الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

أوليا چلبي

الرحلة إلى مصر والسودان والحبشه - ج ٢

المؤلف:

أوليا چلبي


المحقق: الدكتور محمّد حرب
المترجم: الدكتور حسين مجيب المصري وآخرون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

قحة (١) ، وشيخهم هو الشيخ سعيد جبرى ، ويتبعه أربعون ألف من الجبرية ومعظمهم من العيارين ، وعلى الضفة الغربية للنيل سبعة محاريب ، وبعض الدكاكين ولا وجود للخانات ، ولا وجود فيها لحدائق ولا بساتين ولا تمر ولا برسيم ، والناس يأكلون الذرة والتمساح والقطط والثعلب وقط الزباد وسمك النيل ولأكلهم لحم التمساح أصبحوا شجعان ، إنهم يحاربون بربرستان فينتصرون ، ومضينا على ضفة النيل ثمان ساعات فوصلنا :

قلعة حلت الملك

إنها قلعة خشبية على الضفة الشرقية للنيل وبها جامع وستمائة بيت من القصب ، فتجاوزناها وبعد خمس ساعات بلغنا قلعة نوجى.

قلعة نوجى

إنها على حدود الفونج ، إنها قلعة عظيمة من خشب السنط ولها باب واحد وجامع ومائة كوخ وفى الصباح مضينا عنها وسرنا عشر ساعات.

وصف قلعة مدينة أرباجى

قلعة بنيت على الضفة الشرقية للنيل فى فضاء واسع وفى مساحة واسعة ، فيها زروع إنها مدينة جميلة ، إنها قلعة متينة الجدران ومرتفعة وارتفاعها ارتفاع الشجر ففى هذه البلدة أشجار عمرها ألفى عام أو ثلاثة آلاف ، إنها قلعة خشبية بنيت من خشب الدوم والسنط والسنديان والزقوم إنها مستطيلة الشكل ومحيطها ألف خطوة ، وفيها سبعمائة بيت من القصب ، وفيها جامع ولها باب يتجه إلى الشرق ، وقناطر بابها من خشب شجر الدوم ، ولا أثر للحجر فى بناء هذه القلعة ، وفى المدينة ثلاثة آلاف بيت من الحصير والقصب وسبعة جوامع وأحد عشر دكانا للبوزه وليس فيها حدائق ولا حمام ولا خان ولا سبيل ولا مدرسة ، ولكن فيها كثير من البساتين ، وكان يسكن فيها قديما وزير ملك الفونج ، والآن يسكن فيها جرجيس خان أخو ملك الفونج إن له أربعين ألف جندى

__________________

(١) قحة : وقح يوقح. ووقح يوقح وقحا ووقاحة وقحة قلّ حياءه واجترأ على اقتراف القبائح ولم يعبأ بها.

ويقال : رجل : وقيح وامرأة وقاح ، وهو وقح وهى وقحة أيضا. والجمع وقح.

٤٠١

وستمائة ألف من الرعايا ، وهو ملك على البرابرة ، وقد شرفت بلقائه ، وقد قدمت الغنائم التى أرسلها كور حسين وكانت فى موقعة فردانية ، وبعد السلام عليه سأل عن حسين خان ولقد نقلت الأنباء وسجدت شاكرا ، كما حملت له هدايا ملك البربرستان فسرّ لذلك كما أهدى إلىّ قارورة من الشراب المعطر ، وقميص وسراويل إلا أنه غاية فى البله ، وقد أتينا جرجيس خان فلما شاهدنا قام واختبأ فى ركن ونادى الترجمان فقال لى الترجمان (يقول جرجيس خان لماذا هؤلاء بيض البشرة هكذا لعلهم جاءوا يشتكون ممن بيض وجوههم لأنصفهم منه؟) وقد نقل إلى الترجمان هذه البلاهة ، فوقعت فى حيرة شديدة ، فندمت على تجولى فى بلد فيها ثمانية عشر ملكا وقرى لا حصر لها لأنى سمعت هذا الكلام ، ولكنى بدأت أتكلم فقلت للترجمان (نحن من عبيد سلطان مكة والمدينة وملك ملوك العرب والعجم والروم والقسطنطينية القيصرية السلطان محمد خان ، ونحن تحت حكمه ونسكن فوق ترابه وبأمر الله تعالى نعود إلى بلادنا ولذلك فوجوهنا بيض أما أنت وأنتم أولاد حام بن نوح فى بربرستان وفونجستان وسودان وبغه نسقستان وجزيرة مصر ، إنهم سود الوجوه والشعور والعيون ، فالله خلقكم سودا كما خلقنا بيضا ، وإلا فإن جلد وجوهنا إن سلخ فإنه سيسيل منه الدم ثم قلت إن الله تبارك وتعالى هو الذى بيض وجوهنا إنه على كل شىء قدير ، وقلت ما قلت واعظا ، وقد أخذ العجب كل مأخذ من ترجمان جرجيس خان واتجه بالخطاب إلى من بجانبه قائلا : (أرأيت قوما بهذه الغرّة ، زادك الله عمرا يا خان جرجيس لقد رأيت فى مصر كذلك بلهاء ، ففى هذه الديار تبدو الشمس فلا قيظ لديهم) فشرد عنى عقلى ، ونحمد الله على أنه لم يتحرك وهو ذاهب العقل ثم قام وقدم علىّ فقمت ووقفت ثابت القدم ، ولكن كنت أنظر إلى الخدم وهم مسلحون ، وقال لى «أى ثياب تلبس؟» وقال لى «حلّ سراويلك» ، وألح فى ذلك إلحاحا شديدا ، وقال : «فلتحل سراويلك لنشاهد إن كان جسدك مثل وجهك» ؛ فطاش صوابى وحسرت عن ذراعى ليشاهدهما ؛ إلا أنه لم يقنع بذلك وقال : «لا بد أن تحل حزامك» ؛ فكلفنى ما لا يطاق ، فامتلأت غضبا وخفت أن يطهونى فى الشمس ، فجعلت أصيح وأقول أنا من الروم ، وقد أتيت من دنقلة ، وكلهم لم يقنعوا بهذا وحلوا

٤٠٢

حزامى وعرّونى من ثيابى ، وقالوا : «سوف نستولى على ما لك من مال» ؛ ثم قالوا : «كنا نظن أنك تحمل سلاحا فى حزامك» ، ثم لم ينبث أخو الخان ببنت شفة ، وجلس فى مكانه وابتسم ثم ألحّ فى الرجاء طالبا منى أن أبقى ، وتكلم بكلام ونطق ببعض كلمات ، وطلب المعذرة ، وقال إننا طيلة عمرنا لم نشاهد رجلا غريرا مثلك ، وطلب منى أن أقبل يده ، وقال فلترفع العمامة عن رأسك لنرى علامة فى رأسك للجنون ، فقلت إن عمامتنا هكذا فنحن مجاهدون فى سبيل الله ، وفى رأسنا علامة لذلك ندفن بها فنحن لا نحن عمامتنا ، وكان هذا من جوابى ، فأخرج من منطقته عطرا وأهداه لى ، وقدم إلى عودا وعقيقتين ومرجان كما أهدى إلى فتاتين سمراوين ، وثمانية من العبيد السود كما أهديت إليه فيلا عظيما فسرّ لذلك سرورا عظيما ، أما أنا فكنت أعظم منه سرورا ، فإن هذه الفيلة تعتلف كل يوم حمل مائة من الإبل وكأنها تشرب نصف ماء النيل ، ثم فى اليوم الثالث ودّعته ثم ارتحلنا على شاطئ النيل إلى فونجستان ، وسرنا اثنتى عشرة ساعة ، وبلغنا قلعة عطشان.

وصف قلعة عطشان

إنها تقع على الضفة الغربية للنيل وهى مستديرة الشكل ، وبها جامع وستمائة بيت من القصب ، أما حاكم هذه القلعة فرومى اسمه قره على جلبى ، وهو ولد لأم حبشية وبينما كان يمضى إلى مدينة زيلع من الحبشة وقع أسيرا لدى الفونج وهو فى صباه ، ولم يطلق سراحه من الأسر منذ خمسين عاما ، وهو رب أسرة ، وعلى خلق عظيم ومتصوف ، ولقد شاهدنا جامع المدينة وأسواقها السبع والمغنيات والموسيقيين فى حانات البوزه ، وفى البساتين التى فى خارج هذه المدينة ، الشمام والبطيخ ثم مضينا بعد ذلك.

لقد تجولت فى كل البلاد وتجولت فى بلاد الزنوج خصوصا ، وجزت خلال الطرقات ، وبينما كنت فى بستان هذه المدينة كان الفصل فصل البطيخ ولم نشاهد هناك جيادا ، ولكننا سمعنا زمزمة بكتاشى ، ووقفت وقدم على اثنان من البكتاشية لهما سحنة القلندرية وهما كما ظهر أمامنا بعض الصوفية ، وبالسؤال دللنا على الطريق ، وبعد أن سلمنا أمسك خدامنا من البربر بلجم خيولنا ، وجلسوا ، فأمسكت بلجام خيول هؤلاء الصوفية ثم مضينا.

٤٠٣

فى وصف وحيد القرن

للوزراء فى الروم جياد مثل دابة الأرض ، وهى جياد ضخمة الجثة كثيرة اللحم والشحم ، وأما وحيد القرن فجلده يشبه جلد العجل ولكن من أذنيه إلى ذيله شعر أسود ورأسه كرأس الحصان ، وعيناه كالتفاح ، ومستديرة وكحيلة ، وله أذنان كالحصان ، وفى مقدمته قرن وهو غاية فى الغلظ وهو مستدير الطرف ، وطول جسمه خمسة أشبار وأذناه واسعتان وأسنانه كأسنان الحصان ، ولكن له سنتان على الجانبين بارزتان تبدوان كأنهما سنّى رمح ، وعنقه قصير للغاية ، وعنقه وكتفاه يشكلان كتلة واحدة ، وله شعر موفور على كتفيه وقوائمه تشبه قوائم الجاموس ، وهى قصار كما أن حوافره مشقوقة وذيله فى غلظ ثلاثة أذيال للفرس ، وشعره معقوص ، وقرنه قوى وهو من القوة بحيث أنه إذا نطح به الفيل بقى فى جثة الفيل لأنه قرن منحرف أنه ينطح الفيل فى عينيه وقوته تكمن فى قوائمه.

التعريف بدابّة الأرض

تسمى فى العربية البغل فلا فرق بينها وبين البغل ، ولكن فى أعلى أذنيها قرنان أسودان معقدان ، وطرفهما كالمبضع وحوافرها مشقوقة وفى المذاهب الأربعة حلال أكلها ، وهى سريعة العدو إلى حد بعيد ، وكأنها غزال وتلد مرتين فى العام ، والمولعون بها يركبونها ويجعلون لها لجاما ، ويضعون الإكاف على ظهورها ، فلما رأيناها دخلنا سرور عظيم ، ووجدنا لحم الإبل ولحم الدجاج ، وقلنا إن خير الطعام ما حضر ، وسألنا عن أصل وجودها فقيل لنا : كنا ثلاثة إخوة فى سفينة تسير بنا من الهند إلى الحبشة ، وبينما كانت سفينتنا تسير بنا استولى كفار البرتغال على سفينتنا ، وأوقعونا فى الأسر وحبسونا فى مخزن السفينة ، وجرى القضاء بأن يموت أخ لنا فشووا لحم جثته وأطعمونا منه ، فأكلنا من لحم أخينا طوال شهر واتفق أن تلاطمت أمواج البحر ودفعت السفينة إلى الشاطئ فتحطمت السفينة وفررنا إلى جبل مرتفع ، واغتسلنا فى ماء حار وصلينا ركعتين لله شكرا ، وتوبنى أخى من أكل لحم ذى روح ، ولما ذكر هذا السبب أجهشنا بالبكاء ، ومن الغد جاء هذا الحيوان إلينا ، فأنسنا به ، وقال بلسان الحال اركبا ، فوصلنا بسلامة الله

٤٠٤

على ظهر هذا الحيوان بعد سبع سنوات وبقينا بين الزنوج فسخر منا هؤلاء الحمقى ، وأكلنا قليلا من الخبز وخبز الذرة وشمام وبطيخ ، وشكرنا الله ولما دخلنا المدينة لم نأكل من طعامها ، وقد فضحونا ، فسألتهم فى جرأة ، لم نأكل من ثمار حديقتكم ولم تقدموا لنا شرابا من ماء نهركم ، فأى البلاد مسقط رأسكم؟ فقالا : إن بلادنا بلاد الروم ، وبالقرب من مدينة قونيه ، فقلت لقد رأيت بلدكم ، وزرت جامع والدة مولانا ، وشاهدت مدرسة يعقوب وإبراهيم بك فسرا لذلك ، ثم قلت لهما : يا إخوان الوفاء إذا أردتم الخروج بسلام فاتبعونى واقبلوا رفقتى لأمضى بكم إلى مصر بسلامة الله ، يدى فى يدكم ، فجددوا البيعة لى وقدموا لخدامنا كسرة خبز ، وأصبحنا أخوة فى الدنيا والآخرة ، وتكلموا معى كثيرا ، وانشرحت صدورهم بحديثى معهم ، وغادرنا البستان وبينما كنا فى سيرنا جاء رجل من قلعة عطشان ودلنا على الطريق وشرفنا بصحبتهم ، وسألت عن اسمهما الشريف ، فقال أحدهما إن اسمه نعمت الله والآخر سيد جار الله ، وقالا : إننا لا نقبل جيفة الدنيا ، ولم يقبلوا أى شىء ، وقالوا خذ الرفيق قبل الطريق وقطعنا المراحل فى شدة القيظ ، وبعد عشر ساعات سرناها بلغنا قلعة بقيث.

قلعة بقيت

هى قلعة على الشاطئ الغربى للنيل ، وهى من الخشب كما أن البيوت فيها من خشب ، وبها جامع صغير مكثنا به ، وسرنا فى شدة القيظ وقطعنا المراحل سبع ساعات وبلغنا قلعة حلة الركابى.

قلعة حلة الركابى

تقع على الضفة الشرقية للنيل وهى من الخشب ، وليس فيها جامع ولا أبنية ، وسرنا على ضفة النيل تسع ساعات وبلغنا قلعة حلة الجندى ثور.

قلعة حلة الجندى ثور

يسمى حاكمها جندى ثور ، وهى قلعة من الخشب ، وبها ألف بيت للبربر من خشب وقصب ، وبها جامع ، ولا وجود فيها لثمر ، وأرضها سبخة ، ومن القلعة مضينا برجالنا إلى ملك الفونج ، وفى هذه الليلة أحضرنا كل هدايانا ورسائلنا وفى الصباح سرنا إلى

٤٠٥

سنار ، وقد أعطانا والى مصر كتخدا إبراهيم باشا جوادا وعبدا لنقدمه لملك الفونج ، وهو جواد من المخمل المزركش وثلاثة قسى ملفوفة وإزار من الحرير ، وقدمتها إلى خدمنا وقد تزين جميع الخدام بأحسن ثيابهم كما زينت الجياد والإبل ، وقد وضعت الرسائل فى حقيبة مزينة وسرنا على ضفة النيل ست ساعات وثار الغبار علينا من عصف الريح ، وقد استقبلنا من يركبون الفيلة والإبل والحمير ، وجاء ملك الفونج فى جمع وهو على ظهر فيل أبيض ، وبعد السلام عزمنا على الرحيل ، فبدت لنا ثمانون خيمة على ضفة النيل ومن انعكاس الشمس على المدافع بهرت عيوننا ، فقال إن الملك خرج لاستقبالكم ، وهو فى انتظاركم وقدّم له جميع الهدايا ، ومضينا إلى قاضى بربرستان ، ووقفنا أمامه ويدانا على الصدر تأدبا ، وقلت له السلام عليك يا سلطان السودان فى خشوع فقال لى السلام عليكم يا خادم آل عثمان فسلمت يدا بيد وبعد ذلك مضينا إلى سماط ، فطعمنا طعام الفونج وغسلنا أيدينا بالماء والصابون فى وعاء ، وبعد ذلك قدم عبد أسود فى يده حق ، فأخذه ومسح به يديه كما مسح وجهه ففاحت رائحة العطر فانتعشنا ، وقدم إلينا العبد حقا وفيه مسحوق أبيض ولكن رائحته ساطعة فواحة ، ورائحته أشد نفاذا من رائحة المسك والكافور فأخذنى العجب ، فناديت ترجمان الفونج ، وسألته عن نوع هذا العطر فذكره لى فأسرّ الترجمان بشىء فى أذن الملك ، فرد الملك علينا قائلا ليقرأ من معكم الرسائل التى أحضرتموها معكم ، وفى نفس اللحظة قرعت الطبول فى الجوانب الأربعة ، فقال أنا أقدم فيلا كأنه دابة الأرض وفى القصر كان سبعة فيالين ، وعشرون عبدا ، وخرجنا أفواجا كالجند ، ومضينا تسع ساعات على مقربة من مدينة سنار فى الطريق العام ورأينا رجال الملك وهم يسجدون لنا ، وبناء على ظهور سنار أطلقت المدافع ، وفى دخولنا فى القلعة قرعت الطبول ونفخ فى الأبواق ، وحضر جميع أعيان الفونج وكان الملك جالسا على عرشه فقدمت إليه فى البداية الرسائل ، وقرأ رئيس الديوان الرسائل التى بالعربية فجعل يثنى علينا الثناء ، ثناء تجاوز فيه كل حد ، وقام فيه من عرشه ووضع كفى فى كفه ، وطلب إلى أن أجلس على العرش فتقبل الرسائل ووزع الهدايا أمامى ونال كثيرا من القسى والسهام والكؤوس وأعجب بالسهام والقسى والكؤوس ، وقال هل يرشق

٤٠٦

أحد عدوه بمثل هذه الأشياء النفيسة فأجبته بقولى يا مولاى إن هذه النفائس تليق بك ، ولأنها فى الغزوة تقضى على العدو ، ولقد أدركت من ذلك أنه شجيع ، فأحضرت بعد ذلك جوادا عليه بساط فسرّ به كثيرا ، ولقد فهمت لسان الحال وجعل الملك يتأمل هذا الحصان وعليه البساط مدة ساعتين فخرجنا من عنده ومنحنا دارا وبستانا فيه الليمون والنارنج على شاطئ النيل ودخل معنا جميع خدامنا مدينة سنار فى العشرين من شهر شعبان عام ألف وثلاثة وثمانين.

وصف ولاية السودان وقلعة سنار

ومن الغد فى الصباح اجتمع المجلس ثانية ، وقد سلمت الهدايا التى أرسلها معى كور حسين بك ، وتناولنا الطعام بعد المجلس وكان الطعام طعامهم المعتاد والزعتر ، ولديهم الكثير من النعم منها الكباب والضأن ولحم الغزال ولحم الإبل ولبن النوق بالذرة وهم لا يعرفون طعاما غير هذا ، والأرز والعدس والفول إذا أتت من مصر وجرجا ولكن حين حل شهر رمضان طبخوا الأرز والقرع والقلقاس والقرنابيط ويقدمون فى كل يوم ألف قدر من الطعام ، كما قدموا إلى خدامنا طعاما خمسة أيام ، وفى كل يوم مائتى طبق من الطعام السودانى ، كما قدموا أربعمائة رغيف من خبز الذرة ، ولخيولنا مائتى ربع من الذرة فى كل يوم ، وفى هؤلاء القوم رأينا شابا فقيها حلو الكلام أسمر اللون وجيه المنظر ومعتدل القامة وعلى رأسه عمامة بيضاء ، ويرتدى قميصا أبيض كان دائم العبادة مشغولا بها يحضر الديوان ، ويسمع للشاكين وهو يكمم فمه وأنفه ، ثم يأتى وهو يستر فمه وأنفه ، ثم يأتى المدعى عليه ويقف إلى جانبه ، وهو يسجد ويقدم فروض الطاعة أمام الملك والقضاة ، إلا أنهم على المذهب المالكى ، لأن جميع أهل بربرستان والسودان على المذهب المالكى وقاضيهم يسمى شفيع الدين ، ووزيرهم يسمى فين خان ، والدفتر دار يسمى دابر خان والكاتب برابى خان وحاكم المدينة يسمى سرمن ، وتسمى طائفة الجند عندهم سلام وهم يملكون ثلاثمائة ألف من الزنوج المحاربين وليست لهم رواتب والله يعلم عدد الرعايا ، والبرايا ، وفى مصر كثير من العرايا والجياع ، ولا يعرفون المرض ، وهم معمرون ولهم شيخ إسلام على المذاهب الأربعة ، ولهم من أهل

٤٠٧

الإفتاء أربعة على المذهب المالكى والحنبلى ، ولا وجود لمفتى على المذهب الحنفى ، ولهم نقيب أشراف ، ولأن بينهم سادات كرام ، فإنهم يحضرون على الدوام فى ديوان الملك ، ولكنهم لا يبدون رأيا فى الديوان ولا يلبسون ثياب الحرير ، والأعيان يلبسون القمصان والعمائم البيض والفقراء منهم يمشون حفاة الأقدام ، وإذا ما استحق شخص ما القتل تشاور الأعيان فى أمره إما قتله وإما تبرئته ، وإذا جاء النساء إلى الديوان فللملك حجرة متصلة بالديوان فيقفن وراء حاجز من القصب وهن يعرضن مظلمتهن وفى هذه البلاد يحرم على النساء أن يخرجن من بيوتهن وإذا كنّ سبعا أو ثمانى فلهن دار ضيافة خاصة بهن ، ويقدم إليهن الطعام والشراب من قبل الملك ويكرمهن تكريما عظيما ، وولايتهم واسعة الأرجاء ، وهى ستمائة وأربعون مدينة وألف وخمسمائة قلعة وأربعون ألف وسبعون جبل كبير وثلاثمائة صحراء وأربعون بحيرة عذبة وخمسون بحيرة أخرى مالحة ، وفى أرضهم معادن كثيرة وفى صحاريهم ذهب تحت الأرض ، ولديهم طعام يشبه الثعابين وهو سم زعاف ، وعند ما يجمعون الذهب تقفز جميع الثعابين والحيات ، وتبدو الفضة ومعدن النحاس والحديد والرصاص والنفط والقطران وغبار الزجاج والكبريت ، ولا وجود لمثل هذه فى بلاد أخرى ، كما توجد كنوز لكثير من هذه المعادن وكلها يحصل عليها مجانا ، ولكن لوجودها عند طائفة من الأغبياء ، فلا يقتدر على استخراجها ، والكلام على هؤلاء القوم يطول ويطول ، ولهم كثير من الأحوال تشبه أحوال الخيول ، ولا يمكن ذكرها وبعد ذلك بلغنا السودان.

* * *

٤٠٨

فى بيان حد السودان

فى الشمال على بعد أربعين مرحلة من الحبشة ، ومن الشرق عشرة مراحل إلى (سلطانه بردو مبيه) ، وإلى الجنوب مسيرة شهرين إلى قرمانقه والنيل ينبع من جبل القمر فى قرمانقه. وعلى مسيرة ثلاثة أشهر غربا إلى بغه نسكى ، وفى الشمال على مسيرة ست مراحل إلى حدود بلاد البربر ، وأهله يختلطون بالبرابره. وعلى الجانب الشرقى للنيل على مسرى رياح الشمال على حدود مملكة علوى ، إن هذه البلاد المتراحبة الأرجاء فيها عجائب وعجائب ، وما يلفت إليه النظر ، يعجز أقلام البلغاء عن وصفها ، إلا أنا نحاول ذلك جهد المستطاع وفى البلاد يهود ، وقبط ، وروم ، ولا وجود فيها للفرنجة والقزل باش وأهل السند والهند ، ولكن فيه قوما من عبدة النار ، وهم يذهبون إلى الحبشة ويعودون منها فى تجارتهم ، وقد حضرنا فتح ولاية فروانكه ، وفيها قوم من المجوس ، وهم فى حكم السودان. وهم سمر البشرة وحمرها وصفرها ، وأجسامهم نحيلة ما رأيت فيهم أحدا عليه لحما وشحما ، إن فيهم نشاط كما يحتملون شدة الحر. وهم يمضون عراة الأجسام ، ولا وجود فى هذه الديار للجوخ والحرير والمخمل ، ولا وجود للعملة الذهبية وقد رأوا آباءهم وأجدادهم على تلك الحال. أما ما يجلبه تجارهم فهو الإبل والغنم والعجول والجاموس وسن الفيل وقرن وحيد القرن ، وتروس الفيل وخشب الساج الفونجى والصقنقور والببغاوات ، والأبنوس ، والسنط ، والتجارة عندهم بالمقايضة ، إنهم يبيعون ويشترون بلا مال يدفع ثمنا للسلعة ، والذهب عندهم كثير ، ولكنهم يصهرونه ولا وجود عندهم لسكّة لأنهم لا يعرفونها ، وفى جوامعهم الكثير من الخطباء على المنابر يعظون الناس باللغة العربية ، ثم بعد الخطبة يدعون لسلطان البلاد الواسعة سلطان السودان السلطان بن الخاقان بن غلام محمد خاقان ابن إدريس خاقان ، ثم يدعون لمولانا السلطان محمد خان صاحب الحرمين أيد الله ملكه إلى انقراض الدوران ، ويتلون آيتين وإنّ الله وملائكته يصلون على النبى ، ثم يؤذن المؤذن بأذان قيام الصلاة ، ثم يصلون ركعتى الجمعة ، ويخرجون من الجامع وهم لا يصلون ركعتى السنة ، وهذا دأبهم منذ الزمان الطويل ، ولا يمكن الزواج إلا بعلم الملك ، وهم يؤذن

٤٠٩

لهم بالرحيل إلى جميع البلاد ، وهم يعدون ملكهم فى منزلة النبى ، وبينما يذهبون إلى الجامع أو يخرجون إلى الصيد يسلمون على الملك ويسجدون له سجود تعظيم وتكريم ، ويمضون حاملين نعالهم فى أيديهم عند ما يذهبون إلى الجامع مما يدل على تواضعهم الجم.

أوصاف قلعة مدينة سنار عاصمة السودان

إنها مدينة عظيمة وقلعة قديمة على الضفة الغربية للنيل فى السودان وأول من بناها الملك خلحا خاقان ، إنها قلعة مبنية من الحجر على شكل مربع ولكن ليس لها خندق ، وفى خارجها سور من الخشب المحشو ، وما شاهدناه فى ولاية إبريم من قلاع صغيرة وكبيرة فما شاهدنا أكبر من هذه القلعة فى شكلها وصفاتها ، إنها معمورة ، ومزينة لأنها عاصمة فونجستان ، ومحيطها ثلاثة آلاف خطوة ، ولها ثلاثة أبواب وفى داخلها جامع الخاقان إدريس ، وله منارة واحدة ، وفى معظم القلاع التى اجتزناها جوامع بلا منائر ، وبها قصر الملك وقصور الوزراء ، وبها بيوت مبنية من الحجر واللبن المصنوع من طين النيل وعددها ألفا بيت من القصب وبها بيوت ذات حدائق وأخرى بلا حدائق وقصر يطل على النيل وفى القلعة حمام ، وقصر الملك فيه بساتين الليمون والنارنج والبلح وحدائق الورد والرياحين وبها يزدان القصر.

ولا وجود فى هذه القلعة لسوق ، ولكن فى خارج القلعة جهة الغرب بيوتا من القصب والحجر والخشب والحصير عددها ستة آلاف بيت ، وخارجها كثير من ساكنى الصحراء وهم زنوج عددهم مائة ألف ، ويأمرون هؤلاء القوم بترميم القلعة إذا وجب ذلك ويحضرون لما فى جزر النيل من الكرز والسنط وخشب الساج. ويعمل ذلك على ظهور الإبل ، ولكن ليس لهذه القلعة حاكم مثل ما لقلاع الروم من حاكم وجنود ، ولكن فيها مخزن للسلاح والبارود الأسود وخمسون مدفعا وبعض حملة البنادق ، ولكنهم لا يجرأون على استخدامها ، إنهم قوم جبناء للغاية ، وعلى أبواب القلعة إطارات من الحديد لمدافع فى حجم الفيل ، وإذا أخرجوا إلى القتال استخدموا هذه المدافع الضخمة بعد حملها فوق ظهور الإبل ، وفى يوم رؤية الهلال ويوم العيد يطلقون هذه المدافع ، وتزدان الدنيا بمصابيح النفط ودوى الطبول وهم يصعدون ولولة كأنهم فى احتفال ملكى.

٤١٠

والزنوج من الحبشة والمندبية حينما يقدمون للإغارة على تلك المدينة تقصف المدافع معلنة بمقدمهم ، وفى القلعة ثمانية وسبعون ألفا من الزنوج يبقون فى القلعة ليكونوا مددا للجيش ، والمندبية تنخلع قلوبهم رعبا من ذلك ، إنهم ليسوا مسلمين ينكرون الحشر والنشر ، وخارج القلعة سبعة جوامع من الحجر ، وأربعون مسجدا وثلاثمائة دكان ، وهى من الدكاكين الصغيرة ، والمقاهى وحانات للبوزه لا تحصى كثرة ، وهى معمورة مثل أبنية الروم والعرب والعجم وحلب ، وليس فيها خان ولا حمّام ولا سوق للبن ولا مبرة ولا سبيل ولا مكتب للصبيان ولا مدارس. ففى هذه المدينة لا يوجد فيها بقلة فى حجم الحجارة وترابها لطيف إلى حد أنه صنع كاسات للعين خزفية منه ، كما أن تربتها خصبة حيث الكيلة من الذرة تنتج خمسمائة كيلة ، كما أن محصول القمح موفور ، ولاعتدال جوها زرعت حدائق فيها هنا وهناك ، وفيها الليمون والنارنج ولا وجود فيها للحدائق ولكن بساتينها كثيرة للغاية وجمال نسائها وفتياتها فى سواد بشرتهم ، ولكنهم ليسوا غلاظ الشفاه ولا عابسى الوجوه كالزنوج ، وفيهم عذارى لهن من الجمال والدلال ما يتيم القلوب ، سبحان الخلاق الباقى ، فلهن عيون الغزلان الكحيلة والكلام الرقيق والقوام الممشوق من رآهن أخذ منه العجب مأخذه. وأهلها يتزوجون على المذهب المالكى وهذا جائز ، أما نكاح المتعة فممنوع إلا أن علماءهم يبيحون ذلك فهم فى كل أسبوع يتزوجون زواج المتعة ، ويدفعون المهر ذراعا من البز ، وفتياتهم يسرن عراة وإذا أعطوا مرتبا قاموا بالخدمة ثلاثة أو أربعة أيام ، وبعضهم يخدمون دفعا للجوع ومعيشتهم ضنك ولكن إذا أخذهم الغضب أصبحوا شرارة من نار وفيهم عناد ، وليسوا بلا أصل فهؤلاء قوم بنقلا ودنقله ، وأولئك أفنو وبورنو ، وقرمانقه وبغه نسكى وهكذا. إنهم ليسو غلاظ الشفاه ، وليست لهم أرجل الفيلة وجسم الغول ، ولا عمالقة إن كلامهم رقيق ووجوههم جميلة وسمر البشرة وأفواههم صغيرة وأنفهم كالثمرة وأسنانهم منضّدة بيضاء بين شفتين حمراوين ولهم نساء لهن عيون الغزلان وهذا من جمالهن يوقع الرجال فى غرامهن ويزدانون بالخرز ، والخرز عندهم جميل كما أنهم يلبسون الإزار المصرى والإسكندرى ، ويلبسون ذلك من شدة البرد فى الشتاء ، ولكنهم

٤١١

عراة فى غير فصل الشتاء ، أما نساؤهم فيلبسن إزار الصعيد العالى والمرط القطنى المنقش كما يضعن فى أذرعهن الدمالج وفى أرجلهن الخلاخيل ، وكلامهم بالعبرية منذ عهد إدريس.

اللغة العبرية

الأعداد فى اللغة العبرية :

تلو : واحد اندى : اثنان ياصقى : ثلاثة داقى : أربعة اوقو : خمسة أرصقى : ستة لقار : سبعه طلور : ثمانيه تافى : تسعة راقى : عشرة.

ومن الشعر الرائع للخاقان :

المصراع الأول :

جيجلقداتى ابله تتانى اجلى قتار قابلى جدان جتام بولاشى

(الجميل سل القوم عنه أنه روح روحى إذا ما رأيته قبلته)

المصراع الثانى وهذا يكون بيت :

قاسقلى جمناج دال بلادى يبله بادى بقبلى مصناح

(وإذا ما احتضنته ، وامتصصت شحمة أذنه وعانقت ذراعه الأسود)

البيت الثانى : المصراع الأول :

اجم جى تمناح بملمجى جلطات

(فلا تظن أنى غبى أخذنى النعاس)

المصراع الثانى :

ججلى قلطان للل لتى

(ملكت الدنيا وإذا قال لعبت بها)

البيت الثالث : المصراع الأول :

مزامى لبتى قراجى جبتى صج بولانى قوس جلامى سلحلتى بتى

(تعشقته وهبته فؤادى أكفرت لذلك عشقت منذ زمان بعيد)

٤١٢

المصراع الثانى :

ققان شاهى قليت جاهى خنزيله جاج باتيله حاج تتلتى شاهى

(الملك الخاقان قلت ذلك فى لوم إنه يسكن روحى إنها له قربان إننى بعشقه ثمل)

وقد لحن هذا فى نغمة البياتى ، وغنيت على أصول السماعى وتغنى الرجال والنساء بالأناشيد ، وقرعوا الطبول وضربوا الدفوف وملئوا القرع بالحصى ودام سرورهم ليل نهار ، وأكلوا البصل والثوم وشربوا البوزه وأنشدوا المربع.

أسماء أهل فونجستان

من أسمائهم إدريس وجرجيس وحمد ، وهى أسماء محبوبة ومألوفة وكذلك ناصر وفونقو وأنشومبوا بمعنى سيد ، فرما وعدلان بمعنى جندى ، وسرهاج وبشير ودانيال ومدللا وحدللا وسلى يعنى سليمان وعبد رى بمعنى عبد الرحمن وفيسبان بمعنى معلم.

أسماء شاه فونجستان

طاغليته ، وحجى جى ، وقوره وجوضه يعنى حفظه ، ونوره حه وارابه وحوشه وغنيه وحليمه وماقنى وأمنى ونفيسه وشمامه ومشيقه وآشيه وسبيقه وحجه وباره وشو ، وجاره يعنى جاريه وحته ومدينه واسانى وحنفه وسما ولغلم أن هذه الكلمات السابقة بمعنى أمهاتنا وأخواتنا ولكن هؤلاء النساء فقيرات للغاية ، وتستر هؤلاء النساء عوراتهن بجلد الغزال والغنم والماعز ، وهن يمزقن هذه الجلود قطعة قطعة كما أنهن يزين حلاتهن بالخرز ، وبقية أجسامهن عارية وهن لا يلبسن ثيابا لشدة الحر ، وقد جئن من دعاء نوح عليه‌السلام عليهن ، وأنعامهم كثيرة للغاية ولكن لا وجود بينها للبغل إنهم يشربون ماء النيل وبوزه الذرة ، وثمة نوع آخر من البوزه مسكر للغاية ، أنهم يأكلون الذرة ، كما أنهم يربون ويأكلون الغنم والمعز والجاموس والبقر والإبل والفيل ووحيد القرن والغزال وبيض النعام والقطط والنعام والأسد والنمر ، وهذه الحيوانات تأتى إلى بيوتهم وبساتينهم ويصنعون من جلود الغزال والحملان وسائد لهم ، والنساء يزين بيوتهن ببيض النعام ، ويشربون لبن النوق المسكر خمسة أو ستة أيام ، وأنه يسكر أكثر مما تسكر البوزه ، ولكن

٤١٣

بما أن العنب لا وجود له فى بساتينهم ليس لديهم شراب مسكر كالعرق الذى يصنع من العنب ، وليس لديهم من المسكرات غير البوزه واللبن والسبب فى أن لبن النوق لا يسكر إسكارا شديدا أنهم يضعون فيه جذر نبات الحلفاء فيزداد اللبن سكرا ، إن هذه المشروبات المسكرة تناسب جوههم الحار ولكن شدة الحر لا تؤثر فيهم وأحمد الله أنى لم أتأثر بها ، ونحن نمشى فيها كما نمشى فى أيام الإحرام عراة الرءوس حفاة الأقدام ونحن بذلك نتبع أهل الفونج ، ولم نحزن ذات يوم مع أتباعنا لأن نسيم الصبا هب فأنعش أرواحنا.

وماء النيل فى هذه البقعة ماء زلال ، لأنها تقع على مسيرة شهر جنوبا وفيها من المعادن فى الأرض السبخة النفط والقطران والكبريت والحديد والزرنيخ وفى القنوات مئات الآلاف من الأفاعى والحيات والحيوانات السامة غارقة فيها ويملئون بماء النيل القرب من جلد الغزال ، فيبرد ويصبح قطعة من الثلج ، إلا أنهم إذا أكثروا من شرب الماء أصيبوا بالإسهال ، وفى هذه الديار لا وجود للبراغيث ولا القمل ولا البق لأن جميع أهل هذه البلاد يدهنون أجسامهم بالزيت ويرقدون فى الشمس كأنهم الجاموس ، والبراغيث والقمل والبق لا تبقى فى الأماكن التى فيها دهن ، وهم لا يعرفون المآثم والمحارم والزنا واللواط والنميمة ، وأمراضهم الطاعون وذات الجنب والفالج والرعشة الجسمية والجزام والجمرة والبرص ، والحاصل أنهم لا يعرفون ما الطاعون ، وهم يعدونه مرضا عارضا إنه فى أول أمره ضعف يصيب المريض ثم ينقطع عن الطعام والشراب ثم يموت فيدفن ، إنهم لا يبكون ولا يتأوهون ، ولكنهم يضحكون ، وقد سألت عن ذلك لماذا لا يبكون ، نحن إذا أصبنا بذلك لم نر عيبا فى البكاء ، فقالوا : إننا نموت جميعا قضاء وقدرا.

وخلاصة القول أنهم قوم يتوكلون على الله إنهم من لم يجد عشاءه ووجد أكله ، وإلا فإنه يمضى جائعا ، إنهم يصيدون سمك النيل وبه يسدون جوعتهم ، وإذا وصفنا أحوال وأوضاع السودان كلها تطلّب منا ذلك كتابا بذاته.

٤١٤

علم الهيئة والإسطرلاب وربع الدائرة

وبيان ارتفاع البلاد وانخفاضها وطول أنهارها

أولا خط الاستواء فى الإقليم الأول ويبلغ ولايات بربرستان وعلوستان ودميستان وخط الاستواء عنده يتساوى الليل والنهار ، لأنه الإقليم الأول ، ولكننا وصلنا إلى السودان وهو على مسيرة ثلاثين مرحلة من منطقة خط الاستواء وإقليم فى حكم مدار الجدى. وقال الحكيم بطليموس إن هذا الإقليم هو الإقليم الأول ، وخط الاستواء هو الإقليم الثانى لأن فى فونجستان الليل والنهار يتساويان وإننا على مسيرة ثلاثين مرحلة منها فمضينا إلى وراء خط الاستواء فوجدنا ست عشرة درجة وخمسا وأربعون دقيقة ومدار يمر فى وسط أسوان ، وإلى ما بعد المدار فلم يذكره قدماء العلماء ، ولأن هذا الإقليم يخلو من العمران وشدة الحر وأثر السرطان ، وقد استولى كفار البرتغال على نهاية جنوب جزيرة مصر ، وبنوا القلاع على ضفة النيل كما بنوا المدن ومارسوا البيع والشراء فيها وكانت لهم ولاية بين مدار الجدى والإقليم الأوسط ، ولكن لا يستحق هذا الإقليم الكتابة عنه ، وعلى طرفى مصر البحر المحيط ، والباقى تراب على مسيرة خمسة آلاف ميل من البحر المحيط أرضا خالية ولكن الطيور تطير فوقه ، وتعبره ونرى أناس من طين فيه لأن الأقيونوس والمحيط يحولان دون ذلك.

ذكر الإقليم الأول

على حد قول قدماء العلماء إنه خط على الأرض من الشرق إلى الغرب وسموه الإقليم الأول ولكنه من عند الله ، ولقد تجول إدريس ودانيال فى الأرض من الشرق إلى الغرب فأطلقوا على هذا الإقليم الإقليم الأول ، ولما مضوا من الشرق إلى الغرب وجدوا أن عرضه اثنتى عشرة درجة وأربعين دقيقة ، فقالوا إنه الإقليم الأول ، ثم أطلقوا الأسماء على الأقاليم الثانى والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع ، ولشدة الحر لم يصلا إلى إقليم آخر لنذكره. فبقيا عند الإقليم السابع ، ولكن إقليم فونجستان وسط خط الاستواء توجد ولاية عمران وولاية الزنج وديار الحبشة وبعض المدن القريبة ، ولشدة الحر

٤١٥

فيها لا يسكنها الإنسان فما سمياه إقليما ، ولكن كان ولاية عمران وولاية الزنج كانتا معمورتين من قديم الزمان وسنذكرهما فى موضعهما إن شاء الله.

وعلى حد قول سقراط إن الإقليم الأول الذى عبرناه هو ولاية بربرستان وعرضه أربع عشرة درجة وسبع وثلاثون دقيقة ، وأطول نهار فيها ثلاث عشرة ساعة وطول الإقليم الأول هذا من الشرق إلى الغرب ألف ومائتا وخمسين فرسخا ، وعرضه مائة وأربعون فرسخا وفيه ألف مدينة وخمسون منها زنوج أهلها.

أولا : جزيرة سرنديب وهند وصغانه وطغار وحرش وفرج أباد وأحمد أباد وديوابا ووختن فى جزيرة الحبشة زيلع ومدينة مقدشو ومدينة زنج وسودان وبربرستان وفى أرض المغرب فاس ، ومرانكوش وطنجه وسبته إنها رأس الأقيونوس.

وعلى حد قول بدر وقولون أن فى هذا الإقليم الأول أربعين جبلا شامخا وثلاثين نهرا عظيما ، وكل نهر فيها كنهر النيل ومضينا فى الإقليم الثانى وفى نهاية مدينتى دمياط ورشيد اللتان تطلان على بحر الروم.

زيارة ضرائح سنار عاصمة فونجستان

أولا فى المقبرة ضريح الشيخ عيسى ، والشيخ بلال وحاجى فوندان ، والشيخ ستوان وحاجى ملابه ، والشيخ على وحاجى إدريس ، والشيخ فرج عاصم ، وعلى كرم الدين عدنى ، والشيخ جندى ابن خاقان ، وجميع الملوك مدفونون فى هذه المحلة ، إلا أن قبورهم ليست مزينة ، وهم يزورون قبورهم على أنهم ملوكهم القدامى ، وقد قرأت الفاتحة لهم ، ورجوت منهم البركات ولله أحمد أن دعاءنا قد كان مستجابا ، ومكثنا فى مدينة فونجستان أربعين يوما وكان رمضان هذا هو الثالث والثمانون على تولى الملك وقد منحنا فى العيد عيدية ثيابا مزركشة وثيابا قطنية ومبخرة من الخزف وغرارة من العود وقارورة من ماء الورد وجاريتين حبشيتين ، كما منح هدايا لمن معنا وقد أرسلنا إليه فيلين وجوادا وزوجين من الأكياس بها قمصان وسراويل ودستين من الصوف وعمامة وثلاثة مآزر مزركشة ، ثم جاء الملك إلى بيتنا ، وتناول الطعام معنا فقد كان لنا مملوكان يجيدان

٤١٦

طهو الطعام ، وكنا نقدم إليه فى كل ليلة من ليالى رمضان عشرات الأصناف من الطعام ، وكان يطيب نفسا بتناولها كما كان يحسن إلى غلماننا وكان يفضل الكباب على غيره من ألوان الطعام ، بعد ذلك جالب الطعام للإنكشارية وتجّار الحبشة وأذن للأحباش فطلبوا المدد من الجند ، وقالوا سمعا وطاعة فجىء بألف فارس وألف راكب إبل وألفان من المشاة يحملون الحراب فتحينت الفرصة وطلبت الإذن لى لأكون رفيقا لهم فاستجيب لطلبى ، فقيل لى علىّ السمع والطاعة نحن لا نستغنى عنك لحظة فقد ألفناك للغاية ، وذلك لحميد سجاياك وبمشيئة الله سوف تتجول فى بلادنا مع هؤلاء الجنود ، ومن الغد قدمنا الهدايا وهى عشرون زوجا من قرون وحيد القرن وعشرون حمل جمل من الشعير والذرة وخبز وخمسون حربة من خشب السنديان وعشرون من تروس الفيل وعشرون زوجا من سن الفيل وغرارة من المسك وعشر فتيات وعشرة غلمان أحباش وفى يد كل منهم صندوق وفى كل صندوق عنبر ومسك وعقيق وزبرجد وأحجار عين السمكة ، وطاووس ، ودفعنا الرسوم لحاكم القلعة على ذلك وقلنا إن وزير مصر سوف يقدم من الهدايا غير ذلك.

وقد قدمنا إلى كل واحد إزارا وعمامة وحملا من القمصان ومن الغد وصلتنا الهدايا وهى عشرون طاووسا وخمسون من المماليك السود ، وخمسون فتاة سمراء ، وخمسون حمل جمل من سن الفيل ، وقرون وحيد القرن وعشرون ترسا للفيلة وألف زوج من السهام ومائة زوج من جلد النمر ومائة زوج من جلد الغرانق ، وحمل من الذرة ، ومائة حمل من مسك جلد قطة الزباد وعشرة أحمال من الأبنوس ، وعشرة أحمال من خشب السنديان وحملان من الذهب وصندوق من المسك وستون شمامة من العنبر وصندوق من نبات ذكى الرائحة وصندوق من عطر البنفسج ، وصندوق من دهن السكسبان وحق من دهن الكبريت ، وقد تقبلنا هذا كله ، وفى الظهيرة وصلت هدايا كل من الكتخدا والبوابين للكتخدا والخازندار والمهردار والشيخ العزيز بكرى زاده ، وقد سلم الملك ذلك كله إلى أحد الرجال وقد استشرت فى ذلك واشترك الملك كذلك فى هذه المشورة وقيل

٤١٧

لنا إننا سنحمل كل هذه الهدايا فى سفينة سنمضى بها إلى التلال وسوف تلاحظ ذلك لأننا نثق فيك ، وسنكمل برأيك وتدبيرك ، ومن الغد وصلت مائة سفينة من سفن النيل ، وقد امتلأت فى كل مرحلة بمأكولات ومشروبات ، فتوكلنا على الله ومضوا لانتظارنا فى قلعة إبريم ، وفى يوم سابق على هذا قدم إلينا نحن والباشا كل من حملة الهدايا وراكبو الإبل ورجال الملك وثلاثة رجال من البربر من قبلنا وقد احتفظنا عندنا بما خف حمله وغلا ثمنه ، وخرجنا إلى الصيد مع الملك وفى معيتنا ثلاثة وخمسون رجلا لخدمة الملك وفى ظهيرة الغد خرج ثمانية آلاف فارس وعشرة آلاف من راكبى الإبل مع الملك من فونجستان للصيد.

* * *

٤١٨

الفصل الثانى والسبعون

بيان عودتنا من مدينة سنار عاصمة فونجستان

فى معية الملك إلى مدينة رملية الحمال التى شاهدناها وذلك فى اليوم الخامس لعيد الفطر المبارك عام ألف وثلاثة وثمانين.

عرف الأحباش الخبر فحملوا أمتعتهم ألف حمل على الفيلة وقد سبقنا فرقة من الجيش تتألف من عشرين ألف جندى خرجنا من المدينة واتجهنا شمالا وغادرنا من مدينة سنار ومضينا على ضفة النيل جنوبا ووجّه الملك السؤال قائلا : إن طريق سلطاننا فى الروم من الشمال ونحن نمضى إلى الجنوب فما الحكمة فى ذلك فقلت إن فى ولاية السودان أراض عامرة وطلاسم تستحق المشاهدة ولذلك نمضى إلى هناك وقطعنا عشر مراحل من فونجستان جنوبا ، وقلنا سوف نعود إلى ولايتنا وقطعنا مراحل ومراحل فى تسع ساعات.

بناء قلعة ابسوقه القديمة

كانت فى سالف الزمان مدينة عظيمة ، واسمها ما زالت ظاهرة للعيان أما التى على الضفة الغربية للنيل فبناء قوى من خشب السنديان والسنط والصباح ومحيطها ثلاثة آلاف خطوة ، وهى على شكل مربع وقد أقمنا خياما فى مرج إلى جانبها وشاهدنا فى ذلك اليوم عجائب فى ديوان الملك.

أوصاف العجائب فى الديوان

دعانى الملك إلى خيمته ، وجلسنا على سرير هندى فرأينا الديوان الذى فيه كثير من الناس ، فجلسوا ركبة إلى ركبة ، وكان فى وسطه ميدان عظيم فرأيناه ورأينا فرقة موسيقية تعزف بلهجة وتغنى بلهجة خاصة أمام ستار الملك كما رأينا سبعة من الغلمان الهنود يرقصون وأمام الملك دار أربعة منهم وأذيال ثيابهم مزركشة وكانوا يدورون كأنهم الفلك الدوّار ، ولكن لم يكن منهم أحد من العرب والعجم ولا الروم ، وكانت فى أيديهم سن الفيل وبه يرقصون ويدورون وكان رقصهم ليس فى قدرة البشر.

٤١٩

وجملة القول أن جميع الأوضاع الخاصة بالبربر قد ذكرتها ، ولما أتممت الفصل الخاص بهم ظهر لى رجل فيل الجسم وهو حافى القدم ولكنه يستر عورته بكسره وهو فى ثوب بهلوان وعلامة بهلوان وبينما كان يسير فى ميدان المعركة وطأت قدمه نملة فمضى إلى الملك وقال : يا حى ووثب عاليا وارتفع مقدار خمس خطوات فى الهواء وقال : إن هذه آداب البهلوان ، وقبل الأرض بين يدى الملك ، ودعا للملك ولى وتراجع موليا لنا وجهه. وقال : يا سلطان السودان عدت من ديار الهند ومضيت إلى ديار البرتغال ولله أشكر أنى شاهدت جمالك ولكنى غريب عن بلادى وعارى الجسد والآن وقت السحر وأشعر بالبرد فقلت للملك مرهم بإيقاد نار لنستدفئ ، فأشعلوا النار فى كومة من حطب السنط والصباح حمل عشرة أفيال ، وكانت مثل نار النمرود ، فاندلعت ألسنة النار عاليا ، وتتطاير شرارها إلى جانب هذا الرجل فاستدفأ فوثب فى التو وقدم إلى الملك وقال له : يا سلطان الإحسان لقد وجدت الدفء من النار بحمد الله ، ولكنى جوعان فأحضروا جملا بدينا وأمر بذبحه وشى لحمه على النار وقال لآكل من هذا اللحم ، ودعا للملك وبعد ذلك أحضروا جملا جسيما آخر ، وكأنما هو دابة الأرض وذبح الجمل وشرب البهلوان كل دم الجمل ، ثم سلخ جلده ، وقطع جسمه قطعة قطعة وقدموا لحم الجمل للملك فقال : الإذن يا سلطان ، لقد قطع قطعة من اللحم ووضعها فى النار وشواها ولكن لم يبق شىء من لحم الجمل وحطم بالفأس عظامه وتناولها ، وأخذ بعض أتباع الملك رأسه وقدموها له فأكلها وبقى ذلك أسطورة عند الناس وقال : إن هذا تسبب فى نجاسة تمنعه من أن يصلى إماما ثم وقف الرجل ومشى ، ولما سمع الغناء قدم إلى الملك وقال : يا سلطان إن بطنى لم يشبع فأنا أملك اللحم النيئ وأنت تملك النار فأرجو أن تمنحنى إياها ولما قال ذلك ابتسم الملك ثم مضى وخلع سترته بجانب النار وجلس وسط النار وهو يقول بسم الله ، أما أنا فتأملت النار وألسنتها تلتفح وكانت النار مثل عقيق اليمن ، ولكنى ذهلت وجعلت أتأمل ، وقال : النار فاكهة الشتاء ثم حك بيده جسمه وظهر منه دخان ثم خرج من النار وقبّل الأرض بين يدى الملك ،

٤٢٠