الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

 ـ العجور الأخضر :

وهو كذلك مثل عبد اللاوى إلا أنه أخضر وأشكاله معوجة مثله كذلك ، وفيه بذور ، وطبيعته مرطبة ، وطعمه لا يشبهه طعام آخر. يسمى فى بلاد الترك «القرع المصرى» ويسمى فى مصر «القرع التركى». إنه قرع مستدير ينتشر بين فقرائنا ، ومنه قرع الماء والقرع الأفرنجى وقرع الألواح وهى كثيرة.

ـ حب اللذيذ (١) :

ينمو على ضفاف النيل وهو يشبه الحمص ويميل لونه إلى الصفرة وهو بقل لذيذ ومقو.

ـ قصب السكر :

يزرع بكميات ضخمة فى جميع القرى وهو محصول عظيم.

ـ القلقاس :

نبات أسود يشبه فجل بروسه يأكله الفقراء وطعمه لذيذ مثل «أبى فروة» (٢).

ـ القنابيط :

يشبه الكرنب ، لكن له أزهار صفر.

ـ التين الأفرنجى (الشوكى):

أشجاره خضراء والواحدة منها طول رجلين وهى تشبه الكف يلتصق بعضها ببعضها وأوراقها سميكة كالكف وعلى أطراف أوراقها الخضر تنمو عشرات من ثمار التين ومنه الأصفر والأحمر وتكون مغطاة بالأشواك. ويستخدم دواء كالتين ، إلا أن طعمه لا يشبه طعم الفاكهة وهو مقو للغاية.

ـ لوز النبى :

شجر قصير كشجر السمر وفى كل شجرة لوزتان أو ثلاث ، وهو يشبه اللوز فى طعمه. وقد خلق هذا النبات كرامة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندما قدم إلى الشام للتجارة ، وهو يكثر فى أرض مصر. إنه مقو ولذيذ.

__________________

(١) يقال له حب العزيز.

(٢) أى الكستناء.

٦١

 ـ الملوخية :

عشب أخضر يشبه النعناع ، يطهى كالسبانخ ، يسميها بعض الظرفاء «ملوكية» لشدة حبهم لها أى أنها طعام الملوك. إنها سريعة الهضم مقوية وهى طعام الزنوج وهى مفيدة للطواشية.

ـ البامية :

نبات فى حجم رصاصة البندقية ، وجلد ثمرتها شائك ولكن إذا طبخت زالت أشواكها. عندما تطهى مع اللحم ويضاف إليها عصير الليمون كانت طعاما عظيم الفائدة. وبداخل ثمرتها بذور تشبه بذور العدس ، والبعض يطبخها بالثوم والماست ، إنها طعام عجيب لذيذ.

ـ الثوم :

نبات ضار وسم زعاف ، لذا لا يقبل عليه الناس والكل يستخدم الثوم التركى ولا وجود لشىء أرخص من البصل والملح.

ـ الكتان :

يزرع بكثرة ، إلا أن أجود أنواعه التى تزرع فى الفيوم والنهارية ، وتباع الكرة من خيطه بخمس عشرة پاره. إلا أن قماشه لا يتحمل ، ويلبس قميص الكتان شهرين فقط.

ـ النيلة :

عشب لونه بين الزرقة والخضرة ، عندما يكتمل نموه يطهى فى أوان كبيرة ، ثم يدق بالمطارق الخشبية فينضح ماؤه فيؤخذ ماؤه ثم يوضع على النار حتى يغلى وترسب زبدته فى قاع الإناء ثم يحول إلى أقراص ويباع لبائعى الأصباغ. وتباع الأوقية منه بأربعة قروش ، ويقال إن هذا العشب لا وجود له فى بلاد الهند.

ـ البرسيم :

عشب ينبت فى اليوم التالى من زراعته بمقدار شبر ، وهو مرعى جميع المواشى ولولاه لما كان فى مصر مرعى.

٦٢

 ـ القصب الريحانى :

قصب طويل ، رقيق فيه عقد ، يصنع منه غليون التبغ.

ـ الحصير المصرى :

وهو من شتى الألوان ، ويصنع منه حصير الفيوم والبحيرة وتباع الواحدة بأربعين قرشا أو أكثر ، وهذا الحصير لا وجود له إلا فى مصر وحدها دون غيرها من البلاد ، وبعض الصناع المهرة يصنعون حصيرا وكأنه سحر معجز.

ـ الترمس :

نبات مستدير مفلطح يشبه الفول ، ينقع فى الماء المملح ويؤكل ، والبعض يطبخه والبعض يطحنه ويصنع منه دقيقا يمسحون يديهم به بعد الفراغ من تناول الطعام ويغسلونها بالماء فهو يزبل الزهمة من اليد. وتستعمله جميع عائلات مصر بديلا عن الصابون فى غسل أيديهم بعد الطعام فهو ذو رائحة زكية. وبعض السمان يدخلون إلى الحمام ويمسحون جسمهم كله بهذا الترمس فيزيل ما علق بأجسامهم من أوساخ ويجعل أجسامهم ناعمة وكأنها الفالوذج ، ولذا فإن جميع حسان مصر يمسحن أجسامهن به فى الحمام إلا أنه ليس من أدوات الاغتسال.

ـ الغاسول :

أحد أنواع الصابون وهو نبات ينمو على ضفاف ترعة «الناصرية» المؤدية إلى الإسكندرية ، يكوم هذا النبات تلالا تلالا فى مكان واحد وتضرم فيه النار فيتحصل من ذلك رماد يصنع منه الزجاج بمشيئة الله.

وقد لا يحرق فى النار ويسحق فى هواوين ، ثم يخلط بالطين ويشكل على هيئة أقراص تغسل بها الملابس فتبدو لها رغوة كالصابون تنظف الملابس وتجعلها ناصعة البياض ، إلا أنه لا يصلح لغسيل العمائم والقمصان الرقيقة.

والسر العجيب أنه عشب يحرق فى النار فيصير زجاجا ويخلط العشب بالتراب فيصبح صابونا. إنه ما يعرف «بالغاسول» يفعل الله ما يشاء.

٦٣

 ـ الحلبة :

حبة مثل حبة العدس ، توضع فى صرر من البز وتنقع فى الماء فتنمو كأنها شعر العرب وتصبح بيض الأفنان يأكلها الصبيان ، كما يصنعون منها حساء. وطعمها لذيذ للغاية.

وفى مصر القمح والشعير والفول والحمص والعدس والقطن والأرز والسمسم أكثر منه فى البلاد الأخرى وأرز مصر ألذ من أرز الهند ، وروان ونيلان وحبته أكبر ، ويقال إن أرز المنزلة وفراسكور لا نظير لمثله على وجه الأرض وليس فيه حصى ، وأجود أنواع الأرز فى مصر هو الأرز السلطانى الأبيض.

ـ النطرون :

شىء يشبه الملح ، لندرة الحطب فى مصر يضعون هذا النطرون إلى الطعام فينضج اللحم وغيره فى طرفة العين ، إلا أن أعيان مصر لا يقبلونه ، وعلى الرغم من أنه ينضج الطعام بسرعة إلا أنه يسبب تورم الخصية لمن يستعمله فيمشى يتبختر وكأنه صاحب الدولة ، ولذا فأغلب أهل مصر مصابون بتورم الخصية ويسميهم الظرفاء أصحاب الدولة ، وأثناء الكلام إذا قلت لأحد المصريين «بخ بخ يا صاحب الدولة» دخله شديد الغضب لأن ذلك يعنى ـ بأسلوب مهذب ـ أنه متورم الخصية.

ثمة ثلاثة أديرة للقبط تقع على صخور قائمة فى الجانب الغربى من كشوفية طرّانة بالبحيرة ، أمام تلك الأديرة الثلاثة بحيرة عظيمة يأتى كل النطرون منها محملا على الجمال ، وهو الآن تحتكره الحكومة. وقد بقى هذا النطرون من أموال قارون على وجه الأرض. والنطرون شىء عجيب ، وإذا سقط الفرس أو البغل أو أى شىء آخر فيه ابتلعه النطرون ، ولا وجود له إلا فى مصر دون غيرها من البلاد ، ويصدر منها إلى جميع أنحاء العالم ، ويستخدم فى بلاد الترك فى مصانع الزجاجات فهو يصهر الزجاج فيجعله كالماء.

وفى مصر تلد الشاة ثلاث مرات فى العام ، ولا تقل الخضروات فيها قط فى صيف أو شتاء.

٦٤

ذكر الأشربة المصرية

ـ السوبيا :

أى بوزة الأرز التى سبق وصفها فيما تقدم.

ـ المازة :

بوزة تصنع من القمح إلا أنها مشروب لعين مسكر للغاية.

ـ البربريس :

شراب يصنع من الزبيب الأسود يضاف إليه السكر والتوابل.

وعرق التمر وماء العسل ليسا كمثلهما فى بلاد الترك ، وهما مسكران للغاية لعنهما الله.

ـ خمر البانجو :

ينقع الحشيش مع العسل التركى ويتخمر ليلة ويصفى فى الصباح بمنخل فيصبح خمرا خضراء اللون من شربها لم يميز رأسه من قدمه.

ـ ماء الأسرار :

خليط من الحشيش مع حلوى خليل الرحمن ، ينقع فى ماء الورد يومين فيصبح براقا ويخرج منه غثاؤه ويباع فى كؤوس فى ميدان الروملى ، ومن شرب منه كأسا أفشى ما فى طويته من أسرار.

ـ عصير العرقسوس :

تستورد جذوره من بلاد الترك وتسحق فى هواوين وتنقع فى الماء ليلة ثم تصفى فى مخلاة خيل جديدة فتقطر قطرات حمراء صافية تشرب. إنه مشروب غير مسكر.

وقد ذكر داود فى تذكرته سبعين فائدة له ومن أعظم فوائده أنه يطهر المثانة ويدر البول ، كما أنه طارد للبلغم ، فالبلغم فى جسم أهل مصر كثير كماء النيل ، كما أنه خافض لدرجة حرارة الجسم ويقول داود فى تذكرته كذلك : إنه لولا شرب المصريين

٦٥

للعرقسوس لأصابهم الجذام من شدة الحر ، فالمصريون جميعا يشربون العرقسوس فى الغدو والآصال.

فى الواقع أنه مشروب عظيم الفائدة حقا.

ـ عصير التمر هندى :

إنه كذلك مشروب لا وجود له إلا بمصر لا وجود له فى غيرها ، وهو غير مسكر إلا أنه منشط للكبد ومدر للصفراء وطعمه يميل إلى الحموضة.

والأشربة فى مصر كثيرة ، أما ما ذكرناه منها فهو مبلغ علمنا بأنواعها.

* * *

٦٦

الفصل الثامن والخمسون

ذكر ما لا وجود له فى مصر من حرف وأطعمة ونباتات وغلال

إن عدد المصابين بالرمد فى مصر ما لا يعلمه إلا الله فى حين أنه لا وجود لكحال ماهر فيها ، وجيادها كثيرة فى حين أن لا وجود فيها لبيطار ، ومرضاها كثير فى حين أنه لا وجود لطبيب يعالجهم ، وكثير منهم تورمت خصيته حتى تمزقت ولا يجد له جراحا ، ورجالها كثير فى حين أنه لا وجود لحاكم يحكمها ، وما أكثر المعاندين فيها فى حين أنه لا وجود لمن يتفوه بكلمة طيبة ، وجندها كثرة فى حين أنه ليس لهم ضابط ويتملقون جندهم ، وما أكثر القائمين على جباية الضرائب فى حين أنه لا وجود لمحاسب ذى ضمير. وهذه العبارات أصبحت أمثالا تضرب فى مصر وهى تدور على ألسنة الناس.

ـ ما لا وجود له فى مصر من مأكولات وحبوب :

ومما لا وجود له فى مصر من المأكولات والحبوب هو الدوسر والمعلس واللازوط والجلبان والعليق والزعفران والبندق والفستق والكرز ، والكرز الحامض والبشملة والفاكهة الجافة والفراولة والقرانيا والمشمش والقسطل.

ـ ما لا وجود له فى مصر من أشجار :

ولا وجود فى مصر لشجرة واحدة من أشجار الأرغون والدلب والحور وشجر الشذا والغضا والبقس والقرانيا والعرعر والزيزفون البرى والسندر والأرز وشجر الملح والبلوط واللبلاب والبندق والصفصاف ، وتمس حاجة مصر إلى ما يأتى من بلاد الترك من أخشاب البناء فى السفن. ولقلة الحطب فى مصر يباع الحمل منه الذى يزن ثمانين أوقية بأكثر من عشرين پاره ، وفى بعض أحياء مصر تباع الأوقية بپارة فى دكاكين العطارين وكأنها توتيا. ويستورد التجار الحطب من تركيا ولا يدفعون عليه المكوس. ولذلك فإن جميع أعيان مصر وأثريائها يحرقون روث الماشية وجميع أهلها يحتاجون إلى البراز.

٦٧

بيان ما لا وجود له فى مصر من معادن :

فالحديد والنحاس والرصاص والقصدير والفضة والزئبق لا وجود لها فى مصر.

ـ أما المعادن الموجودة بها فهى :

الذهب ويوجد فى جبل «بجاميم» بعيون موسى ، إلا أنه قليل الفائدة ، والزمرد وهو متوفر فى ولاية الصعيد العالى ويقوم باستخراجه «على بك الجرجوى» ، والذهب الخالص فى أرض النوبة. وعلى ضوء ما أورده العلماء والمؤرخون إن ثمة سبعمائة منجم للذهب فى ولايات الجبل الأخضر وأوجله وجزيرة مصر ، والكثرة المطلقة من هذه المناجم توجد فى ولاية الزنوج بين أناس من الناس كالبهائم ، وفى ولاية «ماى بورنو» يبادلون حمل بغل من الذهب بمثله من حمل الخرز. وقياسا على ذلك إن الذهب لديهم شىء لا يرغب فيه.

ويوجد فى مصر كذلك الجبس ، وقد أسلفنا ذكرا لكثير من المعادن ، بيد أنه فى مصر آلاف من المعادن التى لم تكتشف بعد.

ـ أنواع الأزهار فى مصر :

إن أول حديقة أنشأت فى مصر للتى فى جزيرة الروضة قبالة مصر العتيقة ثم أنشأت بعد ذلك الحدائق العامرة حتى أنشأت حديقة «طوب اتان» أى مطلق المدفع ، وهى حديقة كأنها جنة إرم ذات العماد ثم توالى إنشاء كثير من الحدائق وفيها الآن تكثر الورود والرياحين والبلابل ، ويستخلص ماء الورد من وردها وهو ذكى الرائحة.

وأزهار القرنفل والبنفسج والياسمين الفل والريحان والريحان المكى والريحان اليمنى والريحان الحنائى والصدف والنرجس والخيرى والنمام والحناء والزنبق والسنبل وزهرة قرن الغزال والمسك التركى والورد الأبيض كلها أزهار حديثة عهد بزراعتها فى مصر.

والشقائق والزرين (زهر أصفر طيب الرائحة) أكثر الزهور انتشارا فى مصر.

وما نعلمه فهو تلك الزهور فكل من أراد أن يزرع نوعا من الزهور زرعه ، إلا أن أهل مصر ينقصهم الذوق والنظافة فهم لا يهتمون قط بهذه الأزهار. وهم لا يزرعون أرض النيل أزهارا بل يزرعونها بما يعرف بعشب الروح وهو القمح الذى ورد فى شأنه

٦٨

آيات كريمة ، وهم الآن يزرعونه مما يعود بالرخاء على مصر.

بدع حكام مصر

إذا ما توفى يهودى فى القاهرة يصطحب جميع اليهود بعض جند الصوباشى ويحملون آلاف المشاعل ويحمل جند الصوباشى كامل أسلحتهم ومع دخول الليل يمضى أهل اليهودى المتوفى بجثمانه لدفنه فى مقابر اليهود بالقرب من البساتين وينفقون فى ذلك ثلاثمائة قرش.

ودفن اليهود نهارا ممنوع منعا باتا ، ولليهود عذاب أليم اللهم زده.

وهناك العديد من جبانات النصارى منها جبانة بالقرب من مصر العتيقة ، وتشييع جنائزهم فى أى وقت.

* * *

٦٩

الفصل التاسع والخمسون

ذكر اعتدال جو مصر وبدع ومحاسن شعبها قدر المستطاع

إن ماء أم الدنيا مصر وهى شوق الملوك من ماء النيل ، وليس بها نهر آخر ، وقد أسهبنا فى وصفه وإحصاء محامده فيما سبق. وجوها معتدل لطيف إلى حد جدّ بعيد ، فلا يصاب أهل مصر بالحمى. سيما وقد ذكرنا آنفا أن جو القلعة الداخلية يشرح الصدور ، وتنتشر بها الحدائق والرياض والأحواض والشادروانات ، ويتردد فيها تغريد البلابل مما يبهج النفوس وهذا ما لا وجود له فى القلعة العليا. إلا أن جوها طيب فإذا ما مرض جنوب المدينة صعدوا به إلى القلعة العليا (أو إلى أعلى القلعة).

والقلعة العليا مصحة للمدينة ، والأبنية فى الجهة القبلية للمدينة متلاصقة ، لذا فطرقها ضيقة مظلمة ولذلك فعلى سطح كل بيت «عبّار هوائى» لإنفاذ الهواء إلى داخل البيت ومنافذ الهواء هذه من اختراع ابن سينا على ما يقال. وقد صنع ابن سينا هذه المنافذ بعلم السميا وكان يبيع كلا منهما بدينار من ذهب على قدر استطاعة كل أحد ، وكان كل منهم يضع هذا العبار فوق سطح بيته ليدخل منه الهواء فيتنسمه أهالى القاهرة.

ولهذا السبب فإن جو الجهة القبلية للمدينة غير متقلب فى اليوم الواحد تهب عشر رياح.

ـ ريح (تياب):

ولكن ريح (تياب) تهب من جهة ( ) (١) وتسمى ( ) (٢) فى بلاد الترك.

إنها فى مصر راحة للأرواح ، وهذه الرياح لا تبرد جرار وقلل الماء فى مصر.

ـ ريح المليس :

وتسمى فى بلاد الترك «لودس» وهى وإن كانت حارة التأثير إلا أنها تجعل الماء كأنه قطعة من ثلج.

ـ ريح «مزكب» :

وهى رياح مثيرة للرمال والأتربة ، تملأ القاهرة غبارا وترفع ثياب جميع الناس ، ومن شدتها تأتى بجميع سفن الحجاج من جدة إلى مصر مما يعود بالخير على البلاد.

__________________

(١ ، ٢) بياض فى الأصل.

٧٠

والجهات الخارجية للقاهرة طيبة النسيم ، وإذا ما هبت رياح «بويراز» ورياح «لودوس» خمسة أشهر جاءت السفن من بلاد الترك مما يعود بالرخاء على مصر.

كما أن الرياح التى تسمى «بويراز» تأتى بالحجاج من السويس ، وتحمل الحجيج إلى جدة وينبع مما يعود بالنفع والخير على مكة والمدينة. وإذا ما هبت الريح المعروفة بلودوس خمسة اشهر وهى أشهر الشتاء جاءت سفن الحجاج والتوابل من جدة وينبع إلى السويس مما يعود بالخير والرخاء على مصر ، وتمضى هذه الرياح ثانية بالسفن إلى بلاد الترك. ولهاتين الريحين عظيم الفائدة لمصر وشعبها.

وفى وسط القاهرة يطيب الجو ، كما أن أجواء جبل المقطم أى الجوشى ومصيف قايتباى وسهل العادلية وسبيل علام والمطرية وبركة الحاج غاية فى اعتدالها.

أما الجهات القبلية للمدينة فتوجد البرك وعلى حوافها صور سلاطين وملوك السلف ، وجوها كذلك يشرح الصدر. ولكن داخل المدينة وكالات وربوع وهى منازل من خمسة طوابق أو أكثر ، وفى أيام هبوب «رياح الخماسين» والعياذ بالله فإن لون وجوه الفلاحين ، من ألم البقّ والبراغيث والقمل والبعوض والذباب والرائحة الكريهة ، تصبح وكأنها وجوه أناس مصابين بالصرع ، والسبب فى ذلك هو أنه لا وجود فى مصر لقنوات الصرف ، بل آبار وفى أيام هبوب الخماسين على الخصوص تكسح المراحيض وهذه القنوات فتفوح الروائح الكريهة والعفنة ، إلا أنهم يخبرون أهالى الأحياء بذلك ليهرب الأشخاص ذوو الحساسية بأطفالهم ممن هم فى سن خمسة أو ستة أشهر إلى حى قايتباى أو داخل القلعة أو غير ذلك من القرى.

وبسبب هذه الروائح الكريهة فى تلك الأحياء ينتفخ أعلى مخ الطفل وينفتح فيه ثقب يخرج منه مخ الطفل وقد أحمض كالبوزة فيموت الطفل.

وجملة القول أن رياح الخماسين تلك ضارة للغاية ، وسميت هذه الرياح بهذا الاسم لأن الله ابتلى بها بنى إسرائيل بخمس مصائب فى خمسة أسابيع.

وبعد أن تفشى الطاعون وعم القحط وانتشرت الأفاعى والعقبان طيلة خمسين يوما ثم دفع هذا البلاء بفضل دعاء موسى ـ عليه‌السلام ـ. وعندما تحين الأسابيع الخمسة تلك يسارع أهل مصر إلى توزيع الصدقات ، فى حين أن الدنيا تنهدم فوق رءوس

٧١

المسنين وتستولى عليهم الكآبة ، أما الباشاوات فيسرون سرورا لا مزيد عليه إذ إن بعض القرى تصبح محلولة فتكون من نصيبهم.

وفى جو الخماسين السىء لا يلامس ذوو الحساسية نساءهم ، ففى تلك الأيام تضعف أجسامهم وتقل قوة نطفتهم. أما إذا عيل صبرهم ولامسوهن ولدت لهم أطفالا عمى مجذومين وذوى نمو غير مكتمل وعرج.

وهذه الأيام المنحوسة فى مصر توافق أيام الربيع فى بلاد الترك ، بيد أنها فى مصر أيام الجحيم. ولا يهب نسيم الصبا فى العريش نحو القاهرة ولا يهب منها كذلك ريح سام.

وإذا ما هبط مصر شخص من بلد آخر طابت له مستقرا ومقاما وتعود على جوها وصح جسمه ، فبركة دعاء يوسف الصديق ـ عليه‌السلام ـ يصبح الغريب موفور العافية عظيم الثراء إلا أنه لحكمة لا يعلمها إلا المولى ـ سبحانه وتعالى ـ فإن أعين أبناء الغرباء الذين يتوافدون على مصر تصاب بالرمد وكأنها عين ابن العبد وهذا ما يتحتم حدوثه. يا لها من حكمة عجيبة. وبأمر الله عندما يولد أطفالهم يولدون ضعاف البصر.

والكثرة الكاثرة من أهل مصر يضعون ملح النطرون فى طعامهم ، لذا يصابون بتورم الخصية وهنا تبدو نساؤهم وكأنها حوامل. وتتورم أرجل فلاحيهم كأنها القرب.

يحكى علماء مصر أنه عندما أرسل يزيد رأس الإمام الحسين ـ رضى الله عنه ـ إلى دمشق ، ثم أرسله إلى عامله على مصر والذى كان يدين له بالولاء ، فوضعه فى جامع السلطان حسن بميدان الروملى ، وجعل اليزيديون ـ الذين كانوا ينتشرون فى مصر آنئذ ـ يركلون الرأس الشريف بأرجلهم ، وكان كل من ركل رأس الحسين برجله تورمت وأصيبت وكأنها القربة ومن مصر الآن من ذوى الأرجل المتورمة كالقربة من سلالة هؤلاء اليزيديين.

وهذا ما رواه علماء مصر.

٧٢

 ـ تفشى مرض الجذام بين المصريين :

وفضلا عن تورم أرجل هؤلاء تورمت وجوههم وأجسامهم ، وأغلب فقرائهم وغيرهم مصابون «بالجذام» فى وجوههم وعيونهم وأجسامهم. ويسمى هذا المرض فى بلاد الترك «بالجرب الأفرنجى» وهو مرض متفش فى مصر ولا يسبب أى حرج لمن يصاب به ، ويخالط فلاحو مصر المصابين به ممن تآكلت أطرافهم قائلين لهم : أهذا جذام. حتى إنهم يتناولون معهم طعامهم ولا يخافون قط من هذا المرض لأنه أكثر الأمراض انتشارا فى مصر إذ إنه لا وجود فيها لمستعمرات لهؤلاء المجذومين على حين أنها توجد فى سائر البلدان الأخرى حتى لا يقيمون فى داخل المدينة. ويتصدق أهالى الولايات بأموال زكاتهم على هؤلاء المرضى وذلك امتثالا لقوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) التوبة : ٦٠ ، أما فى مصر فلا يجدون من يتصدق عليهم بحبة قمح.

ـ سبب تفشى الجذام فى مصر :

والسبب فى انتشار الجذام فى مصر هو إباحة الدعارة فيها ، فبغاياهم يسرن فى الطرقات أسرابا أسرابا.

والمصريون قوم سمر البشرة ، متوسطو الطول ، أما فلاحو القرى فمنهم أشخاص ضخام الجثة وكأنهم دابة الأرض. ولسانهم عربى إلا أن كلامهم ليس فى بلاغة فلاحى مكة والمدينة وبغداد ودمشق ، ولأنهم قوم فرعون الجبابرة فهم يحرفون الكلام فبدلا من أن يقول أحدهم للآخر «تعال اقعد» يقول «تعقعد» وذلك من قبيل تخفيف الكلام ، وهم يسمون الخبز «رغيفا» و «شيلواقا» ويسمون الماء «موى» ، ويقولون «دى» بدلا من هذا. ولهم غير ذلك من ألفاظ مهملة محرفة.

ومن فصيح أشعارهم هذه الأبيات :

ياسين ياسين يا غزال ياسين

أنت الورد وأنت النسرين

بالله قل من هجرانك وارحم أنا

الغريب المسكين

يا روحى يا قلبى يا بعدى

يا قمرا يحيى لعندنا المحبوبين

إلا أنهم على المذهب الشافعى القويم.

٧٣

أسماء فلاحى مصر

ولفلاحى مصر أسماء منها : جاد الله ، حيا الله ، عبد الخالق ، عبد الصمد ، عبد الغفور ، حمى الله ، هاشم ، طه ، ياسين ، مرزوق ، حمد الله ، حمد ، شرابى ، طاهر ، عبد الحى.

وهذه الأسماء المذكورة أسماء العوام ، أما أسماء الخواص فسوف نذكرها فى حينها.

ـ طوائف أهل القاهرة :

وينقسم أهل القاهرة إلى طوائف منهم طائفة «التجار» وهم قوم ثراة ، والكثرة الكاثرة من أهلها من الحضر ، وهم يعيشون فى رغد وسعة ، ومنهم طائفة «الحرفيين» وهؤلاء يعيشون فى كفاف. وطائفة منهم هى «الترك» يشكلون طائفة الجند وأغلبهم من مماليك من الأبخاز والجراكسة والجورجيين والروس وزنوج العرب وهم جند أتراك غاية فى بهاء ثيابهم واكتمال أسلحتهم.

وطبقا لما جاء فى قانون السلطان سليم لم يكن يسمح بتجنيد «مستوى القدم» من فلاحى مصر.

ويرتدى كل ثيابا قدر ما يستطيع ويلبسون الصوف الحورانى والسراويل الحمر ، أما الحرفيون إذا ما ارتدى أحدهم هذه الثياب وقع تحت طائلة العقاب. والصناع يرتدون فاخر الثياب وأنواع الحرير إلا أنهم لا يرتدون السراويل وصيفا وشتاء يتجولون عراة السيقان وكم من مئات الآلاف من فلاحى مصر يمشون عراة.

وجميع أهل القاهرة لا يلبسون السراويل ، أما علماؤها فيلبسون العباءة.

ذكر نساء مصر

وجميع نساء القاهرة لا يلبسون السراويل ، أما النساء التركيات هن اللاتى يلبسنها ويلبسن على شعورهن قلانس مخيطة بالذهب والفضة وعليها ريشات ، ويلبسن الأطواق والقرطة والخلخال والمعاضد والمناطق المرصعة ، ويلبسن القباء الحريرى المزركش وفوقه قباء من قماش مموج أبيض وإزار أسود. ونساء الأعيان يلبسن القلانس التى تسمى «سلامية» وفى أقدامهن الخفاف الصفر والنعال المزركشة الخفيفة ويركبن

٧٤

حمرهن ويتجولن فى الطرقات فينضح منهن شذا المسك والعنبر فى الأسواق السلطانية.

وفى كل بلاد الدنيا ثمة حسان لا نظير لهن فى حسنهن وجمالهن ، ومن عجب أنه ليس بين نساء القاهرة حسان ، وبعض الأثرياء يتزوجون من بنات قبائل بهجة وحنادى والحضرى ، ومنهم من يستقدم العذارى الحسان من بنات الترك والتى تساوى الواحدة منهن خزانة مصرية ، فهن حسناوات فاتنات ينطبق عليهن قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين : ٤ ، كما أن الغلمان الصباح يأتون من خارج مصر ، أما ما فيها منهم فهم لا يعمرون طويلا. وإذا ولدت إحدى الجميلات فى مصر رمدت ـ عينها ، وللحضر بنات رشيقات القوام كأنهن أمهاتنا.

أسماء نساء مصر

اسماؤهن : مريم ، حواء ، عذراء ، صفاء ، ورقاء ، وردة ، امهان ، كلثوم ، رابعة ، رقية ، زينب ، ستيتة ، زليخا ، زالحة ، صالحة ، دمرية ، عجيبة ، شناس ، طاهرة ، وسامعة ، ماهية ، وأسماء أخرى مستطرفة وحسبنا هذا القدر.

وللجوارى الحبشيات أسماء تثير العجب منها : خسيسة ، قسيسة ، نفيسة ، فتنة ، أشمينة ، شمسية ، شمونة ، ريحانة ، هدية ، وردية ، حمراء ، قمراء ، عمبرية ، جميلة ، وأسماء كثيرة من هذا القبيل إذا ذكرناها ألقى علينا اللوم.

أما خارج القاهرة فى القرى والبليدات فثمة حسان صعيديات وبدويات لهن عيون الظباء ووجوه منيرة يقصر اللسان عن وصف جمالهن.

ـ طقوس ومراسم زواج الفلاحين فى مصر ـ

للفلاحين تقاليد مرعية توارثوها عن أسلافهم ، فإذا ما شاء واحد منهم أن يزوج ابنته مسلما فهذه الزيجة تتم وفق أصول وطقوس مرعية.

اتفق أن كانت هناك ليلة زفاف فاجتمع ما يقرب من ألفى شخص من أهل العروسين وأقاربهم وعقب وليمة عظيمة طعموا فيها الملوخية والقلقاس والجبن خرج فتى من أحد جوانب الساحة وعلى رأسه شال الإنكشارية وفى وسطه منطقة وفى إحدى يديه سكين

٧٥

وفى يده الأخرى فأس وأخذ يصيح ويضرب الحاضرين فجرح كثير منهم وحطم بعض ما لديهم وكان هذا الشاب وكأنه ثمل وكان إذا ما تكلم أو أقدم على عمل شىء يقوم بعض الحضور ويقبلونه ويجلسونه فى ركن ، ولعله كان ابنا لأحد المجرمين ، ثم قام ثانية وصاح قائلا: «أين سيدنا» وبحث عمن يتزوج ليقتله فتقدم إليه من يتقدمون بالرجاء وقالوا له : «ما فى بالى يا عينى».

وقبله من فى المجلس وأغمدوا سكاكينهم ومضى.

وعندما ذهبت العروس الجميلة تلك لتلتقى بزوجها جلست فى ركن بين مظاهر الأبهة وأقبلت بعض صديقاتها قائلات : «الحمد لله فقد جاء معشوقك» لقد غضب وبحث عنك فلم يجدك ، ولا بد أنه قد بسط لسانه بالسوء وعندئذ وقفت العروس هى الأخرى وقالت : عجبا إن معشوقى إذا ما أراد أن يقتلنى فأى ذنب كان منى ، قال إنه سيقدم عشرة أكياس صداقا واطلع الحضور على ما أنفق منذ شهر أو أكثر من دفتر فى يده. وكل منهم كان يتباهى بما قدم إلى ابنته من صداق.

وأمسك من يريد الزواج بسكين معقوف ومشى غاضبا بين جموع الحاضرين وقال إنه أنفق مالا كثيرا وإذا ما وجد من يحبها فسوف يقتلها ، ثم ظهرت العروس من أحد أطراف تلك الساحة ففر طالب الزواج هذا واختفى فى ركن ولم يعد له من أثر وجاءت العروس فى زى آخر وقد لبست ثوبا أحمر فخرج بعض الناس لاستقبالها وقالت العروس :

إن بينى وبين فلان عداء وشاء أن يقتلنى وقد قدم إليه أبى وأمى هذا القدر من أكياس الجوهر والأوانى الذهبية وعرضت ذلك على جميع الحضور فعرفوا من ذلك أن فلانا قدم كل ذلك لهذه العذراء ، وكانت الفتاة إذا ما سكتت لقنها أقاربها ، ثم أخرجت العروس سكينها ومضت وجاء من يريد الزواج فى ثوب آخر وزعم أنه قدم مالا جما لوالديها وعمتها وخالتها وهدايا أخرى كثيرة ، ثم جاءت العروس فى سروالها الأحمر والخنجر معلق فى خصرها وكأنها جندى فأمسكت الخنجر وبحثت عنه ثم جلست فى خيلاء وتكلمت كلاما تقدم فيه النصح ومضت ، ثم قدم طالب الزواج وفى إحدى يديه

٧٦

عصا وفى الأخرى سبحة وهز رأسه ووحد الله كثيرا ثم مضى وحاصل الكلام أنه فى تلك الليلة الطويلة حتى مطلع الفجر غير العروسان ثيابهما عشر مرات ومضيا وقدما واشتجر بينهما الخلاف غير مرة وفى النهاية انحنت العروس على ركبة من تريده زوجا وتبادلا القبلات ثم رفعت مئات المشاعل وقرعت الطبول كما أضيئت القناديل فى تلك الساحة وغمرت البهجة الجميع وارتفعت الأصوات من كل جانب بإنشاد القصائد والتغنى بالمواويل وفى هذه الأثناء ظهرت المشاكل من جهة أخرى. مضت العروس على صهوة جواد مرصع السرج وهى فى قباء من السمور وهى فى كامل زينتها وفوق رأسها تاج فرعونى عليه ثلاث ريشات متفرعة وهى مكشوفة الوجه وهى تلوح بالسلام إلى من اصطفوا على جانبيها ووقف الفلاحون جميعا وردوا عليها‌السلام وعلى جانبى العروس اصطف مئات من النساء والصبيان يحملون الشموع ويصيحون قائلين : «الله ينصر السلطان» ومضوا بالعروس وفى يديها منديل وعلى رأسها التاج الفرعونى ويقف جميع الفلاحين إذا ما لوحت العروس لهم بمنديلها.

وصف تاج العروس الفرعونى

قلنسوة من جلد الجمل المدبوغ فى حجم القدر وكل زاوية من زواياه الثمانية مخيطة بالذهب وفى سالف الزمان كان بين زواياه مرصعا بالدر والآن مواضع هذا الدر ظاهرة ، وداخله مكسو بمخمل صفيق وهو وردى اللون وحتى قمته حجر سيلانى فى حجم التفاحة وأطرافه مزدانة بالعقيق والحجر اليمنى ، إنه تاج عجيب.

نزلت العروس عن جوادها فى تلك الساحة ونادت من يطلب الزواج منها قائلة : أين من يطلب صاحبة المقام العالى. فجاء وكر وفر أمامها فحملت العروس الخنجر المعقوف وأمسكت بلحيته وجذبتها إلى أسفل وعند ما همت بذبحه جاء من أصلح ذات بينهما وأصلحوا بينهما مع الاتفاق أن يبنى الزوج لها بيتا أو ينشىء لها بستانا أو يبتاع لها عدة جوار أو يقدم لها عدة أكياس وشهد جميع الحضور على ذلك وعندما قرأت الفاتحة خطف الزوج زوجته من بين الحاضرين وفى التو خلع التاج عن رأسها فى حجرة ثم افتضها ، فسال الدم منها ، وأطلع دمها على والديها وقومها فعرضت العروس شكواها

٧٧

ببعض كلمات وهذه فخر لوالديها على أن بنتهما ظلت عفيفة لم يلمسها أحد من قبل قط ، ففى العرب وخصوصا لدى فلاحى قبيلة الحضر يصعب وجود فتاة عذراء ، فعمر قلب والديها وأقاربها بالطمأنينة ورفعوا عن رأسها التاج الفرعونى ، كما أطلع أبوها وأمها هذا الدم على الحاضرين ودعوا الزوج إليهم وسألوه لماذا سفك كل هذا الدم فأنكر أن يكون فعل ذلك فقالت العروس : انظروا إلى ملابسه تجدونها ملطخة بدماء بكارتى ، وعندئذ نظر جميع الحضور فى ثياب الزوج فرأوا آثار الدماء عليها ، فتعلقت العروس بعضو زوجها وتعلق الأب والأم بوسط الزوج وطالبوه بأن يدفع دية ذلك الدم المسفوك ، ثم أصلح المصلحون بينهم وقدم الزوج هداياه إلى أبيها وأمها دية لهذا الدم المراق ، وعندما طالبا بالمزيد حضر والد الزوج وأمه وأقرباؤه واحتدم الخلاف بينهم ، وقالوا سلبتم ابننا كل ما يملك دون حق وشهد على ذلك الحاضرون وتدخل من أصلح ذات بينهم وقدمت الهدايا إلى والدى العروسين وأقربائهم ليلزما الصمت وتم الصلح بينهم وتراضوا جميعا وجلسوا فى مكان واحد وعمت البهجة والسرور نفوسهم حتى مطلع الفجر وأطلقوا البنادق وغنى المطربون وعزف العازفون بما أدخل البهجة حتى على روح فرعون الخبيثة وكان الحاضرون يتجاذبون أطراف الحديث عن الجماع.

هذه هى عادات الفلاحين الحضريين وطقوس الزواج عندهم.

إلا أنهم لا يسمحون بتزويج بناتهم من الغرباء ويحافظون على ذلك التاج الفرعونى.

أوصاف الاحتفال بختان البنات

يعتاد الفلاحون على الاحتفال بختان بناتهم ، فيقيمون حفلا بهيجا عند ختانهن وكأنه عرس عظيم ، وتركب آلاف النساء الحمر فى موكب عظيم ويمضون بالبنت إلى الحمام ثم يمضين بها ثانية إلى بيتها وفى تلك الليلة تحضر النساء الخافضات وعندما يقطعون بظر البنت يقام حفل وكأنه العرس.

٧٨

وقد بقى هذا الختان من عهد سيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، فعندما كان فى مكة أرسل إليه الملك طوطيس ملك مصر جارية وهى أمنا هاجر. فغارت منها أمنا سارة فقطعت الشحمة الزائدة فى فرج أمنا هاجر ، ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله أصبح جماعها لذيذا. ومنذ ذلك الزمان وعادة ختان البنات عند العرب وهى مأخوذة عن أمنا هاجر وقد ولد إسماعيل عليه‌السلام لهاجر.

وصف الاحتفال بختان الصبيان

إنها أجمل العادات فى مصر لأن الناس جميعا من فقراء وأغنياء إذا ما ختنوا أولادهم اتباعا لسنة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعاون بعضهم بعضا فيجمعون عشرة أو خمسة عشر أو عشرين طفلا ليذهبوا بهم إلى الحمام فى جوقة موسيقية وقد حملوا عليهم الذهب والفضة وأركبوهم الخيل وعلى رءوسهم جميعا ريشات سلطانية يتقدمه جنائب عليها السروج المرصعة ويتقدمه كذلك مسنو الحى والأحياء المجاورة وقد حملوا السلاح وازّينوا ويمضون صفا صفا وهم يتبادلون الفكاهات ، كما يمضى بينهم من يحملون القناديل والأعلام ثم يركب الجراح جواده يتقدمه صندوق به جميع آلات الختان يحملها رجل على رأسه ويمضى مساعد الجراح وعليهم مناشف من الحرير سيرا على الأقدام ، وقد ركب الصبيان الذين سيختنون العجول والحمر والخيل ويستعرض المضحكون المضحكات ويطوفون الأسواق بهؤلاء الأطفال على هذا النحو على نغمات الموسيقى العسكرية والأغنياء والفقراء على تلك الحال. ويدوم هذا الاحتفال ثلاثة أيام بلياليها فى صخب وجلبة وتقام الولائم وفى كل ليلة فى مدينة القاهرة تعم البهجة فى مائة مكان وتقام الاحتفالات وتتلى الموالد ، وتزدان شوارع القاهرة وأزقتها بآلاف القناديل وتوزع الأطعمة وينادى المنادون من قبل الصوباشى طوال ثلاثة أيام بأن تظل المقاهى وما حولها من حوانيت الأطعمة والأشربة مفتوحة حتى مطلع الفجر ، ويستمر البيع والشراء.

٧٩

وخيرا يفعل الناس علما بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو : «أعلنوا الزفاف ولو بالدفاف»(١).

فما فى مصر من هذه الأبهة لا وجود له فى ديار أخرى.

فضائل أهل القاهرة

إذا ما مرض أحد فى القاهرة قدم عليه جميع أهل الحى لزيارته وتقديم الهدايا إليه ، وإذا توفاه الله أخطروا أمين بيت المال وجهزوه وكفنوه ووقف جميع أهل الحى عند بابه وغسلوه وهم يسبحون ويوحدون ، ويضعونه فى النعش ويزينونه بماء الورد والريحان ويقوم جميع العلماء والصلحاء والمشايخ بالتوحيد والتسبيح ويدخلون نعشه فى الجامع الأزهر ويصلى عليه جمع غفير ثم يمضون به إلى القرافة أو إلى الموضع الذى يسمى «زاوية الجنازة» أى سبيل المؤمنين بميدان الروملى وهناك يصلون عليه ويذهبون به إلى مقابر الإمام الشافعى أو مقبرة من المقابر الاثنتى عشرة. وأفضل هذه المقابر مقابر أخى يوسف فى سفح جبل الجوشى أو مقبرة الشيخ عقبة. أما الفلاحون فيدفنون بالقرب من مصر العتيقة فى القرافة العتيقة. ولما كان فرعون صوباشيا أحاط هذه القرافة بسور وكان يحصل ضريبة على كل ميت يأتون به لدفنه فيها.

ويمضى الفلاحون فى جنائزهم رافعين الأعلام ، ويتبعهم نساؤهم وهن على الحمر وفى أيديهن مناديل يلوحن بها وقد كشفن عن وجوههن ونشرن شعورهن نائحات باكيات.

ونعوش هؤلاء الفلاحين مسنمة كنعوش النصارى يحملونها على سلالم متحركة إلا أنهم يمعنون فى تزيينها وبذلك يكرمون موتاهم ويقيمون عليهم صلاة الجنازة على الأصول الشرعية.

__________________

(١) أخرجه الترمذى فى كتاب النكاح ، باب ما جاء فى إعلان النكاح حديث رقم ١٠٨٩ ، وابن ماجة فيه حديث (١٨٩٥) ورواه البيهقى فى السنن الكبرى ٧ / ٢٩٠ عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ ولقطة : «أظهروا النكاح واضربوا عليه بالغربال».

٨٠