عمود وخرطومه مثل دخان المجرة وبطنه مثل طبل أصفهان أما أذنه مثل مائدة الخلفاء ورأسه مثل خم الملوك وجلده مثل سماط الغرباء ، وفمه فم موقد الحمام ، وعينه مثل جسم الغزلان وذيله مثل عصا الشيوخ ، وبعد ثمانى ساعات بلغنا ربده.

منزل ربده

هذه المحلة فى حكم دومبيه ، إنها أرض جبلية سوداء ، وإذا ما حفرنا فى أرضها مقدار ثلاثة أو أربعة أشبار انبعث ماء عذب كما توجد آبار ، هذه الآبار يشرب منها الفيلة وحركت الفيلة فى هذه الأرض ، وفى مدينة بوريد بيوت من القصب وجامع من القصب كذلك وكل أهلها زنوج مثل أهل دومبيه والجميلات بها كثير ، وغادرنا هذه

٤٤٣

المدينة ومضينا إلى مرج على شاطئ بحيرة فيه قردة ضحكنا منها.

أوصاف قلعة نازدى

إن هذه القلعة كذلك فى حكم دومبيه ولها حاكم زنجى يسمى جرجاج ولها أربعون ألف جندى عراة ، وهى قلعة مرتفعة ، إلا أننا لم نستطع دخولها لمشاهدتها ولكن حولها ، ألفى بيت من القصب وبيوت من الطين كما أن أمامها جامعان وحانتين للبوزه ودكاكين وأمامها أشجار سنط وسنديان والأبنوس وغادرناها صبحا.

ومضينا فوجدنا قطعان من الفيلة ووحيد القرن والغزال والعجول والحمر الوحشية والخنازير الوحشية ، ولا يعلم عدد تلك الحيوانات إلا الله ، إنها أرض كثيرة الأشجار والزروع ، كما تسمع فيها تغريد الطيور بصوت حزين ، وهذا ما يشرح صدر من يشاهد هذه المدينة ولذلك يأتى إليها ملك دومبيه ليصيد فيها ، وله هنا وهناك خيمة ومصطبة ومطبخ ، وقد شاهدنا كل ما فى هذه الأرض ، وفيها غابات بها قردة يركب بعضها بعض كالحمير أنها قردة متعددة الألوان منها ما هو أبيض وأزرق وأحمر وأسود وعلم عددها عند الله ، وبعضها يجرى كأنما يريد أن ينجز أمرا والحاصل أن القردة كثيرة إلى حد يحار العقل فى كثرتها ، وأنها مخلوقات ممسوخة ، وقد وجدت ثلاثة من صغارها فى طريقى ، وقد حملتها فى قفص وبهذه الصحراء تكون حدود دومبيه.

ودخلنا الإقليم الأول فى ولاية الحبشة ، فنحرنا الذبائح ابتهاجا بسلامتنا ولكن هذا الحر لا يصيبنا بشىء بإذن الله وتقدمنا عشرة من رجالنا روادا وبينما نحن ننظر رأينا أول من تقدمنا فى سيرنا يسقط من على صهوات جواده ، وعاد جواده نحونا كما أن رفيقا آخر من رفقائنا سقط من على عنق جواده ، وإذا نحن بهذا الحيوان اللعين وفرّ الجواد منا ثم صعد تلا وهلك وفرت كل جيادنا وقد انفجر الجواد ، وهذا الحيوان اللعين الذى سبق ذكره يشبه الغزال وفى طول قامته وفى جثته أما ذيله فينتهى بما يشبه العناقيد ، وصعدنا الجبل ، ومضينا فوصلنا إلى هذا الرجل ، وقد هلك فتركناه وانطلقنا فى طريقنا وقال بعض رجالنا إن ذلك الرجل الذى فاضت روحه كان يحمل سبعمائة دينار

٤٤٤

من ذهب فأخذنا الأسف وقلنا الحكم لله ثم سرنا فى أرض فيها أسود ونمور وفيلة ووحيد القرن وجبل أسود وصخور سود ودام سيرنا فى هذه الأرض ستة أيام وست ليال وبلغنا وادى ابرايش.

وادى ابرايش

إنه فى أرض الحبشة ، وعلى جوانبه الأربعة آثار العمران وتنبعث منه رائحة طيبة فنزلنا فى هذه البقعة توا ، وقد حفرنا الأرض فانبعث منها ماء عذب فمنذ سبعة أيام قلّ ما نحمل من ماء فشربنا من هذا الماء ولذلك ردت الروح على الجند والدواب وتألقت الحياة فى الوجوه ، وقد وجدنا آبارا كثيرة حفرت فربما كان التجار المرتحلين من الحبشة إلى مصر كانوا يسلكون هذا الطريق فحفروا تلك الآبار ، ونحمد الله أننا بلغنا الطريق الواسع ، وكان العبابدة يأتون من قنا سالكين هذا الطريق ، وغادرنا هذه البقعة وسرنا ثلاثة أيام فى أرض حجارتها سود وجبالها سود وأرضها سوداء وقد تأذينا كثيرا من شدة القيظ ولما دخلنا الغابات تنسمنا رائحة كرائحة المسك وكأنما وجدنا من هذه الرائحة حياة الخلود ، وقد سألت بعض التجار عن مبعث هذه الرائحة الطيبة التى تنسمناها فى الغابات فقالوا إنها رائحة تنبعث من الجبال التى تمتلئ برائحة المسك وثعابين المسك ، واجتزنا هذه الغابات وفى اليوم الثالث وفى نهاية الصحراء بلغنا جبل عزلون.

جبل عزلون

نزلنا سفح هذا الجبل ، إنه فى حكم الحبشة وفى يسرة هذا الوادى عرب لهم عشرة آلاف خيمة وهم زنوج ، وعلى المذهب الجعفرى ، وتجاوزنا هذه الأرض وحفرنا الآبار ، فخرج ماء عذب ، ومضينا شمالا حتى بلغنا البحر المحيط وطوينا مراحل على ساحل هذا البحر وبلغنا أرض القردة وفى شتى جبالها وأحجارها شتى أنواع القردة والنسانيس وأنواع أخرى من القرود ، ولقد شاهدنا هذه القرود من فوق الأشجار التى تسلقتها وكانت تطلق أصواتها كأنها تضحك ، وكانت تلعب وبذلك نسينا ما تكبدناه من نصب ومشقة فى سيرنا ، وجملة القول أنه لا وجود فى عالم الحيوان كالقردة فى ذكاءها

٤٤٥

وإضحاكها ، ولكنها ممسوخة وإن كانت مشاهدتها تذهب عن الإنسان ما به من حزن ولكن تربيتها وتعليمها مما يورث الفقر والفيل كذلك حيوان ذكى ، وعبرنا أرض القردة ومضينا ستة أيام فى أرض ذات أحجار وأرض جبلية وأرض رملية ومضينا على شاطئ البحر ثم بلغنا وادى دنقلاب.

وادى دنقلاب

وتلبثنا فى ذلك الوادى ، وحفرنا آبارا فخرج الماء العذب ، إن هذا الوادى فى إقليم الحبشة فى قضاء سواكن سنجاغى وهو قريب من ساحل البحر ، ويسكن عرب فى هذه البقعة إنهم مائة ألف من الزنوج العراة ، وعلى مسافة قدرها مائة وخمسون ميلا شمال ميناء ينبع وهو ميناء المدينة المنورة وهو شمال هذه البقعة على الشاطئ والمدينة على ثلاث مراحل منها ، ودنقلاب ميناء عظيم ولكن فى البحر جزيرة تسمى لولو ، وهى تبدو من الميناء وفى هذه الجزيرة بيوت من قصب وفيها جامع وحانات للبوزه ، وليس فيها أرض تزرع ، وكل سكانها غواصون ، وهم يستخرجون اللؤلؤ من البحر ، وهو لؤلؤ نادر لا مثيل له ، واللؤلؤة فى حجم البندقة ، ويحكم هذه الجزيرة أغا من فرق الوالى الحبشى ، وله عشر ما يستخرج من اللؤلؤ ويحاسب الباشا ، كما أن السفن التى ترسو على ميناء دنقلاب تدفع جمركا ، وغادرنا دنقلاب واتجهنا شمالا وبينما نحن على ساحل البحر رأينا جبلا فيه دجاج ريشه مختلف الألوان والدجاج الحبشى يشبه الطواويس ومن الغد بلغنا أتله.

أرض أتله

هى تحت حكم سواكن وهى أرض رملية ويسكنها عرب زنوج وهم أربعون ألف يسكنون فى الخيام ، وهم يمنحون الباشا الحق فى المراعى وفيها ينابيع ماء عذب وتجاوزنا هذه الأرض فشاهدنا قطعان الفيلة فى الجبال السوداء وقطعان العجول السوداء ثم بلغنا قوم المرفأ.

قوم المرفأ

٤٤٦

على بحر القلزم وهو بحر السويس مرفأ عظيم ولكنه ليس معمورا وعلى شاطئ البحر ملأنا القرب من ماء عذب وغادرناها صباحا وسرنا على شاطئ بحر السويس أياما ثلاثة ، وشاهدنا أصداف اللؤلؤ وأنواع السمك وسمك له مئات الآلاف من الألوان وهناك عجائب على شاطئ البحر سبحان الخالق وله الحكمة يحار العقل فيها فثمة أشجار لا أوراق لها فى هذا البحر إلا أنها كثيرة الأغصان ولكن جذورها مغمورة فى البحر وبعض السفن تمر بهذه الأشجار فتتحطم أما إذا كانت السفينة ضخمة فإنها تجتاز وتمر بين هذه الأشجار محطمة أغصانها ، واللؤلؤ فى هذه الشعاب المرجانية ، وهذه الشعب المرجانية غابة عظيمة وفيها سمك القرش ولا يمكن عادة من يستخرجون اللؤلؤ ولا من يغرقون مع السفن لأنه يبتلعهم ، وفى اليوم الثالث بلغنا جزيرة مدينة سواكن.

أوصاف جزيرة مدينة سواكن

فى قديم الزمان سكنت هذه المدينة والدة لندها واسمها سواكن وقد أقيمت فيها الأبنية ، وعلى مر الأيام بينما كانت المدينة تحت سلطان دومبيه ، وفى عصر السلطان سليمان وكان وزير مصر طواشى سليمان باشا مضى فى ثلاثمائة سفينة إليها وإلى مدينة ديوآباد وأحمدآباد فى الهند ، وانتزعها من البرتغاليين فهابه ملك الهند وعاد منصورا مظفرا ، كما فتح عدن وصفا وموحه وهى موانئ كانت فى حوزة البرتغاليين ، ومر الأسطول السلطانى بالحبشة وألقت مراسيها أربعون ألف سفينة بما تحمل من الجند ، وأقام فى مدينة سواكن وأصبح أوزدمر باشا وزيرا فهاجم إقليم الحبشة ، وكان من أقرباء السلطان الغورى وهو جركسى الأصل ورجل مدبر وشجاع ، وكان يبيع ويشترى ومكثنا فيها يوما وقد بعث أربعين جملا بخمسمائة قرش كما بعث خمسين سن فيل بخمسمائة قرش ، ووقفت على أحوال هذه المدينة وبذلت همتى فى مشاهدتها ، ويقابلها على شاطئ البحر الأحمر على بعد ثلاثمائة ميل مدينة جدة ، وبينها وبين مكة المكرمة مسيرة اثنتى عشرة ساعة ، إن سواكن فى الإقليم الأول وهى تواجه القبلة ، وجزيرة سواكن صغيرة تمتد غربا ثلاثة أميال ، وهذه الجزيرة أيضا تحت حكم الحبشة ولكن الوالى لا يقيم فيها. وينوب عنه من يتولى أمورها ، ويقدم للباشا فى العام مائة كيس ، ويسمون قصر

٤٤٧

الباشا فى الميناء خرده ، ومن يستلمون الجمرك يسكنون هناك وأن بانيه هو أوزدمر باشا ، إنه قصر عظيم شامخ وإذا ما اقتربت منه السفن القادمة من الهند والسند واليمن والحبشة دفعت عشرا ، ولهذه المدينة قضاء قدره مائة وخمسون إنها قضاء عجيب وفى هذه الجزيرة مائتان وستون بيتا من القصب والحصير كما أن فيها بيوتا صغيرة جميلة من اللبن ولأوزدمر باشا جامع ذو مأذنة وهو مبنى بالحجارة كما توجد فيها المساجد وعشرون دكانا من الحصير ، وعلى رأس الميناء ، مخازن لعبدة النار وهذه المخازن بها شتى السلع ومبرات وحمامات وخانات ومدارس وحدائق ولا يوجد شىء غير ذلك ولكن سواكن ميناء الفونج وزنجستان ودمبستان وفى إحدى جوانبها يسمع دوى الأذان ، وفى هذا الجانب من الميناء ثلاث قلاع قديمة ، وهى متقاربة ولا وجود للماء فى سواكن لذلك بنيت هذه لحفظ الماء فيها ، وتمر بها القوافل القادمة والذاهبة ولو لا هذه القلاع لما وجد أهل سواكن قطرة ماء وهلك أهل سواكن عطشا والسفن القادمة إليها من الأرض المقدسة تسأل الماء وسفن جدة واليمن تطلب الماء من أجل ذلك يحفظ الماء دائما فى هذه القلاع ، وفى بعض البيوت يوجد صهريج ماء ، وهذه القلاع معمورة وهى قلعة باش وقلعة أورنه والثالثة قلعة بوغاز وفيها من الجند خمسون أو ستون ، وينالون علوفتهم من الباشا كل شهر ، وإذا مضى الباشا مع كثير من الجند إلى الحبشة ناب عنه بعض أتباعه فيها ، وفى هذه القلاع مدافع وذخيرة ، وهذه القلاع قوية حصينة ، وتحتها أبواب ذات مصاريع تطل على البحر وفى جوانبها الأربعة مزاغل ومن فى القلعة على تمام الأهبة دائما.

أوصاف مدينة كيف القديمة

إنها فتحت على يد أوزدمر باشا فى عهد السلطان سليم خان الثانى ، وكانت فى ماضى الزمان تحت حكم سلطان دومبيه إنها عظيمة ولكن ليست معمورة ، وفى جوانبها الأربعة آثار أبنية قديمة ، ونائب كاشف فى هذه الديار ورجال حكومتها مائتان والصوباشى يتسلم من السفن القادمة الجمرك ، وفيها ثلاثمائة بيت مكسوة بالطين ،

٤٤٨

وبعضها من الحجر وبعضها من الحصير والقصب وليس فيها عمران سوى حمام وخان وسوق للبز ومدرسة ومبرة ، ولكن فيها عدة مقاه وحانات للبوزه ، وليس فيها حدائق ، وإن كان هناك بساتين جميلة بعيد عن الساحل ، وآبارها عذب ماءها ، ولاعتدال جوها تحمل المرأة وعمرها مائة سنة ، ولقد شاهدنا هذه المدينة ثم عدنا إلى جزيرة سواكن ، وركبت مع نائب الكتخدا محمد أغا ، ورفقائى سفينة وتلونا (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] وتوكلنا على الله وأبحرنا إلى جزيرة دهلك وبلغنا شاطئها ورأيت شراع هذه السفينة وقد جلس ربان السفينة وملاحوها وكانوا ينظرون إلى البحر على الدوام ، وهناك من ينظر يمنة ومن ينظر يسرة ويبلغ الربان بذلك ، وإذا ما اشتغل قبطان السفينة بغير ذلك فإن البحر يتعالى موجه ، وكل من فى السفينة يقرأ الفاتحة مرارا ، ولو لم تقرأ الفاتحة فى السفينة لا تجرى لأن شراعها من حصير ومرساتها من حجر ، ومساميرها حبال من حصير وتحت السفينة دهن البعير كما أنها تمتلئ بدقيق الشعير ، ومضت السفينة فى البحر الأحمر وقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، ومررنا بكثير من الجزر وبلغنا جزيرة دهلك.

أوصاف جزيرة دهلك

كانت عاصمة النجاشى ، وقد فتحها عثمان بن عفان بعد أن أرسل من جدة مائة سفينة ثم استولى عليها النجاشى من بعد إلى أن فتحت فى عهد السلطان سليم الثانى إنها جزيرة واسعة ، حينما كان القائم مقام أوزدمر باشا فى الحبشة حاصرها ويستخرج اللؤلؤ عند هذه الجزيرة ، وكان بها قلعة صغيرة إلا أنها انهدمت وآثار المبانى فيها ماثلة للعيان ، وهى قضاء يدر مائة وخمسين أقجه ، وفيها ستمائة بيت ونصف أساسها من الحجر ويكسو سطوحها تراب كما يوجد بها عدة دكاكين ومخازن وجامع ومساجد ، إلا أن بيوتها ضيقة ، ولا وجود فيها للحدائق ، وعند المرفأ قصر القائم مقام وفيها أربعون أو خمسون مخزنا ، وهى تمتلئ بسلع التجار ولا وجود فيها لأبنية أخرى ، وفى كل خان صهريج للماء ، أما الماء الذى يزيد على الحاجة فيبيعه بعضهم للسفن ، وهواءها لطيف معتدل ، ويكثر فيها

٤٤٩

الجميلات من النساء ، والفتيان سمر البشرة ويزرع فى هذه الجزيرة فى بقع مختلفة الذرة ، وفيها بساتين وبها كثير من المعز ، ومن عجب أن المعز فى تلك الجزيرة تأكل اللحم الذى يوجد فى صدف اللؤلؤ كما تأكل السمك المملوح ولحمها وشحمها رائحته ذكية كرائحة العنبر ، ولما فتح عثمان بن عفان هذه الجزيرة قدمها عدة آلاف من المهاجرين والأنصار وأرباب الصفّة والصحابة ، ودفنوا فيها ولكن ليس لهم قبور تدل عليهم ولا وجود لما يرشد إلى تاريخ موتهم ، وقد شاهدنا جزيرة دهلك ، ورأينا ما يحازى الشاطئ من صخور ، وبعد قطع ستة أميال فى يوم واحد بلغنا جزيرة قلعة موص أووا.

أوصاف جزيرة قلعة موص أووا

كانت عاصمة لملوك الحبشة فى قديم الزمان ، ولقد فتحها عثمان بن عفان كذلك ثم فتحها آل عثمان فى عهد السلطان سليم الثانى على يد أوزدمر باشا وهى الآن عاصمة والى الحبشة ، وتحت حكمه سبعة سلاطين ، وللخاصة السلطانية اثنا عشر حملا من أقجة ، ولكن لا يوجد فى هذه الولاية شعار ولا زعامة ولا علوفة ولكن بها الدفتردار والروزنامجى ، والمحاسبجى ، والمقاطعجى طبق القانون ، ورواتب مائة من جند القلعة وعشر خاصة بإدارة الدفتر دار والمغفور له الموصدارلى مصطفى باشا كان يربى مائتى جندى من حملة البنادق ، وكان يحصل فى كل عام ألف كيس وفى المقابل كانت تأتيه هدايا عدل ألف كيس وبقوته القاهرة إذا ما شاء أن يفتح العالم لاستولى على العالم ، وعلى وجه العدالة بعد الخراج والمصاريف يحصل ألف كيس ، وإذا ظهر بيض لسود الوجوه مائة أو مائتا رجل سيطروا عليهم ، وإذا ما أرسل الهدايا إلى ملك فونجستان وملك دمبستان وملك الزنج وملك علوى وملك زيلعستان ويحصل مال وفير من التجار القادمين من اليمن والهند ، وكانت الحبشة مولوية ، وهؤلاء القوم لا يعرفون الحقيقة ولا الشريعة ، إنهم زنوج طغاة بغاة وحشو جهنم ، ولا مذهب لهم ولا دين ، إنهم يسكنون الحبشة ، إن القيظ غاية فى الشدة وقد يكون مهلكا إلا أن شدة الحر لا تؤثر عندهم فى إنسان ولا حيوان ، ولكن الجو يعتدل من بعد العصر إلى الصباح فى اليوم التالى ، ويهب

٤٥٠

نسيم الصبا ، فيهب الإنسان حياة الخلود ، وقصر الوالى فى هذه الجزيرة على شاطئ البحر ، وقد بنى هذا القصر كذلك أوزدمر باشا إلا أنه ليس واسعا ولا مزينا ، وهو يتألف من غرف صغيرة وفيه غرف يكسو سطحها الرصاص ويسمون الجمرك هناك خورده ، وهو قصر الباشا ، وتشترى عشر سلع التجار فى قصر الباشا هذا وتقترب من قصر الباشا هذا السفن القادمة من البرتغال والإنجليز والفلمنك والهند والسند والصين واليمن وعدن وتوم فوطه وموحه ولوحيه وجدة وينبع وطور والسويس ، لأنه مرفأ جميل ، وتقع فى الإقليم الأول وبينها وبين مرفأ اللوحيه فى اليمن على البحر الأحمر مسافة قدرها مائتا ميل ، ومدينة قرشية ويأتى إليه السفن من اليمن فى ثلاثة أيام ، إن أبنية هذه المدينة صغيرة ولأنها جزيرة لا تحتمل الأبنية الكبيرة ، وأبنيتها تغوص فى الطين ، وبيوتها بعضها من الحجر وبعضها من القش ، وبعضها من القصب ، وأما قصر الباشا فعال وفيه محاريب وفى السوق جامع أقامه أوزدمر باشا ، وهو على الطرز القديم وله مئذنة صغيرة ، وله بابان أحدهما يفضى إلى الساحل ، والآخر يفضى إلى السوق ، وابن أوزدمر باشا ومصطفى باشا البوسنوى مدفونان فى ضريح على يمنة الجامع وثمة جامع الشيخ الجمالى ، والشيخ الجمالى مدفون فى هذا الجامع كما أن هناك ست زوايا ، ومنها مسجد قره بك ولا يوجد آثار أخرى لحمّام ولا خان ولا مدرسة ولا مبرة ولا سبيل ، ولا وجود لسوق للبز وعند المرفأ مخزن للسلع ، وفى هذه المخازن كل شىء ثمين حتى أكياس المسك والعنبر ، وهذه المخازن بناءها متين الحجر ، ولا يوجد فى الجزيرة حدائق ولا بساتين ولكن الدنانير الذهبية والقروش كثير ، وأكياس الجواهر فى أكواب بهذه المخازن والقوم زنوج سود البشرة ومن أهلها الأسمر والأبيض ، إنهم جميعا من عبدة النار وإذا مات منهم أحد أحرقوا جثته ، ويلبسون الثياب البيضاء الهندية ويحمون رءوسهم ببيض العمائم وعندهم دفاتر بمصروفات وجمرك الحبشة ، وهم يعملون حساباتهم بدقة متناهية وإنهم يقيدون مصروفاتهم تقييدا دقيقا ، وتعتمد الحبشة عليهم فى الحسابات ، ولا يقولون الكذب ولا البهتان ، ولا يشربون الخمر ولا يأكلون لحم الخنزير ، وإذا أكلوا يأكلونه

٤٥١

فرادى ولا يأكل أحد مع غيره ولا يطعمون إلا إذا نزل عليهم ضيف من سفر ويتاجرون مع الهند والسند ودمبستان وفونجستان ، وإنهم قوم على خلق عظيم يحبون الغرباء حبا جما ، ولقد ساعدونى فى حمل متاعى الثقيل ولقد جئت من مدينة كيف فى فونجستان فى أربعين يوما فى حدود دومبستان وعبرت الصحراء ، وقد تبينت أن لهم ألف جندى لهم علوفه ، كما أن رعاياهم عشرة ملايين وهذا ما قيل لى على لسان قوم بانيان والباشا ، وبما أن بلادهم خالية من الطاعون يعمر الإنسان فيهم من مائة إلى مائة وخمسين عاما ، وباشا الحبشة يرسل إلى سلطان دومبيه رسول من قبله يحمل معه اللؤلؤ والعقيق والقسى ، والسهام والحراب والبنادق والرصاص والبارود والنفط والقطران والبندق والفستق والجوز الرومى والصحون النحاسية والقمصان والسراويل والكتان والبز ، والحرير والخيط وهذه الأشياء سابقة الذكر هناك نادرة ، وقد صحبنا هذا الرسول فى طريقنا وأسلم هذه الهدايا التى فى معيته للسلطان ، وقد أكرمه السلطان كما أن السلطان بعث مع الرسل إلى والى الحبشة أربعين أو خمسين غلاما حبشيا وأربعين أو خمسين جارية والزباد وسن الفيل وقرون وحيد القرن وقط الزباد والعنبر الخام ، وترس الفيل والسياط ، وقد أرسل جميع التجار إلى الباشا ما لديهم من سلع فأخذ منهم الباشا الجمرك ، ويرد من ولاية دومبيه إلى الحبشة القمح والشعير والذرة والسمن والعسل ، وشمع العسل والدقيق والزباد وخشب الأبنوس ، وما سوى ذلك ، وكذلك الغنم والجمال والعجول والغزلان والمعز وجميع الأطعمة والأشربة ، وقد شئت أن أمضى إلى السلطان ، ولكن فى ذلك الوقت كانت الحبشة تموج بالعصيان والتمرد ، وأشفق فورتاجى أحمد باشا من بطش الثوار فركب من الليل فى باخرة أبحرت به إلى اليمن ، ولقد بقيت غريبا ، ولم أستطع الرحيل إلى بلاد أخرى ، وبذلك كانت هذه الجزيرة وبالا حط على رءوسنا فركبنا زورقا وبلغنا جرار باشى.

أوصاف جرارباشى

غادرنا بالزورق مع خيولنا ، ودخلنا إلى جرارباشى ، وجرارباشى التى دخلناها هى مدينة

٤٥٢

قديمة يفد إليها الناس والسلع بالسفن ، ولكنها الآن خربة وفيها هنا وهناك أشجار وبساتين وأنعام أهل الجزيرة تربى هناك وثمة آبار ماءها عذب ، وليس فى جزيرة موص أووا ماء وامتطينا صهوات جيادنا من جرارباشى وبعد مضى ساعتين دخلنا أرضا سهلة وبلغنا قلعة خرق.

أوصاف قلعة خرق

عند ما دخلنا هذه القلعة رحب بنا رئيسها ، ووضع فى يده منشفة ولما أردنا أن نقبل يده قال : عفوا أنتم إخوتنا الأحبة وكنتم رفاقا للبك فى طريقه من فونجستان ولكنكم ركبتم السفينة من دهلك لتبحر بكم إلى موص أووا ، والباشا فورطجى قد تمرد وعصى وبغى إنه تمذهب بالمذهب الزيدى وتعلق بأذيال الفرار إلى اليمن وقد وقفت على هذا الأمر ، وإذا ما مضيت إلى مصر أظهرت وزيرها على هذا الأمر ثم أمضى إلى الآستانة ، واسترحنا بضعة أيام ونزلنا ضيوفا عليهم ، وقال لنا : اعلموا حقيقة الأمر ، وأقمت فى حجرة خاصة بى وردّت علىّ روحى ، فاستدعى رجاله فى التو واستولى على أموال وخدام وأرزاق أحمد باشا ، وشاهدت المدينة ، إن قلعة خرق قلعة قديمة سوداء وقد فتحت على يد أوزدمر باشا وإن كانت قلعة قديمة عظيمة من الحجر على ساحل البحر الأحمر لكنها ليست ركينة ولا معمورة ، ومحيطها أربعة آلاف خطوة وهى مربعة الشكل ولها سبعة بروج وستة أبواب باب البرج الرئيسى وباب المرفأ وباب جبل جدا وباب الشيخ مظلوم وباب الماء وفى الركن القريب من الشاطئ داخل القلعة وهو الجزء المعمور داخلها ومساحته تبلغ ستمائة خطوة وقد رممه درويش أغا وصار جزءا معمورا داخلها وتبلغ مساحته ستمائة خطوة أما ما خارج القلعة ففى حاجة إلى الترميم والتعمير ، وفى القلعة بضعة مدافع وينوب عن الباشا مع مائتين من رجاله قائم مقام ، ويحاسب فى كل عام مائة كيس ويفيض له بعد ذلك خمسون كيسا ، وقضاءه مائة وخمسون أقجه والباشا يحكم الأئمة وللقلعة رئيس وأغاوات ، وهم ينالون راتبا معينا من الباشا كل شهر ، ومعظم أغاوات الباشا يسكنون فيها لأن موص أووا وبرييس أووا جزر لأن السفن تبحر من قلعة خرق أووا وفى جوانب القلعة الأربعة آبار كلها عذب ماءها وقد بنيت هذه

٤٥٣

القلاع للحفاظ على هذا الماء ولذلك فتحت هذه الولاية وتم الاستيلاء عليها ، وكان السلب والنهب فى أركانها الأربعة ، ومن هذه القلعة غنموا ما غنموا وتحصنوا بها وأصبحوا فى عيشة رغدة ، وحول القلعة كثير من الزنوج البغاة الطغاة وفى هذه القلعة سبعمائة بيت من القصب والقش ، وسطوحها مكسوة بالتراب وفيها عشرون سوقا صغيرة وسبع مقاه وحانات للبوزه وخان وجامع لأوزدمر وسبع زوايا ولا عمران فيها سوى ذلك ولا حاجة إلى وجود حمّام فيها لأن أهلها يتجولون عراة ليل نهار وتعرق أجسامهم كأنهم فى حمّام إنها مدينة غريبة وعجيبة وحاكمهم رجل شديد عنيد وإذا ما قامت الحرب استطاع أن يجمع حوله مائة ألف مقاتل ، وهم جميعا عبيد للوالى إنه فورطجى أحمد باشا وزير مستقل وإنه الوزير الأول وقد ضاقت به الأرض بما رحبت ففر إلى إمام اليمن ، والنائب قره يسكن قلعة خرق أووا إنه كريم أحمر الوجه واسع العينين وهو على علم بالتركية وبذل لنا الدجاج وحساء القمح وخبز الذرة ، ويصدع بما يأمر هذا الرجل قوم الحبشة وفونجستان ودومبستان وعلوستان والعبابدة وسلاطينهم ، ولهؤلاء السلاطين جند ولكن إذا ما رموا بحجر هربوا وتفرقوا لأنهم جيوش جياع وضعاف البنية ، والنائب قره يحكمهم وتحت رياسته أمين الجمرك ، وله خمسة آلاف جندى من حملة البنادق يغذوهم ويكسوهم ، وإنهم جنود لهم قوة الإنكشارية ويلفون وسطهم بمنشفة وفى إحدى أيديهم بندقية وفى يدهم الأخرى منشفة مبللة بالعرق ، إنهم يتجولون فى الصحراء ، وإنهم يغيرون على كثير من البلاد فيقتلوا وينهبوا ويجمعون من ذلك مالا كثيرا وتأتيهم الهدايا من كل الأرجاء وهى هدايا لا تدخل تحت حصر ويقدم للباشا كل عام هدية قدرها ألف كيس من المال المتحصل وهو يقدم مائة وخمسين كيسا لأغوات القلعة كعلوفة لأن هذا مطلوب من الباشا ، كما أنه يقدم علوفة إلى أخواته ، وفى أيالت لا وجود للخدمات كما فى سائر البلاد ولكن فيها عشرون قائم مقام إنه يقدم إليهم كذلك علوفة ، كما أن لمن فى القلعة وخدامها علوفة خاصة بهم ، ويقدم للنائب ولمسلّم المدينة والقائد وكتخدا الباشا ونائب البوابين والإمام والأمين فى كل شهر

٤٥٤

منهم علوفة قدرها ثلاثة وثلاثون قرشا ، كما ينال خمسة قروش كل من رئيس البوابين ورئيس من يسيسون الخيل وغيرهم والجاشنكير وأمير الإسطبل ، أما أغوات الداخل خمسة عشر قرشا ، وهم يأخذون علوفة غير علوفة القلعة ومن خدمة الأمانة فى المرفأ فلهم عوائد وفوائد أكثر من ذلك وإذا ما تعلق الأمر بالتجارة فلا بد من الزيادة.

وركبنا خيولنا من قلعة خرق أووا ومضينا جنوبا ربع ساعة ففى مضيق زرنا ضريح الشيخ مظلوم القطب العظيم ، ولقد ظهرت له كرامات وكرامات أما مناقبه فلا تدخل تحت حصر ولم يقبل أن يقام له ضريح وإنما اكتفى برحمة الله ، وقدم إلينا الباشا وأعيان الولاية الخيام والمطبخ ، وكنا لم نزل فى طريقنا وقد صدنا الغزلان والأرانب وتناولناها.

وفى قول أن أربعين أو خمسين فلاحا يجتمعون فى مكان ويبقون فى الجبال خمسة أو عشرة أيام ليصيدوا الفيل ووحيد القرن والنمر فيحضرون جلد الفيل وسنّه وقرن وحيد القرن ، ويأخذونها للإتجار فيها.

إنها ولاية عجيبة لقد شاهدت مدينة خرق أووا بتمامها وكان ذلك فى عيد الأضحى من عام ألف وثلاثة وثمانين ، تم ذلك فى يوم واحد وقد تسلمت الإذن مع محمد أغا بمغادرة مدينة خرق أووا وسلكنا طريقا على الساحل الشرقى للبحر الأحمر ، وفى الصحراء أرض ذات أحجار واستغرق ذلك منا يومين ، والعرب يسكنون فى جبل ووله فى الحبشة إنه أرض واسعة خصبة وهؤلاء القوم يسمون القوم القديسين ، إنهم سبعة آلاف من الزنوج إنهم عراة وفيها من الفتيات جميلات سمر البشرة ومن الفتيان لأن فى هذه الأرض مياه وغادرنا هذه الأرض واتجهنا شرقا.

أوصاف قلعة هنديه

قدم هذه الأرض قديما ملوك الهند وأقاموا هذه القلعة إلا أنهم لم يبنوها محكمة متينة إنها من الحجر ومربعة الشكل ، ومحيطها سبعمائة خطوة ولأنها مقامة على ساحل

٤٥٥

البحر الأحمر فمياه البحر تتسرب إلى أساسها ولها باب خشبى يفضى إلى المرفأ وباب آخر يفضى إلى الجنوب ولها حاكم يحكم هذه الآيالة مع مائتين من أتباعه ويقدمون إليه أربعين كيسا فى كل عام ، لها قضاء قدر مائة وخمسين قرشا ولكن نائب الباشا إمام قاض ، وقد تم فتح هذه القلعة على يد أوزدمر باشا وله جامع صغير بلا منارة ومسجدان وبها بيوت ، ورئيس القلعة ومن معه أتباع للباشا فيها وبها مخزن للأسلحة وعشرة مدافع ويسكن خارجها عرب وهم يجمعون بعض النباتات العطرية والفاكهة ويربون فى كل خيمة من خيامهم خمسة من هررة المسك ثم غادرنا قلعة هنديه وانطلقنا شرقا وقطعنا ثلاث مراحل فى أرض ذات أحجار وفى وقت الظهيرة بلغنا برج طوزله.

برج طوزله

إنه برج عظيم على ساحل البحر أقامها أوزدمر باشا ، وبها نائب للباشا وبها ثلاث أسواق ومبرة وجامع ولا عمران غير ذلك والملح يرد إلى الحبشة منها ، والتزامها فى العام أربعون كيسا ويتحصل منها فى كل عام حمل مائة ألف جمل من الملح وإذا انحسر ماء البحر بالجزر ظهر الملح الأبيض ، وفى هذه البقعة مسكن قبيلة الرونجيه وعدد أفرادها عشرة آلاف ، إنهم يجمعون الملح فى التو والساعة ويصفون الملح أسفل البرج ، وتجاوزنا هذه البقعة وانطلقنا شرقا على ساحل البحر وشاهدنا خارج البرية ، وفى شدة الحر لمدة ستة أيام شاهدنا الجبل الأسود.

أوصاف مدينة بهلوله الخربة

كانت مدينة عظيمة على ساحل البحر ، بينما كان أوزدمر باشا يفتحها استولى عليها البرتغاليون فجعلوها خرابا يبابا وآثار أسسها ما زالت ماثلة وكان أهلها يسمون عبيره إنهم مائة وخمسون ألفا ، إنهم فى نظافة تامة ولهم عبير العنبر ولكنهم قوم لا علم لهم بالمذاهب الأربعة وليس لهم ولا يعرفون الحشر والنشر ولا يعرفون الحديث ولا يعرفون ما ينهى عنه الشرع ، إنهم يقيمون جميعا فى خيام بالصحراء ولا يعرف عددهم إلا البارى ، ولكنهم على خلق عظيم كما أنهم عراة يسترون عورتهم بجلد ، وفى هذه البقعة ميناء

٤٥٦

عظيم يتسع لألف سفينة ، وليس فيها أثر للرياح ولا أثر فيها لليل ، وهؤلاء القوم يطعمون الذرة ولحم الغنم والمعز والغزال والعجل ويشربون لبن النوق والبوزه ولا وجود فى أرضهم للحصان ولا الحمار ولا وحيد القرن ، إنها أرض ذات غابات ، ولذلك يكثر فيها الأسد والنمر والفهد ، إن هؤلاء القوم يشكون كثيرا من القردة ، قائلين : هم يقاتلوننا على الدوام ، ونحن عاجزون عن قطع شجر السنط والزقوم والأبنوس ، وأتت القردة وأسرتنا ومضت بنا إلى الجبال ، ولا خلاص من أيديها ، فبعضها ينام وبعضها يتولى الحراسة ، وقد وجدنا الفرصة لكن لم نستطع الخلاص ، ومحاولات رجالنا أهلكت كثيرا من رجالنا فما لدينا أسلحة ، وقالوا تقرر أن لا تغادروا هذه الأرض إنهم قردة ضخمة شديدة القوة ، وإذا دخل الليل أغاروا على خيامنا وخطفوا الغلمان والبنات والنساء.

وخلاصة القول إننا عاجزون.

ونصحونا بمغادرة هذه الأرض فزايلناها فى السحر ، فانطلقنا شرقا ، وإن هذه القردة تركب تيس الجبل وعجل الجبل وتمضى بهم وكأنهم سادة وجميع الحيوانات تهاب وتخضع لهذه القردة ، وقد رأينا من القردة ما تحمل هررة الجبل تحت إبطها وتطعمها ، وكما رأينا منها ما يحمل صغارها فوق بطنها وتطوف بها فى الجبال ، ومنها قردة بيض أشبه بالعنزة البيضاء ذات الزغب تحت ذقنها إنها قردة جميلة وقد شاهدناها ثم مضينا لمدة ستة أيام فى الجبال وفى الخلاء وعلى ساحل البحر وبلغنا زيلع.

أوصاف مدينة زيلع القديمة

أقامها ملوك الهند فى الزمان الخالى ، وفى عام ٩٣٨ استولى عليها أوزدمر باشا من البرتغاليين ، إنها قلعة عظيمة ومرفأ قديم ، وهذه القلعة تقع على صخرة فى الجانب الشرقى للنيل ، ومحيطها خمسة آلاف وسبعمائة خطوة إنها قلعة حصينة خماسية الشكل ، وأنها مرفأ منقطع النظير ترسو فيه السفن والسفن تأمن عصف الرياح فيها ، ولهذه القلعة بابان أحدهما من حديد وأحدهما يفضى إلى البحر والآخر يفضى إلى البر ، ولها رئيس وسبعمائة من أتباعه وليس فى الحبشة كثير من مثل هذه القلعة ، وبها مخزن

٤٥٧

للأسلحة وسبعون مدفعا لأنها آخر حدود الحبشة وقد تجولنا من الحبشة فى مدينة زيلع عند البوغاز حتى النيل ، وجميع المدن على ساحل البحر فى المغرب حتى مضيق سبته وجزيرة مصر فى حوزة البرتغاليين ، وفى القلعة ثلاثمائة تابع ، وفى كل عام تقدم إليه أربعون كيسا ، أما إذا دخل مرفأ زيلع خمس أو عشر سفن هندية ، وخمس أو عشر سفن برتغالية فيبلغ الجمرك خمسمائة كيس ، وإذا انعقدت الصداقة والمودة والألفة مع الباشا قدّم إليهم اللؤلؤ والزباد والأبنوس وسن الفيل وقرن وحيد القرن وبذلك يدفعون الجمرك عن رضا وطواعية ، وعند ما وصلت كان نائب الكتخدا القائم مقام محمد أغا ، وقدمت إليه سبع سفن برتغالية وألقت مرساتها تحت القلعة ، ودفعوا أربعون ألف قرش جمركا وكانت سفنهم تحمل الحرير والكتان والقطران والقطن ، وفى هذه الديار يقدمون الماء المغلى للمريض ويطعمونهم القطران ، ويدلكون به أجسادهم مرة فى العام وبذلك يتم لهم الشفاء ، ويضعون فى عيونهم التوتيا ، ويسمون القلعة جبل قدرى ، وقوم قدرى عددهم عظيم إنهم زنوج ولكن وجوههم كوجوه التتار وشعرهم متفرق إنهم بواسل شداد يزرعون أرضهم وحدائقهم كثيرة المحصول وهم يبيعونه كما يصيدون الغنم والغزال والوحش وتيوس الجبل والجاموس الحبشى وهم يملحون لحم ما يصيدون ويبيعونه للفرنجة فى بواخرهم ولذلك يأتى كثير من البرتغاليين إلى هذه القلعة ، وأهل هذه القلعة على المذهب القادرى ونساء ورجال خارج القلعة سبعون أو ثمانون ألف وهم يلبسون الثياب البيض الهندية ، إنهم يعبدون النار ويحرقون جثث موتاهم ويعبدون النار ولا يعرفون الخالق ويقولون هذا ما رأينا آباءنا وأجدادنا عليه وهم لا يمشون وهم جنب بل يبادرون إلى الاغتسال ، كما يغتسلون إذا طعموا أو قضوا حاجتهم ، وأجسامهم وثيابهم لها رائحة العنبر والزباد والمسك ، حسانهم حمر الوجوه وبيض وسود الوجوه ، وفى الحبشة حسناء زيلع بعيدة الصيت وأسنانهن كاللآلئ ولهم نونه جميلة وغبغب جميله وهم نساء ظريفات لطيفات نظيفات طاهرات الذيول وهؤلاء القوم يتبادلون البيع والشراء مع تجار الهند واليمن والبرتغال ، والمخازن عند المرفأ مفعمة بالنفائس ، ولكن الترسانة خربة ،

٤٥٨

وهذا المرفأ ممتلئ بسفن جدة وسفن ينبع ومويلح وهذه السفن محملة بالبن من اليمن وحجاج المسلمين والسلع الأخرى ، ولما شاهدنا هؤلاء الحجاج صاحوا ، كأنما ارتدت إليهم أرواحهم كما أننا شعرنا بحياة خالدة تسرى فى أجسامنا وهؤلاء فى هذا المرفأ كانوا جياعا وحاجتهم إلى حبة واحدة ، ولقد استراحوا أول ليلة فى خيامنا ولقد قدمنا لهم ما استطعنا من نعم ومن الغد سار ستمائة رجل معنا لأننا كنا فى صحراء وكانوا معنا أحسن رفاق وقالوا لنمض ، وفى يد كل منهم عصا وقد ساروا الهوينا وتبعناهم فى سيرهم ، وفى اليوم السادس بلغنا مرفأ جرزه.

مرفأ جرزه

لقد ظلت فيه سفينة ثلاثة أشهر وغرقت ، ولقد خرج منها مائتا رجل وأصبحوا رفاقا لنا ، وبقوا من الغد إلى وقت العصر ثم مضوا وأركبونى ومحمد أغا جملين لهم وطوينا المراحل حتى بلغنا منزل وادى حنفطه.

منزل وادى حنفظه

وفى هذه البقعة بالقرب من إبريم يقيم عرب من قبيلة كنوز ، فنادى محمد أغا نائب الكتخدا شيخ عرب الكنوز واشترى هؤلاء الحجاج من عرب كنوز ألف جمل ومن الغد طوينا المراحل معهم إلى وقت الغروب معنا ثم مضينا وبلغنا منزل سهريج.

منزل سهريج

إنها مدينة على ساحل البحر الأحمر خربة ، وبها بركة عظيمة ولقد نزلنا ضيوفا عليهم ليلة هطل فيها مطر الرحمة فملأنا قربنا من هذا الماء ومن الغد مضينا فى الصحراء وبلغنا منزل وادى جانيج.

٤٥٩

منزل وادى جانيج

كان البحر على يمنتنا ثم اتجهنا غربا فى صحراء وادى حلفه وفى جانبها الغربى أرض رملية وحجرية ، وفى اليوم الخامس بلغنا قلعة إبريم بحمد الله سالمين فنحرنا بعيرا وتصدقنا بلحمه ، ولقد وصلنا من الحبشة فى غرة جمادى الآخرة ، ونزلنا ضيوفا على رئيس القلعة بكر أغا وكانت إبريم فى نظرنا جنة الخلد قياسا ببلاد أخرى كأنها جهنم ، ورأينا قوما بيض الوجوه فشعرنا ببرد الراحة وأكلت خيلنا الشعير وأكلنا خبز القمح وقد حملنا الهدايا من السفن وهى التى أرسلها حاكم فونجستان إلى الباشا ، وسلمناها إلى رئيس القلعة بكر أغا وقد أحسن المحافظة عليها ورعت خيولنا فى الحقول ، وأتى رفاقنا ، ومنذ أتيت من ثمانية أيام ، لم أستطع أن أنزل النيل كما أن الآخرين لقوا كل المشقّة فى الطريق ودخلوا مدينة إبريم ، ولله نحمد أننا جمعنا كل ما نحمل من أشياء فى مكان واحد ، واسترحنا فى مدينة إبريم ثلاثة أيام ، ووضعنا ما ثقل من أحمالنا فى السفن وأرسلناها إلى جرجا ولقد كتبت مسودات رحلتى وليعلم من يطلعون عليها أن العلم الذى يشمل العالم لذوى النهى ليس مخفيا وليعلموا أن ما فى رحلتنا هذه من أخبار وأحداث مستمدة من خرائط علوم الهيئة والأطلس والجغرافيا ، وتواريخ القبط وتواريخ اليونان وعلم النجوم وبعض العلماء ذوى العقول الراجحة ، إن سياحتنا فى فونجستان والسودان وبربرستان وسودان كانت شاقة ، ولكن عناية الله عمتنا ، فما أبرّئ نفسى من تقصير ، إنها موهبة إلهية ، وفى عام ثلاثة وسبعين خرجت فى حرب أويوار وبعد الفتح بعام تيسر فتح قلعتين ، وبعد ذلك كانت هزيمة نهر راب ثم مضيت مع السفير قره محمد باشا إلى ألمانيا ثم إلى النمسا ومنها إلى ملك دونقارقير ومنها إلى ملك الدنمارك ، ومنها إلى ملك هولندا فى أمستردام ، ومنها إلى ملك بوهميا ومنها إلى ملك دانصقه ده له ، ومنها إلى ملك قراقو ، وبعد عامين ونصف بلغت السلطان محمد كراى سلطان القرم ، ومكثت عنده شهرا ، وقد عزله آل عثمان عن خانية القرم وأحل محله ابنه جوبان كراى ، وقد عبرت مع محمد كراى جركرستانه فبقى محمد كراى خان فى ديار ملك داغستان ،

٤٦٠