الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

ومن العجب

أنه إذا ما دفن أحد فى هذه الربوة من الرمال أصبحت عظامه حجرا بعد سبعة أيام ، وهذا من عجيب صنع الله يفعل الله ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد بعزته : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤]. وقلعة أسوان هذه على شاطئ النيل لها سور عظيم.

حائط العجوز الساحرة

كل حجر فى هذا الحائط حجمه من أربعين إلى خمسين ذراعا ، وكأنه سد الإسكندر ، إنه من قطعة واحدة ، وفى أسوان علاوة على هذا البناء فى خرائب أسوان آثار لعمائر يحار عقل من يشاهدها وعليها كلام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شهادة على ـ رضى الله عنه ، وكرم الله وجهه ـ كما أن كلاما لعلى فى الجفر.

وقد أخذت ذلك من مختصر كتاب مفتاح الجفر للشيخ العلامة كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة غفر الله له ، وقد ذكر على ـ رضى الله عنه ـ : (أن أشراط قيام الساعة عند اقتراب آخر الزمان أن أسوان سوف تتخرب بعد أن عمرت من قبل) وهذا كلام على ـ رضى الله عنه ـ ، ومن قوله أيضا : (إذا عمرت أسوان من قطر مصر فى آخر الزمان بالياء ثم العين يظهر بمصر الخصيان ، وتحكم النسوان ، وتفسد عليه السلطان ، وتكثر الغربان ، ويختل نظام صاحب الديوان ، وتقوى شوكة الجيم ، وذلك إذا حصل القران فى برج الهوا ، وبعثر ما فى القبور ، وحصّل ما فى الصدور ، وصار الآمر مأمور) وسبب هذه الإشارات ما نقل فى تاريخ ابن مهدويه أن عمرو بن العاص وهو عامل مصر عند فتوحها كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ يبشره بفتح مصر وذكر له صفتها وعدة حصونها المشهورة ، وأن من جملة حصونها بالوجه الجنوبى قلعة تسمى أسوان على قرب نيلها حصينة مانعة رأينا وجه الصواب فى هدمها حتى تنقطع أطماع الكفار منها فهدمناها حجرا حجرا فلما بلغ الكتاب إلى أمير المؤمنين عمر ـ رضى الله عنه ـ فقرأه واستوفاه ثم قال حضرت علىّ ـ رضى الله عنه ـ نعم بذلك أخبرنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندى خبر هذا وستعمر فى آخر الزمان عمارة حصينة على يد

٣٦١

ياء ونكّره ثم عين ، ولم يصرح باسم أحد غير أنه ـ رضى الله عنه ـ أشار إلى حرفين صديقين لا منافرة بينهما وهما الياء والعين فالياء حرف ترابى والعين حرف مائى ، ومن المعلوم أن الماء والتراب صديقان ، وهما أعظم آلات العمارة ، فإنه يفهم من قوله بالياء ثم العين أن مراده تعريف اسم من يتولى أمر عمارتها صدق على الرّضىّ السخىّ.

وفى أسوان كثير من رموز لكنوز ، لأن أسوان بلد من سبعة بلاد على وجه الأرض ، لقد شاهدت أسوان ولكنى لم أجد فيها وقتا لراحتى لأن فى أرضها مئات الآلاف من كبار الأولياء والشهداء والصحابة الكرام الذين قدموا من مصر مع الفتح ، ولهم قبور لا سبيل إلى حصرها لكثرتها ، وقد قرأت سورة يس لأرواحهم الشريفة ، وشاهدت فى جنوب أسوان على ضفة النيل سدود خيط العجوز ورأيت التماسيح فى جزر الشلالات ، وبعد أربع ساعات وصلنا إلى شلال المضيق.

أوصاف شلالات المضيق

إنه لشلال عظيم ، وهو مشهور لدى العرب والعجم والروم ، وقد سبق أن وصفناه ، وهذا الشلال به صخور يضرب لونها إلى الشّهبة. وفى هذه المحلة أعشاش الصقور والنسور والغربان ، وهناك جبل مهيب مخوف ، ويعبر التجار هذا المضيق ويذهبون إلى القرى ، والصخور فى هذا المضيق متقاربة ، وتلاطم مياه النيل يصم الآذان ، ورشاش ماء النيل يجعل الجو ممطرا ويصاب من على مقربة منه بالبلل ، وإذا حل الشتاء وغاض ماء النيل ظهرت أحجار كأنها قباب الحمامات ، ويدفع الماء الإنسان من صخرة إلى صخرة ويستطيع أن يعبر بين الضفتين ، وفى سالف الدّهر حينما كان هذا المضيق مسدودا ، كان النيل ينشعب إلى رافدين فيجرى فى ترعة إلى إقليم الحبشة وفى الأخرى إلى إقليم علوى واختلط ماؤه بماء البحر الأحمر بواسطة السواقى على الترعة التى تتجه إلى إقليم الحبشة وآثار ذلك اليوم باقية فى موضعها.

وبعد الطوفان أحاط سيف بن ذى يزن بعلم الهندسة وشتى العلوم والفنون ، وأنس برأى الكاهنين صفوايم ومحرايم ؛ فشق فى الجبال شقا ، أما سبب جريان النيل إلى مصر الآن فهو مردود إلى سيف بن ذى اليزن ، وكان جريان النيل إلى مصر سببا فى

٣٦٢

عمرانها وخصوبة أرضها وأصبحت الحبشة والمغرب صحراء ، وقد اجتمع المؤرخون على القول بهذا ، وقد رأيت أثر جريان النيل فى سالف الدهر حفرا فى الأرض ، وكانت منطقة الشلال قديما معمورة فكان فى أسوان حدائق وجنات ألفافا ، وفيها كذلك أثر للعمائر.

وقد دعا موسى ـ عليه‌السلام ـ الله على الفراعنة والكهنة والسّحرة فى هذا المكان ومصداق ذلك قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، فتخربت عليهم مائتا بيت.

وثمة جامعان عظيمان قديمان بها ، ولكنهما مع ذلك لا يخلوان من المصلين ، وليس لهما بهاء سائر الجوامع ، ومنهما جامع سيف بن ذى اليزن والآخر جامع عمر ـ رضى الله عنه ـ ولا وجود لسوق ولا خان ولا حمام ، وخرير النيل هناك من الشدة بحيث لا يمكن السّكنى إلى جانبه كما أن الواحد لا يسمع كلام الآخر ، ولكى يمكن لإنسان أن يكلم آخر كلاما يسمعه فينبغى أن يرفع صوته مثل الچاووش ، ويقال إن سبب هذه الجلبة هو أن للنيل رعدا ، وقد غادر السكان هذه المنطقة لأن رشاش النيل يهبط عليهم كأنه الرزاز ويصيب ثيابهم بالبلل.

أوصاف قلعة أبواب

بناها ذو اليزن إنها رباط حصين مستدير على المضيق فى الجانب الشرقى من النيل فى أسوان ، وفيها يسكن قبائل القرح وفيها خمسمائة بيت بعضها من الحصير وبها جامع قديم ، وليس للقلعة رئيس ولا جنود ، وقديما على الصخور التى أمام هذه القلعة كانت تحصى الرسوم من السفن الرائحة والغادية ، وتلك السفن كانت تقف أمام السلسلة التى بين القلعتين حتى تدفع الرسوم المستحقة عليها ، وغادرت قلعة أبواب وانطلقت جنوبا على ضفة النيل ، ومضيت فى طريق كثير الأحجار وسرت فيه ست ساعات ، حتى وصلنا :

قبائل كنوزين

نزلنا ضيوفا فيها على الشيخ على الواسطى ، أما أصل تسمية هذه القبائل بهذا الاسم

٣٦٣

فهو أنهم عثروا على كنزين فى أراضى أسوان الخربة ، وقد قسموا الكنزين بالسويّة عليهم ، وجاءت قبيلة عربية من بعد على أثرهم وطلبت نصيبها إلا أنهم لم يعطوها من الكنزين شيئا ؛ فنشبت الحرب بينهم عبوسا شعواء ، إلا أن رجال القبيلة الذين طلبوا نصيبهم أعملت السيوف والرماح فيهم فسميت القبائل المنهزمة بقبائل القرح وسكنوا جزيرة الشلال وهم الآن على مذهب الإمام مالك ، ويدّعون أنهم من ذرية ابن ذى اليزن ولهم سبعة آلاف محارب ، وفى أول ليلة لنا هناك ضيّفونا وقدموا إلينا الذرة ولحم الإبل ولبن النوق فطعمنا وشربنا ، وهذه القبائل تمضى إلى الحبشة فى الربيع ، لأن منطقة الشلال جبلية متقاربة والزروع بها قليلة نادرة وهؤلاء القوم لديهم كثير من الأنعام فلذلك يمضون إلى الحبشة طلبا للمرعى ، ثم مضينا خمس ساعات وبلغنا قبيلة مهريّه.

قبيلة مهريّه

وحللنا ضيوفا على الشيخ حامد مهرى ، وبها ألف وخمسمائة فقير من سمر البشرة وثوبهم لا يعدو أن يكون ما يستر عورتهم ، وهم على مذهب المهريه وهم ينكرون الحشر والنشر ، ومضينا على ضفة النيل فى طرق ذات أحجار لا تتسع إلا لمرور رجل واحد وسرنا بينما يتبعنا الخدام ، وقطعنا هذه الطرق سيرا على الأقدام ، وقد شق هذا الطريق بن ذى اليزن ولا طريق سواه وبعد ساعتين بلغنا قبائل كلافيش.

قبائل كلافيش

ومعنى كلافيش : الشىء القليل ، وليس لهم خيام ، إنهم جميعا يسكنون الكهوف ، وقد دلنا شيخهم على غار فمضينا بخيولنا إليه وانصرفت عنا شدة القيظ ، إنه غار بارد النسيم ، وفى هذه المنطقة الصخرية ثلاثة آلاف من العرب المتمردين ، ولهم كثير من المعز وليس لديهم أنعام أخرى وطعامهم الذرة ولحم الجمل والتيش وهو كباب التماسيح والمعز ، وهم يجامعون أنثى التمساح ويقولون إنهم حين يجامعون أنثى التمساح يتحلب ريقهم وأنهم قوم جبابرة أشداء من أكل لحم التمساح ويستخرجون من مرارة التمساح حجرا ، وإذا أمسكوا بهذا الحجر استطاع الواحد منهم أن يجامع زوجته أربعين أو خمسين مرة ، وإذا كان هذا الحجر كذلك عند نسائهم فإنهن كذلك لا تهدأ شهوتهن ،

٣٦٤

وهذه البقعة لا وجود للترع فيها ولذلك ليس لديهم إلا البرسيم والتمر ، وعندهم من نبات الذرة ما هو أحمر اللون وهم قوم صيادون يمضون إلى جبال الحبشة ، ليصطادوا الفيلة ، وليجمعوا سن الفيل ووحيد القرن ليأخذوا قرنه ليبيعوه ، ذلك ومضينا عنهم على ضفة النيل جنوبا وشاهدنا جبالا شامخة وصخورا ضخمة وبعد عشر ساعات بلغنا عشاير أبو حور.

عشاير أبو حور

إنهم قوم من العرب سود البشرة وزنوج وفقراء ولا يعرفون دينا ولا حشرا ولا نشرا ، وقد تجاوزنا هذه العشائر ، ومضينا خمس ساعات وبلغنا قبيلة سنيال.

قبيلة سنيال

لهذه القبيلة فى الصحراء متراخية الأرجاء أخبية وخيام ، وهم ألفا رجل من المسلمين ولأنهم من العرب فإن وجوه نسائهم مكشوفة ومكثنا فى خيمة شيخ العرب عبد المجيد وقدموا إلينا الأنفحة ، ثم ذبحوا لنا ثلاثة خراف ، وأكرمونا إكراما عظيما ، وأعلفوا خيولنا الذرة البيضاء ، ورأينا جنديا مصريا يلبس حمر السراويل فاطمأنت قلوبنا لعله كان جنديا من إبريم وقدم إلينا بعض رغفان فأكلناها لأن ما كان لدينا من خبز نفذ فأكلنا الزبد بالخبز فكأنما ردت علينا روحنا ، والنيل فى هذه المحلة ينقسم إلى مضايق ، ثم دخلنا فى إقليم إبريم فى طريق حجرى ومضينا فيه سبع ساعات جنوبا بين الصخور حتى وصلنا :

بلدة كوشتامينه

بها مائتا بيت من قصب ، وأهلها مطيعون منقادون ، وبها زاوية ومقهى وفيها قبيلة من عرب كنوز تسكن الخيام ، ومضينا جنوبا خمس ساعات فوصلنا :

بلدة كورت

وفيها ثمانية وسبعون بيتا من قصب وزاوية ، وليس بها مقاه ولا حانة للبوزه ، وبها أيضا قبيلة من عرب كنوز تسكن الخيام ، وهذا الموضع هو حد عرب كنوز وهم لا يمضون إلى إبريم لأن النيل فى هذه المحلة على ضفتيه مروج تزرع بها اللوبياء والبطيخ وبعد خمس ساعات بلغنا بلدة سبوع.

٣٦٥

بلدة سبوع

نزلنا عن خيولنا لنشاهدها ، وسقنا الخيول إلى الصحراء وتجولنا ساعة فيها لنشاهدها وعلى ضفة النيل آثار فيلة من الصخر ، وأسود نحتت من الحجر إذا شاهدها الإنسان دخله الخوف الشديد ويظن أن هذه الأسود أسودا حيّة ، إنها تماثيل متقنة الصنع وعلى ضفة النيل كذلك جمال من الحجر الأسود وتنانين لها سبعة رءوس منها المنكس وبعضها ما ساخ فى الرمال إنها تنانين عجيبة وثمة أعاجيب أخرى ، ولكن ليس فى الإمكان ذكرها وربما تحارب موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون فى هذه المنطقة ، وقد صنع سحرته من سحرهم هذه العجائب ، وقد أوحى إلى موسى آية : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الشعراء : ٣٢] ، وألقى موسى عصاه المتعددة الرءوس فإذا هى حية تسعى فابتلعت الحية ما صنع السحرة والكهنة بسحرهم من أسود ونمور وتنانين ؛ فهزم فرعون وتعلق بأذيال الفرار ، ولعل ما رأينا من هذه التماثيل هى بقايا هذه الوحوش التى صنعها سحرة فرعون ، وهى التى أصبحت من بعد حجرا بأمر الله ؛ ويسمون هذه البقعة (سبوع) لوجود الأسود بها وفى العربية مائة وثمانون اسم للأسد منها (سبوع) وقد شاهدنا هذه البقعة وتجاوزناها ومضينا أربع ساعات جنوبا ، على شاطئ النيل واجتزنا الصحارى حتى وصلنا :

وادى العرب

اسم محلة واسعة ، وهى سهل ذو مروج ، ويجتمع جميع العرب فيه مرة كل عام ، وفيه يدوم البيع والشراء سبعة أيام وسبع ليال ، ولذلك يسمى وادى العرب ، وعبرنا أراضى خصبة فى الجنوب وبعد أربع ساعات بلغنا تخت أزرق جادو.

أوصاف مدينة تخت أزرق جادو

بناها فرعون أزرق جادو وبعده فتحها ذو النون ثم استولى عليها القبط ودامت فى حوزتهم مئات السنين ، ثم فتحها الأسود بن مقداد قائد عمرو بن العاص ، ثم استولى عليها أهل بربرستان وفونجستان ، وفى عهد السلطان سليمان كان والى مصر الطواشى سليمان باشا فاتح الهند واليمن وأخذ ميناء ديواباد الهندى من البرتغاليين والفرنجة

٣٦٦

وقدمها إلى ملك الهند ، ومضى إلى الحبشة فى أسطول وجعل على رأسه أوزدمر باشا وأمره أن يفتح الحبشة ومنها عاد إلى مصر ، ومن مصر خرج أوزدمر باشا فى جيش كموج البحر ففتح هذه المدينة ، وقلعة إبريم ، واستولى عليها ملك الفونجستان ، وفى هذا العصر ظلت هذه المدينة فى حوزة آل عثمان ، وهى تابعة لحكم جرجا وكاشف إبريم الآن مقيم بها ، ولكنها كانت تحت حكومة أخرى عند فتحها تحكمها ، وكان فيها منذ أربعين عاما فى حكم جرجه ثلاثمائة جندى وخمسمائة جندى من الفرق السبع ويتبعها جميع القرى وهى التزام يدر مالا وغلالا ، وكان يقوم بجمع المال والغلال ويقدمه لجنود القلعة والمستحفظين.

وهى قضاء يتحصل منه مائة وخمسون أقجة ، وبها مفتى على المذاهب الأربعة ونقيب أشراف ، ولكن ليس بها أعيان ، وعلى شاطئ النيل ألف ومائة بيت صغير ، ولا وجود فيها لقصور وأعلى الأبنية بها بيت قائد الفرق السبع والچورباجى وشكرباره خاتون والمصاحب على أغا وبيوت للحراس هنا وهناك ، وبها عشرون محرابا تؤدى فيها صلاة الجمعة علاوة على الزوايا ، وليس فى هذه المدينة خان ولا حمام ولا سوق للبز ، ولكن فيها ست مكاتب للصبيان وسبعة سبل وخمسة عشر دكانا وثلاث مقاه وستة حانات للبوزه ، لأن جو هذه البلدة مناسب ففى شدة الحر تطرب البوزه الجسم كما تدفع الجوع والعطش لشرّابها ويصنعون فيها بوزة الذرة كأنها ماء الورد ويشرب البوزه الكبار والصغار ، ولكن أكثرهم ضيق النفس وهم سمر البشرة لأن الحر فيها شديد ، ومأكولات ومشروبات هذه المدينة البوزه والذرة وماء النيل وشراب البلح وما سوى ذلك من مأكولات ومشروبات فيأتى إليها من جرجه ، وكانت هذه المدينة مدينة عظيمة فى قديم الأيام ، ولذلك فإن بها آثارا تدل على عظمتها ، وداخل وخارج هذه المدينة كثير من الضرائح ، لأولياء مشهورين وقد زرنا ضريح الشيخ (هو) ولأن هذه المدينة تابعة لولاية أزرق جادو ، فنساؤها يشتغلن بالسحر ويسحرن الرجل حمارا ، وقد ابتلى بهذا كثير من الرجال ، وقد سحرن حتى أحد متفرقة الباشا فإذا هو بين الرجال فى المقاهى وحانات البوزه حمار ، وقد مكثت فى قصر الكاشف يومين ، ثم مضيت لمجىء كاشف أبريم ، ومضيت جنوبا على شاطئ النيل فسرت لمدة ساعتين وبلغت قلعة إبريم القديمة.

٣٦٧

أوصاف قلعة أبريم القديمة

بناها المقوقس ملك القبط ، وقد حاصرها وفتحها عمرو بن العاص وكعب الأحبار وأبو عبيدة بن الجراح وجابر الأنصارى وأبو هريرة وسارية الجبل وأسود بن مقداد وأمثالهم من الصحابة الكرام ، إنها قلعة حصينة متينة وقد بناها شداد على ربوة مشرفة على النيل وهى صغيرة وحصينة وخماسية الشكل ومحيطها ثمانمائة خطوة ، ولها باب واحد مفتوح على الجهة الشرقية ، وفى داخلها ثمانون بيتا صغيرا وكبيرا ، وفى وسطها جامع قديم الطرز ذو منارة ، إنها لسليمان خان ، لأن فى عهد سليمان تم الاتفاق مع البربر والفونج على حيلة للاستيلاء على هذه القلعة ، ودخلت فى حوزته ومن بعد صار الطواشى سليمان باشا واليا على مصر ؛ فجعل أوزدمر باشا قائدا له ، ففتح القلعة قهرا فى عشرة أيام ، وقطع رءوس من فيها من البربر والفونج فأصبح لونهم أسود ، وفى هذه القلعة أقيم جامع سليمان خان ، وليس فيها سوق ولا حمّام ولا خان ، ولكن للقلعة رئيس ومائة جندى وفرقة موسيقية ورئيس القلعة طبق قانون سليمان لا بد أن يكون من طائفة المتفرقة ، ويأتى من مصر فى كل عام ثلاثمائة جندى كما يأتى إلى الكاشف ثلاثمائة مستحفظا ، وهم يحصلون على مال الدولة والغلال ولهم أقلام وأفراد ويأخذون علوفة قدرها أربعون كيسا سنويا من حاكم جرجه إنهم قوم شجعان ، إنهم يتحاربون ليل نهار كما يحاربون مجرمى فونجستان ، ومخزن الأسلحة فى القلعة مخزن عظيم ولهم أربعون مدفع وليس للقلعة خندق لأنها قائمة على أرض صخرية إن جوها لطيف ، ولكن فى جنوب هذه المحلة تحرق شدة الحر بيوتا للفقراء من القصب والحصير ، ولكن بحمد الله أن شدة الحر لا تؤثر على الإنسان ، ويجب التحرز من البرد فى وقت السحر ، وعلى الرغم من أن جميع الناس يأكلون من خبز الذرة إلا أنه فى هذه الديار ينفعهم كثيرا ، ويقيهم من مرض يصيبهم بالإسهال ثم الموت ، وليس فى هذه الديار طاعون ، وأكل خبز الذرة يشفى من الإسهال ، وأعيانهم يلبسون قميصا عليه شال أما متوسطو الحال فيلفون حول وسطهم مئزرا ، وعليه مئزر آخر ، أما الفقراء فيلفون حول وسطهم فوطة زرقاء ويمضون عراة أما نساؤهم فيأتزرن بإزار أبيض وأسود وعلى

٣٦٨

رءوسهن خمار أسود وليس فى تلك الديار جميل ولا جميلة لأن بشرة أهلها شديدة السمرة والبعوض كثير إلى حد أنه يقلق راحة النوام ليلا ، ولذلك ينامون فى شال رقيق اللهم عافنا ، وإذا ما تجاوز أحد حدود ممتلكات الدولة العثمانية استوجب القتل أو نفى إلى إبريم ، وصيف هذه المدينة معتدل ولشدة القيظ ينفون إليها المجرمين.

وأبريم تقع فى نهاية حدود ممتلكات الدولة العثمانية ، وفى الجانب الشمالى من تلك الحدود قلعة أزاق ، أما فى الجهة الشرقية فنهاية حد تلك الممتلكات العراق أما فى الجهة الغربية فحدودها مدينة بلغراد.

وثمة قلعة تسمى :

قلعة جاوغه

ولكنها فى ولاية لطيفة جوها كأنها حديقة إرم فليس فى أبريم حدائق ولا خلائق ، ولكن فيها جبالا سودا ، وإن وجد فى هذه الولاية حدائق يكثر فيها الشمام والبطيخ ، وكل كيلة من الذرة فيها تنبت مائة وخمسين كيلة ، ولذلك لا يزرعون إلا الغلال ، إنهم يزرعون الذرة البيضاء وحيواناتهم تعتلف الذرة ، وهذه البلدة تقع فى نهاية الإقليم الأول ، إنه على حد قول بطليموس على عشرين درجة وسبع وعشرين دقيقة ويطول النهار فيه ثلاث عشرة ساعة وثلاثين دقيقة أما طول الإقليم الثانى من الشرق إلى الغرب على حد قول الجغرافيين فهو ألفان وأربعمائة فرسخ ، وعرضه مائة وستة وثلاثون فرسخا وفى هذا الإقليم سبعة جبال عظام ، وهى مقاليد الأرض كما أن فيه ست وثلاثين صحراء لا يسكنها إلا قلة من الناس ، وأرضها ممتلئة بالحشرات ، وفيها ألفا مدينة ، خمسون منها مدنا عظيمة ، وفى جانبها الشرقى أولا بلاد الهند والسند ومنصورة وهيزة وكندة وجزيرة العرب ، ونجد وتهامة ويثرب والحجاز وديار فلزمك ، وفى الجانب المقابل من بحر القلزم الحبشة وزيلع وسواكن وفى أرض بربرستان قلعة إبريم ومدينتها ومدينة دونقلا تخت بربره ، وبها تنتهى الأرض الأفريقية والمصرية والبقلية ومقابل المغرب كفار البرتغال وهم على شاطئ البحر المحيط ، وقد طوفت بكل هذه البلاد قدماء الحكماء طيلة عمرهم واستخدموا علم الإسطرلاب وعرفوا نعم الله وألفوا كتبهم وهى

٣٦٩

أطلس ، ومينور ، وجوغرافية وباريه وقولونيه وكتبوا عن أشكال الدنيا وقد طوفت أنا كذلك فى البلاد والقرى التى فى الممالك المحروسة ووصفت قراها وقصباتها ومدنها العظيمة وجبالها وأنهارها ومنازلها شمالا وجنوبا ولم أذكر إلا ما تمس الحاجة لذكره ونقلت المقال إلى الحال ، وذكرت أوصافها وأشكالها ونسجت على منوال أستاذنا نقّاش حكمى زاده على بك ولم يتيسر لنا زيارة بلاد الفونجستان بعد فما استطعنا الوصف عنها وأقاليم إبريم هذه تميل سبع درجات عن جهة الشمال.

وقد مكثنا فى قصر الكاشف أياما ثلاثة ، وشاهدنا القلعة والمدينة ومن أجل السفر إلى فونجستان تزودنا بالزاد والنوق وخمسة عشر جوادا يحملون الشعير وسائر ما هو لازم للسفر ، وقد تبادل الكاشف ورئيس القلعة والقائد والأعيان رسائل المودة مع ملك فونجستان وأمراءها وفى هذه المحلة تجار فونجستان وكانوا فى رفقتنا ، وركبوا ثلاثمائة حمار ، ومن جند القلعة سايرنا كذلك سبعون جنديا يحملون البنادق ، وألحق بنا الكاشف أربعين رجلا ، وجملين وهجينا وفرسا ، وودعنا جميع أحبابنا فى إبريم ، وخرجنا من إبريم قاصدين فونجستان مشاة وركبانا ، وبعضنا يركب الجمال والبعض يركب الخيل والبعض الثالث يركب الحمير ، وكان معنا من إبريم ثمانمائة رجل يحملون السلاح.

* * *

٣٧٠

الفصل الحادى والسبعون

بعد توديع ولاية إبريم توكلنا على الله فتوجهنا صوب فونجستان

بيان بمنازل وقلاع وبلاد وقصبات فونجستان

مضينا على شاطئ النيل فى أول الأمر ولكن النيل فى هذه المحلة يمضى متعرجا ، وبعد ثمانى ساعات بلغنا بلدة وادى حلفه ، وقد أقمنا خياما هناك مع ثمانمائة رجل ، وكنا ضيوفا تلك الليلة فى هذا الوادى إن وادى حلفه سهل معشوشب ، وعلى شاطئ النيل فى ظل شجرة جلست أنعم بالراحة ، وعلى ضفتى النيل فيها صخر أملس ، ومنها رأينا شلالات لا تمكن السفن من العبور ، ثم رأينا فى يوم آخر سفنا كبيرة وهى تجرى ، وغادرنا وادى حلفا هذا وعلى شاطئ النيل فى الشرق والغرب جبال وأدغال وأحراش مخوفة ، فطوينا مراحل فى أرض كثيرة الأشجار وكثيرة الوحوش ، وقضينا فى ذلك ثمانى عشرة ساعة ، ولم نشاهد الشمس ستة أيام ، لأننا كنا فى غابة أشجارها مثمرة وبها أشجار متقاربة من السنديان والسنط فهذه الأشجار حجبت عنا الشّمس ولكن ليس فيها أثر لأشجار بلاد الروم ، وفى اليوم السابع بلغنا قلعة صاى.

أوصاف قلعة صاى

هى آخر حدود ممالك آل عثمان ، وبناها أبرهة فى جزيرة واسعة بنهر النيل ، وقد توارثها ملوك بعد ملوك ، وقد فتحها عمرو بن العاص عام ٢٢ ه‍ بقيادة الأسود بن مقداد ، ثم استولى عليها الفونج وفى عام ٩٣٥ وفى عهد سليمان فتحها أوزدمر بك ، وهى قلعة حدود بناء على معاهدة أبرمت مع الفونج ، وقد وفا ملك فونجستان بعهده إلى يومنا هذا فما استولى عليها مخالفا لما تم الاتّفاق عليه ، وبما أنها واقعة على نهاية الحدود فإن المتمردين من فونجستان وبربرستان لا يكفوا عن مناوشاتهم ، وفى هذه البقعة يبدو النيل كأنه بحيرة واسعة ، وهى تبدو حصنا حصينا من الحجر الأسود مربع الشكل بناه شداد ، وفى البداية بعد طوفان نوح بناها الملك صاى بن مصرايم بن نقراوش وعمرها من بعده كثير من الملوك وبها الآن باب من الحديد يطل على النيل ، وقد أحضر أوزدمر باشا

٣٧١

هذا الباب من بلاد الحبشة ، وعلى عتبة هذا الباب صورة على الحجر الأسود لأبرهة ، وكأنه حى ولما دخلت هذه القلعة حيّيت بإطلاق طلقة من مدفع ، وقد رددت الجبال دوى طلقة ذلك المدفع التى حيّيت بها ، ومضوا بى إلى رئيس القلعة فجلست معه ولله أحمد أنى رأيت رجلا روميا ، وقال إن أعيان الولاية أكرموك ، وبعد ذلك قدمت إلى رئيس القلعة وقائد الفرق المصرية السبع كما قدمت إلى أعيان القلعة رسائل كاشف إبريم ، ورسائل حاكم جرجا ، وفرمانات الباشا فزادونى تعظيما إلى تعظيم ، ثم تجولت سيرا على الأقدام لأشاهد القلعة والمدينة ، ورئيس هذه القلعة هو من متفرقة مصر وله مائة وخمسون جنديا وثلاثمائة مستحفظ من فرق مصر السبع وفرقة موسيقية ، وفى كل عام تأتى مؤنتهم ورواتبهم من جرجه ، ولهم بارود أسود ومدافع ، وليس فى القلعة شيخ إسلام ولا نقيب للأشراف ، ولها قضاء يدر ستمائة أقجة. وبعض المحلات ألحقت بقضاء إبريم ، ويأتى نائب فى سفينة تحمل المؤن كل خمسة أشهر ، وفى القلعة خمسمائة بيت صغير من القصب والحصير ، كما أن بها جامع السلطان سليمان خان ، ومسجد أوزدمر ، وليس بها خان ولا حمام ولا مدارس ولا زوايا ولا مكاتب للصبيان ولا سبيل ، وفيها عشرة دكاكين وبها ثلاث مقاه وثمانى حانات للبوزه ، ولكن فيها بوزه مصفاة نقية وخارج القلعة مائة وخمسون بيتا من حصير ليس فيها حدائق ، ولكن فيها كثير من البساتين ، وفيها لذيذ من الشمام والبطيخ والخيار وعبد اللاوى وفيها نخيل هنا وهناك ، وفى هذه الولاية تنشعب من النيل ترع وفى الصحراء يقيم عرب حلفا وهم يزرعون الذرة والكيلة تنبت عندهم مائتى كيلة وتربتها خصبة ، وعرب حلفا هؤلاء قوم قبيحة وجوههم عابسون لا مذهب لهم وفى بعض الجهات يعلنون عصيانهم وتمردهم ، ويحاربون عسكر قلعة صاى.

وفى كل المواقع صحراء فيها الأسد والنمر والفيل ووحيد القرن والغزال وتيس الجبل والعقاب والثعبان وأنواع الحمر ، إنها مفعمة بالوحوش المخيفة حتى إنه يوجد داخل القلعة ثلاثة أسود وكل منها كان أسدا أسود له جئة الفيل ، وأنا لم أشاهد السباع ، وأثناء انحسار ماء النيل يعبره العرب بالجمال ، إلا أن ما فى جوانب القلعة الأربعة عميق ولا

٣٧٢

يمكن عبوره على الأقدام ، إن جو هذه البلدة جميل صيفها وشتاءها معتدلان ، وإذا ما نام الإنسان ليلا وجد العمر الطويل لأن ريح النسيم لا تأتى إلى هذه البلدة حتى أرض حاسانكه ومدينة بلبيس والعريش ومنها لا يهب نسيم الصبا ولكن تهب ريح تياب وملسى. ولكن لا يؤثر فى هذه القلعة ريح النسيم ، وللنباتات والرياحين ريح طيبة تفوح وترد على متنسمها روحه ، كان فيها الفتيات والفتيان متميزين بروعة الجمال ، وإذا ما وقعت عليهما عين إنسان سرت الرّجفة فى جسده ، ولطيب هواء هذه البلدة لا يصدأ فيها الحديد وساحرات صحاريها لهن شهرة تطبق الآفاق ، وكم من غريب رومى سحرنه ، والساحرات فى إبريم أقل منهن فى بلدة أزرق جادو اللهم عافنا إنهن فى هذه المدينة يسحرن الرجال حميرا وكلابا ويطيرن الجرار والأوانى فى الهواء وحاكم قلعة صاى تحت حكم فونجستان وليس فيها غلمان من الروم إلا ما يجلبه النخاسون ، وودعنا المستحفظون الباقون فى القلعة ولما عقدنا العزم على الرحيل قدم إلينا الشباب والشيوخ وقالوا لنا إذا ذهبتم إلى فونجستان فإن جيادكم سوف تهلك من الحر والجوع ولا تأمنون عادية اللصوص من الزنوج ، وبسطوا إلينا الرجاء ألا نمضى فقلت إن الخوف لا يدخلنى مطلقا ، لأن الله ـ تعالى ـ قال : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) [التوبة : ١١٢]. وقد حفظت منذ أربعين عاما وقد ختمت القرآن الكريم فى كل يوم جمعة منذ فجر شبابى ، وبذلك كنت أختمه فى كل عام ثمانية وأربعون مرة ، وأنا مقتنع بذلك كل الاقتناع وأنا لا أنثنى عن عزمى ، وقالوا لى وإذا ما ذهبت إلى إبراهيم باشا وأنت لا تحمل هدية فأنا لا أرد جوابا ، وماذا أصنع بالهدايا التى لملك فونجستان وفى الموضع الذى يصب فيه النيل عند دمياط ورشيد صليت ركعتى الحاجة ، ودعوت الله أن ييسر لى زيارة منابع النيل ومقابر الأولياء هناك فأحمد الله تقبل دعائى ، لقد جئت إلى بلدة صاى وعودتى إلى مصر غير محتملة ، اللهم هبنى رفيقا لأرحل ، وألححت فى الدعاء فقالوا لى لا تنسانا من دعواتك وكلفت أن أقدم إلى حاكم الفونج رسائل المودة فقالوا لى على الملأ : إذا دخلت القلعة فإن جنودها من الروم سوف يقتلونك ، ونحن لن نعطيك رسالة ولا رفاقا البتة ، وقرروا أن ذهابى لغير إياب ، فدخلنى من ذلك خوف شديد ، وتصورت ما سوف

٣٧٣

ينزل بى من شدائد وبلاء ولكن لا بد من الذهاب فحملت خمسين هجينا بالمتاع ومعى اثنين من حاملى البنادق الشجعان ، وحملت أربعة جمال بالمؤن وهبنى أعيان القلعة ذلك كله ، وقد أوصى شيخ النخاسين فى بربرستان وتجار الفونج على ، وأنى من طرف الباشا أغا وإذا ما أصابنى سوء فسوف يكون ذلك وخيم العاقبة كما أنهم حذرونى من أن أثق فيهم وحذرونى من الغفلة حتى فى وقت أداء الصلاة فلا بد أن يكون حولى جنود للحراسة وأن يحملوا السلاح ليل نهار.

جاء فى جميع التواريخ العربية وتواريخ الصابئة أن مدينة صاى مدينة تقع فى حدود أسوان وبعد الطوفان أنشأها كاهن يسمى رهوان هندى وآثار أبنيتها ما زالت ماثلة للعيان ، وهذه الآثار تثير دهشة مشاهدها وكأنها ليست من عمل البشر ، وفى هذه المدينة مرآة صنعت من عدة معادن فمن قصد هذه المدينة من الأعداء أحرقتهم ، ومن أجل ذلك لم يغر على هذه المدينة أعداء بغاة طغاة.

مدح حديقة إرم رهوان الهندى

وبالقرب من هذه المدينة بجزيرة فى النيل حديقة تسمى حديقة رهوان هندى ، وكأنها جنة رضوان وقد نبت نباتها دون زرع ، وبه أشجار غريبة وثمار عجيبة وأطيار تغرد وفى السحر ترفع كل الطيور أصواتها الحزينة فيدخل السرور قلب الإنسان ، كما أن فيها حيوانات أليفة لا يعلم عددها إلا الله ، فيا عجبا لهذه الحكمة ، وكانت تابعة لأربعة حكماء اثنان منهم من ولاية بربرستان والآخران من ولاية الحبشة وبها أربعة ترع اثنان ماؤهما له مذاق التمر الهندى وماؤهما مفيد ومسهل للهضم : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٠]. وفى طرف مدينة صاى أحجار صفراء اللون مستديرة فى الجبال ويسمون الحجر منها عين الصنم وهى أحجار مصقولة مجلوة ويقولون إنها عيون أصنام رهوان الهندى. والعرب يضعون هذه الأحجار فى الماء ويشربونه وفى طرفة العين يسكرون وهؤلاء هم قوم كنوز ، ولكن على حد قول أهل هذه الديار فإن حجر عين الصنم موجود فى جبال مدينة تنيس فى الحبشة والبرتغاليون يشوبونه بالماء فيصير شرابا خاصا لهم ويقدمونه هدايا فى ولاياتهم ، إن شراب الذرة لا يتخمر ولكنه مسكر ، وقد

٣٧٤

خرجنا من قلعة صاى فى رفقة من أحد عشر رجلا من الفونج والبربر ورافقنا أهل القلعة ساعتين ، ثم ودعناهم وقد حذرونا من مرض يصيبنا هناك ثم عادوا إلى القلعة ، ومضينا فى صحراء على شاطئ النيل ، فى طريق مستقيم مع الجند وعبرنا بقاعا لا ماء فيها حتى وصلنا ماغرات :

أوصاف ولاية فونجستان وقلعة ماغرات زاغستان

إن هذه القلعة تحت حكم حسين خان ويسمونه فى هذه الديار الوزير وقد فتح هذه القلعة أوزدمر بك على عهد الطواشى سليمان باشا والى مصر ، ثم استولى عليها أهل الفونج بعد أربعين يوما وما زالت إلى اليوم فى حوزتهم ، وحسين بك من عرب كلابش ، ومن أتباعه سبعة عشر ألفا من المحاربين وهم يسكنون خارج هذه القلعة وتحت حكمه سبعة عشر قلعة ويسمى حاكم فونجستان دلكير ، وهو يتبع وزير مصر ، ولكنها الآن تابعة لمن يسمى يرار بك ويحكم تلك المدينة الآن من قبل حسين بك عطاء الله خان ، ولدى حسين بك خان رسائل من قبلنا ، وقد قدمنا إليه من طرف حاكم إبريم وصاى هذه الرسائل التى من أعيان إبريم وأعيان قلعة صاى وقد قبلها ووضعها على رأسه ، وأرسلنا إلى خان القلعة ، وأهدى إلينا سنّين من سن الفيل ، وقدم معنا من قلعة صاى مائتان من من يركبون الجمال فسلمناهم سن الفيل ، وقد عاد هؤلاء إلى القلعة بما يحملون.

وقلعة ماغرات قلعة صغيرة مربعة الشكل تقع على الشاطئ الشرقى للنيل ، وفيها أربعون أو خمسون بيتا من حصير ، ولهذه القلعة باب من خشب ينفتح على الجنوب وليس فيها سوق ، وفيها سبع أو ثمانى حانات للبوزة ، وجامع صغير المئذنة ، وقد أدينا صلاة الجمعة فيه ، وقد ذكروا فى الخطبة اسم ملك الفونج ، وأهل الفونج مسلمون على مذهب مالك وأرسل الحاكم فى الصباح إلى مائة رفيق مسلحين بالحراب ويركبون الجمال ، وكثير من خبز الذرة ، والخراف المطهوة ، وبطيخا ، وتمرا ، ومضينا على شاطئ النيل فى غابات أشجارها السنديان والأبنوس وهى أرض جبلية كثيرة الأحجار حتى تناره :

٣٧٥

أوصاف قلعة تنّاره

وهى تحت حكم حسين بك حاكم الفونج ، ولها قضاة من الزنوج ، وكانت مدينة عظيمة فى سالف الزمان ، وقد تركنا جميع رفقائنا عند جزيرة قريبة من الشاطئ الغربى للنيل وهم الذين كانوا على الضفة الشرقية للنيل فعبرنا إلى القلعة فى سفينة ، وبلغنا حاكمها وهو رجل صالح أسمر الوجه واسمه صالح كذلك ، وسلمنا إليه رسالة رئيس قلعة صاى فسر لذلك وأرسل لنا المؤنة وكذلك العلف لخيولنا ، وفيها قلعة حصينة قائمة على الصخور بناها شداد وهى قريبة من الشاطئ الغربى للنيل ، وتقدمنا فى سيرنا ، وبدت القلعة كأنها جزيرة على الصخور ، ولها باب ينفتح على الجهة الشرقية وعليه صورة أسد وحاكم القلعة له ثمانمائة من الرجال المحاربين ، أما رعاياه فأربعون أو خمسون ألف من العرب سود الشعر ، وهم جميعا مسلمون من أهل التقوى يؤدون الصلاة ومذهبهم هو المذهب المالكى ، وثمة جامعان ومحكمة ومقهى وسبع حانات للبوزه ، وهم لشدة الحر عراة ومنهم من يلفون فوطة حول خصورهم أو يضعون إزارا على ظهورهم ، ويلبس حاكمهم قميصا أبيض البطانة وفى هذه المدينة يكثر سن الفيل وقرن وحيد القرن ويصيدهم الصيادون ، وفى الجانب الشرقى من النيل زنوج سود يأكلون لحم الجمال ويشربون لبن النوق ، وبعد مرور تسع ساعات بلغنا قلعة سه سه.

أوصاف قلعة سه سه

هى قلعة حصينة تقع على الشاطئ الغربى للنيل ، ومكث رفقائى فى هذا الشاطئ وعبرت النيل فى قارب ووصلت إلى الحاكم وهو أسمر البشرة يسمى حسين بك وقدمت إليه الرسائل ، وقد عظمنا وكرمنا ، وهذه القلعة قائمة على الصخور وقد بناها شداد وبداخلها مائة بيت من قصب ، وليس فيها مدافع ولكن فيها مجانيق وقد رجوت أن يسمح لى بمشاهدة هذه المجانيق ، إنها تقذف أحجارا يزن الواحد منها ثلاثة قناطير فيطير فى الهواء كأنه النسر ، ولقد أطلق منجانيق حجرا فسقط الحجر المقذوف فى بستان فى المدينة ، وارتفع ثانية فبلغ الجانب الآخر للنيل ، ولهذه القلعة قاعدتان عظيمتان ، وعليهما نخلتان شامختان وقد علقوا فيها أربعة حبال من جلد الفيل ، وفى أعياد الروم يصنعون

٣٧٦

الأراجيح للصبيان على هذه الحبال ، وبهذه الحجارة فى تلك الحبال يهلك الأعداء ، وقد وضعوا على أعمدة المجانيق كثيرا من الحبال وهم يدفعون الحجارة المعلقة فى الحبال فتصدم العدو صدمة عنيفة يكون بها من الهالكين ، وفى خارج القلعة أشجار الدوم ويحملون المجانيق على ظهور الجمال إذا خرجوا محاربين وهذا يعدّ مشهدا عجبا ، وفضلا عن ذلك لهم أسلحة أخرى هى السهم والقوس والسيف والمقلاع والمزراق والحربة متعددة الأسنة ، كما يستخدمون التروس من جلد الفيل ولهم خيول قصار وفيلة ، ولكن جمالهم كثيرة والرجلان أو الثلاثة يركبان المدفع ، وليس لهم بنادق ، ويتبع هذه القلعة أربعون أو خمسون ألفا من الزنوج سود الوجوه والشعور ، والرجال عرايا أما النساء فمستورات ، ولكنهم يواظبون على أداء الصلوات فى أوقاتها ولهم جامعان وسبع زوايا وستة مقاه وستة حانات للبوزه ، ولا أثر فيها للأسواق ولكنهم يقيمون سوقا عظيمة خارج القلعة فى كل أسبوع ، وهذه القلعة قريبة من الحبشة وشرق القلعة أرض جرداء يغمرها ماء النيل وبذلك تبدو فى الماء جزر وجزر ، كما تبدو فيها قلاع وكلها تحت حكم كور حسين خان ولهذه القلعة من العرب خمسمائة وخمسون جنديا مسلحين بالحراب وتجاه النيل فى الضفة الأخرى قلعة مستديرة الشكل هى قلعة نازنارنته.

أوصاف قلعة نازنارنته

إنها قلعة منيرة مستديرة فى جزيرة فى النيل بناها شداد وهى كذلك فى حكم حسين خان وهو يملك خمسمائة جندى ، وقد تجاوزنا هذه القلعة ومضينا على شاطئ النيل خمس ساعات وتجاوزنا خط الاستواء وسرنا فى أرض شديدة الحر ولا وجود فيها للأشجار ومضينا بمقدار سبع درجات.

أوصاف معدية خفير الصغيرة

إنها حصن صغير فى غرب النيل والسفن التى تعبر إليها تدفع رسوما وفيها مدافع وعندما تنحسر مياه فيضان النيل يمضى العرب إلى جزيرة سه سه على الجمال ثم يمضون منها إلى قلعة المعدية ، ولم نمض إليها ولكن مضينا على شاطئ النيل واجتزنا بأكواخ من القصب ، ومضينا فى الطريق ثمانى ساعات وبلغنا قلعة حفير.

٣٧٧

بيان قلعة حفير العاصمة الكبيرة

وأرسلنا طليعة رجالنا إلى رئيسها الخان دائم الدين فخرج إلينا واستقبلنا بألف فارس ثم عبرنا بمائة سفينة إلى الجانب المقابل من الشرق إلى الغرب ، فقصفت القلعة بالمدافع ، ومكثنا فى قصر صاحب القلعة كور حسين بك ، وفى الجانب الغربى من هذه القلعة بناء مثلث الشكل وهذه القلعة منيعة ، إنها مقر كور حسين بك ، ويقولون إن أول من بناها هو عنترة فعلى بابها المفتوح على النيل صورة زنجى على ظهر فيل ويقول أهل البلدة إنها صورة عنترة ، إنها صورة صنعت قديما وداخل القلعة بيوت صغيرة وكبيرة من القصب وفيها عشرون محرابا ، وأهلها جميعا من المسلمين المتقين على المذهب الشافعى ، وفى سوقها جامع الملك سيف الدين خاقان ، وجامع الملك حارث خاقان وجامع الملك تبع خاقان وجامع حسين بك الذى بنى حديثا ، إنها جوامع صغيرة ، ومنائرها قصار وليست مزخرفة ، ويذكر فى الخطبة اسم الملك الخاقان ثم اسم خادم الحرمين ثم قيصر محمد ، وفيها خمسون زاوية ومبرة ، وو وكالتان صغيرتان وستة مكاتب ، وعشرون سبيلا وحمام صغير ، ومائة دكان وعشرة مقاه ، وعشرون حانة للبوزه ، وكل الدكاكين مفتوحة ليلا ونهارا ، وفيها الأمن والأمان ، ولهذه القلعة سبعمائة جندى وخمسون ألف بربرى وأهلها يشتغلون بالزراعة ، وقد رأينا فى هذه المدينة خبز القمح ، ويوزع علينا الحاكم دائم الدين خان فى كل شهر مائتى رغيف وخروفا وسمنا وجرّة من العسل ولحما وشعيرا وأكثر محاصيلها هو الذرة والتمر وفى بساتينها يكثر البطيخ والشمام ولهم خيول صغار الحجم ، وقطعان الإبل فى صحاريها لا تقع تحت حصر وغنمها وعنزاتها وعجولها كذلك كثيرة لا تحصى وكان فى القلعة فيل صغير وكان أليفا للغاية يلاعب كل أحد.

وصف حفير

وخارج المدينة فى المقبرة ضريح القطب الشيخ ناصر الدين ابن الشيخ نصرت وقد زرنا ضريحه ، ولاعتدال جو هذه المدينة تكثر فيها الحدائق والنخيل ، ولكن ليس فيها جميز ولا نبق ، وهذه المدينة تقع على بعد ميل شمالى خط الاستواء وترتفع عن مصر بمقدار ربع دائرة ، ولشدة الحر فيها رجالها ونساؤها سود البشرة ، وثيابهم فوطة وأعيانهم

٣٧٨

يلبسون شال إحرام ورءوسهم عارية وقد مكثنا فى هذه المدينة ثلاثة أيام ، واستراحت خيولنا وجمالنا وقدم سبعة من النجباء على الجمال ومضوا إلى المحكمة ثم لحق بهم القائمقام دائم الدين وتليت رسائل النجباء فمضى بأمر كور حسين بك إلى ملك الفونج المتمرد مائة ألف جندى وخمسين منجنيقا وأربعين ألف جمل مع أسلحتهم وأحمال سبعين فيل من الخيام ، ولأن هذا لم يكن كافيا كتب إلى أعيان المدينة يطلب المزيد من الذخيرة ففى خلال يومين جمع ذخيرة مقدارها ثلاثة آلاف جمل وثلاثة آلاف جندى وقد صعدت بنفسى إلى قلعة حفير.

وصف قلعة قاندى

إنها قلعة صغيرة على الضفة الشرقية للنيل بناها وزراء ملك الفونجستان لذلك سميت قان ، ولها ثلاثمائة حمل جمل من الذخيرة وثلاثة آلاف جندى فاختلطوا بعسكرنا وفى الصباح بعد أن مضينا سبع ساعات بلغنا قلعة ناورى.

وصف قلعة ناورى

إنها قلعة على الضفة الشرقية للنيل أقامها حسين بك وهى فى حكمه ، وهى فى شكل مستطيل ، ومساحتها ألف خطوة ، ولها باب ينفتح على الجهة الشرقية ولكن أسوارها منخفضة وبها ثلاثة جوامع وست منائر قصيرة ، وأسواقها صغيرة وبها حمام صغير ، وداخل القلعة مائة بيت من القصب ، وألف عسكرى وأربعون ألف من الأهالى وقد وزع قائم المقام كمال الدين بك على جندنا ألف حمل جمل من الطعام وستة آلاف جندى. ومضينا فى تلك الليلة عشر ساعات على شاطئ النيل وفى الصباح بلغنا قلعة سندى.

وصف قلعة سندى الحصن المتين

إنها فى شرق النيل على شكل مثلث وهى قلعة حصينة ، وفى القلعة سبعمائة بيت من قصب وسبعة جوامع ، وأما غير ذلك من المبانى فخربة ، وكل أهلها مسلمون متقون على المذهب الشافعى ، وبها تتم حدود حسين بك ، وهى فى حكم دفتردار ملك الفونج ، وثمة سوق ومحاريب وفى السوق سن الفيل وقرن وحيد القرن وجلد الضب

٣٧٩

وشجر الأبنوس كأنها جبال مغمورة بالرمال ، وهى موجودة ولكن لا قيمة لها ، وحاكم هذه القلعة على بك ، وقد انطلق فى الطريق ومعه مؤنة يحملها ألف فيل وألفان من الجند أما العظمة لله ، أصبحنا عددا كبيرا وكان الجند من الزنوج يملأون الصحراء والسهل وقد سألنى الحاكم عما إذا كان قيصر الروم لديه هذا العدد من الجند فأجبته ليس لنا من الجمال ولا هذا العدد من الجند العراة ولكن لآل عثمان مدافع كالبحر ولهم عسكر يحملون البنادق وما نسميهم العسكر عراة أكبادهم محترقة يتناولون كسرة من الخبز ، وإنهم يمشون كأنهم قطعان من الحمير السود وإنهم غاية فى النحول والضعف ، إلى حد أن عظامهم تبدو من جلودهم ، ولكن حركتهم خفيفة ، وجيرانهم لا يأمنونهم وبلغنا صحراء دانقة.

منزل صحراء دانقه

إنها صحراء مترامية الأطراف وفيها كثير من النباتات ، وقد مكثنا فيها وأقاموا خيامهم فيها ، وفى وقت العصر ظهرت لنا آلاف من الأعلام فى الغرب واقتربوا من عسكرنا ببطء ، ولعلهم من بربرستان ومذهبهم هو المذهب الشافعى ، وقد مضى منهم أربعون ألف جندى مع مائة ألف جمل ليكونوا مددا لحسين خان وبدأوا فى السير من الصباح حتى الليل ، وقد مكث عسكرنا عند بحيرة وامتطينا صهوات جيادنا التى قدمها لنا صاحب القلعة ، كما استقبلنى ملك البربرستان ، وقد أكرمنا الملك بأن أتحفنا بشال أسود ، وخمس عشرة وسادة من الجلد وسجاجيد سود ولما استقبلناه وقف وعظمناه فقدموا إلينا لحوم الإبل والتمر وخبز الذرة ، وأمام خيمته أحرق النّفت والقطران ، وبعد الطعام لم يغسل يديه إنه رجل مكشوف الرأس وشعره عقائص وله خدام سمر البشرة سبحان الخلاق ثم أحضروا لنا حلوى التمر والشراب وقد شربنا الشراب فى كاسات من الخشب ، وقد عظمناه برفع أيدينا وبينما كنا نشرب سألنا عن أحوالنا ، فقلنا إننا قد أتينا من قبل وزير مصر إلى ملك فونجستان ، فقال لا يأتى من قبل وزير مصر إلى فونجستان ، رجل أبيض البشرة ، فقلنا لنصل إلى ملك فونجستان ، وعدنا إلى خيامنا ، وفى السحر قرعت الطبول ونمنا فى الصحراء يوما وليلة ، ومضينا بعيدا عن النيل ، وفى اليوم الثالث بلغنا شاطئ النيل ثانية ، وبلغنا قلعة واردان.

٣٨٠