الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

متنزه قصر أبى العين الظاهر بيبرس

تكية بكتاشية على ضفة النيل وهى متنزه طيب النسيم وقد سبق أن وصفناها ضمن وصفنا للتكايا إلا أنه عندما شيد إبراهيم باشا قصرا شامخا فى أحد أركان هذه الحديقة أرخت له بهذا البيت :

يا أوليا نظمت هذا التاريخ وقلت داعيا

ليبق هذا القصر عاليا

سنة ١٠٨٢

ويتصل بهذا القصر قصر آخر شيده عبد الرحمن باشا وأرخ له زكى خليل أفندى فقال:

قال تاريخه زكى الداعى بالبركات

هذا القصر ما يسمى بقصر الجنات

سنة ١٠٨٨

وقال آخر :

قال فى تاريخ هذا القصر العظيم

يا له من قصر فريد تنشرح له الصدور فى الصميم

سنة ١٠٨٨

وعلى ضفة النيل أربعون موضعا لأشجار الجميز فى ظلالها مصاطب وكل منها موضع ظليل يشرح الصدور.

ـ متنزه طوب آتان (أى مطلق المدفع) وحديقة العجم ، وحديقة الفرنجة ، وحديقة رمضان بك فى طريق بولاق ، وحديقة محمد چلبى صاحب العيار ، وحديقة حسن بك.

وإضافة إلى تلك الحدائق سالفة الذكر هناك ١٧٠ حديقة أخرى مفتوحة للعوام والخواص وكأن كلا منها حديقة إرم ذات العماد.

ـ متنزه «جميز العبد» :

على ضفتى الطرف الشمالى للخليج الذى يخترق مدينة القاهرة بقعة مكسوة بأشجار الجميز ، يتسع ظل كل منها لألف كبش. وكل منها موضع ينشرح له الصدر وكل من

٢١

هذه الأشجار تمد أغصانها على النيل وظلالها لا يجعل لقيظ الشمس أى تأثير وظلال هذه الأشجار ملتقى لإخوان الصفاء والأحبة ذوى الوفاء ، يجتمعون فيه للراحة والاستجمام.

ـ متنزه قصر السبتية ببولاق :

متنزه به كثير من القاعات والظلات والحجرات الخاصة بالباشاوات وبعض الأعيان وإذا ما قدم الباشاوات من الأستانة إلى القاهرة بحرا أو أقيم موكب أم القياس احتفالا بقطع النيل فإن هذه المواكب كانت تخرج من قصر السبتية هذا.

وفى أحد أطراف سقف هذا القصر تاريخ السلطان ( ) (١) مشيده وهو : (إنه من بناء المعز الكريم العالى السيد محمد البدرى بن أبى البقا ولد المعز المرحوم سيد يحيى الجيعانى سنة ٦٨٧).

ـ حديقة رضوان بك :

تسمى بحديقة الرضوانية وهى حديقة كجنة رضوان ، وليس لها من نظير فى مصر.

متنزه التورنجية :

يقع هذا المتنزه خارج قنطرة الليمون على ضفة خليج الشيخ البكرى.

ـ متنزه الطوبخانه :

إنها زاوية لا وجود لمثلها فى القاهرة ولا فى المدائن بناها وزير السلطان قايتباى عند خروج سيده إلى الحج وعودته. ولهذه الزاوية قبة منقوشة تناطح الجوزاء وترتفع عن الأرض بمقدار اثنتى عشرة درجة من الحجر وأبواب هذه القبة وجدرانها من الرخام الطبيعى والأحجار الصماقية الملونة وأحجار اليشم والحرقانى واليرقانى وأحجار أخرى. وكأنها الأحجار التى فى قبة الصخرة بالقدس.

والخط الكوفى الذى بداخلها وأعمال النحت والزخرفة الرائعة على الرخام والتى لا يخلو منها موضع فى القبة يعجز عنها مانى وحسان وبهزاد وارزنك.

ومن الحق قولنا إن ثمة أساتذة عظام عاشوا فيما مضى من الأيام الخوالى.

__________________

(١) بياض فى الأصل.

٢٢

وعلى يسرة هذه القبة العالية مرعى وكأنه الجنة وعلى يمنتها قاعات ودور للضيافة.

توزع الأطعمة على الغادى والرائح.

جملة القول أنها موضع نزه تنشرح له الصدور.

ـ متنزه البشبكية :

إنها ساحة للفروسية والرماية بالسهام ، وفيها عدة قاعات ومطابخ وأحواض.

وفى الجانب الجنوبى منها فى الجبال على بعد ساعة.

ـ مصاد عين موسى :

إنها العين الواقعة فى جبل بجاميم والتى كانت موضع عبادة موسى ـ عليه‌السلام ـ إلا أن ماءها أميل إلى الملوحة وليس ماء عذبا كماء النيل. ويزور البدو هذا الموضع قاطبة. كما يأتى إليه بعض جند مصر بأسلحتهم وخيولهم لصيد الغزلان واللصوص من البدو.

ـ متنزه عين شمس :

ذكر آنفا وكان يتصل بمدينة عين شمس مدينة تسمى «الفرما» وكان لها قلاعا مبنية باللبن من ثلاثة طوابق ، تمتد إلى البئر التى حفرها المسيح ـ عليه‌السلام ـ فى المطرية. ولقد تخربت هذه المدينة بأكملها ولم يبق منها إلا مسلة من الحجر.

وعن سبب خراب هذه المدينة يحدثنا مؤرخو العرب فيقولون : إنه عندما قدم سيدنا يعقوب ـ عليه‌السلام ـ للقاء ابنه يوسف الصديق نزل ضيفا فى عين شمس ومدينة الفرما على سبعين من أشرافها الأثرياء لم يكرم وفادته أحد منهم ، لذا دعا يعقوب الله على هذه المدينة فلحق بها الخراب.

وفى النهاية التقى سيدنا يعقوب بيوسف الصديق فى مدينة الفيوم بعد فراق دام ستة عشر عاما فارتد إليه بصره. وأوصى يوسف أن ينقل جثمانه بعد وفاته ليدفن فى جبل حبرون بجبل الخليل.

ـ متنزه قصر الغورية :

شيده السلطان الغورى وهو يبعد عن النيل. ووقت الفيضان يصبح هذا القصر وسط الماء. وأسفل هذا القصر قاعة عظيمة وفيه عدة غرف ولكن ليست له آثار أخرى.

٢٣

ولكن على مقربة من هذا القصر حدائق كحدائق الجنة بها قبة عالية ذات زخارف مثل قبة الطوبخانه إلا أنها لجامع ، إلا أنها تشبه قبة الطوبخانة تمام الشبه.

ـ متنزه ومزار «بئر المطرية» :

إنه مكان تعبد المسيح ـ عليه‌السلام ـ فى حدائق فى الجانب الشمالى من القاهرة على بعد ساعتين منها. وعند ما كانت مصر فى حوزة اليونان كان فى هذه البقعة الكثير من الأبنية العظيمة. ولم يبق منها الآن إلا قاعة وزاوية. وفيها حوض من نزل فيه وكان به علة تم له الشفاء منها.

وجاء فى التواريخ وتواريخ اليونان أنه عندما هاجرت السيدة مريم مع ابنها المسيح عيسى من مدينة نابلس هبطت هذا المكان فطاب لها مستقرا ومقاما.

ويزعم النصارى أن المسيح عيسى وأمه السيدة مريم هما اللذان حفرا هذه البئر ليغتسلا وأنهما أقاما هذا الحوض. وهذا القول صحيح لا يتجافى عن الصواب ، إذ إن جميع آبار القاهرة ماؤها أميل إلى الملوحة إلا أن ماء هذه البئر عذب بفضل معجزة المسيح ـ عليه‌السلام ـ.

وتسحب الثيران الماء العذب من هذ البئر بالدواليب لرى الحدائق المحيطة به من كل جانب. وكانت أشجار البلسم والبلسان (١) تملأ هذه الحدائق وكانت هذه الأشجار من غرس يد المسيح ـ عليه‌السلام ـ ، ولم يكن لها من وجود فى بلد آخر. وكانت يستخرج منها الزيوت ويحتفظ بها الملوك فى خزائنهم تبركا.

وإذا ما تسمم أحد وتناول من هذا الزيت مقدار قيراط نجى من الموت. وإذا لدغت أحد عقرب أو أفعى أو حية ودهن موضع اللدغ بزيت البلسان هذا أو لعقه نجى كذلك من الموت المحقق. وإذا دهن بهذا الزيت موضع ألم سكن هذا الألم.

__________________

(١) البلسم : جنس شجر من القرنيات الفراشية ، يسيل من فروعها وسوقها إذا جرحت عصارة راتنجيّة ، تستعمل فى الطب.

والبلسان : شجر له زهر أبيض صغير كهيئة العناقيد يستخرج من بعض أنواعه عطر.

٢٤

وهذا الزيت معروف لدى النصارى فى القرى ، وإذا لم يتناول منه النصرانى أو لم يدهن به جسمه لا يعد نصرانيا حقا. ويأتى النصارى من كل فج عميق إلى المطرية لزيارة هذه البئر والاغتسال فى حوضها ، وهم يقطفون أوراق شجرة مريم ويقدمها البعض إلى البعض هدية فى مختلف الولايات ، كما يحتفظون بهذه الأوراق بين صفحات الكتب.

إلا أنى لم أشاهد بها أشجار البلسم والبلسان تلك فسألت سدنتها فأجابونى بقولهم إنها جفت وتيبست منذ أن دخلت مصر فى حوزة العثمانيين.

ولكن أشجار البلسان منتشرة على طرق الكعبة الآن ويستخرج منها الأهالى زيوتها ويبيعونها فى جرار للحجيج.

ـ فوائد ماء بئر المطرية :

عند ما يفيض النيل وتجرى مياهه خضراء اللون ، ثم يحمر ماؤه عندئذ يمتنع الباشاوات والذواقة عن شرب ماء النيل. وسبب ذلك أن الماء الأخضر الذى ركد فى الترع والخلجان منذ العام الماضى يظهر فيه السم الزعاف وعندما يأتى فيضان النيل يدفع هذه المياه من الخلجان فتمر من القاهرة.

والتى إذا ما شرب أحد منها ابتلى بالمرض ، لذا يمتنع الباشاوات والأعيان من شرب ماء النيل هذا طيلة شهر ، ويشربون من بئر المطرية ذات الماء الزلال. إنها بقعة طيبة النسيم.

ـ متنزه البئر المعظمة :

حفرها موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وإن كان بعض الأطباء يصفون ماء بئر المطرية بعذوبته وفوائده إلا أننى لم أشرب منها.

ـ متنزه بركة الحج :

بقعة يقيم فيها حجيج مصر ثلاثة أيام وثلاث ليال عند خروجهم للحج يتزودون منها بمئات الآلاف من القرب المملوءة بمياه النيل. إنها خيرات عظيمة عجيبة ، فقد شقوا بركة الحج هذه من النيل فكأنها بحيرة عظيمة. وهى تبعد عن القاهرة بمقدار أربع ساعات. وبعض وزراء مصر وأعيانها يسافرون عبر هذا الطريق ومنه يعودون إليها.

٢٥

 ـ متنزه قلعة سبيل علام :

يتناوب عليها أحد أمراء مصر فى خمسمائة من جنوده مرة فى الشهر لحراسة المترددين عليها. إنها مصاد وميدان للرماية وميدان للتحطيب ، أما للبدو فهى مكان للسطو على الناس. وقد جردوا من يسمى «پير يار ولى» من ملابسه وجعلوه مثل بهلوان تكية (كولشنجيلر) أى تكية المضحكين.

إلا أنه سهل طيب النسيم وشهرته فى القاهرة باسم «سهل سبيل علام» ،

فبينما كان السلطان سليم فى طريقه إلى القاهرة دارت رحى الحرب السادسة بينه وبين السلطان طومانباى فى سهل سبيل علام هذا. وقد استشهد فى هذه المعركة سنان باشا الطواشى الصدر الأعظم ، كما استشهد سبعة آلاف من جند العثمانيين وثلاثة وعشرون ألفا من جند المصريين.

والآن ما يسمونه مقابر الشهداء فى سبيل علام مزار يزوره عوام الناس وخواصهم وثمة غرف وقاعات عدة وسواق فى قلعة سبيل علام يسكنها من يتولى الحراسة عليها من أمراء الجند. وفى جانبها الشمالى حدائق ومروج. وبها كذلك جامع ذو قبة ومنارة تركية الطراز وسبيل ومصاطب. والجامع بنى بتمامه من الحجر ويصعد إليه بسلم من ست درجات.

وعلى يسرة محاربه تاريخ مكتوب بخط جلى هو :

أقام هذا الجامع الشريف

وهو مثل كتاب كارنامى كله حسنات

مير أكرم حسن بك

رفعه الله رافع الدرجات

وهذا التاريخ لهذا الجامع المنور

جامع الحسنات باهر النور

سنة ١٠٦٣

إنه جامع مزين يشتمل على ستة أعمدة ولكن لا حرم له.

٢٦

 ـ متنزه العادلية :

واد يقع بين القاهرة وسبيل علام ، يبعد ساعتين عن القاهرة ، كان فى الزمان الخالى مستقرا لقبائل «العادلية» ، أقام به طومانباى جوسقا كان يعقد فيه الديوان لإقامة العدل والميزان بين الناس ، لذا سمى هذا الوادى ب «العادلية».

إنها بقعة طيبة النسيم تنشرح بها الصدور. إذا ما زارها عليل وجد الشفاء.

سبق الحديث فى عدة مواضع عن المعارك التى دارت رحاها بين السلطان طومانباى والسلطان سليم والتى على أثرها قبض سليم على طومانباى وصلبه على باب زويلة فوضع بذلك حدا للفتن والاضطرابات فى مصر. ثم أنزل سليم طومانباى من المشنقة وصلى عليه صلاة الجنازة وأمر بدفنه فى ضريحه بالعادلية.

ولما كان طومانباى سلطانا من أهل التقوى والصلاح ، حافظا لكلام الله لم يصادر السلطان سليم أوقافه بل زين ضريحه بالأنوار وكان يزوره فى كل مرة يأتى فيها إلى العادلية.

وطومانباى مدفون فى تابوت من الرخام تحت قبة عالية ترتفع إلى عنان السماء وعلى الجوانب الأربعة لتابوته الرخامى نقشت آية الكرسى وتاريخ هو :

(تحريرا فى سنة ستة وتسعمائة).

وبوفاة طومانباى دالت دولة الشراكسة. ولقد كان سلطانا صاحب خيرات له الكثير من المؤسسات الخيرية ، فالخان والزاوية والتكية والمبرة والسبيلان والساقية والمطبخ والغرف والقاعات المتعددة الخاصة بالباشاوات والقصور والأبهاء التى تشبه القلاع وما حولها من دور للضيافة كلها من خيراته رحمة الله عليه.

وهناك العديد من المتنزهات فى مختلف أنحاء القاهرة ، إلا أن ما ذكرته هو ما زرته وشاهدته بعينى ، لا ما سمعت عنه واجترأت على وصفه والله المستعان. إلا أن ألطف وأجمل هذه المتنزهات كان تكية «أثر قدم النبى».

٢٧

الفصل الخامس والخمسون

فى أغرب غرائب مصر وطلاسمها وعجائبها وحرف أهلها

سوف أتحدث عن لون بشرة شعب مصر ، أم الدنيا ، وحرفه بقدر وقوفى على حقيقة أمرها.

ومصر التى تحدثت عنها آنفا على وجه التفصيل هى «مصر القديمة» أى مدينة «الفسطاط» التى كانت عامرة فى الزمان الخالى. ومصر الحديثة ليست أحد أحيائها.

فقد أرخ علماء العالم بقولهم : إن حدود مصر تمتد من رشيد ودمياط والإسكندرية إلى إبريم وقلعة الصاى فى مسافة غاية فى عمرانها تقطع فى ثلاثة أشهر على ضفاف النيل حتى إن الرسائل كانت تسلم من يد إلى يد فتصل من رشيد إلى أسوان وأسنا والمنيا والصعيد العالى. فكانت مصر العتيقة مدينة مستبحرة العمران تتقارب قصورها العالية على ضفتى النيل بحيث يستطيع الديك أن ينتقل من سقف إلى سقف ويصل من مدينة بولاق ومصر العتيقة إلى مدينة «مقدونية» وهى موضع أثر قدم النبى صلى الّله عليه وسلم.

وكان أحد فروع نهر النيل يمتد من شمال مدينة القاهرة إلى عين شمس بمسيرة ست ساعات مستبحرة العمران على ضفتى النيل ، كما أن أحد فروعه كان يبلغ مرحلتين من القاهرة حتى الفيوم وما بين ذلك حدائق وبساتين ولا يخلو موضع فيها من زرع. وهذا مما يجعله فى النظر أحسن وأجود الأقاليم ، كما أنه أكثر الأقاليم خيرات وأكثرها قرى.

وفى جوف هذه الأراضى من أرض مصر كنوز عظيمة ودفائن جسيمة. يقول مؤرخ العالم الشيخ المقريزى : إنه لا يخلو ذراع من أرض مصر من كنز قديم.

وفى أيامنا تلك يعثر على أكثر من كنزين فى كل عام. وهذا ما يبين إلى أى حد بعيد كانت ضفة النيل معمورة.

وقد نزلت فى شأن مصر آيات قرآنية على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول عز من قائل : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٢٦) [الدخان : ٢٥ ـ ٢٦] ، وقد فسر المفسرون هذه الآية بقولهم أن المقصود منها أرض مصر ونهر النيل.

٢٨

وقد دعا موسى ـ عليه‌السلام ـ على مصر وشعبها بسبب ظلم فرعون وسوء ما صنع فتبدلت من عمرانها بخراب ومن بساتينها بتراب. وفى ذلك يقول عز من قائل : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧) [الأعراف : ١٣٧].

وعلاوة على خراب مصر بعد عهد فرعون يقول الحكماء : إن مصر وإن كانت قد تخريب سبع مرات فلا شك فى أنها عمرت كذلك سبع مرات.

أما محيى الدين بن عربى فيقول فى كتابه «الفتوحات المكية» :

«إن مصر بعد عام ١١٠٠ سوف تعمر إلى حد أن ذراعا من أرضها فى منطقة صحراوية أو منطقة تعلوها القمامة سوف يباع بألف دينار من ذهب ، وسيأتى إليها «ابن كعب» من سلاطين آل عثمان فتطيب له مستقرا ومقاما ويتخذها حاضرة لملكه ، وسيدور الفلك بما يحدث بها من أثر فيشيد شعبها المدن فى الصحراء حتى حدود مكة والمدينة ويجعلونها مروجا وحدائقا ، وسيظهر بها أنهار كأن مياهها ماء الحياة فتصبح كل أكنافها رياضا وغابات وتظهر فيها الضوارى. وسيجرى بحر السويس من مدينة (بلبيس) ويصب فى البحر الأبيض ، وسيفتح طريق بين غزة وقبرص تسير فيه القوافل ، وسيجرى بعض الملوك ذوى الهمم ماء النيل إلى جبل الجوشى فى مصر ، وسيتفجر الماء الحار فى ثلاث آبار فى القاهرة».

هذا ما ذكره ابن عربى فى كتابه «اللهم يسر يا ميسر».

ـ عجيبة :

والواقع أن ذوى السن من أهل القاهرة يقولون : إننا منذ سبعين عاما لم نكن نعرف فى مصر الحدائق ولم نشاهد إلا حديقة قايتباى فى «قره ميدان» وأشجار النبق والجميز هنا وهناك خارج القاهرة. ولم نعرف غيرهما فاكهة ، والآن ينمو فى مصر عشرون نوعا منها ويهطل المطر فى العام وكأن قطراته الجوز وقد لا يهطل قط.

ولم نعرف فى مصر أحد يلبس الفرو فكان لبسه عيبا إلا للبكوات. ولم يكن يحل موسم الشتاء. أما الآن فيشتد برد الشتاء ويغزر المطر فصرنا نرتدى الفرو ليقينا شدة البرد.

٢٩

وفى عهد كتخدا إبراهيم باشا اتفق أن نزل الثلج فى الصباح على مجرى العادة فجعل الأرض بيضاء وفى تلك الأوقات كذلك كان البرد ينزل وكانت الحبة منه تزن أكثر من ثلاثين درهما وعندما كان أبناء العرب يرون الثلج يسأل بعضهم البعض قائلا : إش هذا؟

وكان بعضهم يقول : «إن القطن نزل من السماء» ، أما الترك فكانوا يحمدون الله ويأكلونه. وعندما كان العرب يمسكون الثلج بأيديهم كان يحرقها كأنه النار فكانوا يقولون : «هذا مثل القطن ولكن ناره قوية».

وعندما كانوا يشاهدون البرد يقولون : «وقع من السماء بيض الدجاج».

وحمدا لله فقد اعتدل جو مصر يوما بعد يوم ومضت شدة الحر وهطل غيث الرحمة مما غمر مصر بالخير فما وجد مثلها على وجه الأرض. وأصبحت «أم الدنيا» كأنها العروس فى زينتها ، وبدأ المفتونون بها الاحتيال لصيدها.

أصل تسمية مصر «بأم الدنيا»

تضم مصر ما فى أنحاء الدنيا من جميع المخلوقات والملل الاثنتين والسبعين ، واللغات المائة والأربعين ، والله يبسط الرزق لهذا القدر من المخلوقات كرامة لمصر ولذلك تسمى بأم الدنيا.

وإذا ما ذهبت إلى أى مدينة فى مصر ونظرت فيها نظرة تأمل فلن تجد أحدا يتجاوز الآخر من شدة الزحام ، وفى الطريق العام لا يمكن أن تسمع إلا عبارات مثل : «ظهرك وجنبك ، ووشّك ويمينك ، ويسارك» ولا يمكنك المرور بسهولة من داخل الأسواق من شدة ازدحامها بالخيول والبغال والجمال والحمير والسائقين.

وأهل مصر جميعا من الفلاحين الكادحين ، لذا يعلمون مثل «فرهاد» مما يعود بالنفع على مصر. ويسمونها أم الدنيا لأنها تطعم هذه الدواب والمخلوقات كافة وتطعم الدنيا بأسرها وكأنها أمها وتصدر كل سلعها إلى جميع أرجاء الدنيا.

وإذا ما قحطت الدنيا بأسرها والعياذ بالله فإن مصر تطعمها كأنها أم.

٣٠

أما إذا قحطت مصر ـ حفظها الله ـ فإن جميع بلدان الدنيا تعجز عن إطعامها ، ففى مصر أكثر مما فى الدنيا بأسرها من دواب ومخلوقات ، كما أن أهلها كذلك لا يقعون تحت حصر. ومن ظلم وعسف جندها أصبح أهلها كقوم فرعون ، ولأنهم بالغوا فى إظهار اسم «يا قهار» فقد حقر أهلها وذلوا واستحوذ جند السلطان على كل خيراتها وبقى الفلاح ذليلا.

وفى شأن مصر وشعبها قال «كعب الأحبار» ـ رضى الله عنه ـ مصراعا على لسان مصر هو : «خلق الله الغنى بمصر فقال الذل أنا معك».

والواقع أن الضعاف والفقراء والأذلاء من أهل مصر كثرة كاثرة ، حتى إنه فى عام ( ) (١) على عهد عبد الرحمن باشا على الرغم من كثرة الغلال لسوء تصرف الحكومة احتكرها الأغنياء فقحطت مصر قحطا عظيما لدرجة أن بعض الفقراء أكلوا الميتة ، والبعض كان له قميص واحد يشترك فى لبسه مع زوجته ، فكانت تلبسه نهارا ويلبسه هو ليلا.

وكانوا يعيشون على عشرين حبة من الفول فى اليوم. إلى هذا الحد كان الفقر وكانت كثرة الفقراء. لأنه عندما تحصل الخزائن من الرعايا والبرايا وهى إحدى وثمانون خزانة كان مئات الآلاف من الناس يفلسون ويخلو وفاضهم. وهذه الخزائن المذكورة كانت تحصل بعد خمسة وسبعين يوما من الحصاد. وباستثناء الماغر والأوز والحطب كانت ضريبة الجمرك تحصل على كل ما يطير فى السماء وما يدب على الأرض وما يسبح فى الماء وكل الأشياء «مقاطعة» حتى إن الفقراء المعدمين ممن هم فى أمس الحاجة إلى الفلس الأحمر يؤدون الضرائب للحكومة وهم مقاطعة.

ـ عجيبة أخرى :

ومن عجب أن بعض الفلاحين كانوا يسوقون أسرابا من الأوز فى شوارع القاهرة لبيعها وفى هذا الزحام كان الناس يدهمون بأقدامهم أسراب الأوز هذه فيجعلونها وكأنها رمال ، ولكن لم تكن تفرض عليها ضريبة ، وما عدا ذلك كانت تفرض عليه الضرائب والعشر السلطانى.

__________________

(١) بياض فى الأصل.

٣١

 ـ إحدى العجائب المضحكة ممن تحصل منهم الضرائب :

وكثير من الفلاحين يقيمون لهم أكواخا على ضفة الخلجان ويسكنونها ، وإذا ما أراد أحد أن يشترى أوزة أو بطة كان يمضى إلى سكان هذه الأكواخ وإذا ما قالوا لأحدهم يا حاج أعطنا أوزة أو بطة. كان العربى يلبس القرعة التى بجانبه على رأسه ويمسك فى يده أربعين باعا من خيط الكتان ويقفز فى الماء ويبقى من يطلب البطة على الشاطئ ويسبح العربى فى الماء ويقترب من الأوز والبط ويندس بينهم ويربط أقدامهم بالخيط الكتانى الذى فى يده فلا تشعر به هذه الطيور لأن ما يطفو بجانبها قرعة والعربى يراقب الطيور من ثقب القرعة ويقيد أرجلها ثم يخرج إلى الشاطئ ويسلم طرف الخيط إلى من يطلب الأوزة فيقبض هذا الشخص على الخيط بيده ولا يجعله ينفلت منه ويجذبه رويدا رويدا حتى تقترب الطيور من الشاطئ ، وعندئذ تدرك الطيور المسكينة ما وقع لها ، فترفرف بأجنحتها. وتأخذ منها ما تريد من الطيور السمينة وتدفع پاره واحدة ثمنا لكل أوزة منها وتطلق النحيل منها.

وهذا العربى المذكور يلتزم بهذه الطيور ويؤدى ما عليه من ضرائب ، وإذا ما صاد هذه الطيور غيره غرم. وكل ما يهرب من هذه الطيور المطلوقة يعود حتما إلى هؤلاء الفلاحين وكأنهم سحروا من قبل هؤلاء الفلاحين. وكم لهم من حيل وألاعيب شيطانية.

ـ من عجائب الغرائب :

وعجيبة أخرى من عجائب الزمان هى أنهم يدفنون عشرة آلاف بيضة فى روث الخيل وبعد عشرين يوما يخرج منها عشرة آلاف فرخ تبدأ فى السير فيحار لذلك عقل الإنسان وهذا أمر غريب عجيب. إلا أن هذا العمل لا يقتدر على القيام به كل أحد ، فهناك قرية تسمى «برمة» وهى إحدى قرى سليمان بك أحد قادة الجند فى مصر فى قضاء «أبيار» بها من توارثوا هذه الحرفة أبا عن جد وتفريخ الأفراخ فى روث الخيل عمل اختصوا به دون غيرهم.

٣٢

ومن يريد أن يفرخ الأفراخ بهذه الطريقة اصطحب منهم رجلا يذهب معه حيثما أراد وهناك يشرع فى بناء فرن خاص بتفريح البيض ، وهذا الفرن فرن كبير يشبه فرن الخبز ، تعلوه قبة وأسفله فراغ ، وداخله مقسم إلى خانات ، تفرش الواحدة منها بطبقة من الروث الناعم غير المحترق بسمك إصبعين ثم يضع فى كل خانة خمسين بيضة وينظر فى كل بيضة خلال نور الشمس ، فإن كانت البيضة طازجة وضعها فى الفرن ، أما إذا كانت فاسدة استبعدها ، إذ إنها تنفجر من حرارة الروث وتفسد بقية البيض فلا تخرج منه أفراخ. لذا يضع البيض الطازج وهو يعرف أى بيضة تفرخ ديكا وأيها تفرخ دجاجة ، ثم يغطى هذا البيض كذلك بطبقة من الروث بسمك إصبعين ويضرم تحته نارا هادئة خفيفة تكفى لحرق الروث ولا تحرق الحطب وتدوم الحال على ذلك ثلاثة أيام وفى اليوم الرابع يتجرد الرجل من ثيابه ويدخل الفرن وهو يقوق كالدجاجة ويقلب البيض بأكمله وفى يده قفاز من ريش الدجاج وبه يقلب الخمسين بيضة التى فى كل خانة ويضع بينهما ريش الدجاج ويحرق أنواعا من البخور يبخر بها البيض ، ثم يخرج ويغلق فوهة الفرن.

ولم يطلع أحد على هذا العمل ، إلا أننى بقيت فى هذه البلدة اثنين وعشرين يوما واطلعت على ذلك بعينى رأسى. وفى خلال العشرين يوما دخل الرجل القائم بتفريخ البيض الفرن ثلاث مرات وقلب جميع البيض.

وقبل أن تتم الأيام العشرون بدأت الأفراخ فى الخروج من البيض كأنها الجند وأخذت تنبش الروث الموجود داخل الفرن وفى التو أخرجها الرجل من الفرن ، إذ إن فى الروث بيض لم يفرخ بعد ولكيلا يفسدونه أخرج الأفراخ التى خرجت لتوها من البيض.

وتسير الدجاجات التى ـ احتضنت بيضها حتى أفرخ ، وخرج منه صغارها ـ وراء الأفراخ التى خرجت من البيض بالطريقة المذكورة أعلاه.

ولحكمة لا يعلمها إلا الله فإن لحم هذا الدجاج الذى خرج من الروث ليس له من لذة الطعم ما للذة لحم الدجاج الذى حضن بيضة الدجاج. وهى ثقيلة اللحم والشحم

٣٣

والحدأة عدو لدود للأفراخ ولهذا يقوم الصبيان على حراستها وإلا اختطفتها الحدأة جميعا فى يوم واحد. وليس فى مصر طائر فى سمائها يؤذى إلا الحدأة.

ـ بيع الدجاج بالكيلة فى مصر :

وتعبأ هذه الأفراخ فى الكيلة وتباع الكيلة منها بخمس أو عشر پارات. ولله الحمد فقد شاهدت الدجاج وهو يباع ويشترى بالكيلة فى مصر. والكثرة الكاثرة من الدجاج الذى يباع بالكلية حكومى ، حيث يعهد (الكلارجى باشى) أى القائم على مخازن الطعام الخاصة بقصر الباشا ـ على أحد الأغوات بتفريخ عدة آلاف من الأفراخ ويذبح منها خمسمائة دجاجة يوميا فى مطبخ الباشا لتقديمها إلى أتباعه وحاشيته.

ومن لا يرى هذا القدر من الأفراخ التى أفرخت لا يعرف إلى أى حد كانت براعة هؤلاء الفلاحين فى مصر ، وهذا فى الواقع ما لا يدركه عقل. يا له من سر عجيب.

مما ينهض دليلا قاطعا على أن الله يخلق ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد بعزته.

ـ أمارة على إعجاز الخلق :

فى المنطقة المسماة «بسبيل علام» أنواع من الحجارة الملونة ، ولحجر سبيل علام ذائع الشهرة فى مدينة القاهرة ، وفى تلك الصحراء أنواع من أحجار الياقوت والماس التى يصل ثمن الحجر منها مائة قرش وخمسمائة قرش. كما تكثر بها الأحجار التى تسمى بعين السمك وعين الهر والتى يباع الواحد منها بخمسة أو عشرة قروش.

وفى بعض الأوقات التى تشتد فيها الرياح فتتشتت الرمال فتتكشف عما لا يحصى كثرة من هذه الأحجار.

ويقوم الحكاكون بحك هذه الأحجار الخام ويصقلونها ويشكلونها فتباع بباهظ الأثمان بعد أن كانت بلا قيمة. ويعثر على أحجار أثمن من الماس ومن ياقوت «بدخشان» (١).

ومؤرخو مصر وعلماءها يزعمون أن «شداد بن عاد» بانى إرم ذات العماد هو مشيد سبيل علام ، وهذا ما اجتمعت عليه كلمتهم.

والواقع أنه فى سبيل علام هذه أسس لأبنية عظيمة هنا وهناك. وعند ما خلع إبراهيم

__________________

(١) بدخشان : ويقال بذخشان الآن فى أفغانستان ، وهى بلاد خصيبة مشهورة منذ القدم بأحجارها الكريمة لا سيما معدن الياقوت واللازورد. انظر : بلدان الخلافة الشرقية تأليف لسترنج ص ٤٨٠ وما قبلها.

٣٤

باشا مكث فى صحراء سبيل علام سبعة وسبعين يوما. وكان خدامه يجمعون الأحجار من سبيل علام لكى يلعبوا لعبة «المنقلة» ، وكان بعضهم يقدم ما يعثر عليه من أحجار إلى الحكاكين ليصنعوا منها فصوصا لخواتمهم ، حتى أصبح جميع الخدام ـ يلبسون الخاتم فى أصابعهم.

إلى هذا الحد كانت توجد أحجار كريمة ثمينة فى صحراء سبيل علام.

ـ تأثير أحد الأحجار العجيبة :

وفى سبيل علام هذه حجر ثمين أصفر اللون ، يأتى أطباء الفرنجة على الدوام فى هذا القيظ للبحث عنه. ومن خواص هذا الحجر أنه :

إذا أمسك أحد هذا الحجر بكلتا يديه شعر بالغثيان وقاء ما فى بطنه وطالما لم يطرح هذا الحجر من يديه لا ينقطع عنه الشعور بالغثيان. إلا أنه يخلصه من جميع ما فى جوفه من أخلاط مثل الصفراء والسوداء ولا يبقى فى معدته شىء وبذلك تنظف.

ـ من خواص أحد هذه الأحجار :

ثمة حجر ملون مثل الخرز يوجد فى المناطق الفضاء من سبيل علام ، وهذا الحجر إذا ما ربطته المرأة فى خصرها وقت الجماع لم تحمل من أى شخص ، ولذا يكثر هذا الحجر لدى بغايا «باب اللوق» فى القاهرة. حتى إن والدتى حينما ولدتنى تمزق فرجها بسبب كبر رأسى وخروج هذا الرأس بصعوبة ، لذا كانت تستعمل هذا الحجر الموجود فى سبيل علام خوفا من أن تحمل ثانية فكانت تعلقه فى خصرها أثناء الجماع مع والدى. وهذا الحجر غير المبارك كان لدى والدى.

ـ أرض مصر التى تثير العبرة

كان البدو فى مصر يأكلون الفئران وهذه حقيقة. ولكن أى نوع من الفئران كانوا يأكلون سنوضح :

فى مصر نوع من الفئران يسمى «فأرة الغيط». إنها مخلوق منظره يثير الضحك ، تخرج هذه الفئران من جحورها عندما يغمر فيضان النيل أرض مصر كلها وعندئذ تخرج جميع النساء والغلمان إلى الصحارى لصيد الفئران على الشواطئ التى غمرها ماء

٣٥

الفيضان ويملئون بها الغرائر ويذبحونها فى منازلهم ويتناولون لحمها ويبيعون جلودها ، وهى غاية فى سمنها. وذيلها قصير ونوع منها ذيله طويل ، وشفتها العلوية مشقوقة مثل شفة الأرنب. إنها فأرة غبراء ، زنة الواحدة منها مائة درهم ، ومنها ما يزن رطلا.

وهذا الحيوان يتكاثر فى الأرض بأمر الله ولا يربيه أحد. حتى إنه يكوم أرضه أكواما أكواما ، فيعرف الصيادون من ذلك أن ثمة فأر بها فيحفرون جحره ويخرجون ما به من فئران ويأكلونها.

ولحكمة لا يعلمها إلا الله فإن بعض هذه الفئران فئران إلى وسطهم أما ما تحت وسطهم لا يفترق عن التراب ، بل هو تراب مخلوط بالدم. وهناك فئران على هيئة تراب تنفخ فيها الروح فيما بعد وتصبح لحما ، أما إذا أخرجت قبل ذلك من جحورها وتعرضت للهواء نفقت ، إذ إنها لم تكتمل نموا.

سألت عنها العرب ، فقالوا : إنها تتولد من الماء فى أربعين يوما.

وسألت قائلا : هل تتزاوج هذه الفئران؟ فقالوا : نعم إنها تتزاوج ، إلا أنها لا تلد وذلك بأمر الله.

ثم سألتهم عن نفعها ، فقالوا : إن لحمها سريع الهضم ومن أكله سمن ، وهو جد مقو للباه.

وتلك حكمة عجيبة كذلك ، بيد أن طائفة المعتزلة من ضعافى العقول ينكرون هذا من خلق الله ، ولكنى رأيت ذلك بعينى رأسى وقد دفعت خمس پارات ثم عشر للعربان الّذين يخرجون هذه الفئران من جحورها ، فرأيت أن نصفها ذو روح والنصف الآخر من تراب وبعضها مما نصفها دم ونصفها تراب ليس لها روح. وهذا من عجيب صنع الله. أوليس هذا عبرة لمن يعتبر من بنى الإنسان؟ ، وحسبنا قوله عز من قائل (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ...) [المؤمنون : ١٤].

دليلا قاطعا على ذلك. ومن لم يسلم بآراء ومعتقدات المعتزلة ويقر آراء أهل الشريعة يقرأ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٠].

ويقصر عن القول.

٣٦

ذكر آصرة القربى بين الإنسان والنخل وشجر الجوز الهندى الأسود

فى كل عام فى قرى مصر يضعون سعفة من نخلة ذكر فى قلب النخلة الأنثى وذلك لإتمام عملية التلقيح بين النخلتين. وفى هذا العام تثمر النخلة الأنثى أكثر من خمسة عشر عرجونا (١).

وإذا لم يصنعوا ذلك لا تثمر النخلة الأنثى.

والنخلة الأنثى تحيض مرة فى الشهر وهى كالإنسان لها قلب فإذا ما قطعته جفت ، أما إذا قطعت سعفها نمى غيره وازدادت النخلة طولا.

ويسمون قلب النخلة «قلب البلح» وهو شىء لذيذ الطعم مقو للباه ، ويستعمله الرجال فى مصر الذين عجزوا عن الباه ، إنه فى لون الجبن وطعم اللبن ، وتوجد هذه المادة بين ألياف السعف فى رأس النخلة.

ويقولون إن ثمة قربى بين الإنسان وهذه النخلة ، فعندما خلق البارى آدم عليه‌السلام من قبضة من تراب خلق مما تبقى من التراب النخل وشجر الجوز الأسود الهندى وشجر الوقواق ، وما تبقى من التراب خلق منه «يبروح الصنم» أى عبد السلام وهو عشب له شعر ولحية كالإنسان ، ومنه الذكر والأنثى ، فهو عشب له صفات بنى الإنسان. ويقولون إن هذا العشب خلق كذلك من التراب ، «يفعل الله ما يشاء».

ـ أكلة الثعابين الحية :

ومن عجب أن فى مصر قوما يأكلون الثعابين وهى حية ، وإذا ما ظهر ثعبان فى منزل أحد جاءوا بأحد من أكلة الثعابين هؤلاء ونفخ فى مزماره ، فتتجمع حوله جميع الثعابين فيصارعها ويقبض عليها كلها ، ويضعها فى مخلاته ويمضى بها ، وبذلك تكون النجاة من هذه الثعابين.

ويقترب هؤلاء من أحد الأشخاص ودون أن يدرى هذا الشخص يخرجون من جيبه وحصنه العقارب والأفاعى وقد يخرجون من جنب أحد الأشخاص التفاح والخوخ والعنب فى غير موسم هذه الفاكهة. وفى بعض الأحايين يخرجون من حضن بعض

__________________

(١) العرجون : العذق. وهو من النخلة كالعنقود من العنب. والجمع عراجين. المعجم الوجيز ص ٤١٢.

٣٧

الناس نارا أو ماء ، كما يطلبون على أحد أن يظهر لهم عمامته وعند ما يرفع هذا الشخص العمامة عن رأسه يتدفق الماء من عمامته أو يخرج منها عقرب أو أفعى ، فيطرح الرجل عمامته أرضا ويولى مدبرا حاسر الرأس بلا عمامة.

وكان إبراهيم باشا رحمه‌الله تروق له مثل هذه الدعابات ، إلا أنها فى الحقيقة مهارة تصل إلى درجة الإعجاز.

ـ جماع فلاحى مصر للتماسيح :

سلف الحديث عن جماع فلاحى مصر فى أسوان للتماسيح فى حديثنا عن المخلوقات التى تعيش فى النيل.

ـ شجرة الجميز العجيبة :

شجرة الجميز فى مصر شجرة ضخمة لا وجود لشجرة أضخم منها وهى تشبه شجرة «الدلب» فى بلاد الترك. وتمتاز شجرة الجميز بضخامتها وظلها الظليل ونسيمه العليل.

وأثمارها وطلاسمها على النحو التالى :

إذا ما ظهرت هذه الشجرة فى بستان أحد ، اتفق صاحب الحديقة هذا مع بعض الأشخاص ويحمل فأسا ويدخل حديقته ويستلق شجرة الجميز ويضربها مئات الضربات بفأسه وإذا ما تجرحت الشجرة يأتى الأشخاص الذين اتفق معهم ، ويقولون له لماذا أقدمت على قطع شجرة حية غضة مثل هذه. فيقول الرجل : إنها ملكى وإن أقطعها وهى بداخل حديقتى وهى لا تؤتى أكلا والمرج لا ينبت فى ظلها ويجب علىّ أن أحرقها.

فيقول الرجال تحت الشجرة : أتقطع شجرة فى هذا الجمال ، ما أجمل غصونها وأوراقها ، ويبسطون إليه الرجاء ألا يقطعها حتى تؤتى ثمارها وعندئذ يجرى ما يشبه الدم من الثقوب التى أوجدها الرجل فيها بفأسه ، فيكرر الرجال الرجاء إليه ويقسمون له أنهم يضمنون أن تثمر هذه الشجرة سبع مرات فى العام ويأخذون الفأس من يده ويطرحونه جانبا ويحيطون جميعا بالشجرة ويحتضنوها ويحضر أناس آخرون ليشهدوا على ذلك. ومن بعد تخرج هذه الشجرة الثمار من تلك الثقوب التى أحدثها الفأس فيها سبع مرات أو أكثر فى العام.

٣٨

وثمار الجميز تشبه التين ، ولكنها تختلف عنه بعدم وجود جلد داخلها فداخلها فارغ ، وتزن الثمرة منه عشرين أو ثلاثين درهما. إنه فاكهة لذيذة الطعم ، سهلة الهضم ، ومنها الأحمر والأصفر والأبيض.

ومن عجب أن أغلب الثمار تنمو على غصون رقاق ، ولكن ثمار الجميز تنمو فى جذع فى غلظ ثلاثة رجال ضخام. والجميز يثمر بهذه الطريقة بحيث لا يخلو موضع فى جذعه من الثمار. إنها شجرة موفورة المحصول.

ـ فوائد ثمار الجميز :

وفى الطب يعد الجميز ذو طبيعة معتدلة ، فإذا ما تناولت ثلاث ثمرات من ثماره وشربت عليها الماء قوى نظرك. وإذا ما أصيب أحد بالإسهال وعصر أوراقه الخضر وشرب عصيرها ، زال عنه الإسهال ، وكم لقشور جذعها الخضر من خواص ، والأطباء يعرفون من خواصه الطبيعية أكثر مما ذكرنا.

إنها شجرة تستحق المشاهدة.

خاصية أرض مصر

فى مصر يدفنون قرن الماعز فى الأرض ويروونه وبعد عدة أيام تنبت منها غصون خضر.

صناعة النشادر

تصنع النّشادر فى مصر من فضلات الإنسان ، وله مصانع عجيبة سبق وصفها فيما تقدم.

عملية إنضاج العنب

عندما يكون العنب حصرما يشعل فلاحو مصر الكبريت ويبخرون به هذا الحصرم فينضج قبل أوانه بشهر. وهذه حيلة شيطانية عجيبة.

٣٩

عملية إنضاج الشمام والبطيخ

يسمى الفلاحون زبل الحمام «برأس المال» وكانوا يضعونه فى جذور البطيخ والشمام فتنضج قبل الأوان بشهر وتمتلء ماء.

ـ ميزات أحد الحيوانات العجيبة ـ

ثمة حيوان صغير يشبه ابن عرس يعيش فى مناطق زراعة قصب السكر فى مصر ، منظره يبعث على الضحك. حتى إنه يربى فى بعض المنازل ، وهو حيوان أليف يكثر فى حدائق الفيوم. والمكان الذى يعيش فيه هذا الحيوان لا تقربه الأفعى ولا الحية وتهرب من رائحته. فهذه الرائحة التى تصدر عن هذا الحيوان تهلك الأفاعى ، إلا أنها تفيد الإنسان. يا لها من حكمة عجيبة.

ذكر معدن الذهب

على بعد ساعتين من القاهرة وفى الجهة القبلية لها خلف جبل الجيوشى تقع جبال عين موسى والتى تسمى «بجبل بجاميم» ، وبها تكوينات جيرية حمراء اللون وإذا ما أحرق هذا الخام استخرج منه الذهب. إلا أنه لندرة الحطب فإن نفقات عملية استخراج الذهب تكون باهظة فلا يتحصل للقائمين بهذا العمل أى ربح.

وفى خلافة الحاكم بأمر الله استخرج الذهب طيلة سبع سنين ، ثم سدت هذه المناجم وآثارها لا زالت موجودة إلى يومنا هذا.

وتوجد مناجم الفضة فى جبل جالوت غرب القاهرة ، وتوجد كذلك مناجم للذهب فى شرق مصر فى جبل المقطم المعروف بجبل الجوشى. وتوجد مناجم «الزمرد» فى ولاية الصعيد ، ويوجد معدن النطرون فى أرض البحيرة ، ويوجد ملح البارود فى كل قراها ، كما يستخرج الملح من جميع بحيراتها.

مدينة عين شمس

كانت مدينة عظيمة فى شمال القاهرة بالقرب من المطرية ، تبعد ساعتين عن القاهرة وهى الآن منطقة خربة ، وكانت هذه المدينة حاضرة البلاد فى الزمان الخالى ولا تزال بعض آثار أبنيتها العظيمة ماثلة للعيان إلى يومنا هذا. وفيها «مسلة» سامقة كالتى فى «آت ميدانى» أى ميدان الفروسية فى اسطنبول. يبلغ طول هذه المسلة مائة ذراع ، وعلى

٤٠