الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

يتقدّم عندنا على رافعه ؛ لأن رافعه ليس المبتدأ وحده ، إنما الرافع له (المبتدأ والابتداء) جميعا ، فلم يتقدّم الخبر عليهما معا ، وإنما تقدّم على أحدهما وهو المبتدأ. فهذا (لا ينتقض). لكنه على قول أبى الحسن مرفوع بالمتبدإ وحده ، ولو كان كذلك لم يجز تقديمه على المبتدأ.

ولا يجوز تقديم الصلة ولا شيء منها على الموصول ، ولا الصفة على الموصوف ، ولا المبدل على المبدل منه ، ولا عطف البيان على المعطوف عليه ، ولا العطف الذى هو نسق على المعطوف عليه ، إلا فى الواو وحدها ، وعلى قلّته أيضا ؛ نحو قام وعمرو زيد. وأسهل منه ضربت وعمرا زيدا ؛ لأن الفعل فى هذا قد استقلّ بفاعله ، وفى قولك : قام وعمرو زيد ؛ اتسعت فى الكلام قبل الاستقلال والتمام. فأما قوله :

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السلام (١)

فحملته الجماعة على هذا ، حتى كأنه عندها : عليك السلام ورحمة الله. وهذا وجه ؛ إلا أن عندى فيه وجها لا تقديم فيه ولا تأخير من قبل العطف. وهو أن يكون (رحمة الله) معطوفا على الضمير فى (عليك). وذلك أن (السلام) مرفوع بالابتداء ، وخبره مقدّم عليه ، وهو (عليك) ففيه إذا ضمير منه مرفوع بالظرف ، فإذا عطفت (رحمة الله) عليه ذهب عنك مكروه التقديم. لكن فيه العطف على المضمر المرفوع المتّصل من غير توكيد له ، وهذا أسهل عندى من تقديم المعطوف على المعطوف عليه. وقد جاء فى الشعر قوله :

قلت إذ أقبلت وزهر تهادى

كنعاج الملا تعسّفن رملا (٢)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للأحوص فى ديوانه ص ١٩٠ (الهامش) ، وخزانة الأدب ٢ / ١٩٢ ، ٣ / ١٣١ ، والدرر ٣ / ١٩ ، ١٥٥ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٧٧ ، ولسان العرب (شيع) ، ومجالس ثعلب ص ٢٣٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٢٧ ، وبلا نسبة فى الخصائص ٢ / ٣٨٦ ، والدرر ٦ / ٧٩ ، ١٥٦ ، وشرح التصريح ١ / ٣٤٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٨٠٥ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٥٦ ، ٦٥٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٣ ، ٢٢٠ ، ٢ / ١٣٠ ، ١٤٠.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو لعمر بن أبى ربيعة فى ملحق ديوانه ص ٤٩٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٠١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٥٨ ، وشرح المفصل ٣ / ٧٦ ، واللمع ص ١٨٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٦١ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٧٩ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٢٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٠١ ، والكتاب ٢ / ٣٧٩.

١٦١

وذهب بعضهم فى قول الله تعالى : (فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) [النجم : ٦ ، ٧] إلى أنّ (هو) معطوف على الضمير فى (استوى).

ومما يضعف تقديم المعطوف على المعطوف عليه من جهة القياس أنك إذا قلت : قام وزيد عمرو فقد جمعت أمام زيد بين عاملين : أحدهما (قام) ، والآخر الواو ؛ ألا تراها قائمة مقام العامل قبلها ، وإذا صرت إلى ذلك صرت كأنك قد أعملت فيه عاملين ، وليس هذا (كإعمال) الأول أو الثانى فى نحو قام وقعد زيد ؛ لأنك فى هذا مخيّر : إن شئت أعملت الأوّل ، وإن شئت أعملت الآخر. وليس ذلك فى نحو قام زيد وعمرو ؛ لأنك لا ترفع عمرا فى هذا إلا بالأوّل.

فإن قلت : فقد تقول فى الفعلين جميعا بإعمال أحدهما ألبتّة ؛ كقوله :

*كفانى ولم أطلب قليل من المال (١) *

قيل : لم يجب هذا فى هذا البيت لشيء يرجع إلى العمل اللفظىّ ، وإنما هو شيء راجع إلى المعنى ، وليس كذلك قام وزيد عمرو ؛ لأن هذا كذا حاله ومعناه واحد ، تقدّم أو تأخّر. فقد عرفت ما فى هذا الحديث.

ولا يجوز تقديم المضاف إليه على المضاف ، ولا شيء مما اتصل به.

ولا يجوز تقديم الجواب على المجاب ، شرطا كان أو قسما أو غيرهما ؛ ألا تراك لا تقول : أقم إن تقم. فأمّا قولك أقوم إن قمت فإن قولك : أقوم ليس جوابا للشرط ، ولكنه دالّ على الجواب ، أى إن قمت قمت ، ودلّت أقوم على قمت.

ومثله أنت ظالم إن فعلت ؛ أى إن فعلت ظلمت ، فحذفت (ظلمت) ودلّ قولك:

(أنت ظالم) عليه.

__________________

(١) عجز البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٣٩ ، والإنصاف ١ / ٨٤ ، وتذكرة النحاة ص ٣٣٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٢٧ ، ٤٦٢ ، والدرر ٥ / ٣٢٢ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٩٦ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٣٤٢ ، ٢ / ٦٤٢ ، وشرح قطر الندى ص ١٩٩ ، والكتاب ١ / ٧٩ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١١٠ ، وتاج العروس (لو) ، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى ١ / ٢٠١ ، ٣ / ٦٠٢ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٨٠ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٥٦ ، والمقتضب ٤ / ٧٦ ، والمقرب ١ / ١٦١. وصدره :

*فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة*

١٦٢

فأمّا قوله :

فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت

فطعنة لا غسّ ولا بمغمّر (١)

فذهب أبو زيد إلى أنه أراد : إن ينج منها فلم أرقه ، وقدّم الجواب. وهذا عند كافّة أصحابنا غير جائز ، والقياس له دافع ، وعنه حاجز. وذلك أن جواب الشرط مجزوم بنفس الشرط ، ومحال تقدّم المجزوم على جازمه ؛ بل إذا كان الجارّ ـ وهو أقوى من الجازم ؛ لأن عوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال ـ لا يجوز تقديم ما انجرّ به عليه كان ألا يجوز تقديم المجزوم على جازمه أحرى وأجدر. وإذا كان كذلك فقد وجب النظر فى البيت. ووجه القول عليه أن الفاء فى قوله : (فلم أرقه) لا يخلو أن تكون معلّقة بما قبلها ، أو زائدة ، وأيّهما كان فكأنه قال : لم أرقه إن ينج منها ؛ وقد علم أنّ لم أفعل (نفى فعلت) ، وقد أنابوا فعلت عن جواب الشرط ، وجعلوه دليلا عليه فى قوله :

يا حكم الوارث عن عبد الملك

أوديت ان لم تحب حبو المعتنك (٢)

أى إن لم تحب أوديت. فجعل (أوديت) المقدّمة دليلا على (أوديت هذه المؤخّرة. فكما جاز أن تجعل فعلت دليلا على) جواب الشرط المحذوف ، كذلك جعل نفيها الذى هو لم أفعل دليلا على جوابه. والعرب قد تجرى الشىء مجرى نقيضه ؛ كما تجريه مجرى نظيره ؛ ألا تراهم قالوا : جوعان (٣) ؛ كما قالوا : شبعان ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن مسعود فى لسان العرب (غسس) ، ونوادر أبى زيد ص ٧٠ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٦٢٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣ ، وكتاب العين ٤ / ٤١٧. والغس : الضعيف اللئيم. المغمر : الجاهل الذى لم يجرّب الأمور.

(٢) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١١٨ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٥٢ ، وشرح قطر الندى ص ٢٠٩ ، وللعجاج فى اللمع فى العربية ص ١٩٤ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ص ٦٢٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٣ ، والمعانى الكبير ص ٨٧٠ ، والمقتضب ٤ / ٢٠٨ ، وديوان الأدب ٢ / ١٨ ، وكتاب الجيم ٢ / ٢٢٥ ، ٢٧٣ ، وأساس البلاغة (نوخ). يريد الحكم بن عبد الملك بن مروان. والمعتنك : البعير يصعد فى العانك من الرمل ، وهو المتعقد منه. والبعير قد يحبو حتى يقطعه.

(٣) ذلك أن جوعان فعله جاع على فعل ـ بفتح العين ـ وفعلان قياس فى الوصف من فعل ـ بكسر العين كشبع ، وإنما قياس الوصف من جاع جائع ، ولكن جاء الوصف على وازن ضدّه وهو شبعان فقيل : جوعان. (نجار).

١٦٣

وقالوا : علم (١) ؛ كما قالوا : جهل ، وقالوا : كثر ما تقومنّ ؛ كما قالوا : قلّما تقومنّ. وذهب الكسائىّ فى قوله :

إذا رضيت علىّ بنو قشير

لعمر الله أعجبنى رضاها (٢)

إلى أنه عدّى (رضيت) بعلى لمّا كان ضدّ سخطت ، وسخطت ممّا يعدّى بعلى ، وهذا واضح. وكان أبو علىّ يستحسنه من الكسائىّ. فكأنه قال : إن ينج منها ينج غير مرقى منها ، وصار قوله : لم (أرقه) بدلا من الجواب ودليلا عليه.

فهذه وجوه التقديم والتأخير فى كلام العرب. وإن كنا تركنا منها شيئا فإنه معلوم الحال ، ولا حق بما قدّمناه.

وأما الفروق والفصول فمعلومة المواقع أيضا :

فمن قبيحها الفرق بين المضاف والمضاف إليه ، والفصل بين الفعل والفاعل بالأجنبىّ ، وهو دون الأوّل ؛ ألا ترى إلى جواز الفصل بينهما بالظرف ؛ نحو قولك : كان فيك زيد راغبا ، وقبح الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف ؛ نحو قول الفرزدق :

فلمّا للصلاة دعا المنادى

نهضت وكنت منها فى غرور (٣)

وسترى ذلك.

ويلحق بالفعل والفاعل فى ذلك المبتدأ والخبر فى قبح الفصل بينهما.

(وعلى الجملة فكلّما ازداد الجزءان اتصالا قوى قبح الفصل بينهما).

فمن الفصول والتقديم والتأخير قوله :

فقد والشكّ بيّن لى عناء

بوشك فراقهم صرد يصيح (٤)

__________________

(١) كأنه يريد أن (علم) بابه أن يكون على فعل ـ بضم العين ـ لكونه غريزة كما يقال حلم ، ولكنه حمل على جهل فجاء على فعل ـ بكسر العين ـ وجهل جاء هكذا حملا على حرد. انظر الكتاب ٢ / ٢٢٥.

(٢) سبق.

(٣) نهضت : هببت من نومى. «وكنت منها فى غرور» أى كان متاعه بمحبوبته فى الحلم غرور.

(٤) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة فى رصف المبانى ص ٣٩٣ ، وشرح شواهد المغنى ص ٤٧٩ ، ومغنى اللبيب ص ١٧١ ، ويروى : (والله) مكان (والشك) ، (عنائى) مكان (عناء).

١٦٤

أراد : فقد بيّن لى صرد يصيح بوشك فراقهم ، والشكّ عناء. ففيه من الفصول ما أذكره. وهو الفصل بين (قد) والفعل الذى هو بيّن. (وهذا) قبيح لقوّة اتصال (قد) بما تدخل عليه من الأفعال ؛ ألا تراها تعتدّ مع الفعل كالجزء منه. ولذلك دخلت اللام المراد بها توكيد الفعل على (قد) فى نحو قول الله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الزمر : ٦٥] ، وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) [البقرة : ١٠٢] وقوله :

ولقد أجمع رجلىّ بها

حذر الموت وإنى لفرور

وفصل بين المبتدأ الذى هو الشكّ وبين الخبر الذى هو عناء بقوله : (بيّن لى) ، وفصل بين الفعل الذى هو (بيّن) وبين فاعله الذى هو (صرد) بخبر المبتدأ الذى هو (عناء) ، وقدّم قوله : (بوشك فراقهم) وهو معمول (يصيح) ويصيح صفة لصرد على صرد ، وتقديم الصفة أو ما يتعلّق بها على موصوفها قبيح ؛ ألا ترى أنك لا تجيز هذا اليوم رجل ورد من موضع كذا ؛ لأنك تريد : هذا رجل ورد اليوم من موضع كذا. وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع العامل ، فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها ، كذلك لا يجوز تقديم ما اتّصل بها على موصوفها ، كما لا يجوز تقديم معمول المضاف إليه على نفس المضاف ، لمّا لم يجز تقديم المضاف إليه عليه. ولذلك لم يجز قولك : القتال زيدا حين تأتى ، وأنت تريد : القتال حين تأتى زيدا.

فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها ، وانخراق الأصول بها ، فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه وإن دلّ من وجه على جوره وتعسّفه ، فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه (١) ، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته ، ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته. بل مثله فى ذلك عندى مثل مجرى الجموح بلا لجام ، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام ، فهو وإن كان ملوما فى عنفه وتهالكه ، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض منته ؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر فى سلاحه ، أو أعصم بلجام جواده ، لكان

__________________

(١) يقال : تخمط الفحل : هدر وثار. وتخمط : تكبر.

١٦٥

أقرب إلى النجاة ، وأبعد عن الملحاة (١) ؛ لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله ، إدلالا بقوّة طبعه ، ودلالة على شهامة نفسه. ومثله سواء ما يحكى عن بعض الأجواد أنه قال : أيرى البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم ، لكنا نرى أن فى الثناء بإنفاقها عوضا من حفظها (بإمساكها). ونحو منه قولهم : تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها ، وقول الآخر :

لا خير فى طمع يدنى إلى طبع

وغفّة من قوام العيش تكفينى (٢)

فاعرف بما ذكرناه حال ما يرد فى معناه ، وأن الشاعر إذا أورد منه شيئا فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعبا ، ولا جشم إلا أمما (٣) ، وافق بذلك قابلا له ، أو صادف غير آنس به ، إلا أنه هو قد استرسل واثقا ، وبنى الأمر على أن ليس ملتبسا.

ومن ذلك قوله :

فأصبحت بعد خطّ بهجتها

كأنّ قفرا رسومها قلما (٤)

أراد : فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأنّ قلما خطّ رسومها. ففصل بين المضاف الذى هو (بعد) ، والمضاف إليه الذى هو (بهجتها) بالفعل الذى هو (خطّ) وفصل أيضا بخطّ بين (أصبحت) وخبرها الذى هو (قفرا) ، وفصل بين كأنّ واسمها الذى هو (قلما) بأجنبيّين : أحدهما قفرا ، والآخر : رسومها ؛ ألا ترى أن رسومها مفعول خطّ الذى هو خبر كأنّ ، وأنت لا تجيز كأنّ خبزا زيدا آكل. بل إذا لم تجز الفصل بين الفعل والفاعل على قوّة الفعل فى نحو كانت زيدا الحمّى تأخذ كان ألا

__________________

(١) الملحاة : اللوم.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لثابت بن قطنة فى لسان العرب (طبع) ، وتاج العروس (غفف) ، وأمالى المرتضى ١ / ٤٠٨ ، وله أو لعروة بن أذينة فى تاج العروس (طبع) ، وهو فى ديوان عروة بن أذينة ص ٣٨٦ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (غفف) ، ومجمل اللغة ٤ / ٥ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٣٧٥ ، والمخصص ٣ / ٦٩ ، وديوان الأدب ٣ / ٢٦ ، وأساس البلاغة (غفف). الطبع : العيب. والغفة : ما يتبلغ به ويقتات.

(٣) الأمم : اليسير.

(٤) البيت من المنسرح ، وهو لذى الرمة فى ملحق ديوانه ص ١٩٠٩ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٤٣١ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤١٨ ، ولسان العرب (خطط).

١٦٦

تجيز الفصل بين كأنّ واسمها بمفعول فاعلها أجدر.

نعم ، وأغلظ من ذا أنه قدّم خبر كأنّ عليها وهو قوله : خطّ. فهذا ونحوه ممّا لا يجوز لأحد قياس عليه. غير أن فيه ما قدّمنا ذكره من سموّ الشاعر وتغطرفه ، وبأوه ، وتعجرفه (١). فاعرفه واجتنبه.

ومن ذلك بيت الكتاب :

وما مثله فى الناس إلا مملّكا

أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه

وحديث ما فيه معروف ، فلندعه ولنعدّ عنه.

وأما قول الفرزدق :

إلى ملك ما أمّه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره (٢)

فإنه مستقيم ولا خبط فيه. وذلك أنه أراد : إلى ملك أبوه ما أمّه من محارب ، أى ما أم أبيه من محارب ، فقدّم خبر الأب عليه ، وهو جملة ؛ كقولك : قام أخوها هند ، ومررت بغلامهما أخواك.

وتقول على هذا : فضّته محرقة سرجها فرسك ؛ تريد : فرسك سرجها فضّته محرقة ، ثم تقدّم الخبر على صورته ، فيصير تقديره : سرجها فضّته محرقة فرسك ، ثم تقدّم خبر السرج أيضا عليه فتقول : فضّته محرقة سرجها فرسك. فإن زدت على هذا شيئا قلت : أكثرها محرق فضّته سرجها فرسك ، أردت : فرسك سرجها فضّته أكثرها محرق ، فقدّمت الجملة التى هى خبر عن الفضّة عليها ، ونقلت الجمل عن مواضعها شيئا فشيئا. وطريق تجاوز هذا والزيادة فى الأسماء والعوائد واضحة. وفى الذى مضى منه كاف بإذن الله.

فأما قوله :

__________________

(١) التغطرف : التكبر. والبأو : الفخر. والتعجرف : الإقدام فى هوج وعدم المبالاة.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق فى ديوانه ١ / ٢٥٠ ، والدرر ٢ / ٧٠ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٣٥٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٤٤ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٥٥ ، وبلا نسبة فى رصف المبانى ص ١٨ ، وشرح ابن عقيل ص ١١٨ ، ومغنى اللبيب ١ / ١١٦ ، وهمع الهوامع ١ / ١١٨.

١٦٧

معاوى لم ترع الأمانة فارعها

وكن حافظا لله والدين شاكر (١)

فإن (شاكر) هذه قبيلة. أراد : لم ترع الأمانة شاكر فارعها ، وكن حافظا لله والدين. فهذا شيء من الاعتراض. وقد قدّمنا ذكره ، وعلّة حسنه ، ووجه جوازه.

وأما قوله :

يوما تراها كمثل أردية العص

ب ويوما أديمها نغلا (٢)

فإنه أراد : تراها يوما كمثل أردية العصب ، وأديمها يوما آخر نغلا. ففصل بالظرف بين حرف العطف والمعطوف به على المنصوب من قبله ، وهو (ها) من تراها. وهذا أسهل من قراءة من قرأ : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)(٣) [هود : ٧١] إذا جعلت (يعقوب) فى موضع جرّ ، وعليه تلقّاه القوم من أنه مجرور الموضع. وإنما كانت الآية أصعب مأخذا من قبل أن حرف العطف منها الذى هو الواو ناب عن الجارّ الذى هو الباء فى قوله (بإسحاق) ، وأقوى أحوال حرف العطف أن يكون فى قوّة العامل قبله ، وأن يلى من العمل ما كان الأوّل يليه ، والجارّ لا يجوز فصله من مجروره ، وهو فى الآية قد فصل بين الواو ويعقوب بقوله (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ). والفصل بين الجارّ ومجروره لا يجوز ، وهو أقبح منه بين المضاف والمضاف إليه. وربما فرد الحرف منه فجاء منفورا عنه ؛ قال :

لو كنت فى خلقاء أو رأس شاهق

وليس إلى منها النزول سبيل (٤)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (شكر) ، ويروى : (حافظا) مكان (شاكرا).

(٢) البيت من المنسرح ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ٢٨٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٢٤ ، ولسان العرب (خمس) ، (نغل) ، (أدم) ، وتاج العروس (خمس) ، (نغل) ، (أدم) ، وبلا نسبة فى شرح عمدة الحافظ ص ٦٣٦.

(٣) وقراءة فتح باء يعقوب قراءة حفص. عن عاصم وابن عامر وحمزة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائى بالرفع وروى أبو بكر عن عاصم بالرفع. السبعة لابن مجاهد ص ٣٣٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى رصف المبانى ص ٢٥٥ ، والمقرب ١ / ١٩٧ ، ويروى :

مخلفة لا يستطاع ارتقاؤها

وليس إلى منها الزوال سبيل

خلقاء : أى ملساء والموصوف محذوف وهو صخرة.

١٦٨

ففصل بين حرف الجرّ ومجروره بالظرف الذى هو (منها) وليس كذلك حرف العطف فى قوله :

*... ويوما أديمها نغلا*

لأنه عطف على الناصب الذى هو (ترى) فكأنّ الواو أيضا ناصبة ، والفصل بين الناصب ومنصوبه ليس كالفصل بين الجارّ ومجروره.

وليس كذلك قوله :

فصلقنا فى مراد صلقه

وصداء ألحقتهم بالثلل (١)

(فليس منه) لأنه لم يفصل بين حرف العطف وما عطفه ، وإنما فيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمصدر الذى هو (صلقة) وفيه أيضا الفصل بين الموصوف الذى هو (صلقة) وصفته التى هى قوله (ألحقتهم بالثلل) بالمعطوف والحرف العاطفة أعنى قوله : وصداء ، وقد جاء مثله ؛ أنشدنا :

أمرّت من الكتّان خيطا وأرسلت

رسولا إلى أخرى جريا يعينها (٢)

أراد : وأرسلت إلى أخرى رسولا جريّا.

والأحسن عندى فى يعقوب من قوله ـ عزّ اسمه ـ : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] فيمن فتح أن يكون فى موضع نصب بفعل مضمر دلّ عليه قوله (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) [هود : ٧١] أى وآتيناها يعقوب. فإذا فعلت ذلك لم يكن فيه فصل بين الجارّ والمجرور. فاعرفه.

فأمّا قوله :

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو للبيد فى ديوانه ص ١٩٣ ، ولسان العرب (صدأ) ، (صلق) ، (ثلل) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٣٧٠ ، ١٥ / ٦٥ ، وجمهرة اللغة ص ٨٤ ، ومقاييس اللغة ١ / ٣١٩ ، ٣ / ٣٠٦ ، وديوان الأدب ٢ / ١٧٦ ، وتاج العروس (ثلل) ، ومجمل اللغة ٣ / ٢٣٩ ، وكتاب العين ٥ / ٦٣ ، ٨ / ٢١٦ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٨٩٤. صلق بنى فلان وفى بنى فلان : أوقع بهم وقعة منكرة. ومراد وصداء : قبيلتان والثلل : الهلاك.

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى المحتسب ٢ / ٢٥٠ ، والمقرب ١ / ٢٢٨.

١٦٩

فليست خراسان التى كان خالد

بها أسد إذ كان سيفا أميرها

فحديثه طريف. وذلك أنه ـ فيما ذكر ـ يمدح خالد بن الوليد ويهجو أسدا ، وكان أسد وليها بعد خالد (قالوا فكأنه) قال : وليست خراسان بالبلدة التى كانت خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها (ففى) كان على هذا ضمير الشأن والحديث ، والجملة بعدها التى هى (أسد أميرها) خبر عنها. ففى هذا التنزيل أشياء : منها الفصل بين اسم كان الأولى وهو خالد ، وبين خبرها الذى هو (سيفا) بقوله (بها أسد إذ كان) فهذا واحد.

وثان : أنه قدّم بعض ما (إذ) مضافة إليه وهو أسد عليها. وفى تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح والفساد ما لا خفاء به ولا ارتياب. وفيه أيضا أن (أسد) أحد جزأى الجملة المفسّرة للضمير على شريطة التفسير أعنى ما فى كان منه. وهذا الضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده. ولو تقدّم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير ، ولما سمّاه الكوفيون الضمير المجهول.

فإن قلت : فقد قال الله تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧] فقدّم (إذا) وهى منصوبة ب «شاخصة» ، وإنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل ، فكأنه على هذا قال : فإذا هى شاخصة هى أبصار الذين كفروا و (هى ضمير القصّة ، وقد ترى كيف قدّرت تقديم أحد الجزأين اللذين يفسّرانها عليها ، فكما جاز هذا (فكذلك يجوز) أيضا أن يقدّم (أسد) على الضمير فى (كان) وإن كان أسد أحد جزأى تفسير هذا الضمير.

قيل : الفرق أنّ الآية إنما تقديم فيها الظرف المتعلّق عندك بأحد جزأى تفسير الضمير وهو شاخصة ، والظرف مما يتّسع الأمر فيه ولا تضيق مساحة التعذر له بأن تعلّقه بمحذوف يدلّ عليه شاخصة أو شاخصة أبصار الذين كفروا ؛ كما تقول فى أشياء كثيرة ؛ نحو قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ)(١) [المؤمنون : ١٠١] ، وقوله : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي

__________________

(١) وهو يريد أن (إذا) فى الآية نصبها ما فى الجواب (فلا أنساب بينهم) وقد تقرر أن (لا) لها التصدّر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها. والعذر فى ذلك أن (إذا) ظرف يتوسع فى أمره (نجار).

١٧٠

خَلْقٍ جَدِيدٍ)(١) [سبأ : ٧]. وقول الشاعر :

وكنت أرى زيدا كما قيل سيّدا

إذا إنه عبد الفقا واللهازم (٢)

فيمن كسر إنّ.

وأما البيت فإنه قدّم فيه أحد الجزأين ألبتّة ، وهو أسد. وهذا ما لا يسمح به ، (ولا يطوى كشح) عليه. وعلى أنه أيضا قد يمكن أن تكون (كان) زائدة فيصير تقديره : إذ أسد أميرها. فليس فى هذا أكثر من شيء واحد ، وهو ما قدّمنا ذكره من تقديم ما بعد (إذ) عليها وهى مضافة إليه. وهذا أشبه من الأوّل ؛ ألا ترى أنه إنما نعى على خراسان إذ أسد أميرها ؛ لأنه إنما فضّل أيام خالد المنقضية بها على أيام أسد المشاهدة فيها. فلا حاجة به إذا إلى (كان) ؛ لأنه أمر حاضر مشاهد. فأمّا (إذ) هذه فمتعلّقة بأحد شيئين : إمّا بليس وحدها ، وإمّا بما دلّت عليه من غيرها ، حتى كأنه قال : خالفت خرسان إذ أسد أميرها حالتها التى كانت عليه لها أيام ولاية خالد لها ؛ على حدّ ما تقول فيما يضمّ للظروف (لتتناولها ، وتصل) إليها.

فإن قلت : فكيف يجوز لليس أن تعمل فى الظرف وليس فيها تقدير حدث؟.

قيل : جاز ذلك فيها ، من حيث جاز أن ترفع وتنصب ، وكانت على مثال الفعل ، فكما عملت الرفع والنصب وإن عريت من معنى الحدث ، كذلك أيضا تنصب الظرف لفظا (كما عملت الرفع والنصب لفظا) ، ولأنها على وزن الفعل.

وعلى ذلك وجّه أبو علىّ قول الله سبحانه : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] لأنه أجاز فى نصب (يوم) ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون متعلّقا بنفس

__________________

(١) وهو يريد كما سبق فى الآية السالفة. لأن (إنّ) لها التصدر ، والعذر هو ما سبق.

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى أوضح المسالك (١ / ٣٣٨ ، وتخليص الشواهد ص ٣٤٨ ، والجنى الدانى ص ٣٧٨ ، ٤١١ ، وجواهر الأدب ص ٣٥٢ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٦٥ ، والدرر ٢ / ١٨٠ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٣٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢١٨ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٦٩ ، وشرح ابن عقيل ص ١٨١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٨٢٨ ، وشرح المفصل ٤ / ٩٧ ، ٨ / ٦١ ، والكتاب ٣ / ١٤٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٢٢٤ ، والمقتضب ٢ / ٣٥١. أرى : أظنّ. واللهازم : جمع لهزمة وهما عظمان ناتئان فى اللحيين تحت الأذنين. اللسان (لهزم).

١٧١

(ليس) من حيث ذكرنا من الشبه اللفظىّ. وقال لى أبو علىّ رحمه‌الله يوما : الظرف يتعلق بالوهم مثلا.

فأمّا قول الآخر :

نظرت وشخصى مطلع الشمس ظلّه

إلى الغرب حتّى ظلّه الشمس قد عقل

فقيل فيه : أراد نظرت مطلع الشمس وشخصى ظلّه إلى الغرب ، حتى عقل الشمس ظلّه أى حاذاها ؛ فعلى هذا التفسير قد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ وخبره ، وقد يجوز ألا يكون فصل ، لكن على أن يتعلّق مطلع الشمس بقوله : إلى الغرب ، حتى كأنه قال : شخصى ظلّه إلى الغرب وقت طلوع الشمس ، فيعلّق الظرف بحرف الجرّ الجارى خبرا عن الظلّ ؛ كقولك : زيد من الكرام يوم الجمعة ، فيعلّق الظرف بحرف الجرّ ، ثم قدّم الظرف لجواز تقديم ما تعلّق به إلى موضعه ؛ ألا تراك تجيز أن تقول : شخصى إلى الغرب ظله ، وأنت تريد : شخصى ظلّه إلى الغرب. فعلى هذا تقول : زيد يوم الجمعة أخوه من الكرام ، ثم تقدّم فتقول : زيد من الكرام يوم الجمعة أخوه. فاعرفه.

وقال الآخر :

أيا بن أناس هل يمينك مطلق

نداها إذا عدّ الفعال شمالها

أراد : هل يمينك شمالها مطلق نداها. ف (ها) من (نداها) عائد إلى الشمال لا اليمين ، والجملة خبر عن يمينها.

وقال الفرزدق :

ملوك يبتنون توارثوها

سرادقها المقاول والقبابا (١)

أراد : ملوك يبتنون المقاول والقباب ، توارثوها سرادقها. فقوله : «يبتنون المقاول

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للفرزدق فى ديوانه ١ / ٩٩. المقاول : جمع المقول ، بكسر الميم وسكون القاف ، وهو كالقيل : الملك على قومه يكون دون الملك الأعظم.

١٧٢

والقباب» صفة لملوك. وقوله : «توارثوها سرادقها» صفة ثانية لملوك ، وموضعها التأخير ، فقدّمها وهو يريد بها موضعها ؛ كقولك : مررت برجل مكلّمها مارّ بهند ، أى مارّ بهند مكلّمها ؛ فقدّم الصفة الثانية وهو معتقد تأخيرها. «ومعنى يبتنون المقاول» أى أنهم يصطنعون المقاول ويبتنونهم ؛ كقول المولّد :

يبنى الرجال وغيره يبنى القرى

شتّان بين قرى وبين رجال (١)

وقوله : «توارثوها» أى توارثوا الرجال والقباب. ويجوز أن تكون الهاء ضمير المصدر ؛ أى توارثوا هذه الفعلات.

فأمّا ما أنشده أبو الحسن من قوله :

لسنا كمن حلّت إياد دارها

تكريت ترقب حبّها أن يحصدا (٢)

فمعناه : لسنا كمن حلّت دارها ، ثم أبدل (إياد) من (من حلت دارها) فإن حملته على هذا كان لحنا ؛ لفصلك بالبدل بين بعض الصلة وبعض ، فجرى ذلك فى فساده مجرى قولك : مررت بالضارب زيد جعفرا. وذلك أن البدل إذا جرى على المبدل منه آذن بتمامه وانقضاء أجزاءه ، فكيف يسوغ لك أن تبدل منه وقد بقيت منه بقيّة! هذا خطأ فى الصناعة. وإذا كان كذلك والمعنى عليه أضمرت ما يدلّ عليه (حلّت) فنصبت به الدار ، فصار تقديره : لسنا كمن حلّت إياد ، أى كإياد التى حلّت ، ثم قلت من بعده : حلّت دارها. فدلّ (حلّت) فى الصلة على (حلّت) هذه التى نصبت (دارها).

ومثله قول الله سبحانه : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٨ ، ٩] (أى يرجعه يوم تبلى السرائر) فدل «رجعه» على يرجعه. ولا يجوز أن تعلّق

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة فى تاج العروس (مذع) ، ومعجم البلدان (مذع).

(٢) البيت من الكامل ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ٢٨١ ، ولسان العرب (منن) ، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب ٢ / ٥٤١ ، ولسان العرب (كرت). ويروى : (جعلت) مكان (حلّت) ، (تمنع) مكان (ترقب). وتكريت : أرض ، قال ابن جنى : تقدير لسنا كمن حلّت رياد دارها ، أى كإياد التى حلّت ، ثم فلّت من بعد أن حلّت دارها ، فدلّ حلت فى الصلة على حلت هذه التى نصبت دارها. اللسان (كرت).

١٧٣

«يوم» بقوله «لقادر» لئلّا يصغر المعنى ؛ لأنّ الله تعالى قادر يوم تبلى السرائر وغيره فى كل وقت وعلى كل حال على رجع البشر وغيرهم. وكذلك قول الآخر.

ولا تحسبنّ القتل محضا شربته

نزارا ولا أنّ النفوس استقرّت (١)

ومعناه : لا تحسبنّ قتلك نزارا محضا شربته ؛ إلا أنه وإن كان هذا معناه فإن إعرابه على غيره وسواه ؛ ألا ترى أنك إن حملته على هذا جعلت (نزارا) فى صلة المصدر الذى هو (القتل) وقد فصلت بينهما بالمفعول الثانى الذى هو (محضا) ، وأنت لا تقول : حسبت ضربك جميلا زيدا وأنت تقدّره على : حسبت ضربك زيدا جميلا ؛ لما فيه من الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبىّ. فلا بدّ إذا من أن تضمر لنزار ناصبا يتناوله ، يدلّ عليه قول : (القتل) أى قتلت نزارا. وإذا جاز أن يقوم الحال مقام اللفظ بالفعل كان اللفظ بأن يقوم مقام اللفظ أولى وأجدر.

وذاكرت المتنبئ شاعرنا نحوا من هذا ، وطالبته به فى شيء من شعره ، فقال : لا أدرى ما هو ، إلا أنّ الشاعر قد قال :

*لسنا كمن حلّت إياد دارها*

البيت. فعجبت من ذكائه وحضوره مع قوة المطالبة له حتى أورد ما هو فى معنى البيت الذى تعقّبته عليه من شعره. واستكثرت ذلك منه. والبيت قوله :

ووفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه

بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وذكرنا ذلك لاتصاله بما نحن عليه ؛ فإن الأمر يذكر للأمر.

وأنشدنا أبو علىّ للكميت :

كذلك تلك وكالناظرات

صواحبها ما يرى المسحل (٢)

أى وكالناظرات ما يرى المسحل صواحبها. فإن حملته على هذا ركبت قبح الفصل. فلا بدّ إذا أن يكون «ما يرى المسحل» محمولا على مضمر يدلّ عليه قوله

__________________

(١) المحض : اللبن الخالص لا رغوة فيه. نزار : أبو قبيلة ، وهو نزار بن معدّ بن عدنان. اللسان (نزر).

(٢) المسحل : جانب اللحية ، وهما مسحلان.

١٧٤

«الناظرات» أى نظرن ما يرى المسحل.

وهذا الفصل الذى نحن عليه ضرب من الحمل على المعنى ، إلا أنا أوصلناه بما تقدّمه لما فيه من التقديم والتأخير فى ظاهره. وسنفرد للحمل على المعنى فصلا بإذن الله.

وأنشدوا :

كأنّ برذون أبا عصام

زيد حمار دقّ باللجام (١)

أى كأنّ برذون زيد يا أبا عصام حمار دقّ باللجام. والفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وحرف الجر قبيح كثير ؛ لكنه من ضرورة الشاعر. فمن ذلك قول ذى الرمة :

كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (٢)

(أى كأنّ أصوات أواخر الميس من إيغالهنّ بنا أصوات الفراريج).

وقوله :

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهودىّ يقارب أو يزيل (٣)

(أى بكفّ يهودىّ).

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى الدرر ٥ / ٤٧ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٢٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٦٠ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٠٥ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٩٥ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٨٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٣.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص ٩٩٦ ، والإنصاف ص ٤٣٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٠٨ ، ٤١٣ ، ٤١٩ ، والحيوان ٢ / ٣٤٢ ، وسر صناعة الإعراب ص ١٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٩٢ ، والكتاب ١ / ١٧٩ ، ٢ / ١٦٦ ، ٢٨٠ ، ولسان العرب (نقض) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٨٦٣ ، ورصف المبانى ص ٦٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١٠٨٣ ، وشرح المفصل ١ / ١٠٣ ، ٣ / ٧٧ ، ٤ / ١٣٢ ، وكتاب اللامات ص ١٠٧ ، والمقتضب ٤ / ٣٧٦. هذا فى وصف الإبل. الإيغال : الإبعاد فى الأرض. وأراد به شدة السير ، والميس : شجر تتخذ منه الرحال ، وأراد به الرحل. والفراريج : صغار الدجاج. وانظر الديوان ٧٦.

(٣) البيت من الوافر ، وهو لأبى حية النميرى فى ديوانه ص ١٦٣ ، والإنصاف ٢ / ٤٣٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢١٩ ، والدرر ٥ / ٤٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٩ ، والكتاب ١ / ١٧٩ ، ولسان العرب (عجم) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٧٠ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٣ / ١٨٩ ، ورصف المبانى ـ ـ

١٧٥

وقوله :

هما أخوا فى الحرب من لا أخا له

إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (١)

أى هما أخوا من لا أخا له فى الحرب ، فعلّق الظرف بما فى (أخوا) من معنى الفعل ؛ لأن معناه : هما ينصرانه ويعاونانه.

وقوله :

هما خطّتا إما إسار ومنّة

وإما دم والقتل بالحرّ أجدر (٢)

ففصل بين (خطّتا) و (إسار) بقوله (إمّا) ، ونظيره هو غلام إمّا زيد وإمّا عمرو. وقد ذكرت هذا البيت فى جملة كتابى ـ فى تفسير أبيات الحماسة» ، وشرحت حال الرفع فى إسار ومنّة.

ومن ذلك قوله :

فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبى مزاده (٣)

_________________

ص ٦٥ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٢٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٠٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٩٥ ، وشرح المفصل ١ / ١٠٣ ، ولسان العرب (حبر) ، والمقتضب ٤ / ٣٧٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٢. يقارب : أى يدنى بعض خطه من بعض. يزيل : يميز بين الحروف ويباعد بينها.

(١) البيت من الطويل ، وهو لعمرة الخثعية فى الإنصاف ٢ / ٤٣٤ ، والدرر ٥ / ٤٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١٠٨٣ ، ولسان العرب (أبى) ، ولها أو لدرنا بنت عبعبة فى الدرر ٥ / ٤٥ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٧٢ ، ولدرنا بنت عبعبة فى شرح المفصل ٣ / ٢١ ، والكتاب ١ / ١٨٠ ، ولدرنا بنت عبعبة أو لدرنا بنت سيار فى شرح أبيات سيبويه ١ / ٢١٨ ، ولإمرأة من بنى سعد فى نوادر أبى زيد ص ١١٥ ، وبلا نسبة فى كتاب الصناعتين ص ١٦٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لتأبط شرا فى ديوانه ص ٨٩ ، وجواهر الأدب ص ١٥٤ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٩٩ ، ٥٠٠ ، ٥٠٣ ، والدرر ١ / ١٤٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٧٩ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٩٧٥ ، ولسان العرب (خطط) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٨٦ ، وبلا نسبة فى رصف المبانى ص ٣٤٢ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٢٨ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٦٤٣ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٥٢٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٦ ، ٢ / ٥٢.

(٣) البيت من مجزوء الكامل ، وهو بلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٤٢٧ ، وتخليص الشواهد ص ٨٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤١٥ ، ٤١٦ ، ٤١٨ ، ٤٢١ ، ٤٢٢ ، ٤٢٣ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٢٧ ، ـ ـ

١٧٦

أى زجّ أبى مزادة القلوص. ففصل بينهما بالمفعول به. هذا مع قدرته على أن يقول:زجّ القلوص أبو مزادة ، كقولك : سرّنى أكل الخبز زيد. وفى هذا البيت عندى دليل على قوّة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم ، وأنه فى نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول ؛ ألا تراه ارتكب هاهنا الضرورة ، مع تمكّنه من ترك ارتكابها ، لا لشيء غير الرغبة فى إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول.

فأمّا قوله :

يطفن بحوزىّ المراتع لم يرع

بواديه من قرع القسىّ الكنائن (١)

فلم نجد فيه بدّا من الفصل ؛ لأن القوافى مجرورة. ومن ذلك قراءة (ابن عامر) : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] وهذا فى النثر وحال السعة صعب جدا ، لا سيّما والمفصول به مفعول لا ظرف.

ومنه بيت الأعشى :

إلا بداهة أو علا

له قارح نهد الجزاره (٢)

ومذهب سيبويه فيه الفصل بين (بداهة) و (قارح) ؛ وهذا أمثل عندنا من مذهب غيره فيه ؛ لما قدّمنا فى غير هذا الموضع. وحكى الفرّاء عنهم : برئت إليك

__________________

وشرح المفصل ٣ / ١٨٩ ، والكتاب ١ / ١٧٦ ، ومجالس ثعلب ص ١٥٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٦٨ ، والمقرب ١ / ٥٤. يقال : زجه : طعنه بالزّج وهو سنان الرمح. والمزجة رمح قصير. والقلوص : الناقة الفتية.

(١) البيت من الطويل ، وهو للطرماح فى ديوانه ص ٤٨٦ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٩٤ ، ولسان العرب (حوز) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٦٢ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٤٢٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤١٨ ، ويروى : (ترع) مكان (يرع). الحوزىّ المتوحد : وهو الفحل منها ، وهو من حزت الشىء إذا جمعته أو نحيته. اللسان (حوز) لم يرع : لم يفزع.

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهما للأعشى فى ديوانه ص ٢٠٩ ، وخزانة الأدب ١ / ١٧٢ ، ١٧٣ ، ٤ / ٤٠٤ ، ٦ / ٥٠٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٩٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١١٤ ، وشرح المفصل ٣ / ٢٢ ، والشعر والشعراء ١ / ١٦٣ ، والكتاب ١ / ١٧٩ ، ٢ / ١٦٦ ، ولسان العرب (جذر) ، (بده) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٥٣ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ٢ / ٦٢٦ ، ورصف المبانى ص ٣٥٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١١٨ ، والمقتضب ٤ / ٢٢٨ ، والمقرب ١ / ١٨٠.

١٧٧

من خمسة وعشرى النخّاسين ، وحكى أيضا : قطع الله الغداة يد ورجل من قاله ، ومنه قولهم : هو خير وأفضل من ثمّ ، وقوله :

يا من رأى عارضا أرقت له

بين ذراعى وجبهة الأسد (١)

فإن قيل : لو كان الآخر مجرورا بالأوّل لكنت بين أمرين.

إما أن تقول : إلا (علالة أو بداهته) قارح ، وبرئت إليك من خمسة وعشريهم النّخاسين ، وقطع الله يد ورجله من قاله ، ومررت بخير وأفضله من ثمّ ، وبين ذراعى وجبهته الأسد ؛ لأنك إنما تعمل الأوّل ، فجرى ذلك مجرى : ضربت فأوجعته زيدا ؛ إذا أعملت الأوّل.

وإما أن تقدّر حذف المجرور من الثانى وهو مضمر ومجرور كما ترى ، والمضمر إذا كان مجرورا قبح حذفه ؛ لأنه يضعف أن ينفصل فيقوم برأسه.

فإذا لم تخل عند جرّك الآخر بالأول من واحد من هذين ، وكلّ واحد منهما متروك وجب أن يكون المجرور إنما انجرّ بالمضاف الثانى الذى وليه ، لا بالأول الذى بعد عنه.

قيل : أمّا تركهم إظهار الضمير فى الثانى وأن يقولوا : بين ذراعى وجبهته الأسد ونحو ذلك فإنهم لو فعلوه لبقى المجرور لفظا لا جارّ له فى اللفظ يجاوره ؛ لكنهم لمّا قالوا : بين ذراعى وجبهة الأسد صار كأنّ (الأسد) فى اللفظ مجرور بنفس (الجبهة) وإن كان فى الحقيقة مجرورا بنفس الذراعين. وكأنهم فى ذلك إنما أرادوا إصلاح اللفظ. وأمّا قبح حذف الضمير مجرورا لضعفه عن الانفصال فساقط عنا أيضا. وذلك أنه إنما يقبح فصل الضمير المجرور متى خرج إلى اللفظ ؛ نحو مررت

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو للفرزدق فى ديوانه ص ٢١٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣١٩ ، ٤ / ٤٠٤ ، ٥ / ٢٨٩ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٩٩ ، وشرح المفصل ٣ / ٢١ ، والكتاب ١ / ١٨٠ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٥١ ، والمقتضب ٤ / ٢٢٩ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ١٠٠ ، ٢ / ٢٦٤ ، ٣٩٠ ، وتخليص الشواهد ص ٨٧ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٨٧ ، ورصف المبانى ص ٣٤١ ، وسر صناعة الإعراب ص ٢٩٧ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٣٦ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٠٢ ، ولسان العرب (بعد) ، (يا) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٨٠ ، ٦٢١ ، ويروى (أسرّ به) مكان (أرقت له). العارض : السحاب المعترض فى الأفق. وذراعا الأسد وجبهته من منازل القمر.

١٧٨

بزيد وك ، ونزلت على زيد وه لضعفه أن يفارق ما جرّه. فأمّا إذا لم يظهر إلى اللفظ وكان إنما هو مقدّر فى النفس غير مستكره عليه اللفظ فإنّه لا يقبح ؛ ألا ترى أن هنا أشياء مقدّرة لو ظهرت إلى اللفظ قبحت ، ولأنها غير خارجة إليه ما حسنت. من ذلك قولهم : اختصم زيد وعمرو ؛ ألا ترى أن العامل فى المعطوف غير العامل فى المعطوف عليه ، فلا بد إذا من تقديره على : اختصم زيد واختصم عمرو ، وأنت لو قلت ذلك لم يجز ؛ لأن اختصم ونحوه من الأفعال ـ مثل اقتتل واستبّ واصطرع ـ لا يكون فاعله أقلّ من اثنين. وكذلك قولهم : ربّ رجل وأخيه ، ولو قلت : ورب أخيه لم يجز ، وإن كانت ربّ مرادة هناك ومقدّرة.

فقد علمت بهذا وغيره أن ما تقدّره وهما ليس كما تلفظ به لفظا. فلهذا يسقط عندنا إلزام سيبويه هذه الزيادة.

والفصل بين المضاف والمضاف إليه كثير ، وفيما أوردناه منه كاف بإذن الله وقد جاء الطائىّ الكبير بالتقديم والتأخير ، فقال :

وإن الغنى لى لو لحظت مطالبى

من الشعر إلا فى مديحك أطوع

وتقديره : وإن الغنى لى لو لحظت مطالبى أطوع من الشعر إلى فى مديحك ، أى فإنه يطيعنى فى مدحك ويسارع إلىّ. وهذا كقوله أيضا معنى لا لفظا :

تغاير الشعر فيه إذ سهرت له

حتى ظننت قوافيه ستقتتل

وكقول الآخر :

ولقد أردت نظامها فتواردت

فيها القوافى جحفلا عن جحفل

وذهب أبو الحسن فى قول الله سبحانه : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٤ ، ٥ ، ٦] إلى أنه أراد : من شر الوسواس الخناس من الجنّة والناس (الذى يوسوس فى صدور الناس).

ومنه قول الله ـ عز اسمه ـ : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) [النمل : ٢٨] أى اذهب بكتابى هذا فألقه إليهم فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم. وقيل فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المجادلة : ٣] إن تقديره : والذين يظاهرون من نسائهم

١٧٩

فتحرير رقبة ثم يعودون (لما قالوا). ونحو من هذا ما قدّمنا ذكره من الاعتراض فى نحو قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧] تقديره ـ والله أعلم ـ فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.

وقد شبّه الجازم بالجارّ ففصل بينهما ، مما فصل بين الجارّ والمجرور ؛ وأنشدنا لذى الرمة :

فأضحت مغانيها قفارا رسومها

كأن لم سوى أهل من الوحش تؤهل (١)

وجاء هذا فى ناصب الفعل. أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى بقول الشاعر:

لمّا رأيت أبا يزيد مقاتلا

أدع القتال .......

أى لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلا ؛ كما أراد فى الأول : كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش. وكأنه شبّه لن بأنّ ، فكما جاز الفصل بين أنّ واسمها بالظرف فى نحو قولك : بلغنى أنّ فى الدار زيدا ، كذلك شبه (لن) مع الضرورة بها ففصل بينها وبين منصوبها بالظرف الذى هو (ما رأيت أبا يزيد) أى مدّة رؤيتى.

فصل فى الحمل على المعنى

اعلم أن هذا الشرج غور من العربية بعيد ، ومذهب نازح فسيح. قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورا ومنظوما ؛ كتأنيث المذكر ، وتذكير المؤنث ، وتصوّر معنى الواحد فى الجماعة ، والجماعة فى الواحد ، وفى حمل الثانى على لفظ قد يكون عليه الأول ، أصلا كان ذلك اللفظ أو فرعا ، وغير ذلك مما تراه بإذن الله.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص ١٤٦٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥ ، والدرر ٥ / ٦٣ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٦٧٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٤٥ ، وبلا نسبة فى الجنى الدانى ص ٢٦٩ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧٦ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٧٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٦. تؤهل المكان : تنزل به وتعيش فيه.

١٨٠