الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الخامس والستون

فى بيان ذهابنا إلى مولد أحمد البدوى عام ١٠٨٣ ه‍

وزيارتنا دمياط ورشيد والإسكندرية وغيرها

من الطرق والقصبات والمنازل والأضرحة

لقد شاهدت بما تيسر لى جميع الأضرحة الموجودة بمصر القاهرة ، وقمنا بزيارة ضريح المشهور فى الآفاق والقطب على الإطلاق حضرة أبو اليتامى السلطان السيد أحمد البدوى ، وصلنا إلى السيد أحمد البدوى نطلب منه المدد فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الآخر عام ١٠٨٣ ه‍.

خرج موكب مولد أحمد البدوى فى جمع غفير من المشايخ والمتصوفة وهم يذكرون الله واتجهوا إلى صاحب الدولة ، وقد ذهب الحقير على الفور إلى ميدان سراى الباشا وانزويت فى زاوية واشتغلت بالمشاهدة ، كان متصوفة ومريدو البدوى ـ والعظمة لله ـ ما يزيد على عشرة آلاف شخص يسيرون بالطبول والدفوف ويحملون الأعلام والرايات وبعضهم يحمل آلات الحرب والبعض الآخر يحمل فى يديه النبوت وفى خصورهم التنورة يذكرون الله ، ويحملون مئات الآلاف من الرايات والأعلام ، فأصبحت القاهرة فى ذلك اليوم مثل الحديقة المثمرة ، سار الموكب حتى ميدان القصر وعندما قال الخليفة الأول للمريدين اذكروا الله وكان ذلك فى حضور الباشا ، ردد المريدون كلمة التوحيد ، ورفعوا الرايات المطلية بالذهب على رءوسهم ودقت الطبول والدفوف ونفخ فى النفير ، وانشغل ما يقرب من ثلاثة آلاف وسبعمائة شيخ وما يقرب من عشرة آلاف مريد حاسرى الرأس بالتوحيد والذكر وأطلق المجازيب الصيحات ودقت الطبول ، حتى أن ميدان القصر أصبح كساحة الذكر ، وأقسم برب الكعبة أن صدى أصوات المريدين وهم يرددون الله الله كانت تصل إلى عنان السماء حتى أن الملائكة فى السماء كانت تغبطهم على ذلك ، وبعد الذكر قام نقيب المريدين بحمد الله والثناء عليه ثم صلى على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثنى على الكتخدا إبراهيم باشا ، ثم تقدم الجميع بعد ذلك إلى الباشا أفواجا ، ثم قام أبو الخير

١٦١

إبراهيم باشا بمقتضى قانون البدو وفرمان السلطان قايتباى بتحرير رسائل إلى حسن أغا كاشف الغربية وعلى أغا كاشف منوف ورؤساء البلوكات السبعة وبقية الأغوات بأن يتأهبوا بكامل أسلحتهم للمولد الشريف ، ويوصيهم بالحفاظ على ميدان المولد دون تقصير ، ويوصيهم بمنع انتشار الخمر وأماكن شرب البوظة وخيام البغايا ومنع أشقياء العربان والأشرار من الخروج إلى ميدان المولد.

وزيادة على المنحة التى يمنحها الباشا للمشايخ يقوم الباشا بإهداء ضريح البدوى قطعتين فن القماش الأخضر وبطمانين عود بخور وخمسين فثقالا فن عنبر وسجادة حرير وأخرى إبريشم واثنان فن شمع العسل ، ويعطى لكل رجل فائة بطمان فن الشمع ، ويسلم الباشا ذلك كله إلى فصطفى الروفى خليفة البدوى فيقوم كل المشايخ بتقبيل يد الشيخ ويدعون له بالخير ، ثم يبدأون فى التوحيد السلطانى فرة أخرى.

ويتعجب المفرطون من ذلك أشد العجب ، وبعد الانتهاء من الذكر والدعاء للباشا يحملون كل الأشياء التى منحها الباشا لهم ، ويقف رئيس الجلادين بعد ذلك فى ميدان القصر وينادى بصوت مرتفع مولد البدوى فى منتصف جماد الآخر ، ويذهب كل المشايخ والشباب والمريدون إلى خلواتهم فى صفوف وترتيب كأنهم أمواج ، وقد تحركت عواطفى لكى أشارك فى هذا المولد ، ولكنى سألت نفسى بأى طريق سأقوم بتلك الزيارة الواجبة ، وبعد المغرب جاءنى أحد الجنود الداخليين وقال لى تفضل يا سيدى إن الباشا صاحب الدولة يريدك ، وعلى الفور ذهب الحقير إلى إبراهيم باشا وكان الحديث عن مولد السيد أحمد البدوى ، وقد رأى الحقير أن هذه فرصة عظيمة اغتنمتها فقلت : يا سلطانى هلا أذنتم لنا بالمشاركة فى الدعاء بمولد البدوى ، فوافق الباشا على مطلبى ، وأصدر فرمانا بخروج على كتخدا معنا ، وأتى الكتخدا وأحسن على الحقير بمائة سكة (١) ، وقد نزلت ضيفا بمنزل إبراهيم أغا فى بولاق لمدة ثلاثة أيام بلياليها ، وتجمع فى بولاق فى تلك الليلة آلاف العاشقين الموحدين ، زينوا صفحة النيل المبارك بمئات الآلاف من القناديل

__________________

(١) السّكة : العملة المضروبة.

١٦٢

والمصابيح ، وانشغلوا بالذكر حتى الصباح ، وفى صباح اليوم التالى أقام نقيب الأشراف وليمة عظيمة فى تكية إبراهيم الكلشنى فى بولاق ، حضرها كل علماء وصلحاء ومشايخ مصر ، خاصة قاضى العسكر ، ومشايخ المذاهب الأربعة ، وتناولوا الطعام واشتغلوا بذكر الله ، وتصير تكية الكلشنى فى تلك الليلة مثل النور ، وقد ذكرنا ذلك من قبل عند وصف الموالد ، وبعد ذلك ينفض الجمع.

وفى صباح اليوم التالى يركب جميع مريدى البدوى وسائر مريدى الطرق الأخرى والبحارة فى اثنى عشر مركبا تسمى مراكب العقبة ، تتسع كل مركب منها لألفى رجل إنها مراكب تشبه القروانة ، الواحدة منها أربعة طوابق الطابق الأسفل عبارة عن المخزن وبه الطعام والشراب وسائر المهمات واللوازم ، والطابق الذى يعلوه خاص بالنساء ، ثم الطابق الخاص بمشايخ المريدين ، والطابق الذى يعلوه للفلاحين ومساعدى الربان والزوّار ، لقد شيد المركب طابقا فوق طابق ومقصورة فوق مقصورة ، ويستغرق كل فرد فى وجده وشوقه ، وهذه المراكب المذكورة من أوقاف السيد أحمد البدوى وتحصّل كل مصاريفها من وقف السيد أحمد البدوى ، وتزين صوارى تلك المراكب بالرايات والأعلام كما يقف المشايخ على جوانبها الأربعة يحملون آلاف القناديل والرايات ، وبخلاف تلك المراكب المسماة العقبة ، يستأجر آلاف الزوار والمشايخ حوالى مائتى قطعة من الزوارق والقوارب والسفن الصغيرة ، حيث يزينون صفحة نهر النيل ، وفى وقت الضحى يتحرك الموكب من مدينة بولاق باثنتى عشرة سفينة كبيرة تسمى «عقبة» وما يقرب من ستمائة أو سبعمائة مركب صغير تحمل جميعها حوالى أربعين ألف أو خمسين ألف شخص ، ثم يطلق الجنود الموجودون طلقة من البنادق وطلقة من المدافع ، ثم تدق طبول خليفة البدوى ، ويردد كل المريدين كلمة التوحيد ، وتسير المراكب مع اتجاه النيل ، وينفخ فى النفير.

وعندما يصل المريدون إلى المكان المواجه لإمبابه يقرأون الفاتحة ، ويعقدون النية على الذهاب إلى البدوى ، وفى هذه الأماكن بخلاف السفن استشعر الحقير الذوق والصفا مع

١٦٣

ثمانية مشايخ فتارة مع الشيخ مصطفى الرومى وتارة مع الشيخ عثمان الكلناسى والشيخ الإمبابى والشيخ أحمد القليوبى.

وشاهدت القصبات والبلدان والمعمورة التى تشبه الجنان على ضفتى النيل المبارك ، ودوّنّا أوصافها فمنها :

قصبة شبرا الواقعة على ساحل النيل في مكان قريب من مصر القاهرة بثمانية أميال وهى قصبة عامرة آهلة بها ألف منزل وسبعة جوامع وأسواق وحمام ، وتزينها بساتين النخيل ، ويديرها رئيس فرقة من طائفة إنكشارية مصر ، وتشتهر شبرا بالبطيخ والشمام والذاهب أو الآتى منها يشترى البطيخ ، يحصل منها ألفى قرش سنويا ، وهى مركز الإنكشارية ، ولها ملتزم.

ثم تقدمنا مسيرة عشرة أميال فبلغنا جزيرة بطن البقر ، وهى عبارة عن رأس فى وسط النيل المبارك يتفرع عندها النيل إلى ذراعين ، فقد قام سيف بن ذى اليزن بشق هذين الذراعين بعد عصر نوح ـ عليه‌السلام ـ ، الذراع الأيسر منه يتجه ناحية الغرب ، إلى بندر رشيد وطوله ( ) (١) ميل أما الذراع الثانى وهو الأيمن فيتجه شمالا إلى بندر دمياط وطوله ( ) (٢) ميل ، وبين هذين الذراعين جزيرة عظيمة عبارة عن كشوفيتين ؛ الأولى كشوفية الغربية والثانية كشوفية المنوفية ، وهذه الجزيرة مزينة بآلاف القرى العامرة ، بوسطها مقر كشوفية الغربية وعلى أرضها قصبة طنطا المدفون بها السيد أحمد البدوى ، وهذه الرأس المسماة بطن البقر تقع فى أرض المنوفية وكل مراعيها أميرية ، حيث يقوم رئيس فرقة الجبه جيه (٣) بمصر بتجفيف الفروع والأخشاب الموجودة بتلك المراعى وتحويلها إلى فحم حيث يضعونه فى مصر على البارود الأسود ، فتزداد قوة البارود ، وقد سرنا من هذا المكان بالسفن فى ذراع النيل المتجه إلى دمياط ، وعبرنا قنطرة الملك الطاهر الواقعة يمين أرض قليوب ، وهى جسر عظيم به ألوان قوس قزح يعبره الذاهبون من مصر إلى قليوب وإلى المنصورة ودمياط ، إنه صراط عظيم لم نشاهد مثله ،

__________________

(١ ، ٢) بياض فى الأصل.

(٣) سلاح الذخيرة.

١٦٤

ثم مررنا بقرية مصر خيم الواقعة على ضفاف النيل ، والشيخ عبد الله مصر خيم مدفون بها فى ضريح مغطى بقبة صغيرة بيضاء ، وقد توقفت كل المراكب أمام هذا الضريح ودقت الطبول وذكرو الله ، ثم أبحرت المراكب مرة أخرى ، وهذا المكان هو الحدود بين الغربية والمنوفية ، وتلاطم النيل في هذا الموضع شىء ظاهر ، وقد تحطمت بعض المراكب من شدة تيار المياه ، وعبرنا ذلك المكان والكل يسأل الله أن نعبر طريقنا بسلام ، ويصل ماء النيل إلى قمة اندفاعه ، وفى وقت الغروب ترسو كل السفن على جانب النيل ، حيث يكونوا فى مأمن من الإبحار ليلا ، وفى ذلك المكان قرية تسمى قرية العفريت ، وهى قرية كبيرة تقع فى أراضى الغربية بها مائتى منزل وجامع ، ويشتغل معظم الأهالى هناك بصناعة الأكواب ، وبها قصر مشهور مثل حدائق إرم ، قام ملوك مصر السلف بصرف خزينة على هذا القصر من خزائن مصر ، وفى وقت قريب سكن هذا القصر شخص يدعى فضلى أغا ، وفى أحد الليالى رأى فضلى أغا شخصا عظيم الجثة يهجم على القصر ، فظن فضلى أغا أنه لص فجمع الحراس وتسلحوا ونادى فيهم أن يهجموا على اللصوص وعندما أطلقوا النار وضربوا بالسيوف ، أصيب أحد اللصوص ولكنه لم يمت ، أما حراس فضلى أغا فقد أصيب بعضهم بالصرع وأصيب البعض الآخر باعوجاج فى يده وفمه وأنفه ، وبالرغم من ذلك ظل فضلى أغا وحراسه يحاربون بشجاعة لمدة ساعة ، ثم فروا هاربين من القصر ، ثم سد أهالى القرية باب القصر بالطوب وظل على حاله حتى الآن ، ولا يستطيع أحد أن يدخله ، حتى عندما وصلنا هناك سألنا أهل القرية عن هذا القصر فقالوا : «إنهم فى بعض الليالى يرون قناديل تضىء فوق سطحه ، ويسمعون صوت دق الطبول ، وفى صباح تلك الليالى يجدوا على حوائط القصر منسوجات بيضاء وسوداء لا هى من صوف الإبل ولا هى من صوف الأغنام ، إنها منسوجات لا مثيل لها فى الدنيا ، إنه بلاء مسلط على قريتنا ، ولكن لا ضرر منه على أولادنا وأهلنا».

أما فضلى أغا وجميع حراسه فإنهم يعيشون الآن بصحة جيدة ، ولا يعرف أحد مقدار أمواله التى تركها فى القصر عند ما فر هاربا ، فقد زادت الضعف وهذا ما نقله

١٦٥

أهل القرية لنا ، ويخرج كل الزوار من المراكب وينزلون على شاطئها ويطهون الطعام ، وقد أخذ الشيخ مصطفى الرومى عشرة نعاج وطبخها وقدمها للجوعى والمساكين مصداقا لقوله ـ تعالى ـ : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان : ٨] فمما لا شك فيه أن هذا الجمع الكبير من الناس به المساكين والأيتام والفقراء حيث يتناولون الطعام جميعا ، وبعد الطعام والحمد والثناء يبدأ الذكر ، وفى وقت العشاء تسكن الرياح ويطلق الشيخ مصطفى طلقة مدفع من سفينته فيسير الموكب وتشعل آلاف القناديل في المراكب وتطلق السفن قذائف المدفعية والبنادق الفشنك.

وقد مررنا فى تلك الليلة ببلدان وقرى عامرة بالحدائق والبساتين وكأنها حدائق إرم ، وتزينت صفحة النيل المبارك بالسفن ، ويتولى الملاحون توجيه السفن يمينا ويسارا حتى يتمكنوا من اجتياز هذا المكان بسلام ، بينما الراكبون يذكرون ويرددون يا مولا يا فتاح ، وعندما يقول الشيخ مصطفى خليفة البدوى اذكروا الله يا إخوان ، يرد كل العاشقين والمشتاقين بكلمة التوحيد لا إله إلا الله ويبدأ المريدون فى التهليل فيصبح وجه النيل المبارك كله ذكرا لله ، ويغمر ماء النيل فى النور ويدهش كل الموحدون ويصيحون وقد غابوا عن الوعى من شدة الوجد ، وعندما يستمع أهالى القرى الواقعة على ضفاف النيل ، وتسير السفن على هذا النحو حتى صلاة الفجر وعند صلاة الصبح ترسو كل السفن على جانب النيل.

منزل قصبة التفاحية وهى قصبة عامرة تقع فى أراضى الغربية بها ثلاثمائة منزل وحدائق وبساتين نخيل وجامعين ذوى مئذنة رشيقة موزونة وما يقرب من أربعين أو خمسين حانوتا وحمام ، ولهذه القصبة ملتزم ، بالجهة الجنوبية لها ضريح السيد داود العرب وهو مجاور لجامع باسمه ، وللسيد داود العرب مولد كل عام يجتمع فيه أناس كثيرون ، إنه شيخ عظيم فى منزلة السيد البدوى وله مناقب فى طبقات الشعراوى ، ولو دخل قاتل أو لص أو مدين تكيته لا يستطيع الحاكم أن يقبض عليه ، وذلك لأن المتهم الذى يدخل التكية لو ثبت فى حقه أنه مذنب فإنه يتوب بمجرد دخوله التكية ، كما أن الدائن إذا دخل التكية يؤدى ما عليه ، إنه سلطان عظيم قدّس سره العزيز ، ويقوم كل

١٦٦

الزوار بزيارة تكية الشيخ داود العرب ثم يركبون السفن مرة أخرى ويبحرون مقدار ثلاثين ميلا حتى يصلوا إلى قرية مبهوم وقرية شبراتين وهما قريتان عامرتان بهما ثلاثمائة منزل وبساتين نخيل وجامع ، تقع هاتان القريتان فى أراضى الغربية ، ويمر الزوار من عليهما ويبحرون مقدار عشرة أميال.

أوصاف قصبة زفتى وتعنى فى اللغة العربية ( ) (١) وترسو كل السفن على جانب النيل المبارك فى الجهة الشمالية لهذه المدينة ويخرج منها كل الزوار وينصبون آلاف الخيام على ضفاف النيل حيث يبيتون بها يومين ويأتى الجمالون والبغّالون وأصحاب الحمير من كل القرى لتأجير الدواب لتحميل أمتعة وأغراض الزوار ، والمسافة بين زفتى والسيد أحمد البدوى خمس ساعات تقريبا.

أوصاف مدينة زفتى

مدينة زفتى عبارة عن قضاء شريف يحصل مائة وخمسين أقچة ، تقع على ضفاف النيل تحت حكم حاكم الغربية ويتبعها سبعون قرية عامرة ، يحصل لقاضيها سبعة أكياس من الأموال المصرية ، وكل قرى زفتى إلتزام لعباس أغا الذى كان أغا للبنات قبل ذلك ، ومدينة زفتى مدينة عامرة ، بها خمسمائة منزل للفلاحين كما يوجد بها بساتين للنخيل وغلالها مشهورة وقمحها جيد وبها ثلاثة جوامع ؛ الأول منها الجامع الكبير عند الميناء ويبلغ طوله مائة خطوة وعرضه مائة خطوة أيضا ، له مئذنة ذات ثلاثة طوابق وثلاثة أبواب ، وبفنائه شجرة سدر ، ويوجد جامع آخر بالقرب من الميناء وهو جامع صغير له مئذنة واحدة ذات طابق واحد ، ويوجد جامع ثالث صغير بنائه حديث ، وبخلاف تلك الجوامع توجد سبعة زوايا بالمدينة ولا يوجد بالمدينة مدرسة أو حمام ، وبها خمسة وعشرين حانوتا وستة مقاه وبها الجاموس والأبقار البلدية ، ولعدم وجود حمام بالمدينة يذهب الأهالى إلى حمام عباس أغا بواسطة القوارب ، وفى الناحية المقابلة لزفتى

__________________

(١) بياض فى الأصل.

١٦٧

فى أراضى المنصورة تقع مدينة ميت غمر ، وتعنى فى اللغة العربية ( ) (١) وهى قضاء مائة وخمسين أقچة تقع تحت حكم حاكم المنصورة يتبعها ( ) (٢) قرية ، يحصل منها سنويا ستة أكياس والتزام هذه المدينة للأمير أبو السيف أحمد بك وهو من أمراء مصر ، وتشتهر ميت غمر بسكرها ويكثر بها الرّمان والتمر ، وبساتينها ونخيلها ممدوحان ، والمدينة تقع فى صحراء واسعة على ساحل النيل بها أربعة آلاف منزل معظمها مغطى بالطوب الجيرى ، وتشتهر المدينة بأعيانها وعلمائها وأشرافها ، فقد اشتهر العلماء الغمراويون فى كل أقاليم مصر ، فيها المئات من المصنفين والعلماء والمؤلفين وبالمدينة تسع نواح تتبعها ، وبها خمسة وأربعون محرابا منها تسعة جوامع جامعة فقط ، أما الباقين فهى مساجد صغيرة ، وهى على التفصيل ؛ الجامع الكبير ويقع فى السوق وهو من بناء حماد بن بقر ويتسع لجماعة كبيرة ، يبلغ طوله مائة خطوة وعرضه ثمانين قدما ، وبه مئذنة رشيقة ذات ثلاث شرفات عند باب الجامع ، يبلغ طول تلك المئذنة مائتين وخمسين قدما تقريبا وفى أعلاها مكان للراية كما تعلوها قبة صغيرة تشبه الكوب ، يعلو ذلك كله راية خضراء وحاصل القول أنها مئذنة غاية فى براعة البناء لا يمكن التعبير عنها ، ومحراب المسجد ومنبره على الطراز القديم ، وحول فناء المسجد وبداخله ستة وثلاثين عامودا من المرمر الملون ، وللجامع ثلاثة أبواب لكل منها سلم يبلغ خمسة أقدام لأسفل ينزل من خلالها إلى المسجد ، ودائما ما يكثر العلماء فى هذا المسجد يدرسون ويتباحثون فى المسائل العلمية ، كما يتواجد به أشخاص من أتقياء الأمة ، أما الجامع الموجود عند رأس الميناء فهو جامع جديد ويتسع لأناس كثيرون ، وبالقرب من المحكمة الجامع المعلق ، وقد أسموه المعلق لأنه يصعد إليه بسلم حجرى يبلغ ارتفاعه ثلاثة عشر قدما ويدنو من الجامع حوانيت وميضئة للوضوء وحوض شافعى ، إنه جامع غاية فى الجمال ، وجامع آخر لم نعلم اسمه ، أما المحاريب الباقية فهى مساجد صغيرة لا تعد جوامع ، وبالمدينة سبعة مدارس ، واثنا عشر مكتبا للصبيان ، وأسبلة فى سبعة أماكن بالمدينة وسبع وكالات تجارية وستمائة حانوت ، ولا يوجد بها سوق مبنى بالطوب ، إلا أن تلك الحوانيت المذكورة بها كل شىء ، وتنتشر المقاهى بها

__________________

(١ ، ٢) بياض فى الأصل.

١٦٨

على ضفاف النيل ، وكان القرآن يتلى فى كل دكاكين الحرفيين ، فيوجد هناك حملة القرآن ، وبها أيضا ما يزيد على ثلاثة آلاف مفسر ومحدث إنها مقر العلماء التى تلى الأزهر الشريف إنها ميت غمر ، وبها رجال عظام يقولون عليهم علماء الغمراوى ، والحمد لله أن ذهبنا إلى هذا العالم وهو يشرح تفسير ابن جرير ودعا لنا بالخير. ويشتهر أهالى ميت غمر بالذكاء ، وهى بلد هواءه لطيف وماءه عذب ، وعشاقها مشهورون فى الآفاق ، حتى أنه فى بعض البلدان عندما يريد أحدهم مدح محبوبته يصف عينها بأنها عين حوران وعين الغمراوى ، والعجب أن أهل مصر لا يضعون كحلا فى أعينهم لذا تجد أعينهم جميعا مشوشة ، أما عين الغمراوى فهى ممدوحة بين الناس ، وخلاصة القول إنها مدينة كثيرة الغلال.

فى بيان الأضرحة الموجودة بميت غمر

ضريح الشيخ عبد الله وهو مدفون فى قبة عالية فى المكان المقابل للمحكمة ، ووسط بساتين النخيل الواقعة فى الجانب الشرقى خارج المدينة توجد أضرحة كلّ من الشيخ محمد المنصورى والشيخ عز الدين الواعظ والشيخ شجاع الدين الشنلوانى والشيخ سيد خلف والشيخ سيد محمد القصرى والشيخ يونس الأحمدى والشيخ محيى الدين والشيخ إسماعيل والسادات الأربعين والشيخ محمد الهندى والشيخ أحمد الزنفلى ـ رحمة الله عليهم أجمعين ـ.

كما دخلنا حمام المدينة ويعدّ حمام ميت غمر من الحمامات السبعة المشهورة فى مصر ، بناءه ومياهه وهواه فى غاية اللطف ، أدينا صلاة الجمعة فى الجامع الكبير ، وكان لنا نصيب من دعوات أهل الحال ، وركبنا المراكب مرة أخرى ومررنا بقصبة زفتى من الناحية المواجهة لميت غمر ، وتوجهنا صوب ناحية الغرب مع مجموعة من الخيالة العرب وخمسة من الجنود ومررنا بعشرين قرية عامرة بحدائق النخيل والبساتين ودخلنا قرية شرسنة ومكثنا هناك فترة حيث تناولنا الطعام ، إنها قرية عامرة بها مائتى منزل معظم أهلها من السادات الكرام ، أجدادهم حضرة الشيخ أبو العز والشيخ على المدنى والشيخ

١٦٩

رمضان الواحدى وكلهم راقدون فى أضرحتهم إلى يوم الدين ، تقع هذه القرية فى أراضى منوف ، بها جامع وتكية ودار للضيافة كثيرة الخيرات وهى التزام ليوسف أغا أغا الانكشارية من أغوات الكتخدا إبراهيم باشا. ويحصل منها سنويا ستة أكياس.

وفى الساعة الثالثة وصلنا مدينة العرش القديم المدينة العظيمة منوف ، وكلمة منوف كلمة قبطية تعنى العدد ثلاثين ، فقد بنيت عدة قرى بعد طوفان نوح منها قرية الجودى الواقعة تحت سفح جبل الغورى بالقرب من الموصل ، كما تم بناء مدينت بلبيس والعريش ومن بعدهم مدينة منوف فى أرض ساحان ، وتقع المدينة فى صحراء تبعد ساعتين عن شرق النيل وساعتين عن غربه ، ويقول المفسرون أن منوف مدينة القدماء ، وهى المدينة المقصودة فى الآية الكريمة : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) [القصص : ١٥] ويذكر المؤرخ المقريزى فى خططه ما نقله عن تواريخ القبط والتواريخ التى كانت موجودة أيام الخليفة المأمون وهى التواريخ الخاصة بإدريس عليه‌السلام ووجدها المأمون فى جبل الأهرام ، أن فرعون موسى خرج من ديار الموصل فى أرض بابل وسكن فى مدينة منوف وترعرع بها ، ثم أصبح حاجبا على مصر ثم حاكما عليها ، واتخذ منها عاصمة له ، وعمّرها أكثر مما كانت عليه.

وبداية عمران هذه المدينة كانت فى عهد بيظر بن حام بن نوح ، فقد استأذن بيظر من جده نوح ـ عليه‌السلام ـ بعد الطوفان وجاء إلى جبال الأهرام المواجهة لمصر القديمة ، وكان معه حماه الحكيم قليمون ، فلم يجد بيظر وقليمون أى أثر للأبنية التى كانت عامرة قبل الطوفان إلا جبال الأهرام ، وقد رأى بيظر وقليمون أن هذا المكان لا يصلح أن يكون سكنا لهما ، وسارا حتى بلغا الموضع الذى به منوف الآن ، وبدأ فى بناء المدينة ، وبيظر بن حام بن نوح هو النبى الذى وطأت قدمه مصر بعد الطوفان ، وكان معه تسعة وعشرين شخصا أى أنهم كانوا ثلاثين شخصا وهذا سبب تسمية المدينة منوف ، ومن يقول أن أصل كلمة منوف من ماف فهو غلط ، وعمّر بيظر بعد ذلك مائة عام ، وقد أنشأ بمدينة منوف الآثار الكثيرة ويعد بيظر بن حام هو أول حاكم على مصر فى التاريخ ، وأول بناء له هو مدينة منوف هذه ، واستخرج الكنوز الكثيرة من باطن الأرض

١٧٠

بناء على تعاليم حماه الكاهن قليمون ، وبنى سبعمائة مدينة محصنة بالأسوار ، وبيظر هو أول من شق الخلجان والأذرع من نهر النيل على أرض مصر بحساب الهندسة ، وقد توفى بيظر والحكيم قليمون بعد السنة السادسة بعد ثمانمائة وألف بعد الطوفان ودفنا فى الهرم الواقع فى الجهة الغربية لهضبة الأهرام ، وهما أيضا أول من دفنا فى مصر بعد الطوفان ، وأصبح ابنه مصرايم حاكما مكان أبيه وهو الذى قام ببناء مصر القديمة لذا سموها مصر على اسمه ، واتخذ مصرايم مدينة منوف عاصمة له مثل والده وعمرها أكثر مما كانت.

بعد ذلك تولى عرش مصر دلوكه بنت زيباك ، وكانت منوف فى عهدها عامرة للغاية حيث بنت قلعة لم يبنى مثلها فى ذلك الوقت ، كان لهذه القلعة سبعون بابا ، وقد صفّحت كل الآثار بالرصاص والحديد والنحاس ، وأصبحت دلوكه هذه ملكة على مصر بعد أن ظلت زوجة لفرعون عشرين عاما ، واتخذت من مدينة منوف عاصمة لها ، وقد تزينت المدينة فى عهدها إلى أقصى درجة حتى أن كل الأسطح والأسقف كانت مغطاة بالفضة الخالصة ، وكل زجاجها من النجف والزجاج والبللور ، وبعد استشهاد يحيى ـ عليه‌السلام ـ أى قبل ميلاد الإسكندر بمائة وعشرين عاما خرج بخت النصر (١) من مدينة الموصل ، وضرب مدن الشام والقدس ومصر ومدينة منوف عاصمة مصر وحوّلها إلى تراب ، وأحرق بنى إسرائيل وبذلك انتقم بخت النصر لدم يحيى ـ عليه‌السلام ـ نظم :

خرّب بخت النصر مصر

فلم يبق بها إيوان أو قصر

وبأرض جزيرة الغربية كشوفية أخرى هى كشوفية منوف ، التزامها مائة وسبعون كيسا ، كان حاكمها ميرزا الكاشف يشتهر بالشجاعة والصلاح حيث كان حاكما على منوف وخمسمائة ناحية تابعة بها ، وتحت إمرته ألف جندى من جنود الفرقة السابعة من جند مصر ، كانوا يحصّلون الأموال الأميرية له ويقدمون كل عام مائة كيس من العملات المصرية ، وهى أعلى حكومة ، كما يتحصل لكل الملتزمين مائة حمل من العملات

__________________

(١) هو بختنصر ، والخبر فى المعارف لابن قتيبة ٤٦ ـ ٤٧ وغيره.

١٧١

العثمانية ، ويتحصل لكل مشايخ الفلاحين وأصحاب البلاد ألف حمل من المال ، وهذا مدون فى سجلات الأحوال اليومية.

ومنوف قضاء شريف به ثلاثمائة وعشرين قرية عامرة ، يحصّل من كل قرية منها للقاضى عشرة أكياس سنويا ، ويبقى للملتزم طرقجى زاده سبعة أكياس من كل قرية ، ولأن منوف كانت مدينة العرش الفرعونى فإن فلاحيها كانوا عصاة وملاعين وبلا حياء ودائما ما يجمعون بعضهم لمحاربة الكاشف وقد هزمهم الكاشف وقتل بعضهم وحبس البعض الآخر.

عجيبة وغريبة

لقد ذكرنا أن أهالى منوف قوما معاندين ملاعين ، ولو أصدر الكاشف حكمه بقتل أحد أشخاصها يتجمع أهالى هذا الشخص المحكوم عليه بالقتل ويذهبون للكاشف ويلتمسون منه الرجاء بعدم قتل هذا المجرم وإنهم سوف يدفعون الدية ، وقد عرف عنهم أنهم منهم اللص والنشال وقاطع الطريق وصاحب اللموم أى الذى يشعل الفتنة بين الجند ، وهؤلاء جميعا ينبغى قتالهم.

وبمدينة منوف جند تحت إمرة الكاشف وأسماءهم تختلف عن أسماء الروم فمنهم الأمير أوزبك والأمير تيمور طاش وتمرس وقنصوه وغورى ولاجين وقرصفاى وبولاد وكرتباى وشاهين وسيتال وجابة بذرى وجابة الدى وجابة وردى وأسد وسيفى وجانبولاط ، ويسير هؤلاء الجنود دائما وفى خصورهم السلاح ، كما أن لهم منازل عامرة ولم يتبقى بالمدينة من آثار الأوائل إلا سبعة عشر محلة وأربعين جامعا.

من تلك الجوامع الجامع الكبير وهو جامع فسيح به أربعون عامودا تحمل السقف ، وله مئذنة ، وثلاثة أبواب ، وبفنائه شجرتى نخيل ارتفاعهما كبير وحجمهما كبير أيضا ، ولا يوجد مثلهما فى إيالة مصر كلها ، وقد قيل أن هاتين النخلتين مزروعتان من أيام الملكة دلوكه وأنها كانت تعقد الديوان عندهما.

وبالسوق جامع الصوين وبه ثمانية عشر عامودا تحمل السقف المزين بالنقوش ، وأسفل الجامع حوانيت ، ولوجود الجامع فى السوق فإن جماعته كثيرة ، وللجامع مئذنة

١٧٢

بديعة البناء. ثم جامع الشيخ موسى وهو جامع لطيف ، وبخلاف تلك الجوامع توجد المساجد الصغيرة ، كما يوجد بالمدينة أربعين مكتب للصبيان وثلاثة مدارس وسبعة وكالات وأربعمائة حانوت وبالرغم من عدم وجود سوق للقماش إلا أن كل وكالة من الوكالات السبع المذكورة بها حانوت لبيع الأقمشة ، كما يوجد حمامان قديمان أحدهما من أيام فرعون ، والحقيقة لا يوجد بناء يشبهه منذ خمسمائة أو ستمائة سنة ، وبالمدينة أربعون سبيل مياه ، وعند رأس الزاوية فى مواجهة جامع الصوين داخل السوق يوجد سبيل مياه ، ماءه هو ماء الحياة ، وبالرغم من أنى شاهدت كل هذا العمران بمدينة منوف ، إلا أن أطلالها وأخنانها القديمة كثيرة ، وهذا دليل على قدم المدينة ، فالأخنان الموجودة فى الجهات الأربعة من المدينة لا توجد فى أى مكان آخر فى مصر سوى فى هذا المكان ، حتى أن قصر فرعون غاص فى الرمال ، ويقوم الأهالى بإلقاء القاذورات فى مكانه ، وتراكمت تلك القاذورات فوق بعضها البعض حتى صارت كالجبل ، وعندما يفيض النيل تأتى المراكب لمدينة منوف ويشترون البضائع والأمتعة.

يتميز طقس المدينة بأنه طقس لطيف ، رغم أنها كانت مدينة الفراعنة ، إلا أنه يوجد بها أشخاص من صلحاء الأمة.

مزار منوف

لأن مدينة منوف مدينة مذمومة ، لم يستوطنها أحد من كبار الأولياء ، إلا بعض المشايخ وذلك للنص القرآنى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ، وهم : مقام الأربعين ، ومقام الشيخ ليمان البجوى ، ومقام الشيخ دالكون ، وهو قبة صغيرة بالسوق ، وهو سلطان عظيم ، يقام له مولد كل عام ويقال إن كل أرواح الأولياء تأتى يوم مولد هذا الشيخ للزيارة ، بل إن الأهالى شهدوا على أن يوم مولد هذا الشيخ يجدون دخانا أخضر ينبعث من الضريح وينتشر فى كل طرقات المدينة وتنتشر الرائحة الطيبة فى كل الطرقات ، ويقال إنهم لم يشاهدوا شخصا رأى العين بل يسمعون صوت طرق نعال داخل الدخان ، رحمة الله عليه ، وقد قام الحقير بزيارته فأحسن عليه الكاشف بجواد كحيلانى.

١٧٣

وخرجنا من منوف مع عشرين خيالا من العزب وسرنا فى اتجاه الشمال خمس ساعات حتى وصلنا بلدة طوخ النصارى وكل سكانها من القبط ، وقد كانت مدينة عظيمة قديما ولا تزال آثارها ظاهرة للعيان ، ولم يتبقى من منازلها إلا ثمانمائة منزل فقط وثلاث أديرة ، ولهذه البلدة مكانة عند كل القبط ، فهى مسقط رأس الملك القبطى الملك طوطيس وهو مدفون فى أحد الأديرة هناك ، وهذا الملك طوطيس هو الذى أهدى سيدنا إبراهيم أمنا هاجر والدة سيدنا إسماعيل ، وقد ولد فى تلك المدينة الملك المقوقس الذى كان يحكم مصر أيام فتح عمرو بن العاص ، ولهذا فإن كل القبط يعظمونها ، ويزورونها مرة كل عام ، والملك المقوقس هو الذى أرسل مع ذى النون المصرى البغلة والسيف وفتاتين من القبط إلى سيدنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أهدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتاة منهما إلى حسان بن ثابت وأنجب منها حسان ابنه عبد الرحمن ، أما الثانية وهى مارية فقد أخذها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه وأنجبت له ابنه إبراهيم ، وأهدى السيف والبغلة إلى على بن أبى طالب وهذا السيف هو ذو الفقار ، وقد نظم العجم فى هذا السيف :

لا فتى إلا علىّ ، ولا سيف إلا ذو الفقار

أما البغلة فهى دلدل. وبقرية طوخ النصارى مكان منخفض به آثار حوافرها ، لأنها مشت فيه ، لذا فإن كل القبط يأتون لزيارة هذه القرية ، ملتزمها هو على افندى الروزنامجى فى إستانبول ويحصل سنويا سبعة أكياس ، وقد سرنا فى تلك القرية ، ثم هرولنا فى المسير حتى نتمكن من الوصول إلى مولد أحمد البدوى قبل المولد بيوم ، واجتزنا القرى العامرة فى خمس ساعات.

أوصاف قصبة طنطا

مرقد أبو اليتامى السلطان العلوى

وقطب الأقطاب السيد أحمد البدوى قدّس سره

مدينة طنطا مدينة مباركة مدفون بها السيد أحمد البدوى ، تقع فى مكان مرتفع بالصحراء فى أراضى الغربية ، ملتزموها ثلاثة وهم مكلفون بجمع المحاصيل ، ويحصّلون منها سنويا عشرة أكياس ويقدمونها للجانب الميرى ، وتعد المدينة بمثابة مركز

١٧٤

كاشف الغربية وهى مدينة آهلة بها ألف وخمسمائة منزل بدون حدائق أو بساتين ، ويتبعها ستة محلات وبها ثمانية جوامع هى جامع السلطان قايتباى وهو جامع عظيم مثل القلعة من جوامع السلاطين السابقة ، وبه ضريح السيد أحمد البدوى ، لذا يعج الجامع بالناس ليل نهار ، يبلغ طول فنائه مائة وعشرون خطوة وعرضه مائة خطوة ، والمحراب والمنبر على الطراز القديم ، وبالجامع وفنائه ستون عامودا من المرمر أربعة وعشرون منها داخل الجامع والباقون فى الفناء ، على تلك الأعمدة قبوات عظيمة يعلوها السقف المزين بالنقوش والسطح مغطى بالجير وللجامع مئذنتين الأولى فى الناحية اليمنى وبها ثلاث شرفات ، ويبلغ ارتفاعها مائتى قدم ، وبهذا تكون تلك المئذنة أعلى من مئذنة جامع السلطان حسن فى القاهرة إنها مئذنة بديعة الصنع.

ويقع ضريح البدوى على مقربة من تلك المئذنة ، أما المئذنة الواقعة فى الناحية اليسرى فهى مئذنة قديمة مثل البرج بها شرفتين ترتفع لخمسين قدما ، بين كل قدم وآخر مقدار ذراع وهى منخفضة عن الأخرى ، ولا توجد رايات فوق تلك المآذن ، ولكن تعلوهما قبتين صغيرتين مثل القلنسوة البكتاشية.

أسفل هذه المئذنة المنخفضة صهريج كبير لسبيل مياه ، يملأ هذا الصهريج خمسة عشر راوية (قربة) ، ويكفى ماؤه كل الزوار ، وبالقرب منه صنابير مياه مظللة بقبة مثل قبة القصر ، مغطاة بالكلس ، إنه خيرات عظيمة ، وعلى مقربة منه حوض مياه يطلق عليه حوض الشافعى وهو حوض عظيم مثل البركة ، تحيط به المراحيض من جوانبه الأربعة ، أما أعلى الحوض فتوجد غرف للطلاب والمريدين ولهذا الجامع أربعة أبواب اثنان منها جانبيان الأول للميضأة والثانى باب صغير عند حائط القبلة والباب الثالث باب القبلة وهو الباب الرئيسى وتعلوه لوحة مرمرية بيضاء كتب عليها (جدد هذا الباب المعظم الإمام المعظم مالك المماليك السلطان أبو النصر قنصوه الغورى خلد الله خلافته فى تاريخ ذى الحجة الحرام من إحدى وعشرين وسبعمائة) ولكن الجامع من بناء السلطان قايتباى ، وقد اطلع الحقير ذات مرة على أوقاف الجامع ، ولكل باب من الأبواب الثلاثة للمسجد سلم حجرى يرتفع ثلاثة أقدام.

١٧٥

أوصاف ضريح أحمد البدوى

يتصل ضريح البدوى بالباب الأيمن للجامع ، وتوجد قبة عظيمة مطلية بالكلس الأبيض الذى يشبه اللؤلؤة ذات أعلام خضراء بين القباب الجانبية الواقعة فى الناحية اليمنى للجامع إنها قبة تكية القطب الربانى أحمد البدوى ، بوسط هذه التكية ضريح البدوى وهو عبارة عن صندوق من خشب السرو مغطى بقماش من أستار الكعبة المرصعة بالنجوم المذهبة داخل سياج خشبى على شكل مصبعات ، وعلى كل زاوية من زوايا الصندوق كرة من الفضة الخالصة ، وفى وسطه عمامة خضراء أرسلها والى مصر أبو الخير الكتخدا إبراهيم باشا لتكون علامة على موضع رأسه المباركة.

وذهب الموكب الذى يضم مشايخ الطرق وخلفاء البدوى وعشرين ألف مريد على دق الطبول والتوحيد لإيصال القماش الشريف للضريح ، وقام خليفة البدوى بلف القماش على هيئة العمامة عند رأس البدوى وسط التكبير ، كما قاموا بلف الضريح بالقماش المنقوش والمشغول بالذهب والفضة ، والأقمشة المزينة المطرزة بالذهب والفضة فى ضريح البدوى كثيرة ، ولا يستطيع أى شخص من الخدم أو غيرهم أن يمد يده ليأخذ واحدة منها ، وقد عمد الكثيرون إلى هذا ولكن أيديهم شلّت عن الحركة ووضعت الهدايا التى جلبها الوالى وفرشت السجادة وأشعل بخور العنبر فامتلأت القبة بالرائحة الطيبة ، وعلى شبكة الضريح توجد معلقات كثيرة قيمة كل واحدة منها تساوى خراج الروم ، كما توجد تحف وأشياء ثمينة حول الضريح من جهاته الأربعة مثل الشمعدانات الفضية والذهبية التى يبلغ طول الواحد منها مثل طول الرجل ، وشمعدانات نحاسية وأوانى فضية وذهبية ومباخر فضية وذهبية وأكواب فضية ، والضريح من الداخل مزين بالخطوط الجميلة وهى من خطوط ياقوت المستعصمى والشيخ قره حصارى ، وبالجوانب الأربعة توجد مئات الشموع الكبيرة ، التى تزن الواحدة منها ثلاثة أو أربع قناطير ، وكلها من هدايا ملوك الكفار وذلك لأنهم يعتقدون فى البدوى أيضا ، ويفرج عن الأسر من الزنزانات وتقطع سلاسلهم ويمنحون الحرية ، ويرسل سلاطين البلدان الإسلامية فى الأقاليم السبعة الهدايا والتحف إلى البدوى تبركا ، منها الجواهر والقناديل المرصعة والأكواب والأباريق الفضية ، وكل هذه التحف

١٧٦

والأشياء الثمينة معلقة على زوايا الضريح ، وبخلاف هذه الأشياء توجد أيضا آلاف من الأشياء الملونة المعلقة على الحوائط التى زينت بالخطوط الجميلة لكبار الخطاطين ، حتى أن الحقير كتب آية : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) [هود : ٨٨] على لوحة خشبية بالخط الجلى ووضعتها بجوار المحراب.

وفى الناحية الموجود بها رأس البدوى يوجد حجر أسود عليه آثار قدم النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يقع بصندوق الضريح بل خارجه ، ويقوم الزوار بمسح وجوههم فيه ، ويقولون الشفاعة يا رسول الله ، وبالجوانب الأربعة للضريح نوافذ ذات سياج نحاسى تطل على الطريق العام ، والمحراب صغير ، بناءه غاية فى الجمال ، مرصع بالأحجار الكريمة التى تشبه الصدف ، وزينت القبة بالزجاج ، وبالتكية دواليب محفوظ بها كتاب الله والأوانى مرصعة بالجواهر ، وسجلات للأوقاف ، ويطل باب التكية على فناء الجامع إلى ناحية الشرق وضلفتى الباب مزينتان بالحلقات والنقوش الفضية ، وكلها من آثار أصحاب الخير وإطار الباب من على الجوانب الأربعة مزين بقطع القيشانى المنقوش ، وعلى الإطار العلوى له لوحة مرمرية دائرية مذهبة منقوش عليها بالخط الجلى :

(أمر بإنشاء هذا المقام المبارك مولانا السلطان قايتباى عز نصره).

ومن يصلّ ركعتين فى محراب هذا الضريح يحفظ من كل بلاء الدهر ، ولا يستطيع أى خصيم أن يخاصمه أو يعاديه ، ولا يرى الفقر وإذا ما التجأ صاحب دين أو لص أو صاحب دم بهذا الضريح فإن الحاكم لا يستطيع أن يتعرض له طالما أنه بداخل الضريح أما إذا بقى هذا الشخص بالداخل أربعين يوم وليلة بلا طعام أو شراب فإنه سيموت بالطبع ، وإذا كان الملتجئ إلى الضريح يلوذ به وهو مظلوم فإنه سيجد الخلاص بإذن الله ، حتى أنه قد تداين أحد الكاشفين من المال الميرى ، وفر هذا الكاشف من جراء هذا الدين والتجأ إلى تكية السيد البدوى واعتكف بها ، وقد أرسل الباشا أحد الأغوات مرتين للقبض عليه ولكنهم لم يستطيعوا ، وفى أحد الأيام أرسل الباشا أحد الأغوات المتفرقة ويدعى على أغا وكان رجلا متجبرا ، فأتى على أغا إلى ضريح البدوى وشتم الشيخ سلامة والشيخ أحمد وأخرج الفرمان وضرب به وجوههم وقال : لتخرجا الكاشف من

١٧٧

الضريح وإلا سوف أقبض عليكما وأرسلكما للباشا ، فرد المشايخ : نحن؟ حاشا لله لن نستطيع إخراجه ، ها هى المفاتيح أمامك خذها وافتح الباب واقبض عليه إن استطعت ، فقال على أغا : أنتما اللذان ستفتحان الباب وتسلمانى الكاشف وإلا سأقوم بكسر الباب وإخراجه ، وقد نصح الحقير على أغا بعدم كسر الباب قائلا له : خذ المفاتيح وأخرج أنت الكاشف ، وبعد ساعة كاملة من العناء لم يستطع على أغا أن يفتح الباب ، فغضب وأمر خدامه بأن يخلعوا الباب وأخرجوا الكاشف من الداخل ، فقال كل من فى المجلس حسبى الله وتحيروا لهذا الصنيع ، حتى أنا تحيرت جدا ، أما الشيخ سلامة فقال : اصبروا قليلا وذهب إلى بيته ، وركب الأغا المذكور وخدامه الخيول وذهبوا وعندما خرجوا من المدينة وهم بقرية طوخ النصارى أخذ على أغا يتأوه من شدة الألم ومات وذهب به خدامه إلى مدينة طنطا وهو ميت ودفن هناك ، وقد أخبر الحقير الباشا بهذه الحادثة فعفى الباشا عن الكاشف ، وتصدق بعشرة آلاف قطعة من المال على المريدين الموجودين بالتكية.

وتوجد حجرة خارج الناحية اليسرى للتكية ، بها صندوق خشبى محفوظ به خرقة البدوى وعمامته الخضراء يحفظها بعض المريدين ، ويقام لهذه الحجرة احتفال مرة فى العام ، تكون يوم الجمعة الأخير المتمم لمولد البدوى ، حيث يقوم الشيخ عبد العال وهو ابن الشيخ البدوى بارتداء الخرقة والعمامة فى حضور المشايخ وآلاف المريدين وتدق الطبول والنفير والدفوف والنقارات ويخرج موكب عظيم به مئات الآلاف من الرايات ويكون كل جنود كاشف الغربية وكاشف المنوفية فى هذا الموكب ويدخل الشيخ عبد العال مدينة طنطا مع الموكب ممتطيا جواده ويتجول بالمدينة ، ثم يصلى الجمعة فى جامع الشيخ المدبولى بالمدينة ثم يذهب الشيخ مع الموكب إلى التكية حيث يحفظ الخرقة والعمامة ف الغرفة ثم يتفرق كل الزوار حيث يذهب كلّ إلى بلده.

أوصاف الخرقة الشريفة والشال

الخرقة من القماش الأحمر ولكنها ممزقة إلى قطع صغيرة ، أما الدستار فهو شال من صوف الإبل وقد تمزق بمرور الزمن وتم ترقيعه حتى لا يبلى ، ولا يستطيع أى أحد أن

١٧٨

يرتديه سوى أبناء المشايخ ، والخرقة تفوح منها رائحة للعنبر الخام ، توضع الخرقة بعد نهاية المولد فى مكانها وسط تكبير العاشقين المشتاقين ثم يذهبون.

عاش السيد أحمد البدوى فى عهد ( ) (١) مدة عمره ( ) (٢) سنة ووفاته سنة ( ) (٣) قدّس سره العزيز ، والحمد لله أنه قد تسنى للحقير زيارته وصلى عنده الصلوات الخمسة وقد ختم الحقير القرآن ثلاث مرات فى خمسة عشر يوما بلياليها ووهب ثوابها للبدوى والحمد لله على ذلك.

أوصاف ضريح الشيخ عبد العال

يقع ضريح الشيخ عبد العال بجانب باب القبلة الرئيسى للجامع بمحاذاة ضريح السيد البدوى ، ولا يوجد أحد بالضريح غيره ، ويرقد الشيخ عبد العال تحت صندوق من خشب السرو مغطى بالمخمل الأحمر ، وعلى الصندوق سياج خشبى مصبع الشكل ، والضريح من الداخل غير مزين بدرجة كبيرة.

ظل الشيخ عبد العال خليفة للبدوى أربعين سنة فى حياته وأربعين سنة بعد مماته ، وكان صاحب سجادة ، وله ما يقرب من مائة وسبعين ألف مريد ، عاش مائة وعشرين سنة ، وهو الذى عمّر مدينة طنطا ، حيث كانت له قوة خارقة ، قدّس سره العزيز ، وهو من مريدى الشيخ أحمد البدوى ولم يكن له نصيب من العلم الظاهر بل كان له نصيب من علوم الباطن وارتحل عن الدنيا إلى الآخرة مجردا نظيفا ، وكان فى حياته بمثابة ابن البدوى ، حيث فوض له البدوى كل الأمور ، وأبناءه هم أصحاب السجادة الآن وكل الأوقاف تحت حكمهم ، إلا أن نظارتها منذ عهد السلطان قايتباى فى عهدة ولاة مصر وعند ما يحل واليا جديدا يقوم باستدعاء هؤلاء المشايخ ويحاسبهم عن تلك الأوقاف ، حقا إنها أوقاف عظيمة بها أموال كثيرة حيث تأتيها النذور والصدقات من كل خلفاء ديار المسلمين وغير المسلمين ، ويطل باب ضريح الشيخ عبد العال على فناء الجامع أو على قبلته ، على عتبته العليا لوحة مربعة كتب عليها بالخط الأبيض آية : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف : ١٣] وبجوار الضريح مرقد خمسة من أبناء الشيخ عبد العال لم نعلم أسماءهم ، قدّس سره العزيز.

__________________

(١ ، ٣) بياض فى الأصل.

١٧٩

فى بيان أولياء الله المدفونين بمدينة طنطا

وهم على طريقة البدوى

أولا : بيان الموجودين خارج المدينة :

الشيخ نور الدين والشيخ عبد المجيد شمس الدين والشيخ حسن والشيخ عبد الكريم.

ثانيا : بيان الموجودين داخل المدينة :

الشيخ سالم والشيخ عبد العزيز والشيخ سعد والشيخ السيد على البربرى والشيخ ركيل والشيخ السيد عبد الحق والشيخ السيد ذو النون والشيخ السيد عبد الله.

وبخلاف هؤلاء توجد العديد من الأضرحة التى قمنا بزيارتها ولكنها لمشايخ غير معروفين ، ولكل شيخ منهم ضريح ، رحمة الله عليهم أجمعين.

وبمدينة طنطا أيضا جامع الشيخ إبراهيم المدبولى ، وقد كان هذا الجامع قديما الجامع القديم بالمدينة ، وقد تعبد فيه البدوى فترة طويلة ومقامه به الآن متهدم ، وأحمد الله أننى قد أبلغت جانبولاط حسين باشا بذلك ، فصرح لى بأن أقوم بمراجعة أوقاف هذا المحل ، وقد تم ترميم الجامع من المال الفائض من أموال الأوقاف ، وارتدى خليفة البدوى الخرقة الشريفة والشال الخاص بالبدوى وأدى صلاة الجمعة الأخيرة فى مقام البدوى الموجود به ، إنه جامع قديم تتوسط فنائه شجرة سدر كبيرة ، وقد بنى هذا الجامع على أربعين عامودا ولا توجد به زينات كثيرة ، ومحرابه ومنبره على الطراز القديم ، وللجامع بابان جانبيان ، وباب لمقام البدوى ومئذنة منخفضة ، وتنتهى الزيارات فى هذا المكان ، وبذلك نكون قد انتهينا من أوصاف الجامعين أيضا.

وبخلاف ذلك يوجد ضريح بين تلك الأضرحة وبه حكمة عجيبة ، حيث تمتلئ أرضيته بالرمال ، وفى أيام مولد البدوى تتحرك تلك الرمال ويخرج منها عظام بشرية ، ويأتى آلاف الأهالى لرؤيتها حتى أن بعض الرجال يأخذون من تلك العظام ، بعد ذلك تهب رياح قوية تتحرك على أثرها الرمال مرة أخرى فتختفى العظام تحتها ، ويقول البعض إن هذه العظام هى عظام مريدى أحمد البدوى ، ويقولون إنها تخرج أيام المولد

١٨٠