الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقد تصبب عرقا ، وفى ساعة تناول الجمل وهذا القدر من النار فبقيت فى حيرة والناس من حوله مصطفين يتأملون ، وهربوا فى سفينة ، ومضى البهلوان إلى أهله وعشيرته وقلت أطال الله فى عمرك أيها الملك وجعل رءوس أعدائك رقابا لك ، ومنحنى حصانا وخمسة أحمال جمال من سن الفيل وإزارا وخمسا من صغار المماليك ولما عدت لمدينة أبشوقه فقبلت رجاء الملك ونبهت إلى ذلك وزيره ؛ فقال الوزير : على الرأس والعين. وجعل البهلوان يعرض ألعابه فى الميدان على قرع الطبول ونفخ المزامير وأحضر حطبا محمولا على عشرة من الفيلة وأشعل النار فى الحطب وعلى أرواح شهداء كربلاء ملئت عشر قرب من ماء النيل ، فجاء ليشرب منها ناس كثير منهم رجل بدين.

من العجائب والغرائب

ومضى الرجل البدين إلى الملك فقال : يا سلطان السودان أعطنى خمس قرب من ماء النيل وأعطه خمسا فلقد ظللت سبعة أيام صائما وسبع ليال قائما لم أذق فيها قطرة ماء ، وأقسم على ذلك وكانت هذه الرياضة التى أزاولها ، فقال الملك : لنعد لك فطورا فإليك هذه القرب الخمس ، فأمر الملك بتقديم هذه القرب الخمس له ، وكان ثمة سماع للمولوية ألقينا السمع إليها نصف ساعة وتعالت ألسنة اللهب كأن شرر النار يتطاير هنا وهناك ، فقال : لم أجد ماء طيلة أيام صيامى ولذلك أريد عشرة قرب من الماء ، وقال : إذا زادت نار فى نارى فإن هذه القرب العشر تكون من حقى ، وكان هذا رأيا صوابا ، وفى البداية أكل لحم الجمل وقالوا للبهلوان آكل النار : لقد عرفوك جلية الأمر ، فوضع البهلوان كلتا يديه على رأسه وبدأ الغناء وأخرج دم الجمل من فيه قطعة قطعة وتحلق حوله جمع غفير ، ومضى إلى الملك وأمامه قاء لحم الجمل على عشرين دفقة كما قاء بين ذلك النار مرارا حتى أن غلاما صغيرا لى أخرج من فم البهلوان قطعة من لحم الجمل ولكن لم يخرج من فيه كثير من النار ، هذا الرجل أكل اللحم راجيا الملك وقال : يا سلطان الفونج لقد غلبت على النار والرغبة فى أن أقىء لحم الجمل تملكتنى فقال الملك ومن معه من المشاهدين : ينبغى أن يجيبه إلى رجائه وحكم الملك بذلك لقد أكل

٤٢١

عظام الجمل ونجاسته ، فشرب خمسة قرب من الماء دفعة واحدة فصاح البهلوان أن حرارته سكنت ولكن رغبته فى قىء لحم الجمل لم تسكن ، فقالوا : أعطوه شرابا يجعله يقىء وقال أنا لا أعلم أى سحر فعله بى الماء ولذلك لم أتخلص من ناره ، وصاح قائلا : أنا هالك لا محالة ، واعتزل فى ركن وهو يتألم فلم يرحمه أحد فما نال قطرة ماء فشرب ما قدمه إليه السلطان من ماء القرب وكان راقصا ثم وقف فعطس وسعل وحمد الله على انخفاض حرارته ثم قدم على الملك قائلا : أيها السلطان العادل لقد منحتنى خمس قرب للماء فى البداية فدفعت بها عطشى والماء لمن طلب.

لقد أشفى البهلوان على الهلاك من آلامه وحرارته وعطشه إنه آدمى ضعيف وعلى كل الأحوال فإن البهلوان كان سيهلك وهذا على حد قولهم فنظر الملك إلىّ وكان مستاء فقد هلك عطشا لعدم تقديم الماء إليه ولكنه لام البهلوان على أكثر ما أكل من لحم الجمل وما أكل من النار وأردت أن أطيب خاطره فقلت له : إن هؤلاء يلعبون بأرواحهم وهذا دأبهم على الدوام ، ولما دخل البهلوان الميدان قال رجل : أيها السلطان إن ما يعمله هذا البهلوان سحر مبين إنه لعين من عبدة النار وإنى أبرئ من ذلك ولله أحمد أنا رجل تقى على المذهب المالكى اسمى أبو الذهب أقوم بصيام وقيام ورياضات ومجاهدات ، فقال الملك : ولكنك أنت كنت بهلوان وأخشى أن أكون قد قتلته يا أيها السلطان إذا كنت تحبه كثيرا فأنا أسلخ جلده فى حضورك فتعهد الملك بأن يهب مائة من الإبل.

من المضحك العجيب

مضيت إلى جثة البهلوان المرحوم وعقدنا حبل من ذيل الحصان وربطنا عنق جثة البهلوان بهذا الحبل ، وركبت الحصان وضربت الحصان بالسوط مرارا إلى حد فانطلق الحصان فى الصحراء والجثة المعلقة فى ذيله اختلطت بالرمال وتسلخ جلد الجثة فى مواضع فظهر لحمها أحمر اللون ، وجررت هذه الجثة حتى بلغت بها الملك ، وقال الملك : لقد حقرتم هذه الجثة بما فعلت بها فتسلخت وبان لحمها ، وأغلظ علىّ اللائمة ، فقال البهلوان الثانى : أمانا أيها السلطان اصبرن قليلا ، وقال : لقد مزقت كل أعضاء

٤٢٢

الجثة من أنفه وفمه وغيرهما ومثلت بجثة إنسان ، إن أول جرعة شربها كانت خمس قرب فانتفخ بطنه كالقربة. وقال البهلوان للملك : انظر ماذا سأفعل إنى سأحيى عابد النار هذا ببولى ، ثم قال بعض اللطائف ، فقال السلطان : لا أعرف غيرك يحيى هذا الرجل فإن لم تحيه قتلتك ، فقال : على السمع والطاعة فدق الطبول ونفخ فى المزامير فجاء الملك إلى السلطان وقال له : أيها السلطان إن هذا عابد نار إن عابد النار هذا كان بجانب النار التى أوقدتها جثة نحيلة وأصبحت جثة مختلفة الألوان وأصبح الدم ينبجث من جثته كأنه ينبجث من جراح مقاتل.

والحاصل أن هذا الميت بقى فى ميدان المحبة وأمره الملك بعرض ألعاب أخرى.

منزل عابد النار

ارتفعت ألسنة النار وتصاعدت رائحة كريهة تأذى بها جميع المشاهدين فأخبروا السلطان هذا الخبر وفرّ خدام البهلوان وأحضروا إلى السلطان ثلاثة من الخدام مقبلين وضرب رأس البهلوان فتدحرج رأسه أمام الملك فوقف البهلوان من وسط النار وجاء ثلاث بهلوانات وقبّلوا الأرض أمام الملك فأخذ من الملك العجب كل مأخذ ، ولما قدم البهلوانات لتقبيل يد الملك كانت أجسامهم مطلية بالدهن ، والحق أن البهلوان أبدى معجزات ، وبعد ذلك أمر الملك للبهلوان بمائة من الإبل ومائة من الغنم ومائة من العجول ومائة عنزة وخمسة وستين من سن الفيل وثلاثة جوارى حبشيات فدعوا للسلطان بالخير.

الدعاء الهندى

بعد أن دعا البهلوان للسلطان بالهندية قبّل الأرض بين يديه ، ولقد تعجبت ، ولكن السلطان سر لذلك ولقد تجولت فى البلاد اثنين وأربعين عاما ورأيت ثمانية عشرة مملكة ، ورأيت من الألعاب السحرية ما رأيت ويا كم رأيت فى فونجستان ونقولستان من عجائب السحر ، وتحدثت عن ذلك حديثا مختصرا ثم مضيت إلى قلعة أبسوقه مع الملك وفى طريقنا صادفنا خندق عظيم على ضفة النيل عمقه خمسون ذراعا ، وكأنما جرى النيل منه

٤٢٣

بعد الطوفان وينصب غربا فى المحيط ، وقد فعله سيف بن ذى اليزن بعد الطوفان وقد حطم صخور الشلالات وجرى إلى مصر فى النيل وقد ظل هذا يابسا فعبرناه وبعد اثنتى عشرة ساعة بلغنا بلدة أوتمر.

بلدة أوتمر

إنها مدينة عظيمة وإن لم يكن لها قلعة تسمى بلدة ولكن حواليها ما يشبه قلعة خشب ولها خندق ورأينا فى بداية هذه البلدة هذا الخندق وعلى شاطئ النيل بيوت من اللبن وفيها نحو أربعين أو خمسين دكانا ودار ضيافة وست مقاه وعشر حانات للبوزه وسبعة جوامع والقوم على المذهب المالكى وقد قدموا إلى الهدايا واجتزنا قرى كثيرة هناك على شاطئ النيل وبعد عشر ساعات بلغنا مدينة بوروشش.

مدينة بوروشش

يحكمها وزير السودان وله مائة ألف من الجند وألفان من الفيلة وخمسمائة ألف من الرعايا ، وأنعام لا تعد ولا تحصى سبحان الذى لا يسئل عما يفعل ولكن كيف خلقنى ، فلما سمعت المصراع ولما مضينا للقاء الوزير أحضر فيلين عظيمين أحدهما أبيض والآخر أسود ، وهما فيلان مسنان يقال أن عمرهما ألف سنة ، ويصعد إليهما بسلم مقداره عشرون مرقاة ، ولم أرى مثلهما قط ، وهما أليفان وفى الروم يسمى الفيل (أكول) والفيل هناك ضخم الجثة جدا وللفيل خرطوم يتنفس منه وله صوت كصوت عذراء حزينة ، ويركب الفيل المماليك وقد جاء الفيلان للملك هدية ، ومضينا على ضفة النيل سبع ساعات حتى بلغنا قلعة بوروسته.

أوصاف قلعة بوروسته قلعة مدينة وعدستان

حينما دخلت هذه المدينة قرعت الطبول وفى كل سوق استقبلنا جمع غفير من الناس كما أن النساء السمر رفعن أصواتهن بالتهليل ، وكانوا ينظرون إلينا على أننا بيض البشرة ، وهم يقولون سبحان الله لما رآنا بعضهم لاذوا بالفرار ، وفى القلعة ستة جوامع وألف بيت من القصب ، وفيها دكاكين هنا وهناك ، وحانات للبوزة ، وهم قوم من رعايا

٤٢٤

فونجستان وهم سمر الوجوه ، وستمائة زنجى ، وهم يتحدثون العبرية وهذه هى أعدادهم العبرية:

واحد : زا. اثنان : زى. ثلاثة : زو. أربعة : كا. خمسة : كى.

ستة : كو. سبعة : چا. ثمانية : چى. تسعة : چو. عشرة : چه.

ووجدنا شعرا بالفارسية للنبى قفاح عليه‌السلام ، ويقال أنه كان يعرف العروض الفارسى واللغة الدهلوية تشبه اللغة العبرية. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من طعن حركة ألاظى فهو كافر بالله» ، وحروف اللسان العبرى كحروف اللسان العربى ، ولكن العربى لسان واضح وهو فصيح بليغ ، أما اللسان الفارسى فهو حلو ظريف لطيف فيقال العربى فصاحة والعجمى ظرافة والتركى قباحة ، وكل لسان آخر نجاسة وفى ديار فونجستان كثير من الألسنة المختلفة ولكن ذكرنا ما نعرفه منها واللسان الذى يتكلم به أهل بورسته يندهش له من يسمعهم لأنه لسان مغلق أنهم فى بداية كل كلام يعظمون السلطان ، وأكثرية القوم يعبدون الشمس ، ويؤدون الخراج للملك ، ولهم أسواق عظيمة وهم يعبرون النيل بسلعهم ، وهم يصلون بها إلى بلاد البرتغال عن طريق البحر ويتم لهم البيع والشراء فى بلاد الفرنجة ، ولا يأخذون نقودا بل بالمقايضة ونزلنا ضيوفا يومين على هذه القلعة وحاببنا وتألفنا مع أهلها وكتبنا بعض ألفاظهم ، إنهم على خلق عظيم ، واتفق فى الليلة الثانية أن نجما ظهر فى الشرق والآخر فى الغرب ، ونزلا على المدينة ، وبقيا معلقين ، وقد اهتز أحدهما واتصل أحدهما بالآخر وقد تلاقيا فاهتزت الأرض والسماء وانبثقت نجوما من هذين النجمين ، وغادرا مدينة بوروسته ، وأتيا الصحراء فأحرقا الزروع ، وظهر النجم الأكبر منهم. ومضى إلى الموضع الذى ظهر منه وعاد ثانية إلى المدينة وانبثق منهما الشرر ونفق الحيوانات من فيلة وإبل من ذلك ثم تفرقا.

وخلاصة القول أن هذين النجمين تحاربا فوق المدينة لمدة ست ساعات ، ولم يبق شىء أمام خيامنا ، إنه عذاب من الله قد نزل وقد تضرع الناس إلى الله على أن هذا كان

٤٢٥

من أشراط الساعة ، ولمح النجم الشرقى فى وقت السحر ومضيت كواكب نحو الشرق وأخرى نحو الغرب ، ثم أفلت ولذلك تلبثنا يوما ، وقد سقنا أنعامنا ناحية وتعوذنا بالله أن هذا كان من علامات القيامة ، وفى الصباح سرنا على ضفة النيل وعبرنا مناطق كثيرة العشب والزروع وبعد عشر ساعات بلغنا قلعة دنقده.

قلعة دنقده

أقيمت بناءا على تعاليم آصف بن برخيا أنها كانت مدينة عظيمة قديمة والآن فيها ستة آلاف بيت وتقع غرب القلعة ، وبها جامع عظيم القبة وأسواق صغيرة ولكنها كثيرة السكان ، وفيها من الطغاة والبغاة ، وحاكمها رحيم الدين خان وقد استقبلنا وزيره فى معية ألف جندى ، وقدم إلينا كثيرا من الهدايا ، إنهم على المذهب المالكى ، وهم يأكلون الغزال والعجل والقرد والفأر والأرنب ، ويأكلون فاكهة ذات بذور تشبه الشاه بلوط ، ويأكلون كذلك فاكهة تشبه السمكة ، وهى ثمرة شجر قصير ولذيذ الطعم والعبرانيون يدهنون رءوسهم بزيت هذه الفاكهة ، وبذلك تخلو شعورهم من القمل ، ولكن الأكثر منها يذهب البصر وقد حصلت على حقّ منها وهم يزرعون الذرة أكثر ما يزرعون ، ولا وجود عندهم لقمح وشعير وعدس وحمص وفول وكتان ولا برسيم وقد أمر الملك برجم رجل اغتصب فتاة ، ولا وجود لديهم لنخيل وغادرنا هذه المدينة على ضفة النيل فرأينا تماسيح ضخمة وسرنا فى الرمال والتراب والجبال وبعد تسع ساعات بلغنا جبل سندس.

أوصاف عجائب جبل سندس

إن إدريس عليه‌السلام أقام فى سفح هذا الجبل ، تناولنا الفطور مع الملك وركبنا مع ألف منهم الإبل والخيل ، وعلى امتداد البصر رأينا جبلا شامخا من الحجر الأحمر المصقول ولهذا الجبل باب يطل على جهة الشرق ، ولكن أقيم بناء عظيم سد هذا الباب ، وهناك حوض منحوت فى الصخر ، وفيه يذبح سبعة جمال وسبعة خراف وسبع عنزات وسبعة ديكة وسبعة من القطط ، فيسيل دمها فى منحر الحوض ، ويغمس الناس جميعا

٤٢٦

يدهم فى هذا الدم ثم يمسحون بأيديهم الصخر فسألتهم لماذا يفعلون ذلك ، فقالوا : إن هذا أصبح لنا طلسما وهم يتعرفون من ذلك ما قدر لهم فى الغيب وما لم يقدر ، وغمسنا يدنا كذلك فى هذه الدماء ومسحنا الصخر لنرى العجائب ، ولكن احذروا من أن يستولى عليكم الخوف ولو قليلا هذا ما أوصانا به الملك ، وقد أعملنا الفؤوس فى هذا الجدار الذى سد الباب فانفتح الباب ، فكبّر كل من قاضى سنار والملك والإمام وواعظ دونقده ، ودخلوا وبعدهم الوزراء وفعل السلطان ذلك ودخل فرأوا أن المغارة فيها حجر بها دولاب وضع فيها الديك وغاب عن نظر الحاضرين فحمدوا وهللوا وكبروا ، وفى جوانب المغارة الأربعة جلس الناس على كراسى وجلسوا على المصطبة مائة إنسان وقد خيم الصمت عليهم جميعا وزلزل ركن من أركان المغارة فسمعنا صوتا يغنى بصوت حزين بمصاحبة المزمار والعود والقانون والسنطور والطنبور والرباب وكانت هذه النغمة هى نغمة الرست من فصل الحسينى فأخذت منى الدهشة كل مأخذ ثم سمعنا غناء ولكننا لم نفهم ألفاظه لأنها منقطعة النظير ولكن هذه الأنغام كانت على أصولها فسمعنا أصوات طبول وقدوم ومزامير وكانت هذه الأنغام من مقام الحسينى ، وقد ترددت أصداء هذه الأنغام فى الكهف كأنها هزيم الرعد فكان الصمم لآذاننا وخرج شيخ من الغار واتجه نحو الفرقة الموسيقية وأشار إلينا بالوقوف ثم ركب جمله فارتفع صوت من الصخر قائلا السلام عليك يا سلطان الجان فرد صوت امرأة من الصخر قائلا : وعليكم السلام يا أولاد حام وقال قاضى سنار : السلام عليكم يا سلطان الجان ، وقال الصوت : وعليكم السلام يا قاضى سنار بن طاهر بن يعقوب ، وقال للملك : اذكر ما تريد ، وجاء وزراء وعلماء وألقوا السلام ورد كل منهم السلام باسمه ، ثم مضى الملك إلى الصخرة فقال : السلام عليكم يا سلطان الجان ، وفيما هو يرد التحية قيل له : وعليكم السلام يا ظالم خاقان بن سارند خاقان بن إدريس خاقان بن لاوند خاقان ، أقم العدل فى الناس فإن نجوما أخرى هوت ، يأتى إلى بلادك من بلاد الزنج ومن عصاة بغاة من الجند فلا تغفل

٤٢٧

وخذ حذرك ، وأنت منصور مظفر فعليك أن تقدم إلى هنا فى كل عام وتقدم القرابين وتسجد شاكرا خمس أو ست سجدات ، وكان هذا الكلام بلسان الفونج وولد له ولد فقال لى الملك : قل السلام عليكم يا سلطان الجان فقيل لى بصوت مرتفع بصوت رومى فصيح : وعليكم السلام يا جواب العالم ونديم بنى آدم ومصاحب السلطان وحملة القرآن أوليا چلبى بن درويش محمد ظللى بن قره أحمد بن دمرجى زاده قره مصطفى باشا الشهيد بن دروحان بك بن ياووزار بن أجه يعقوب بن عبد الله وردى أقاى بن محمد كرمانى بن توركان خواجه أحمد يسوى بن محمد حنفى رضى الله عليهم أجمعين ، وإلى شجرة نسبنا وهى أن أجدادنا الإمام الحسين والإمام علىّ وفاطمة الزهراء والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر أجدادنا قاطبة وبذلك دخل السرور على قلوبنا ، وقد تحدث طويلا فى مصر عن الوزراء والوزارة فى مصر لإبراهيم باشا ، ويسود الهرج والمرج فى مصر ويأتى أحمد باشا الدفتردار ويعود وهو ابن كوبرلى والوزارة لقره ويمرض فى مصر وإذا مات فمضى إلى مكة ثم تعود إلى مصر فحزنت لهذا من قوله وأمضى إلى الحبشة فأخذ العجب مأخذه من جميع الحضور فى المجلس وأخذتنى الدهشة ، وعند ما ألقى عليه‌السلام كل من رفقائى وهم على خلخالى ودرويش غدى ودرويش لمعى ودرويش نعمت الله رد عليهم‌السلام بصوت عال ذاكرا أوصافهم والقرى والقصبات والمدن التى ينتمون إليها وأسماء أفراد أسرهم وذوى قرباهم ولكن قال أن درويش على خلخالى تارك الصلاة جبرى فابتسمنا جميعا فخجل درويش على ولكنه أدى فريضة الصلاة من بعد ثم جاء خدامنا فأتى بهرام وألقى السلام فرد عليه يا خائن المولى ثم أتى حيدر وألقى السلام فرد قائلا : يا خائن ولى النعم ، وأتى العبد خسرو وألقى السلام فرد عليه عليكم السلام يا مخدم البلاد.

وخلاصة القول أنه أخبر السلطان ومعيته فردا فردا عما فى نيته وطيب خاطره ولم يدع سائلا دون أن يجيبه ثم سمعت ألحان الحرب فى الميدان فطابت بها النفوس ، فخرج

٤٢٨

الناس جميعا ، ومكثوا فى الصحراء ثلاث ليال وثلاثة أيام ، وفى كل يوم يأتى الناس أفواجا أفواجا ويسلمون وهم يسألون عما يتطلعون إلى معرفته إلا أن المغيبات الخمسة لم تعرف ، وفى اليوم الثالث قدم إلى السلطان وكبار الأعيان فقدموا القرابين وسدوا باب الكهف ورفعوا الدعوات وقدموا الشكر والثناء ، وفى شهر يونيه فى كل عام يجتمع فى هذا الموضع أهل فونجستان وأهل بربرستان وغيرهم ويشكلون جمعا غفيرا منهم فى ثلاثة أيام وثلاث ليال ويسألون عما يريدون إن هذا الغار غار عظيم منحوت فى الصخر وهو مطلى ولكن الموضع الذى يخرج منه الصوت مفتوح وبقية الصخر مصمت وليس فيه موضع يدخل منه إنسان ويسمع أصوات أنغام وصوت قرع طبول ونفخ المزامير مما يحار العقل فيه ، وقد سألت السلطان وبعض ندمائه من الشيوخ فجاءوا بأخبار شتى عن هذا الكهف والذى يسمى خروس بو غازلين ولكن حكى خدام هذا الكهف أن هذا الجبل هو جبل إدريس عليه‌السلام ، وكان إدريس النبى يلقى دروسه على الملائكة فى الكهف لذلك سمى إدريس ، وكان الملائكة الكروبيون يأنسونه على الدوام فى الكهف ، وانتوى إدريس النبى أن يعرج فى السماء وذلك من الآية : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٦ ، ٥٧] وقد دعا الله له الكروبيون وهذه الآية دليل على أن عروج إدريس النبى كان فى أسوان ، ومنذ هذا الزمان تصدح الألحان فى هذا الكهف ، وهذه الألحان تسمع ليل نهار وسواء قدم أحد أو لم يقدم فهذه الألحان تسمع ، وقد رأينا آباءا وأجدادا على هذا القول ، وكانوا جميعا يقدمون القرابين وهذا على حد ما قال خدام السلطان ، وقد شاهدت هذا الكهف دون أن أتكلم ببنت شفة وتناولت الطعام وتعجب الحاضرون لذلك منى وضحكوا ثم غادرنا هذا المكان ثم انطلقنا على ضفة النيل جنوبا ستة أيام وست ليال ، وكنا نمضى كذلك فى ضوء القمر ونصيد فى الصباح وبلغنا وادى شلجلاه.

٤٢٩

وادى شلجلاه

يعنى ذلك صحراء ذو الجلال ، وهى واسعة لا حدود لها خصبة ، إنها كثيرة الغابات ومياهها جارية وبها بحيرات وذات نخيل وبساتين ، وفى جانبها الغربى على بعد عشرة فراسخ قلعة أقامها البرتغاليون على ساحل البحر المحيط فى مدينة سيختره أنها كانت مدينة عظيمة وفى أرض سنجلاه تصيدنا ثلاثة أيام وبلغ صيدنا سبعين فيلا وستة عشر من وحيد القرن وكثيرا من النمور وكثيرا من الأرانب والحمر الوحشية والزراف وتيوس الجبل ، وجملة القول أننا تصيدنا ما لا يحصى كثرة من الحيوانات والطيور فهذه الأرض تمتلئ بالمخلوقات ، وليس فى مصر أرض طيبة الهواء مثلها وفى اليوم الرابع ظهرا ، ولقد أهدانا حاكم الروم سبعين أو ثمانين ألف من الجند وألف فيل ومائتى عبد وجارية فى موكب عظيم.

أوصاف مدينة رومية الجمال العظيمة

مدينة بناها آصف بن برخيا وزير سليمان عليه‌السلام وكانت فى أول الأمر على هيئة قرية ، وقد ولد آصف فى هذه البلدة ، ولأنها مسقط رأسه شيد المدينة وبعد أن أتم بناءها دعا سليمان عليه‌السلام إليها ، وبنى قصورا عالية ولكل قوم ملك ولقد دعاهم سليمان إليها ، وجعل لكل منهم قصرا شامخا ومقصورة على ساحل النيل ، كما أقام قصورا مختلفة فى شمال هذه المدينة وبنى قصورا فى جنوبها تبعد عنها مسيرة سبع ساعات ، ورسم على جدران هذه القصور صورا لهم وزين هذه القصور بتماثيل اثنى عشر ملكا وكانت لهذه التماثيل صورة مهيبة وكانت من المرمر والرخام ، وكانت شعورهم تدلى على جانبهم وأجسامهم هى أجسام الآدميين ، وفى أحد القصور أشكال للشياطين ورأسهم كالمرجل وأذانهم كأنفى ثور وعيونهم مستديرة وفى أيديهم وأقدامهم خمسة مخالب كما للأسد ، ورأينا عقبان وحمائم تطير وفيه تماثيل للفيل ووحيد القرن والجمال ولها ذيول كثيرة الثنايا وأجسامهم تشهد لصانعها الفنان بالبراعة ، وفى القصر أشكال لطائر السمندر وليس كبيرا ، ولكنه طائر جميل وكأنه النعام المنقوش فى الصحراء

٤٣٠

إلا أن عنقه قصير ، وهذه التماثيل مصنوعة من الحجر الصلد وقد مدت جناحيها وفى القصر تمثال لغول الصحراء وهو من الرخام الأبيض وله جسم إنسان ولكن له رأسان أحدهما رأس شيطان والآخر رأس عقاب وأقدامهم كأقدام الإبل وأذانها أذان حمار ، إنه مخلوق عجيب ، وهناك نقوش صور حشرات مثل النملة وكذلك الضفدعة والحلزون والجرادة والعقرب والحية ، والحاصل أن جميع حشرات الأرض هناك ، ولكنى أقول حاشا أن يكون الإنسان صنع هذه الأشكال لأن ذلك ليس فى مقدور البشر ولا يمكن أن تكون معجزات لأنها تماثيل عجيبة إنها لم توجد منذ ألف سنة وكأنها ذات بروج وأنها أناس غضب الله عليها فسخطها أحجارا لأن الإنسان يعجز عن خلقها ولو عاش ألف سنة ولكن فى وسط هذه المخلوقات ومن قصور الملوك كان قصر عرش سليمان الذى ليس له شبيه ولكن ثمة صورة لسليمان النبى إنه قصر يقوم على ألف قاعدة وفيه صورة لغلمان كأنهن الحور بعضهم واقف والبعض الآخر جالس ، وبعضهم مستند إلى عصا ، وبعضهم راقص وبعضهم يشدو ، إنها أشكال عجيبة غريبة وكلها مصنوعة من الحجر الأحمر وإلا فإنها لا يمكن رسمها بالقلم ولا حفرها فى الصخر ، ولكن فى داخل قصر سليمان رأيت كثيرا من الأشكال العجيبة ، رأيت غلاما ثائر الشعر وفى يده اليمنى صقر وهذا الصقر مصنوع من الرخام وحاط على خشبة مبنية ، وقد جعله الفنان ينظر لفتى وسيم ، ولا رسم مانى ولا بهزاد رسم مثل هذا الصقر على الورق ، وقد شاهد الملك كل هذه الصور ثم مضينا إلى مدينة رميله الحمال.

أوصاف مدينة رميله

لقد بنى هذه المدينة آصف بن برخيا فى مائتى عام وعمّرها ثم فاض ماء النيل وبلغ ماءه جبل القمر ، وفى هذه الديار امراءة تسمى رميلة ، وقد سكنتها بعد أن بنيت ولحكمة يعلمها الله كانت هذه المرأة عاقرا ، ولكنها حملت فى هذه المدينة وأطلق أهل المدينة عليها اسم هذه المرأة وهو رميله ، وعند ما حملت هذه المرأة سميت المدينة باسم رميله الحمال نسبة إلى هذه المرأة ، ولكن كان اسمها فى البداية مدينة برخيا وهى مدينة

٤٣١

عظيمة ذات قباب عالية بلغت النجم فى علوها ، وفيها آثار وكنوز تستحق المشاهدة ولكن يوجد فى هذه المدينة ألف بيت من الجص وسبع جوامع بلا منارة ومائة دكان وخان وعشرون حانة للبوزه ، ولكن ليس بها حمّام ولا مدرسة ، ولقد أعطينا إلى حاكم هذه المدينة الهدايا ، وكان طليعتنا عشرة آلاف جندى مع السلطان وسرنا جنوبا من هذه المدينة على ضفة النيل وبعد خمس ساعات وصلنا جبل دابة الأرض.

جبل دابة الأرض

وبلغنا سفح هذا الجبل ومكثنا هنالك فى أرض معشوشبة وليس فيها أمارة على العمران ولكن فيها صخور قائمة بيضاء.

أشكال أعجوبة الأرض دابة الأرض

وثمة تمثال لفيل له أربعة أرجل ذو جثة ضخمة من الرخام الأبيض وفى عنقه قرن وجلده كجلد النمر وذيله متفرق الشعر وأقدامه شبه خفاف الإبل ، وفى ثلاثة من أقدامه أظافر ، وعلى كتفه عظام كأنها فأس فرهاد وكأنه هو حيوان تهيأ للطيران ، وفى الجانب الشمالى من هذا التمثال تمثال الحمار الدجال اللعين ، إنه حمار منحوت من الصخر الأسود ، وعلى ظهره رجل بدين وهو له عين واحدة وعلى رأسه عمامة من الرخام الأبيض ومن حوله نساء وصبيان ويهود على رأسهم قبعات ، وفى أيدى القوم دفوف ورباب وصنج وكل من فى هذه الأرض يعزف على آلة من آلات الطرب وقد تجمعوا حول رأس الدجال ، يا له من منظر عجيب يستحق المشاهدة ، ثم مضينا فى تلك الأرض مع الملك ساعة.

تمثال عوج بن عنوق

إنه تمثال من الرخام الأبيض يرتفع إلى أوج السماء وظهره وكتفاه تتصل بالصخر لتكمل صورة عوج إنه واقف ، هذا فى الأحوال العادية ، أما فى وقت السحر فرأسه فى السحب وشعره متفرق إنه رجل وقدماه تشبهان الرخام ، أما عنقه فملتف ويمكن أن يحتضنها خمسون رجلا إنه فى قدر قبة جامع السليمانية ، وذراعاه كأنهما عمودان وفى

٤٣٢

يده تمثال لتمساح ، وقد شاهدته كذلك ، ومضيت مع الجند فى ريح الجنوب ومكثنا فى أرض معشوشبة نتصيد ، ثم ركبنا خيولنا مع الملك وبلغنا جبل ثور الدنيا.

جبل ثور الدنيا

العظمة لله إنه لشامخ وصعدنا فى هذا الجبل ساعة فلقينا من ذلك مشقة ونصبا ورأينا فى الصخر الأحمر تمثالا لثور «حامل الدنيا» سبحان صانع القدرة إن الله يظهر عجائب صنعه لعباده ، وعلى عمود أحمر يقدر بثلاثة آلاف عمود فى آيا صوفيا أقيم تمثال لثور «حامل الدنيا» ، وله بطن كأنها جبل عظيم وعلى رأسه قرن وله قرون لا تدخل تحت حصر مما أثار دهشتنا ومضينا بخيولنا حوله ساعتين ولكن بمشقة ، وفى وقت الغروب عدنا إلى خيامنا ، وعند بزوغ الفجر قمنا مع الجند ، ومضينا ثلاث ساعات ومكثنا فى أرض معشوشبة وهناك رأينا تماثيل الحوت العظيم حامل الدنيا ، وفى هذا الجبل تماثيل كأنها تمساح البحر المحيط الواحد منها فى طول ألف وستين رجلا ، إنه يشبه جبل دماوند وقد زين جسده بالقشور ، وهو بجانب بحيرة ، وقال من صنعها أنه صنع شيئا منقطع النظير فى الدنيا بأسرها وتجاوزنا هذا الموضع وفى الغرب منه تماثيل الملائكة المقربين.

تماثيل الملائكة المقربين

وفى واديين هناك أربعة تماثيل قد نحتت فى الصخر الأبيض ، هذه التماثيل (وهى بلا تشبيه) لجبرائيل على صخرة وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، إنها أجسام بلا أيد ولا أقدام ولا رءوس ، ولا وجود لأعضاء الحواس ولها وجوه مستديرة ، ولهم صور مختلفة الألوان ، وهى سحر إعجاز وقد شاهدناها ، وبالقرب منهم وادى نار الجحيم.

وادى نار الجحيم

على جانبى هذا الوادى تماثيل من الصخر لثعابين وحيات وعقارب وحيوانات عجيبة كما يوجد تمثال لساحرة إذا رآها الإنسان انخلع قلبه رعبا ، إنه واد يسمى وادى جهنم وكدنا نهلك بين صخرتين ، والله يعلم عددها ، وفيها الثعابين والعقارب وكل جندى

٤٣٣

يشاهدها يصيح : ثعبان وبه روح ، أما الذين لا روح لهم إذا ما خرجوا من الوادى ردت عليها أرواحها ، وبالقرب من هذا الوادى وادى المأوى.

وادى المأوى

إن هذا الوادى هو درة الجنة وكأنها إرم ذات العماد ولقد ازدانت بأنواع الأشجار ، وفيها أنهار جارية وعلى جانبيها مقاصير من الرخام سكنها غلامان وجوار وليس فيها تماثيل لإنسان ، وقد سكن هذا الوادى فى شهر يوليه حيث فيضان النيل أهل رميله لمدة ثلاثة أشهر وعاشوا فى نعيم ، وبينما السلطان يتناول طعام الإفطار فيها والبلابل تغرد تغريدا تطرب له القلوب ، وغادرنا وادى المأوى ومضينا فى الصحراء غربا.

تماثيل الثعابين العجيبة

هناك تنين له سبعة رءوس ، وكل رأس من رءوسه يرتفع فى السماء ، ولكن كلا منها متصل بالآخر ، وهذا التمثال من الحجر وكل قدم من أقدامه يتسع لعشرة رجال ولكل منها أظافر منفرجة ، أما جسمه فهو بتمامه من الحجر الأحمر ، أما قدماه الخلفيتان فيتسع كل منها لعشرة رجال ولها مخالب متفرقة ، وكل مخلب يشبه سنان رمح وفمه واسع كأنه الغار ، إن جسمه كأنه جبل أما ذيله فيتصل بظهره والمسافة بين قدميه الأماميتين والخلفيتين بمقدار سبعمائة خطوة ، وقد رأى غلام لى فمه من الداخل فقال : إنه مثل غار الجحيم ولكن قال الملك أن قصة موسى وفرعون مسطورة فى جميع الكتب وكان فى مدينة رميله ساحر ، فبعث إليه فرعون قائلا : (وأنت أيضا أظهر معجزة وأحضر لتكون فى عوننا وأنت أظهر اليد الطولى وائت بثعبان ذى سبعة رءوس) ، وهذا الثعبان من الحجر الأحمر وليكن ذيله مثل قوس قزح ، وليتحرك إلى موضعه فى الجبل وإذا ما تجاوزه ومضى إلى المرج أصبح من حجر ، وشاهدنا العجائب والغرائب فى هذا الموضع ففيها آثار لعاد بن شداد وقوم ثمود ولقوم جان بن جان علامات عجيبة وإذا ما دونتها فى كتاب فلقد شاهدناها وعلمناها علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وتصيدنا فى الصحراء وبعد خمس ساعات بلغنا جبل شوام.

٤٣٤

جبل شوام

فى أسفل هذا الجبل ماء جار وأنه ينبع منه ويجرى شمالا نحو مصر وقد عرفت مقدار ارتفاع هذا الجبل ، وسرنا النهار بطوله وقطعنا سبعين مرحلة وبلغنا عند خط الاستواء ، ولم نصل فى ذلك الموضع ، ومن مصر حتى بلغنا جبل شوام على مدى مائة وثمانين مرحلة على ضفة النيل شاهدنا المدن والقصبات والقلاع ، وعدنا إلى مدينة فرانيه ومكثنا مدة شهرين بها وشهر ونصف فى السودان وفى بعض مواضع فى سنار توقفنا ، وبلغنا جبل شوام وبعد ثمانية أشهر ، وفى الثالث من ذى القعدة عدنا بحمد الله سالمين معافين إلى السودان ، ولكن فى هذه المنطقة ينهمر المطر انهمارا بحيث تجرف السيول الفيلة ، وستة أشهر أيام الخريف يصبح الجو كأنه جو تركيا فغادرنا جبل شوام وانتقلنا شمالا لمدة خمس ساعات.

أوصاف ولاية مدينة جرسينقه

وبيان منابع النيل

إنها ولاية عظيمة ، ولها ملك بربرستان وفى قديم الزمان كان لها ملك مشهور ، ولكن دولته دالت ، فتبعت فونجستان ، إنهم قوم مسلمون على المذهب المالكى واسم ملكها الآن سان الله خان وقد استقبلنا فى معيته مائة ألف جندى ولسلطان الفونج من الهدايا حمل أربعين فيل وحمل مائة بعير ، ولقد ضيفنا الملك ثلاثة أيام وقدموا لنا وللخان الهدايا وغاب جنودنا وما أكثرهم فى بلدة جرسينقه لأن جميع البيوت هناك كهوف فى الجبل من الرخام الأبيض ، وهم ينشئون الكهوف فى الصحراء والجبال ، وليس فى هذه المنطقة زروع ولا نباتات إنها جميعا جبال وصحارى وطبق الآية الكريمة : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] يتربى فتيانها وهذه الآية تبين حكمة الله عزوجل تلك ، وقبل شهر يوليو فى كل عام تحمر السماء وتمطر ترابا كالعنبر ، ولكن ترابها بعد ذلك يصبح صخورا فى تلك الأرض ويصبح كل اثنين أو ثلاثة صخور أرضا يملكها الناس ويزرعونها ليل نهار وأكثر ما يزرعون الذرة ، لأن

٤٣٥

محصول الذرة محصول وافر وينزل من السماء مطر فتصبح الصحراء أرضا ذات زرع ، وتسقى جميع الحدائق بأمر الله ، وفى اليوم الأربعين ينضج المحصول ويجمعونه ويضعونه فى مغاراتهم وينال كل منهم نصيبه منها ويستخرجون منه زيت الذرة ، ويزنونه ثم يضعونه فى المغارات ويسدون عليه الأبواب بحجر واحد ولا يبدو بين الحجرين قطرة ماء ، وتسد أبواب الكهوف ولكنها تذوب فى شهر وتنهمر الأمطار ثلاثة أشهر ويجرف السيل أكوام من التراب من هذه الولاية ويصب السيل فى النيل ، ولكنه يجرى ويفيض من جديد ، ويعود يحمل التراب الأحمر فى ماء النيل ويغمر أرض مصر بهذا الطين مدة ثلاثة أشهر ، وإذا ما انحسر ماء النيل زرع الفلاحون أرض مصر ، وبذلك يتحينون الفرصة لما يعود بالنفع وتنحسر المياه فى شهر يوليه وتزيد فى النيل والطين الأحمر الآتى من ولاية جرسينقه الممتزج بماء المطر هو سبب حمرة أرض مصر ، ويبعد نبع النيل عن ولاية جرسينقه جنوبا مسافة طويلة وهذا ما مر بسمعى بيد أنى لم أستطع الذهاب إلى هناك ، ولله أحمد أنى شاهدت ما على ضفة النيل من عمائر وقلاع ومدن عامرة وآثار غريبة وعجيبة ، وبذلك أتممت السياحة ، وعند نبع النيل قوم يفدون على مدينة جرسينقه ويحضرون معهم سلع مثل البن ومثل البز الخاص بالقمصان وبطانة الثياب ، والقطران ، ولقد أخذت بأطراف الأحاديث فحكوا لى ذلك ، وقالوا أنهم حين يتوجهون من نبع النيل إلى مصر لا يأتون برا لأن الطريق جد مخوف ، ففى الطريق ثعابين سمها زعاف ، كما أن بها الثعابين والحيات والعقارب والفيلة ووحيد القرن والأسود والنمور والفهود والعقاب وغير ذلك من الضوارى ، وهى أرض حجرية جبالية ، وليست عامرة ولذلك يستحيل السير فيها.

وثمة محلة تسمى سنجره ، وأهلها لا يعرفون الدين ما هو ، وإذا رأوا إنسانا غيرهم قبضوا عليه وشووا لحمه وأكلوه. والنيل ينبع من جبل القمر ويبلغ هذه المحلة حتى إذا يختلط بماء البحر الأبيض ، وبذلك يختلط النيل بالبحر العظيم ولا وجود لأنهار أخرى هناك ، وينشعب من النيل روافد وروافد ويجرى فى ولايات ويرويها ، وإذا ما خرج

٤٣٦

النيل من جبل القمر جرى شمالا وينشعب فرعين أحد فرعيه يمضى إلى قوم سنجره العصاه ويمضى الفرع الغربى إلى البقاع التى يحكمها البرتغاليون ويقولون نحن نسكن البقاع التى يحكمها البرتغاليون ، ونحن على ذلك منذ سبعين عاما ، لقد أتوا بمدافعهم وبنادقهم إلى ولايتنا واستعمروا ، ونحن نؤدى الضرائب والخراج إلى الملك.

وخرجنا من هذا الموضع بعد أن استولوا على ديارنا وخوفا من الحيوانات السامة ركبنا القوارب فى النيل الذى جرى فرعه ومر بمدينة لاجنه وتجمع ماءه فى بحيرة عظيمة عذبة الماء ، وفى جوانبها الأربعة قوم من سبع أجناس والبرتغاليون لم يستولوا عليها ، ويجرى النيل ثم يلتقى فى مجرى واحد ، وقالوا نحن نمضى إلى هذه الديار ، فقلت : أنتم تبلغون نبع النيل فسألته عما شاهدوا هناك فقال : ذهبت إلى هناك ثلاث مرات ، فقال : الطريق إلى مدينة لاجنه يقطع فى عشرة أيام ، وفى البحيرة قوارب تبحر إلى مدينة القمر وقد وقع يرزكجن ابن عمى فى أسر البرتغاليين ، وأحضرت لإطلاق سراحه سن الفيل ، وأن مدينة القمر مدينة عظيمة ، وقد بنى سليمان فى هذه المدينة على جبل القمر عند نبع النيل ضريحين وقصرين وشيد المدينة على سفح الجبل ، ويقولون أن آثار ما أقامه من أبنية ماثل للعيان وللآن نبع النيل فى حوزة البرتغاليين وينبع النيل من جنوب جبل القمر ، إنه جبل شامخ مخوف وعلى بعد سبع مراحل من جبل القمر جنوب البحر المحيط والبرتغاليون لقربه من البحر استولوا على مدينة وجبل القمر ، ولقد أطلقت سراح ابن عمى من أسر البرتغاليين ، ومن مدينة لاجنه خرجت فى تجارتى إلى مدينة جرسينقه ورأيت سلطان الفونج كما رأيتكم ، ومضى إلى حضرة الملك وقبّل الأرض بين يديه فقال من مع الملك : نعلم أن هذا الرجل من تلك الديار وهو مسلم صدوق القول ، وقد سافر إلى تلك البلاد طولا وعرضا ، ويأتى ويذهب فى تجارته كل عام إلى فونجستان ، وقالوا : أنه رجل موضع ثقة ، وقد استولى البرتغاليون فى غرب مصر من مضيق سبته إلى منبع النيل فى أرض عند زيلع ، وكانت سواحل مصر فى حوزتهم وعلاوة على الهند استولوا على ستة آلاف جزيرة ، وقد عرفت من هذا الرجل

٤٣٧

أن عند منبع النيل مواضع يقيم فيها الكفار ومخاطر كثيرة وأراضى لا عمران فيها ولذلك زهدت فى الذهاب إلى نبع النيل وسوف تكون وجهتنا فى ولاية جرسينقه إلى الشمال ، ولأن ما أمكن الوصول إليه من الإقليم الأول تسع وعشرون درجة من الجنوب ، وشاهدنا مدينة جرسينقه ورأينا أن فيها العجائب والغرائب وأنها نهاية حدود السودان ، وفى الجانب الجنوبى منها ولاية لاجنه ، وفى الجانب الشرقى ولاية دونق ، وفى الشمال حدود سلطنة دومبيه ، والجانب الشمالى أيضا حدود الحبشة ، ويجاورها شمالا بربرستان ، وفى الغرب ولاية فردان ويسكنها عبدة النار.

وعدت من ولاية جرسينقه إلى فونجستان ، ورجوت ملكها وقلت إننا كنا نريد أن نبلغ نبع النيل بيد أننا لم نحقق رغبتنا واعترانا اليأس ولله أدعو أن يتيح لنا المضى فى مائة رجل إلى مراكش وإلى فاس ومدينة قرطبة ومدينة طنجه ومنها إلى الجزائر وتونس وولاية طرابلس ومنها إلى مصر ، وأن نحمل معنا الهدايا لنزور أرجاء مصر كلها وأظهرنا ملك فونجستان على رغبتنا هذه وطلبنا منه الإذن بتحقيقها ، وألححت فى الرجاء ، فوقف الملك وقبل يدى وقال قد كتبت لك إلى سلطان مصر رسالة فيها الإذن لكم بمشاهدة كل الولايات ، وأن تشاهدوا جميع الآثار ولتبعثوا بأخينا العزيز أوليا معزّزا مكرّما إلى مصر إن تريدوا الذهاب إلى مراكش وفاس وهذه الأطراف ليس فى حكمى ، وهى لا ماء فيها وينعدم فيها الأمان ، وسيقولون لكم إن رجلا أبيض البشرة مثلكم لم يقدم هذه البلاد ولم تقع على مثله عيننا فتقع فى الأسر ، وسيعجبون لرؤيتكم وسوف يوجهون إليكم الكثير من الأسئلة فى كل يوم ، فذهابكم إلى هناك غير ممكن إن فاس ومراكش هى نهاية حدود جزيرة مصر وطريقكم مسدود وبيننا وبينها مراحل تقطع فى خمسة أشهر وهى طرق صحراوية وكل من فى معيتكم وخدامكم سوف يتأذون من شدة الحر فساءنى ذلك كثيرا ، وفى ذلك دعوت الله واستخرته فأخذنى النوم فجأة فرأيت فيما يرى النائم جملا صغيرا وعليه رجل يلتفت يمنة ويسرة وهو يسير بين فيل ووحيد القرن ورأيت فى غابة عظيمة جملا كبيرا ففرّ الجمل الصغير فدخلنى فزع شديد ، وورد على خاطري قوله تعالى :

٤٣٨

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣] فتلوتها ففرّ الجمل من فوقى وعادت إلىّ روحى وأمسكت بالجمل مع رفقائى ثم استيقظت من منامى وبالإلهام فسرت هذا الحلم ؛ فعرفت أن من الخير ذهابى إلى مصر ، وصرفت فكرة الذهاب إلى مراكش وفاس ، وفى الصباح تناولت الفطور مع الملك ودقت الطبول وشد الرحال فغادرنا مدينة جرسينقه واتجهنا شمالا بعيدا عن النيل لمدة ست ساعات ، وبلغنا وقت السحر فى صحراء خلامه وشمالها على مسيرة ثلاث عشرة ساعة مدينة جنجفه.

مدينة جنجفه

قد بنيت فى عهد سليمان عليه‌السلام وآثارها دارسه ، وبها بيوت من قصب وثلاثة جوامع ودكاكين وحاكمها سدان لديه عشرة آلاف جندى وغادرناها فى منتصف اليوم بعد عشر ساعات وبلغنا مدينة رميلت الجمال ، وهناك مكثنا يوما ومنها انطلقنا شمالا على ضفة النيل وانتقلنا من قلعة إلى قلعة ومن مدينة إلى مدينة ، ونلنا الهدايا من حكام القلاع والخانات وأعيان الولايات والسلاطين ، وخرجنا للصيد وبعد خمسة وأربعين يوما دخلنا مدينة سنار عاصمة فونجستان وخرج أهلها لاستقبالنا وأطلقت المدافع من القلعة ترحيبا بمقدمنا ، وبقيت فى دارنا أسبوعا كاملا ثم طلبنا الإذن بالرحيل إلى مصر ، فاحتفى الملك بنا وقال على الرأس والعين ، وأمر السلطان لنا بخمسة جياد ومن فونجستان عشرة طواويس وعشرة غلمان وعشر جاريات سود وعشرة أحمال جمال من المؤن وعشرة صناديق من المرجان والعقيق وحجر سيلان الثمين وجوهر عين الهر ومسك وعنبر وحبات سبحة من اللؤلؤ وسيف من سيوف الصحابة وخيمة منقوشة ومائتا صحن من صحون سنار وكؤوس ، ودعا لنا بكل خير وأمر بإحضار السيف والوزير فى معية ألف جندى حتى قلعة أرياجى لأخى السلطان وأعطانا الرسائل ، وفى الصباح غادرنا سنار ورافقنا الملك مرحلة كاملة وعانقنا الملك وودعنا وعزمنا على متابعة السير شمالا حتى الفونج وتلوت الفاتحة وسرنا ثمان ساعات وبلغنا مدينة بقيث.

٤٣٩

مدينة بقيث

سبق وصف هذه المدينة كما سبق ذكر قلعة عطشان كما أسلفنا وصف قلعة مدينة أرباجى ، وفى تلك المدينة قال لنا أخو سلطان فونجستان : من ذا الذى سلخ جلد وجوهكم وعيونكم ، وأنتم ضيوفنا ، وقدّم إلينا رفيقا وكلّفه بالقيام لخدمتنا وعاد ، ومن حكمة الله أنه إذا أراد شيئا هيأ أسبابه إذن لكل شىء لا بد من سبب ودليل ذلك من الآية : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً* فَأَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف : ٨٥] وكأنما شاءت قدرة الله أن نمضى إلى ديار أخرى ، وقدم على الخان الذى كنا فيه خمسة أو ستة من الزنوج يجيدون التكلم بالتركية فدار بيننا وبينهم كلام طويل ، ربما كانوا من جند الحبشة ثلاثة منهم من رجال ملك الحبشة ، ومنهم من كان وكيل محمد أغا وهؤلاء قدموا تلك الديار للتجارة ، وقد كرمنا تكريما ، وسألت كم يوما يستغرق من الحبشة إلى تلك المدينة فقال : يستغرق الطريق عشرين يوما ، فتحمست لذلك إلا أنى أخفيت عنهم الرغبة فى المضى إلى الحبشة ، إلى أن شاء الله لنا أن نرحل إلى الحبشة ، وقلت إن شاء الله سيكون ذلك يوم الخميس فقلت : يسّر الله لنا أمرنا فركبنا فى السفن ومضى ما نحمل من هدايا للملك ومع خمسة من رجالنا فأدرك التعب اثنين منهم ، فتلبثنا فى مدينة أرباجى وقد أصيب أحدهم بالسحر ، ولم يستطع المضى إلى السفن لركوبها ومضت أربعون يوما على ذلك ، وفى اليوم الثالث سمعنا أنه قادم إلينا وقدم القلعة وهو يزحف زحفا لضعفه ، فبقى وقد اشتد بنا التعب وقلت لآخرين أن يحضروا ومن الغد قدّم إلينا أخو الملك ثلاثة جياد وعشرة من الإبل ومؤنة وخمس جوار وخمسة عبيد من الزنوج وست أزواج من سن الفيل ، وخمسة أزواج من سن وحيد القرن ، وخيمة وقط مسك وجلد نمر وتهيأ ذلك فى الغد فارتحلنا إلى الحبشة.

* * *

٤٤٠