الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

عبد الملك يقرأ الرسالة أعلن هذا السفير إسلامه ورفع يده بالشهادة. وأصبح من المقبولين المحببين لدى عبد الملك وكان لا يترك عبد الملك أبدا ، وذات يوم قال هذا السفير لعبد الملك بن مروان إن مدينة الإسكندرية مدينة عظيمة وبها كنوز كثيرة لا يمكن وصفها فقد حكمها مئات السلاطين وأقام فيها آلاف الكهنة الذين كانوا يعلمون شتى علوم الكهانة ودفنوا الكنوز بالطلاسم ، فلو أنك اعتمدت علىّ بما أعلمه فسوف أستخرج تلك الكنوز وقد ذكر له أنه بتلك الكنوز الكثيرة يمكنه فتح البلدان ويصبح أعظم سلاطين الدنيا.

كان عبد الملك بن مروان طماعا للغاية ، كان لا يعلم أنه بهذا يسلم مدينة الإسكندرية ليد الكفار لأنه لم يكن يعرف شيئا فى فن الحيلة ، فقد اعتمد على إسلام هذا السفير الأسبانى وأعطاه ألف رجل ليذهب إلى الإسكندرية ، وعندما ذهب إلى هناك قام بهدم منارة الإسكندرية وأخذ مرآة الإسكندرية التى كانت طلسما عظيما من آثار الإسكندر موضوعة بالماء إذا ما دخلت أى سفينة من سفن الأعداء إلى ميناء الإسكندرية فإنها تحترق من تلك المرآة ، وأساس هذه المرآة لا يزال موجودا وظاهرا عند مضيق القليون الذى يطلقون عليه شاطئ القرد الصغير.

ولوقوع هذا الميناء فى مكان معاكس فإن أى سفينة تضل الطريق وتصل إليه تتدمر تماما ، ولو لزم الذهاب خلف القلعة يجب الاحتراس جدا ، بعد ذلك قام هذا اللعين باستخراج أربعين مليون عملة من المنار والخلاصة أنه خلال أربعين يوما استخرج مئات الكنوز المدفونة ، وملأ سفينته بتلك الخزائن وركب هو وجنوده وتركوا الإسكندرية خرابا وفروا هاربين إلى ديار أسبانيا.

وقد وصل هذا الخبر إلى عبد الملك بن مروان فى الشام ، فحزن حزنا شديدا وأخذ يلوم نفسه على ذلك ، وأصدر الفرمانات بترميم وتعمير الأماكن التى هدمت فى مدينة الإسكندرية وأنفق على ذلك الأموال الكثيرة ، وبالرغم مما فعله الأعداء جعل عبد الملك بن مروان مدينة الإسكندرية أحسن مما كانت.

٢٤١

ولكن مع الأسف لم يكن موجود بها آثار الإسكندر أو طلاسم دلوكة أو علامات سوريد أو كنوز مصرايم ولم يعد هناك أثر لمرآة الإسكندر ، واستمر الحال على ذلك ثلاث سنوات ، وفى السنة الرابعة تمكن هذا السفير اللعين من جمع كل الكفار وخرج من أسبانيا بثلاثمائة ألف جندى وسفن لا تحصى قاصدا مدينة الإسكندرية ونزلوا بها واستولوا على قلعة الإسكندرية وأقاموا بها سنة ونهبوا بقية الكنوز التى كانوا قد استولوا عليها قبل ذلك ، وملكوا بذلك أموالا لا تحصى ، وعندما تمكن من ذلك أمر بتحميل كل الكنوز والأموال على السفن بعد أن هدم كل الآثار العجيبة والطلاسم الغريبة الموجودة فى الإسكندرية وفر هاربا بالسفن إلى أسبانيا وقام بنهب كل الأماكن التى كانت فى طريقه إلى أسبانيا.

وقد عمرت أسبانيا بهذا المال ، ويطلقون على المدينة الكبيرة هناك المدينة الكبرى ويطلقون اسم قرطبه وطنجه على مدينتين تقعان فى المغرب ، وقد عمرت تلك المدن على أطلال مدينة الإسكندرية أى أن عمرانها كان على حساب خراب مدينة الإسكندرية ، أما الآن فتوجد بالإسكندرية آلاف العلامات والآثار الظاهرة التى تدعو للعبرة ، وعندما دخل عبد الملك بن مروان مدينة الإسكندرية هذه المرة أعلن أنها ستكون مدينة العرش لمدة سبع سنوات ، وأعلن أنه اعتزم الانتقام من الأعداء ، وفى غضون سنة جمع جنده وكانوا فى كثرة مثل البحر وسار بهم فى ألفى سفينة شراعية إلى أسبانيا وقام بفتح المدينة الكبرى بها وفتح مدينتى قرطبة وطنجة بالمغرب ومئات المدن الأخرى وغنم من الأموال الذهبية ثلاثة آلاف صندوق وبنى منها جامع بنى أمية فى مدينة الإسكندرية والشام الشريف وهو يشبه الجنة.

والطائفة المسلمة الموجودة بأسبانيا حاليا هم أبناء جنود عبد الملك ، كما فتح عبد الملك مدينة القسطنطينية بهؤلاء الجند وتصالح مع أهلها على أن يدفعوا خراجا سنويا يقدر بخمسمائة ألف قطعة ذهبية كل عام ، ودخل جند الإسلام مدينة الإسكندرية سالمين غانمين بعد أن انتقموا من الكفار الظالمين ، واستقر عبد الملك وسائر جند الإسلام سبع

٢٤٢

سنوات كاملة بمدينة الإسكندرية ، وبعد أن آلت الإسكندرية إلى عدد من الملوك استولى عليها الكفار فى خلافة الظاهر بيبرس ، لكنه استخلصها منهم ، وكم من مرة وهبها الله لعدد من الملوك (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] فهذا يأخذها وذاك تؤخذ منه ، وذلك ينهزم ، والعقل قاصر وحائر أمام ما يجرى ، الله سبحانه وتعالى الفاعل المختار ، ولا يسأل عما يفعل ، هذا ما جرت عليه إرادته الأزلية تعالى شأنه وعم نواله ولا إله غيره :

كم من عمل التوى

وكم من معوج استوى

إنه العجب العجاب

والبناء برهان ذلك

فى عام ٥٦٢ هجرى حينما كان المتقى خليفة للعباسيين تغلب عضد الدولة الفاطمى على قلعة الإسكندرية ، أما الخليفة المتقى فسيّر إليه جندا تحت إمرة أسد الدين شيركوه ، وأمّر ابن عم شيركوه وصلاح الدين يوسف بن أيوب على جيوش قصدت الإسكندرية ، فاحتشد جيش مصر والشام فى موضع واحد واستردوا الإسكندرية من يدى عضد الدولة صلحا فزفوا بذلك البشرى إلى نور الدين فى دمشق ، وأصبح صلاح الدين الأيوبى حاكم الإسكندرية ، وفى العام نفسه اتحد عضد الدولة مع الفرنجة وضرب الحصار على صلاح الدين فى الإسكندرية ، وشاور وزيره فى الصلح مع صلاح الدين على أن يدفع لصلاح الدين خمسين ألف دينار ذهبا ، فأعطى صلاح الدين الإسكندرية لعضد الدولة ، كما أعطى عضد الدولة الفرنجة الذين قدّموا إليه المدد نصف الإسكندرية ، وفى هذا العام تم استيلاء الفرنجة على مصر ، وإلى عام ٥٦٣ ه‍ ظلت مصر فى حوزة الفرنجة.

٢٤٣

واتّصل السلطان الغورى بالشاه إسماعيل الصفوى فأرسل إليه الغورى مددا قوامه اثنا عشر ألف جندى من المشاة ، وفى وادى (جلردر) (١) لاقى السلطان سليم بهذا العسكر فكانت الغلبة فى الوهلة الأولى لعسكر العجم. وبينما كانت الدائرة تدور على العثمانيين ، أطلق إياس باشا وهو قائد الانكشارية ثلاثمائة مدفع دفعة واحدة وأعمل العثمانيون السيف فى العجم.

وبعد أن حمى وطيس المعركة سبع ساعات تعلق الشاه إسماعيل بأذيال الفرار وفى معيته سبع رجال ونهب العثمانيون ما فى الخزينة من المال ، ووقعت تاجلى خاتون زوجة الشاه إسماعيل فى الأسر ، وقد قدموها أمانة إلى جعفر چلبى ، ولمّا رأى السلطان سليم الجند المصريين مجندلين فى سهل جلدر قال : (بسم الله النية على محاربة الغورى) ، وعاد منصورا مظفرا من جلدر. وانطلاقه إلى قيصرية ، بعث جندا تحت إمرة فرهاد باشا إلى علاء الدولة حاكم مرعش وهو من أولاد ذو القدر ، فواجهه فحشد علاء الدولة مائة رجل من التركمان واحتدمت المعركة بين الفريقين سبع ساعات ولحقت الهزيمة بعلاء الدولة ، وقدم الغنائم إلى السلطان سليم وقد تدحرجت أمام باب القصر كما تدحرج الكرات إذا ضربت بالصولجان فأرسلوا رءوس أبناء علاء الدولة وغيرهم إلى السلطان الغورى فى مصر مع رسالة جاء فيها : (نحن جند الإسلام نجاهد فى سبيل الله وقد رأينا وجوب القضاء المبرم على علاء الدولة حاكم مرعش الذى كان يقطع الطريق ويسلب وينهب ، ولقد عملنا بالآية الكريمة : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٤٥]. ولقد تخلص العباد من شرهم ، وأن معونتك للقزل باش (٢) لا يليق بمسلم ، وعلى ذلك قامت الحجة فى المذاهب الأربعة ولدينا الفتوى وسوف ندخل مصر محاربين فى الربيع).

__________________

(١) وهو ما يعرف باسم چالديران.

(٣) القزل باش : معناها أحمر الرأس. وهو اسم يطلقه السنيون عموما على الشيعة من العثمانيين فى الأناضول هم وطائفة من التركمان والبدو ، وكانوا يلبسون حمر القلانس وكانت عشائرهم على المذهب الشيعى. (بتصرف واختصار) معجم الدولة العثمانية ص ١١١.

٢٤٤

وفى عام ٩٢١ من القسطنطينية البلد الطيب خرج الجيش العثمانى إلى اسكودار بعد طى المنازل والمراحل ، بلغ سهل مرج دابق على مقربة من حلب حيث حارب جالوت داود ـ عليه‌السلام ـ وانهزم جالوت ، ونزل قوله ـ تعالى ـ : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) [البقرة : ٢٥١] ، ولحق السلطان سليم بثمانين ألف مقاتل بجيش الغورى الذى انهزم أمامه وفرّ الغورى إلى حلب ثم إلى دمشق وبعدها إلى مصر ، ودخل سليم ظافرا إلى دمشق ، وقضى الشتاء فيها ، وفى الربيع انطلق إلى مصر وعبر بجيشه وادى أمّ الحسن وغلب على مدينة بلبيس ، وفى كمين أعدّه الغورى وفى جبال عباس انقض الغورى على جيش سليم بغتة فى السحر ، ودارت المعركة إلى وقت غروب الشمس ، وأسفرت المعركة فى النهاية عن قتل رءوس عسكر الغورى ، ووجدت جثة الغورى بلا رأس على سجادة وقالوا إن الغورى زايل دار الغرور إلى دار بوار.

* خلاصة القول أن سليم قد بلغنا به غايته على وجه الإيجاز فيما يختص بفتح السلطان سليم لمصر ولقد تم له الفتح لمصر بعد أن خاض ستين معركة ، وعين خيره بك واليا لمصر وهو الذى استوزره الغورى من قبل ، كما عين كمال زاده باشا قاضيا للعسكر ، وأجرى فى النيل ألف سفينة وبهذه السفن بلغ مدينة رشيد وبعد ذلك ضرب الحصار على قلعة الإسكندرية برا وبحرا ، أما ما كان فى القلعة من جند الشراكسة فطلبوا الأمان وآثروا النجاة وقدموا مفاتيح القلعة إلى السلطان سليم ، وتم له هذا الفتح عام ٩٢٣ ه‍ وجعل سليم مصر ولاية ذات إقليمين ومنح إقليما لقبطان بحريته حسام باشا ، وأمره بأن يحافظ على الموانى المصرية بأربعة سفن حربية وأمر أن تقدم كل قرية كيسين فى كل شهر فى الديوان ، وقد حكم القبطان حسام باشا مصر ، وفى ميناء الإسكندرية سفينتان حربيتان له ، وكان على كل سفينة ترسو فى ميناء الإسكندرية وأبو قير ، والإسكندرية القديمة أن تدفع دينارا ذهبيا وكان يتحصل من البلاد ثلاثون كيسا ، ولم يكن فى الأقاليم تيمار (١) ولا زعامات (٢) ومن قبل وزير مصر رفيع المنزلة ،

__________________

(١) أرض زراعية كان سلاطين العثمانيين يمنحونها لمن يتعهدون بتقديم عدد من الفرسان للدولة عند قيام الحرب ، وذلك حسب ما تغل هذه الأرض.

(٢) الزعامت : أرض زراعية كانت تقطعها الدولة للمحاربين ، هى أكبر من التيمار.

٢٤٥

وكان يتولى أمانة الجمارك فى الميناء ، وكانت كل سفينة تدفع العشر الشرعى وكانت نتيجة المحاسبة مائة وخمسين كيسا ، وكان كيسان يوزعان على الأئمة والخطباء ، ولكن بعض الوزراء كانوا لا يدفعون هذا الجمرك ، وكان للجمرك حمالون من اليهود والروم والمسلمين وعددهم سبعون ، وكان هؤلاء ينالون مرتباتهم من دخل الجمارك.

وفى قلاع الإسكندرية الخمس ألف جندى ، وكانوا ينالون من الجمرك علوفة (١) قدرها أربعون كيسا وباقيتها للوالى وكانت سفن للفرنجة تأتى إلى الإسكندرية والمتحصل منها مائة كيس ، وكان نصيب العلماء فى العام خمسا وعشرين كيسا ، وكان على شاطئ البحر قلعة أبو حور وكان يتحصل لها من ميناء الإسكندرية ومن سفن الإسكندرية ثلاثمائة أو أربعمائة پاره (٢) ، وكانت هذه السفن ترسو فى ميناء الإسكندرية ، وكانت تثير النزاع والخلاف على الدوام وسكن القلعة سنان باشا.

أوصاف قلعة أبو قير

ويقول العرب إن أبو قير بنيت على صخرة فى البحر ولذلك تسمى بهذا الاسم ، وفى إحدى الروايات أن أحد الأولياء هو أبو قير حمد الله مدفون فيها وسميت القلعة باسمه ، ولكن يتردد على ألسنة الناس أنها تسمى أبو حور ولا وجود لأثر للقلعة القديمة. إن لها ميناءا عظيما ، وكان الكفار يجعلون من هذا المرفأ كمينا لسفنهم وكانت سفن المسافرين الآتية من رودس تلجأ إلى هذا الميناء ، وآخر الأمر تحدث والى مصر الطواشى للسلطان سليمان ، فأمر السلطان بأن تنفق الأموال من الخزانة فجدد بها القلعة خادم سليمان باشا ، وسليمان باشا هذا هو من جعل ثلاثة قبور فى مصر على طراز جوامع استانبول وكان وزيرا مدبرا صنع ثلاث مائة سفينة حربية فى السويس وجعل فيها عشرين ألف جندى مع خيولهم ، وغادر السويس إلى بلاد الهند ، وحارب مدن أحمد اباد وديو اباد وميناء حيدراباد ، وانتزعها من يد البرتغاليين واستولى على كثير من

__________________

(١) راتب كانت تدفعه الدولة كل ثلاثة أشهر قمرية.

(٢) پاره : بمعنى قطعة أو جزء فى اللغة الفارسية وهى أقل عملة عثمانية.

٢٤٦

الغنائم ، وبعد سبعة أشهر وهب هذه الموانى إلى ملك الهند ، وأخذ من ملك الهند أموالا كثيرة ، وعادت السفن الحربية الإسلامية من الهند.

ومضى سليمان باشا إلى مكة المكرمة فأدى مناسك الحج ، ثم زار قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المدينة ، وشاع أن سفينة غادرت من جدّة إلى ينبع وبعد ذلك بنى قلعة أبو قير وهى قلعة صغيرة محيط جدرانها الأربعة ستمائة خطوة وهى مستديرة الشكل ، ولها باب حديدى ، أمامها خندق عليه جسر وهذا الجسر يرفع فى كل ليلة ، وعلى باب القلعة كتب بالخط الجلىّ (أمر بإنشاء هذه القلعة المباركة فى أيام مولانا السلطان ابن السلطان سليمان خان ابن سليم خان ابن بايزيد خان ابن محمد خان ابن مراد خان).

وبعد إنشاء القلعة بعام ، أقيم فيها جامع صغير ، وله منارة غير مرتفعة كما أن فى القلعة مخزنا للأسلحة ومخازن للغلال وصهاريج للماء ، وفيها ثلاث مائة جندى وفى داخل القلعة خمسة دكاكين ، ولا وجود بداخلها لخان ولا حمام ، وقد دفن فى القلعة أحد خلفاء الشيخ عبد القادر الجيلانى وقد دفن فى غار ينزل إليه بسلم حجرى من عشر درجات ، واسمه أبو قير حمد الله ، ولذلك يسمون هذه القلعة قلعة أبو قير ، وفيها سبعون مدفعا ، وبذلك لا يستطيع الفرنجة دخول الميناء ، ويوقد مصباح فى داخل القلعة كل ليلة ، وبها فانوس عظيم ويبدو على بعد مائة ميل ، وخارج القلعة مائة بيت وعشرون دكانا ومقهيان وثلاثة طواحين تديرها الخيل ، ولكن لا وجود لحمام ، وخارجها ميناء عظيم يحوى ألف سفينة وهذا الميناء يأمن عصف الرياح ، وعلى بعد ميل من هذا الميناء جزيرة فى البحر وقد وصلتها بأمر إبراهيم باشا ، وعلى هذه الجزيرة قلعة لحراستها ، وقد بلغتها فى معية أهل رشيد وأهل الإسكندرية ، وقد اكتشفنا صخرة كبيرة فى البحر ، وبين قلعة أبو حور والنيل أرض واسعة ولا تستطيع سفن الفرنجة أن تقترب وهى ترى جند المسلمين عن بعد ، فكانت ترفع الأعلام البيض مستسلمة ، ولما أطلقت المدافع من القلعة على سفن الأعداء اشتعلت فيها النار وغرقت بمن فيها وأصبحت مظهرا للآية الشريفة فى السفينة خرقها : (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) [الكهف : ٧١]. وأحرقت السفن وغرق كل من عليها ، وانتقلوا إلى دار السعير.

٢٤٧

واتفق أن أصيبت سفينة بمدفع فتخرقت السفينة وجعلت تميل يمنة ويسرة وأطلق بعض الألبان المدافع ففرح بذلك عمر أغا ورفع صوته قائلا الله الله ، وكان اليوم يوم عيد الأضحى ، وقال الناس لى إنى أنا كنت سبب هذا النصر ، وفى اليوم جاء رئيس الجند وقدم خلعة لحارس القلعة كما منح الخلعة لجنود المدفعية ومنح حارس القلعة عطاء جزيلا.

وجملة القول أن ميناء أبو حور ميناء عظيم ، وقلعة أبو حور تعد من الأقاليم التابعة للإسكندرية ويحكمها صاحب القلعة وهو يحاسب محاسبة صحيحة ، والإسكندرية ناحيته وهو نائب التسجيل.

ومن العجب :

أن فى هذه القلعة امرأة لها هيئة المجنونة وهى تبقى شهور الشتاء الست فى البحر وتضع رأسها على الشاطئ وكل جسدها فى الماء وبعض المواضع فتسيل منها الدماء ، وبينما كان أحدهم يبحث عن الأسرى فى الشاطئ وجدوا هذه المرأة فقدموا إليها قطعة من خبز لتدفع به جوعها ، ولكنها تخرج من البحر فى أيّام الصيف وتنام على الرمال الحارة وقد تفرق شعرها ، ومن يشاهدها يذهب عقله ، إنها بدينة مفرطة البدانة وقد دامت على هذه الحال ستين عاما ، ويقال إنها لا تكلم أحدا قط ، بل تظل صمّاء بكماء وقد دعت لى فلما وصلت إليها أخرجت لى من جبتها رغيفا أبيض وفى داخل هذا الرغيف عشر تمرات وثلاثة دنانير ذهبية فيا لها من امرأة عجيبة ، وسمح حاكم القلعة بعشرة من الجند حاملى البنادق وشاهدت الصيادين وهم يصيدون السمك على الشاطئ.

وفى الناحية القبلية للبحر ، حتى لا يغرق إقليم البحيرة ، أقام إبراهيم باشا سدا بين الإسكندرية ورشيد ، كما توجد مساكن للعرب ، وقد جزتها ولكن شاهدنا ثمانية من الفرسان العرب وجرت دماءهم وقدم أهل الإقليم ونائبه وحملوهم إلى القلعة حيث دفنوا ، أما من جرح بالرماح فحملوا أيضا إلى قلعة أبو حور ، ووصلت مع رفقائى إلى :

٢٤٨

خان معديّة لشتوم

وركبنا فى سفينة وعبرنا إلى الجانب الآخر ، فوجدنا خانا عظيما ، وكان ثمة ضابط من قبل حاكم البحيرة يراقب السفن القادمة ويفتش القادمين والعائدين ، وكان يقيد اللصوص منهم ، وكان يتولى هذه المهمة خمسون أو ستون من الجند ، وهناك نزلنا ضيوفا فى خان من أوقاف محمد باشا فى رشيد وهو خان عظيم وليس بجوار هذا الخان صهريج من الماء العذب.

ويجبى الأغا من أصحاب الجمال والخيول والبغال والحمير ثلاثة أكياس يقدمها إلى كاشف إقليم البحيرة ولا تفضى هذه الطريق إلى الإسكندرية والسفينة هناك ملك لكاشف البحيرة وهو على الدوام يرممها ويعمرها. وثمة نهير إلى إقليم البحيرة حيث ينتهى ببحيرة وهى بحيرة تحيط بها أربعة قصور وماؤها مالح ، ولذلك سمى إقليم البحيرة بالبحيرة مائة وستين عاما تغرق البحيرة ثمانين قرية ، وفيها ألف قارب تصيد السمك ، وقد أقاموا سدّا متينا أمام الإسكندرية حتى لا تصل مياه هذه البحيرة إليها.

ويروى الإسكندرية الترعة الناصرية ، ومن الإسكندرية تمضى إلى هذه الترعة آلاف السفن ، واقتضت حكمة الله أن يقبض كاشف البحيرة على المجرمين العرب الذين أغاروا على مساكننا ، وفى الصباح وضعوا على الخازوق سبعة منهم ، ومضينا أربع ساعات فى أرض رملية حتى وصلنا شاطئ البحر كما تجولنا ساعة فى أرض ذات نخيل.

أوصاف إدكو

يقال لها فى العربية ( ) (١) ، وتقع فى ناحية ميناء رشيد ، تغل مائة أقچه (٢) ، ومحصولها السنوى ثلاثة أكياس ، إنها على ضفة البحيرة فى مكان مرتفع ، تضم أربعة آلاف بيت ، سبعة عشر محلة ، وعشرين محرابا ، وستة جوامع إضافة إلى المساجد ، وبها ثلاث وكالات ، وثلاثمائة دكان ، ولكن لا سوق ولا حمام فيها ، وشوارعها غاية

__________________

(١) بياض فى الأصل.

(٢) عملة كانت تستخدم فى الدولة العثمانية منذ أول نشأتها سكّت من الفضة.

٢٤٩

فى الضيق تتسع لمرور اثنين بصعوبة بالغة وكل بيوتها تطل من الناحية القبلية على البحيرة إنها قصبة جميلة ضيقة ، وكل مياهها مياه آبار إلا أن بها بعض الملوحة ، وكل أهلها من وجوههم غاية فى الثقل ولون وجوه أهلها يميل للصفرة ، وليس بها جمال لنسائها ولا رجالها ، والفقراء فيها كثير ، وفى الجانب الجنوبى منها تغرق البيوت ، ولذلك غادر بعض أصحاب البيوت بيوتهم ، كما يغرق الناس آخر الأمر ، ومن الحق أن قوم البحر تتفاوت أحوالهم من يوم إلى آخر ، والطريق إلى رشيد طوله ساعتان وعرضه ساعة واحدة ، وثمة بساتين للنخيل ، ومنها نخلات طوال الواحدة منها بطول قامة الإنسان ، وكل نخلة تثمر مائة أقة من التمر الأبيض والأصفر والأحمر والأسود ، ولها تمر لذيذ مختلف الأنواع ، وهى بلد تكرم وفادة الغرباء ولكنهم يملكون جامعا أبيض جميلا ، وتبدو بها سبع منارات.

بيان من دفن فى أدكو من كبار الأولياء

فى غرب المدينة على شاطئ الخليج الشيخ سلامة ، وأخوه الشيخ صنع الله والشيخ عبد الرءوف والشيخ عبد الخالق وهم فى ضريح أبيض جميل ، وبالقرب منهم على شاطئ الخليج فى ضريح مرتفع الشيخ عبد الله المغربى ، وعلى شاطئ الخليج خمسة أضرحة بيضاء هى مرقد الشيخ سلامة ابن الشيخ مجيب الدين وفى هذه الأضرحة الخمسة دفن أبناءه وفى الناحية الشمالية دفن الشيخ خلف ، والشيخ محمد حميدى.

وفى الناحية الشرقية الشيخ سيد محمد چلبى وهو خليفة السلطان أحمد البدوى ، وفى الناحية الغربية الشيخ محمود چلبى ، والشيخ منصور ، وعلى مقربة من جامع كرد بك الشيخ سيد إبراهيم ، وجامع سيدى على الجبرتى ، وهو مدفون كذلك فى الجامع ، وفى ساحة الجامع الشرقى دفن الشيخ هارون نهاوى ، وقبره يزار وبعضهم يقرأ على روحه (يس) وبعضهم يقرأ (الفاتحة) ، وطلبنا المدد من روحهم الشريفة ـ رحمة الله عليهم أجمعين ـ ، وعبرنا أرضا ذات رمل إلى الشرق ، وبلغنا ساحل البحر

٢٥٠

الأبيض ، وفى الرمال علامات تدل على طريق رشيد وتابعنا السير. ووصلنا إلى رشيد من إدكو فى أربع ساعات.

أوصاف ميناء رشيد

وسبب تسمية المدينة برشيد أنه بعد الطوفان ملك مصر بيظر بن حام وأخوه الأكبر سام وقد دعا نوح بالخير لحفيده ، وبعث به إلى مصر ، وكانت له فيها ذرية ، وأنجب فى مصر ذرية من ثلاثين ولدا ، ولذلك سمى بأبى الأقباط ، وانتشر كل ولد منهم فى مصر وبنا له مدينة وكان لولد منهم اسم رشيد وبما أنه بنا هذه المدينة ، لذلك سميت المدينة باسم رشيد ، إن النيل يصب فى البحر الأبيض عندها وهى مدينة عظيمة إنها عروس مصر ، ولها حكم الإقليم ، وقدره فى كل عام من ديوان مصر اثنا عشر كيسا ، ولرشيد قائم مقام يتولى إدارة شئونها ، وجميع السفن والحمالين تحت حكمه ، وهو يقدم إلى الوالى سنويا مائة وخمسين كيسا وراتبه عشرة قروش فى اليوم ، وتحت رياسته مائة وخمسون من خدم الجمرك ، وجميع القرى تخضع للالتزام ، وفى المدينة أكثر من ألفى سوق ، ولا وجود فيها لبيت خرب ، وجميع بيوتها ذات أسطح وهى من طابقين أو ثلاثة أو أربعة ، وكل بيوتها مخازن للأثاث. ويصعد إلى أبوابها بسلم من الحجر ، وفى الطابق الثانى أبواب ، وفى هذه المدينة خانات لنزول الضيوف ، وفى الطوابق العالية ، النوم ، وعدد بيوتها تسعة آلاف بيت وستمائة ، وهى للمسلمين ، وفيها أربعون محلة ومائتى محراب ، وسبع محلات لليهود ، ولكن لا وجود فيها لمحلات للفرنجة والأرمن والغجر ، إلا أن هؤلاء يغدون ويروحون للتجارة.

وثمة محلة للقبط واليهود ، وأعيان مصر يعتمدون عليهم ككتّاب لهم ، مما سبق ذكره نتبين أن البيوت فى رشيد اثنا عشر ألف بيت ، وفى هذه المدينة تؤدى صلاة الجمعة ، وفيها كثير من الجوامع ، وفى الميناء جامع كبير يسمى جامع زغلول محمد ، طوله مائة وسبعون خطوة ، وداخل هذا الجامع مائتان وستون عمودا من المرمر على رءوسها قباب ، وفى أطراف حرم هذا الجامع مائة وخمسون قبرا ، وفى داخل الجامع أربعة محاريب للمذاهب الأربعة ، وثلاثة محاريب كبيرة وواحد منها صغير ، كما أن له قبة ومنبر صغير

٢٥١

من خشب ، وشرفتان للمؤذن وله حرمان صغيران ، وفى وسط الحرم الأيمن سبيل ، وللجامع ستة أبواب وله منارتان وهما عاليتان ، ومن ثلاثة طوابق ، وفيه مقصورة دفن فيها محمد زغلول وأربعة من أوجه رجال الإفتاء ، إنه جامع واسع كان فى أول الأمر جامعا صغيرا ، وتاريخه مكتوب على أعلى بابه وهو :

(أمر بإنشاء هذا الجامع الجديد السيد محمود).

وجامع العطار يصعد إليه بسلم حجرى يتألف من خمس درجات ، وجامع (تق نهيمه) مبنى على ثمانية أعمدة من الرخام ، وهو صغير يتسع لمائتى مصلّ ، وله ثلاثة أبواب ومنارة ، ويصعد إليه بسلم حجرى يتألف من خمس درجات.

وجامع عبد الله يتسع لمائة مصلّ ، وهو غاية فى الصغر وله منارة قصيرة ، وجامع الخواجة وهو جامع مرتفع ، وله منارة وبما أنه على المرفأ يؤمه ناس كثيرون ، ويصعد إليه بسلم حجرى يتألف من عشرين درجة.

وجامع الأمير أحمد أغا جامع مرتفع جميل وهو على شاطئ النيل وطرفاه على الطريق العام ، ويصعد إليه من ناحيتين بسلم من الحجر ، ويقع على شاطئ النيل وبداخله عشرة أعمدة من الرخام ، وعلى باب قبلته :

(وعمر هذا الجامع الأمير أحمد أغا سنة اثنين وستين وألف).

وله منارة جميلة ومؤذن وإمام وخطيب ، ويزدحم بالمصلين ، وفى داخل الميناء جامع جمال الدين أغا ، وهو جامع مرتفع ويصعد إليه من جانبين بسلم حجرى وهو جامع مرتفع.

وثمة سبعة مخازن ودكاكين على الطريق العام ، وفى داخل الجامع اثنا عشر عمودا من الرخام عليها سقف مزخرف ، وله قبتان ، وعلى القبتين تاريخ هو :

(أن عين العلا على الفعال ، خاتم الجود من سما بالجمال. قلت تاريخ أنشا على الجمال جامع لمن اللطيف محكما بالجمالى سنة ١٠٧٤).

٢٥٢

وهذا الجامع ليس له حرم ولكنه يزدحم بالمصلين ليلا ونهارا ، وله منارة قصيرة ، وفى صفّته الداخلية قيشانى أرض المغرب فى بعض مواضع منها ، وهو لصاحب الخيرات أحمد باشا وهو أحد الأثرياء ، وقدم إلى رشيد من مسقط.

وجامع الزمين جامع تحتانى يزدحم بالمصلين له سقف منقوش مقام على أحد عشر عمودا ، وله ثلاث قباب ، ومنارته قصيرة وهو جامع صغير.

وجامع العراقى يصعد إليه بسلم يتألف من خمس درجات ، وبه عشرة أعمدة تحمل سقفا مزخرفا ، ومنبره من الخشب وله ثلاثة أبواب ، ومنارته قصيرة ولا حرم له والعراقى مدفون على يسار المحراب قدس‌سره.

وجامع نسى يقوم على ثمانية أعمدة ، وهو صغير ، وثمة مساجد أخرى ، وتبدو لها خمس وعشرون منارة.

ثمة سبعون من الخانات ومنها خان (قول قران) محمد باشا ، وهو يشبه القلعة ، ويتألف من طوابق ، وخان أحمد باشا ، وخان أيبك ، وخان قنا خان خواجه أحمد أغا ، وخان قاسم بك ، وخان مصطفى بك ، وخان إسحاق أفندى ، وخان سنان باشا ، وخان على جمال الدين ، وهى خانات مشهورة ويسكن كلا منها خمسين أو مائة أسرة ، كما أن لها بابا من حديد ، وبها سبع مدارس ، وسبعون مكتبا للصبيان ، وستة سبل وثلاثة آلاف وأربعون دكانا ، وسوقان ، لها بابان من حديد ، وفيها مائة دكان وكلها أبنية متينة ، وفيها تباع الألبسة والأقمشة الفاخرة وفيها سوق لبائعى الجواهر ، وسبعون مقهى ومائة طاحونة تديرها الخيل ، وأربعون طاحونة زيت ، وأربعون مصبغة وثلاثون مضربا للأرز وستة آلاف وستون مخزنا ، وسبعون حانة ، وتمتلئ كل منها بمدمنى الشراب وعشرة حانات للبوظة وخمسة حمامات وحمام الحاج نعمت الله نظيف طيب الهواء يأتى إليه ماء النيل بدولاب فيه ، وخدام هذا الحمام ثيابهم نظيفة والدلاكون فيه ثيابهم نظيفة ، وكذلك خدامهم ، ولكن هذا الحمام جديد ، ويقال إن الحمام القديم هو النافع وقد بنا السلطان سليم بها حماما ، وهو حمام عتيق ، وإذا وضع فى حوضه مصاب بالجذام شفى

٢٥٣

بإذن الله بعد أربعين يوما ، وحمام البوستانجى حمام كبير ، أما حمام خواجه عبيدى وحمام قوبدان باشا فحمّامان للخواص والعوام ، وجو هذه المدينة يشبهه جو بلاد الروم ، وفيها يهطل المطر بغزارة ، وينزل الجليد والبرد لأن مدينة رشيد فى أول الإقليم الثالث ، ولذلك فيه من الفتيات والفتيان من العرب من يتصفون بالجمال ، ويتكسب أهل رشيد من التجارة ، ونصفهم من أهل الحرف ؛ ولذا فإن أهل هذه المدينة فى رغد من العيش ، ويقيم بعضهم للبعض الولائم فى كل ليلة ، ويقيمون المولد الشريف فى الليلة خمس أو عشر مرات وفى الأسبوع يقيمون حفلات العرس أربع أو خمس مرات ، ويباع خمسون رغيفا من الخبز الأبيض ببارة واحدة ، والرطل الإسكندرانى من اللحم ببارة ، كما يباع قنطار السكر بعشرة قروش ، ويباع أردب الشعير بمائة ، ويأتى إليها ألف سفينة فى العام ، وفى المدينة حدائق ذات بهجة وفيها تين وجميز وخوخ وليمون ونارنج ، وعلى ضفتى النيل حدائق وبساتين وكل ما أنعم الله به على الإنسان موجود فى هذه المدينة ، ويلبس أعيان المدينة فرو السمور والجوخ والثياب الفاخرة ، أما الطبقات المتوسطة من أهل المدينة ، وهم أهل حرف ، فيلبسون الثياب ذات الألوان. والأغنياء يلبسون حرير دمياط والفرسكور الملون ، والفقراء يلفون حولهم ثوب الإحرام وهم يعيشون فى كفاف ويكدحون ، وفى الجانب الغربى من هذه المدينة لهم بيوت صغيرة يقيمونها على الرمال ، وليس فيها بعوض ، أما نصف المدينة إلى شاطئ النيل ففيها بعوض يشرد النوم ، ولذلك ينام كل واحد منا فى كلّة (١) دفعا للبعوض ، وأهل هذه المدينة يأمنون الذباب ، وطول المدينة إلى تكية عبد القادر الجيلانى ألف وخمسمائة وعشرون خطوة ، وعلى ضفة النيل قصور شامخة وفى النيل مرافئ ينزلون فيها البضائع من السفن وجميع المنازل التى على ضفة النيل تطل نوافذها عليه ، وشوارعها واسعة نظيفة وهى ستمائة وعشرة ، أما أهلها

__________________

(١) الكلّة : ستر رقيق ذو ثقوب يرفع فوق السرير ليتوقى به من البعوض وغيره. انظر : المعجم الوجيز ، ص ٥٤٠.

٢٥٤

فهم يحبون ويكرمون الغرباء ولا يخرج النساء إلى الطريق إلا إذا اضطرتهن إلى ذلك ضرورة ملحة ، والناس يشعلون المصابيح ليلا ويزورون ذوى قرباهم ، وتجول النساء فى السوق يعد عيبا كبيرا ، وقد كتبت أوصاف هذه المدينة على حد علمى ، ولو خضت فى التفاصيل لاقتضى ذلك منى مجلدا فاكتفيت بما ذكرت.

قبور الأولياء داخل وخارج المدينة

فى وسط السوق السلطانى بالمدينة قبر الشيخ سيد على المحلاوى ، وقد تحدث عنه الشيخ الشعراوى فى كتابه (الطبقات) ، إنه مدفون فى موضع بالقرب من جامع الشيخ منصور ، وله ضريح عظيم ، وبجواره قبر الشيخ عبد الله الصانت وضريح الشيخ محمد البرى والشيخ أحمد طوقا وقبر الشيخ أحمد المغربى والشيخ سيد عثمان برهانى وقبر الشيخ سعيد سعد الله وقبر سيد محمد الشندويلى ، وفى رشيد القديمة على شاطئ النيل وفى الرمل قبر الشيخ سلطان بالقرب من جامع فى كوم أفراح ، وكل السفن التى تمر به يقرأ من بها له الفاتحة ، لأنه قطب عظيم ومناقبه لا تدخل تحت حصر ، وله تكية تزار وفى هذا الموضع كذلك دفن كبار الأولياء ، وثمة نحو مائة قبر لم يتيسر لنا معرفة أسماء من فيها ، وفى هذه الجهة مقبرة رشيد ولله أحمد أنى سألت عن هؤلاء الأقطاب فوجدتهم وقد مرغت وجهى على ضرائحهم وعرفتهم رحمة الله عليهم أجمعين ، وفى غرب رشيد حدائق ونخيل ، وتجولنا فيها ساعة وامتطينا خيولنا وكم من حديقة شاهدنا وفى بعض الحقول أكلنا ثمارا يانعة.

أوصاف قلعة رشيد

هى التى بناها الظاهر بيبرس خوفا من الفرنجة ، وتقع على شاطئ النيل ، وبعد بنائه لها بعام واحد وسّعها السلطان قايتباى ، وعلى بابها هذا التاريخ :

(بسم الله الرحمن الرحيم أمر بإنشاء هذا البرج المتين السلطان المالك الممالك الأشرف أبو النصر قايتباى عزّ نصره سنة ثمانمائة).

٢٥٥

وفى داخل القلعة دار للمشرف عليها ومخزن للقمح وصهريج يستمد ماءه من النيل وجامع قايتباى وأربعون بيتا للجند ، ومحيطها مائة خطوة ، وكل الأبنية التى فى داخل القلعة أقامها قايتباى ، وأقام على باشا بناءا مربعا خارجها وهو قلعة من طابق واحد وهذا البناء بناء رصين ، وفى كل ركن من أركانه الأربعة برج وكل برج من هذه البروج قلعة حصينة ومحيطها أربعمائة خطوة ، وفى أرض كثيرة الوحول لا خندق فيها ، ولها باب من حديد يطل على الجنوب ، وعلى الباب تاريخ يأخذ منه أن بانى القلعة هو على باشا وزير الرى العادل ، وداخل القلعة ستون بيتا للجند ، وفى ركن داخل القلعة دفن حسين كوردى وفى القلعة سبعون مدفعا ، ومخزن أسلحتها عظيم ، ولها مشرف ، وفيها جنود ، ينالون مرتباتهم من الجمرك.

وثمة قلعة تجاه نهر النيل وهى قلعة أحمد باشا ، وهى فى موضع كثير الرمال ، وقد تخربت على مر الأيام ، وبعض آثارها ما زالت ماثلة للعيان ، ولها مشرف وجنود ، وبيوتها بين النخيل ، ولكن عشرين منها قد انهدم ، وبين النخيل بيت للمشرف فيها ، وعشرون بيت للفقراء. وكانت قلعة معمورة قديما ، وكانت مع قلعة رشيد الواقعة فى مدخل ميناء رشيد ، وضريح أحمد دده فى قبر أبيض بداخلها ، وقد شاهدت هذا الموضع كذلك ، والسفن تجرى منحدرة فى النيل.

أوصاف بوغاز رشيد

وهناك يلتقى النيل بالبحر الأبيض ، وهذا ما يسمونه موضع «مرج البحرين» ، أما إذا عصفت الريح فإن السفن لا تجرى ، وتبقى السفن فى البوغاز مدة شهرين أو ثلاثة ، وقد أصبح هذا البوغاز بحمد الله سدّا فى وجه الكفار وتحمل السفن حمولتها ، وإذا كانت حمولتها خفيفة خرجت من البوغاز وتدفع السفن الجمارك ، ثم تنشر قلوعها وتجرى ويقول من عليها توكلنا على الله ، وتدخل البحر ولو كان البوغاز هكذا على الدوام لخرب الكفار رشيد ، وإذا رأت سفينة مدينة رشيد فينبغى أن تستأذن فى الخروج من رئيس الميناء إنه ميناء صعب وكم من سفينة تغرق فى كل سنة.

٢٥٦

ورئيس الميناء يتقاضى من كل سفينة أربعين أو خمسين قرشا ، وكما يقدم رئيس الميناء للوالى ألف قرش كشوفية ، وفى كل سنة يجرد ما لديه ورئيس الميناء من الرّبابنة ولا يعرف البوغاز شخص آخر سواه ، ففى موضع يكون الماء فيه ضحلا وفى آخر يكون الماء عميقا ، وأما فى وسط البوغاز فطريق عام يحدده القرع العائم ، وحينما يفيض النيل ويصبح كالبحر يدخل البحر الأبيض مائة ميل ، ويتلوّن ماء النيل بالحمرة ويعرف من فيها أن مدينة رشيد قريبة والدعاء مستجاب فى هذا البوغاز ، ويمضى بعض أهل الحال والسلوك فى قواربهم إلى هذا البوغاز ويتعبدون ، ولأن مرج البحرين ورد فى القرآن كما أن موسى ـ عليه‌السلام ـ فارق الخضر فى هذا الموضع قال : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨] ، وفى البوغاز جزيرة بها ضريح موسى ـ عليه‌السلام ـ والخضر ولذلك يأتى إليها كثير من الشيوخ لزيارتهما ، وفى هذا الموضع تلتقى الرياح ، وهذا الموضع يبعد عن النيل بمقدار خمسين ميلا ، وتعلم السفن فى النيل أن النيل يختلط بالبحر ، وإذا ذاق من فى السفن ماء النيل ليلا ووجدوا ماءه عذبا أدركوا أن البوغاز قريب ، فلا تقترب السفن من الشاطئ ، ولم أستطع عبور هذا البوغاز ، ثم ركبنا خيولنا وبلغنا الإسكندرية بعد فى عشر ساعات.

وخلاصة القول أنه بحمد الله بلغنا الموضع الذى يختلط فيه ماء النيل بماء البحر وزرنا ضرائح كبار الأولياء وصلينا ركعتين فى القارب ودعوت الله أن يمكننى من زيارة مصر بأسرها لأنها جنة المأوى كما جاء فى الحديث الصحيح (١).

وقلنا آمين يا معين بحق حرمة سيد المرسلين فعدت ثانية إلى ميناء رشيد وودعت جميع رفاقى خصوصا شيخ زاده عبد الرحمن أفندى والحاج نعمت الله ومندل زاده مصطفى أغا وسائر أرباب الطريقة وركبنا السفينة ، وحملنا فيها كل المأكول والمشروب

__________________

(١) حدّث نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى أربعة أنهار تخرج من أصلها (يعنى سدرة المنتهى) نهران ظاهران ونهران باطنان ، أما النهران الباطنان فنهران فى الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات». انظر : صحيح مسلم بشرح النووى (١ / ٩١٨) والبخارى فى المناقب (٣٨٨٧).

٢٥٧

وهى سفينة تغدو وتروح وهى محمّلة بالعزب والمدافع ، كما أن من فيها من المسافرين يحملون الأسلحة ، ولأن جزر النيل بها سفنا للصوص وهم يغيرون بغتة على السفن فيقتلون كل من فيها وينهبون أموالهم ، فلا بد من أخذ الحذر منهم ، فتوجهت إلى مصر فى سفينة مسلحة.

* * *

٢٥٨

الفصل السادس والستون

أوصاف القصبات والقرى على ضفتى النيل

فى السفر من رشيد إلى أم الدنيا

مضينا فى النيل بريح طيبة تجاه كوم أفراح.

قرية عزبة المعدى

وبها مائة بيت وجامع دفن فيه الشيخ عثمان الطشطوشى ، وفى أرض رشيد.

بلدة (حدّية)

وبها جامعان وعدة دكاكين ولكن ليس فيها حمام ، ولا خان فيها ، وفى الجانب المواجه للنيل أرض ذات نخيل بها قبر صغير للشيخ جابر ، وبالقرب منها ترعة عظيمة وهى تجاه رشيد وفيها سفن تختلط بمياه بحيرة البرلس ومن هذه البحيرة تمضى السفن إلى قلعة برلس وسوف نتحدث عنها فى موضعها وفى :

محلة الأمير

جامعان وعدة دكاكين ولهما منارتان ، وثلاث مقاه عربية ، وعبرنا إليها ، وفى أرض الغربية :

قصبة شيرين برمبال

بها ألف بيت وأربعة جوامع وعشرون مسجدا ومقهى وخمسون دكانا وخانان وحمام ، وفيها الكتان والحرير الفاخر ، وجوّها غاية فى اللطف ، وتجاهها :

قصبة دييى

وفيها ثلاثمائة وستون بيتا وخان ومقهيان ولكن المقهيين غاية فى القذارة ، وهما للفلاحين وليس فيها حمام ، وفى إقليم البحيرة على شاطئ النيل :

٢٥٩

قصبة أدفينه

وهى التزام ، ولها ألف بيت وهى مدينة معمورة ، ومنازلها عالية ومزينة ، وبها جامعان لهما منارتان جميلتان وخمسون دكانا وخانان وثلاث مقاه ، وليس فيها حمام ، وفى قبالتها فى إقليم الغربية :

محلة مطوبس

يتحصل منها فى العام ستة أكياس.

وثمة سبعون قرية ، إنها وقف مكة والمدينة ، وليست كشوفية ، وهى التزام الشيخ البكرى ، وبها ثلاثة آلاف بيت وخمسة جوامع وفى السوق جامع كبير يحمل سقفه اثنان وخمسون عمودا من الرخام وسقفه مزخرف وطوله مائتا خطوة وعرضه مائة وخمسون ، كما توجد بها سبعون زاوية ، وخمس منارات تظهر فى الأفق وحمام وسبع وكالات ، وسبل ومقاه ، ومائتا دكان وأربعون طاحونة للزيت وعشرون طاحونة تديرها الخيل ولا وجود لسوق ، وفيها قصر شامخ يسكنه الحاكم وأمامه قصر جميل على ضفة النيل ينزل به الضيوف والمجاورون ، ويجمعون ثروة طائلة إنها بقعة جميلة وعلى ضفة النيل زاوية مثل الجنة ولأرزها وسكرها ذائع الشهرة ، وهذه البقعة على مرتفع من الأرض فهى لطيفة الهواء ، وكل بيوتها تطل على النيل ، وبعدها :

محلة جمشيره

وهى التزام وبها مائتا بيت وجامع ، وعدة دكاكين ، ولكن ليس فيها حمام ، وقبالتها فى إقليم البحيرة :

محلة فزاده

وهى تتبع قصبة ديروط ، وبها مائتا بيت ، وبها كذلك جامع وعدة دكاكين ومقهى ، ولكن ليس فيها حمام ، والنيل فيها يجرى متعرجا.

٢٦٠