الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

أراد : اللهو ، فوضع «ألهو» موضعه ؛ لدلالة الفعل على مصدره. ومثله قولك لمن قال لك : ما يصنع زيد؟ : يصلّى أو يقرأ ؛ أى الصلاة أو القراءة.

ومما جاء فى المبتدإ من هذا قولهم : تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه ؛ أى سماعك به خير من رؤيتك له. وقال ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] أى منّا قوم دون ذلك ، فحذف المبتدأ وأقام الصفة التى هى الظرف مقامه. وقال جرير :

نفاك الأغرّ ابن عبد العزيز

وحقّك تنفى عن المسجد

فحذف «أن» من خبر المبتدإ ، وهى : وحقّك أن تنفى عن المسجد.

وقد جاء ذلك فى الفاعل ، على عزّته. وأنشدنا :

وما راعنى إلا يسير بشرطة

وعهدى به فينا يفشّ بكير (١)

كذا أنشدناه «فينا» وإنما هو «قينا» أراد بقوله : «وما راعنى إلا يسير» أى مسيره (على هذا وجّهه). وقد يجوز أن يكون حالا ، والفاعل مضمر ، أى : وما راعنى إلا سائرا بشرطة.

ومنه بيت جميل :

جزعت حذار البين يوم تحمّلوا

وحقّ لمثلى يا بثينة يجزع (٢)

أى وحقّ لمثلى أن يجزع. وأجاز هشام يسرّنى تقوم ، وينبغى أن يكون ذلك جائزا عنده فى الشعر لا فى النثر. هذا أولى عندى من أن (يكون يرتكبه) من غير ضرورة.

__________________

نسبة فى تذكرة النحاة ص ٥٣٦ ، وشرح المفصل ٢ / ٩٥ ، والمحتسب ٢ / ٣٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٦. ويروى : (فقالوا) مكان (وقالوا).

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى شرح المفصل ٤ / ٢٧ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٤٢٨. ويروى : (قينا) مكان (فينا). فششت الزّق : إذا أخرجت ما فيه. الكير : هو الزق الذى ينفح فيه الحداد.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لجميل بثينة فى ديوانه ص ١١٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٥٧٩ ، ٥٨١ ، ٥٨٢ ، ٥٨٤ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٨٥ ، وشرح المفصل ٤ / ٢٧ ، ولسان العرب (دنا) ، وبلا نسبة فى شرح المفصل ٨ / ٤٣.

٢٠١

وباب الحمل على المعنى بحر لا ينكش (١) ، ولا يفثج (٢) ولا يؤبى (٣) ولا يغرّض ولا يغضغض. وقد أرينا وجهه ، ووكلنا الحال إلى قوّة النظر وملاطفة التأوّل.

ومنه باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف ، وهو اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدّى به ؛ لأنه فى معنى فعل يتعدّى به. من ذلك قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] لمّا كان فى معنى الإفضاء عدّاه بإلى. ومثله بيت الفرزدق :

*قد قتل الله زيادا عنّى (٤) *

لمّا كان ذلك فى معنى : صرفه عنّى. وقد ذكرناه فيما مضى. وكان أبو علىّ يستحسنه وينبّه عليه.

ومنه قول الأعشى :

*سبحان من علقمة الفاخر*

علّق حرف الجرّ بسبحان لمّا كان معناه : براءة منه.

فصل فى التحريف

قد جاء هذا الموضع فى ثلاثة أضرب : الاسم ، والفعل ، والحرف.

فالاسم يأتى تحريفه على ضربين : أحدهما مقيس ، والآخر مسموع (غير مقيس).

الأول ما غيّره النسب قياسا. وذلك قولك فى الإضافة إلى نمر : نمرىّ ، وإلى شقرة : شقرىّ ، وإلى قاض : قاضوىّ ، وإلى حنيفة : حنفىّ ، وإلى عدىّ : عدوىّ ونحو ذلك. وكذلك التحقير ، وجمع التكسير ؛ نحو (رجل و) رجيل ورجال.

الثانى على أضرب : منه ما غيرته الإضافة على غير قياس ؛ كقولهم فى بنى

__________________

(١) نكش الشىء : أتى عليه وفرغ منه. ولا ينكش أى لا ينتهى ماؤه.

(٢) أى لا يبلغ غوره.

(٣) أى لا ينقطع من كثرته.

(٤) سبق.

٢٠٢

الحبلى حبلىّ ، وفى بنى عبيدة وجذيمة : عبدىّ وجذمىّ ، وفى زبينة : زبانيّ ، وفى أمس : إمسىّ ، وفى الأفق : أفقىّ ، وفى جلولاء : جلوليّ ، وفى خراسان : خرسىّ ، وفى دستواء : دستوائىّ.

ومنه ما جاء فى غير الإضافة. وهو نحو قوله :

*من نسج داود أبى سلام*

يريد : أبى سليمان ، وقول الآخر :

وسائلة بثعلبة بن سير

وقد علقت بثعلبة العلوق (١)

يريد : ثعلبة بن سيّار. وأنشدنا أبو علىّ :

*أبوك عطاء ألأم الناس كلّهم (٢) *

يريد عطيّة بن الخطفى ، وقال العبد :

وما دمية من دمى ميسنا

ن معجبة نظرا واتّصافا (٣)

أراد : ميسان فغير الكلمة بأن زاد فيها نونا ، فقال : ميسنان ، وقال لبيد :

*درس المنا بمتالع فأبان (٤) *

أراد : المنازل ، وقال علقمة :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للمفضل النكرى فى لسان العرب (سير) ، (علق) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٣٦ ، وتهذيب اللغة ١ / ٢٤٧ ، ١٣ / ٤٧ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤٠٥ ، وتاج العروس (سير) ، (علق) ، والأصمعيات ص ٢٠٣ ، وبلا نسبة فى ديوان الأدب ١ / ٣٩٤ ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٣٠ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٢٧ ، وأساس البلاغة (علق) ، والمخصص ١٦ / ١٥٠. العلوق : المنية.

(٢) صدر البيت من الطويل ، وهو للبعيث فى لسان العرب (عطا) ، والمخصص ١٦ / ٢١. وعجزه :

*فقبح من فحل ، وقبحت من نجل*

(٣) البيت من المتقارب ، وهو لسحيم عبد بنى الحسحاس فى ديوانه ص ٤٣ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٤٧ ، ولسان العرب (ميس) ، (وصف) ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٨٦.

(٤) صدر البيت من الكامل ، وهو للبيد بن ربيعة فى ديوانه ص ١٣٨ ، والدرر ٦ / ٢٠٨ ، وسمط اللآلى ص ١٣ ، وشرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٩٧ ، ولسان العرب (تلع) ، (ابن) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٤٦ ، وتاج العروس (تلع) ، وبلا نسبة فى أوضح ـ ـ المسالك ٤ / ٤٤ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٦٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٦ ، وكتاب العين ١ / ١٧٣. وعجزه :

*فتقادمت بالحبس فالسّوبان*

٢٠٣

كأن إبريقهم ظبى على شرف

مفدّم بسبا الكتّان ملثوم (١)

وقال :

*واستحرّ القتل فى عبد الأشل*

يريد الأشهل.

(وقال :

*بسبحل الدفّين عيسجور (٢) *

أى بسبحل).

وقال :

تحاذر وقع السوط خوصاء ضمّها

كلال فجالت فى حجا حاجب ضمر (٣)

يريد : فى حجاج حاجب. (وقد مضى من التحريف فى الاسم ما فيه كاف بإذن الله).

تحريف الفعل

من ذلك ما جاء من المضاف مشبّها بالمعتلّ. وهو قولهم فى ظللت : ظلت ، (وفى مسست : مست) ، وفى أحسست : أحست ؛ قال :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لعلقمة بن عبدة فى ديوانه ص ٧٠ ، ولسان العرب (نجد) ، وتاج العروس (نجد).

(٢) سبق.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لنصيب فى كتاب الجيم ٢ / ٢٠٤ ، وليس فى ديوانه ، وبلا نسبة فى لسان العرب (حجج) ، وتاج العروس (حجج) ، ويروى : (فحالت) مكان (فجالت). والخوصاء من الخوص ، وهو ضيق العين. والحجاج : العظم المستدير حول العين. والضمر : الضامر الهزيل.

٢٠٤

خلا أنّ العتاق من المطايا

أحسن به فهنّ إليه شوس (١)

وهذا مشبّه بخفت وأردت. وحكى ابن الأعرابىّ فى ظننت ظنت. وهذا كله لا يقاس عليه ؛ لا تقول فى شممت : شمت ولا شمت ؛ ولا فى (أقضضت : أقضت).

فأمّا قول أبى الحسن فى مثال اطمأنّ من الضرب : اضرببّ (٢) ، وقول النحويين فيه : اضربّب فليس تحريفا ، وإنما هذا عند كل واحد من القيلين هو الصواب.

ومن تحريف الفعل ما جاء منه مقلوبا ؛ كقولهم فى اضمحلّ : امضحلّ ، وفى أطيب : أيطب ، وفى اكفهرّ : اكرهفّ ، وما كان مثله. فأمّا جذب وجبذ فأصلان ؛ لأن كل واحد منهما متصرّف وذو مصدر ؛ كقولك : جذب يجذب جذبا وهو جاذب ، وجبذ يجبذ جبذا وهو جابذ ، وفلان مجبوذ ومجذوب (فإذا) تصرّفا هكذا لم يكن أحدهما بأن يكون أصلا لصاحبه أولى من أن يكون صاحبه أصلا له.

وأمّا قولهم : أيس فمقلوب من يئس. ودليل ذلك من وجهين.

أحدهما (أن لا مصدر) لقولهم : أيس. فأما الإياس فمصدر أست. قال أبو علىّ : وسمّوا الرجل إياسا ؛ كما سمّوه عطاء ؛ لأن أست : أعطيت. ومثله ـ عندى ـ تسميتهم إياه عياضا ، فلمّا لم يكن لأيس مصدر علمت أنه لا أصل له ، وإنما المصدر اليأس. فهذا من يئست.

والآخر صحّة العين فى أيس ، ولو لم يكن مقلوبا لوجب فيه إعلالها ، وأن يقال : آس واست كهاب وهبت ، وكان يلزم فى مضارعه أواس كأهاب ، فتقلب

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لأبى زبيد الطائى فى ديوانه ص ٩٦ ، وسمط اللآلى ص ٤٣٨ ، ولسان العرب (حسس) ، (حسا) ، والمحتسب ١ / ١٢٣ ، ٢٦٩ ، ٢ / ٧٦ ، والمنصف ٣ / ٨٤ ، وتاج العروس (حسا) ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ٢٧٣ ، وشرح المفصل ١٠ / ١٥٤ ، ولسان العرب (مسس) ، ومجالس ثعلب ٢ / ٤٨٦ ، والمقتضب ١ / ٢٤٥. والشوس : واحده أشوس وشوساء من الشوس وهو النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا.

(٢) أصل اطمأنّ اطمأنن. فإذا أريد مثالها من الضرب ، فالنحويون يراعون أصل الزنة ، فيقولون :اضربّب بتشديد الباء الأولى ، والأخفش يراعى ما عرض لاطمأنن من الإدغام ونقل الحركة ، فيفعل كذلك فى مثاله من الضرب فيقول : اضرببّ بتشديد الباء الثانية ليكون كاطمأنّ. وانظر شرح الرضى للشافية ٣ / ٢٩٨.

٢٠٥

الفاء تحركها و (انفتاحها) واوا ؛ كقولك فى هذا أفعل من هذا من أممت : هذا اومّ من هذا ، هذا قول أبى الحسن ، وهو القياس. وعلى قياس قول أبى عثمان أياس ؛ كقوله : هذا أيم من هذا. فصارت صحّة الياء فى (أيس) دليلا على أنها مقلوبة من يئس ؛ كما صارت صحّة الواو فى عور دليلا على أنها فى معنى ما لا بدّ من صحّته وهو اعورّ. وهو باب. وكذلك قولهم : لم أبله. وقد شرحناه فى غير هذا.

تحريف الحرف

قالوا : لا بل ، ولابن ، وقالوا : قام زيد فمّ عمرو ؛ كقولك : ثمّ عمرو. وهذا وإن كان بدلا فإنه ضرب من التحريف. وقالوا فى سوف أفعل : سو أفعل ، وسف أفعل. حذفوا تارة الواو ، وأخرى الفاء. وخفّفوا ربّ وإنّ وأنّ ؛ فقالوا :

*رب هيضل لجب لففت بهيضل (١) *

وقال :

*أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (٢) *

__________________

(١) عجز البيت من الكامل ، وهو لأبى كبير الهذلى فى الأزهيّة ص ٢٦٥ ، وجمهرة اللغة ص ٦٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٣٥ ، ٥٣٦ ، ٥٣٧ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٠٧٠ ، ولسان العرب (هضل) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٤ ، وتاج العروس (هضل) ، وللهذلى فى المحتسب ٢ / ٣٤٣ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ٢٨٥ ، ورصف المبانى ص ٥٢ ، ١٩٢ ، وشرح المفصل ٥ / ١١٩ ، ولسان العرب (مصع) ، ومجالس ثعلب ص ٣٢٥ ، والمقرب ١ / ٢٠٠ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٦٢٧. وصدره :

*أزهير إن يشب القذال فإنّه*

والهيضل : الجيش.

(٢) عجز البيت من البسيط ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٠٩ ، والأزهية ص ٦٤ ، والإنصاف ص ١٩٩ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٢ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٢٦ ، ٨ / ٣٩٠ ، ١٠ / ٣٩٣ ، ١١ / ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، والدرر ٢ / ١٩٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٧٦ ، والكتاب ٢ / ١٣٧ ، ٣ / ٧٤ ، ١٦٤ ، ٤٥٤ ، والمحتسب ١ / ٣٠٨ ، ومغنى اللبيب ١ / ٣١٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٢٨٧ ، والمنصف ٣ / ١٢٩ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ١٠ / ٣٩١ ، ورصف المبانى ص ١١٥ ، وشرح المفصل ٨ / ٧١ ، والمقتضب ٣ / ٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٢. وصدره :

*فى فتية كسيوف الهند قد علموا*

الرواعد : السحب الماطرة معها رعد. الصّيف : المطر الذى يجيء فى الصيف. اللسان (صيف).

٢٠٦

وقال الله سبحانه : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤]. وقال :

سقته الرواعد من صيّف

وإن من خريف فلن يعدما (١)

مذهب صاحب الكتاب أنّه أراد : وإمّا من خريف. وقد خولف فيه.

* * *

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو للنمر بن تولب فى ديوانه ص ٣٨١ ، والأزهية ص ٥٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٩٣ ـ ٩٥ ، ١٠١ ، ١١٠ ، ١١٢ ، وشرح شواهد المغنى ص ١٨٠ ، والكتاب ١ / ٢٦٧ ، والمعانى الكبير ص ١٠٥٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٥١ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٢٢٧ ، ٢٣٦ ، والجنى الدانى ص ٢١٢ ، ٥٣٤ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٥ ، والدرر ٦ / ١٢٨ ، وشرح المفصل ٨ / ١٠٢ ، والكتاب ٣ / ١٤١ ، ومغنى اللبيب ١ / ٥٩ ، والمنصف ٣ / ١١٥.

٢٠٧

باب فى فرق بين الحقيقة والمجاز

الحقيقة : ما أقرّ فى الاستعمال على أصل وضعه فى اللغة. والمجاز : ما كان بضدّ ذلك.

وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة ، وهى : الاتّساع ، والتوكيد ، والتشبيه. فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة ألبتّة.

فمن ذلك (١) قول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الفرس : هو بحر. فالمعانى الثلاثة موجودة فيه.

أمّا الاتساع فلأنه زاد فى أسماء الفرس التى هى فرس وطرف وجواد ونحوها البحر ، حتى إنه إن احتيج إليه فى شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقيّة تلك الأسماء ؛ لكن لا يفضى إلى ذلك إلا بقرينة تسقط الشبهة. وذلك كأن يقول الشاعر :

علوت مطا جوادك يوم يوم

وقد ثمد الجياد فكان بحرا (٢)

وكأن يقول الساجع : فرسك هذا إذا سما بغرّته كان فجرا ، وإذا جرى إلى غايته كان بحرا ، ونحو ذلك. ولو عرى الكلام من دليل يوضح الحال لم يقع عليه بحر ؛ لما فيه من التعجرف فى المقال من غير إيضاح ولا بيان. ألا ترى أن لو قال رأيت بحرا وهو يريد الفرس لم يعلم بذلك غرضه ، فلم يجز قوله ؛ لأنه إلباس ، وإلغاز على الناس.

وأما التشبيه فلأن جريه يجرى فى الكثرة مجرى مائه.

وأما التوكيد فلأنه شبّه العرض بالجوهر ، وهو أثبت فى النفوس منه ، والشبه فى العرض منتفية عنه ؛ ألا ترى أن من الناس من دفع الأعراض ، وليس أحد دفع الجواهر.

__________________

(١) أخرجه البخارى فى الجهاد ، (٢٨٢٠) ، وفى غير موضع ، ومسلم (ح ٢٣٠٧).

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة فى تاج العروس (بحر). المطا : الظهر. ثمد الجياد : أى أعيين من قولهم : ماء مثمود : كثر عليه الناس حتى فنى ونفد إلا أقله.

٢٠٨

وكذلك قول الله سبحانه : (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) [الأنبياء : ٧٥] هذا هو مجاز.

وفيه الأوصاف الثلاثة.

أمّا السعة فلأنه كأنه زاد فى أسماء الجهات والمحالّ اسما والرحمة.

وأما التشبيه فلأنه شبّه الرحمة ـ وإن لم يصح دخولها ـ بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه.

وأمّا التوكيد فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر. وهذا تعال بالعرض ، وتفخيم منه ؛ إذ صيّر إلى حيّز ما يشاهد ويلمس ويعاين ؛ ألا ترى إلى قول بعضهم فى الترغيب فى الجميل : ولو رأيتم المعروف رجلا لرأيتموه حسنا جميلا. وإنما يرغّب فيه بأن ينبّه عليه ، ويعظّم من قدره ، بأن يصوّره فى النفوس على أشرف أحواله ، وأنوه صفاته. وذلك بأن تخيّل شخصا متجسما لا عرضا متوهّما. وعليه قوله :

تغلغل حبّ عتمة فى فؤادى

فباديه مع الخافى يسير (١)

(أى فباديه إلى الخافى يسير) أى فباديه مضموما إلى خافيه يسير. وذلك أنه لمّا وصف الحبّ بالتغلغل فقد اتسع به ؛ ألا ترى أنه يجوز على هذا أن تقول :

شكوت إليها حبّها المتغلغلا

فما زادها شكواى إلا تدلّلا

فيصف بالمتغلغل ما ليس فى أصل اللغة أن يوصف بالتغلغل إنما ذلك وصف يخص الجواهر لا الأحداث ؛ ألا ترى أن المتغلغل فى الشىء لا بدّ أن يتجاوز مكانا إلى آخر. وذلك تفريغ مكان وشغل مكان. وهذه أوصاف تخصّ فى الحقيقة الأعيان لا الأحداث. فهذا وجه الاتساع.

وأما التشبيه فلأنه شبّه ما لا ينتقل ولا يزول بما يزول وينتقل. وأما المبالغة والتوكيد فلأنه أخرجه عن ضعف العرضية إلى قوّة الجوهرية.

وعليه (قول الآخر) :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة فى لسان العرب (غلل) ، وتاج العروس (غلل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (معع).

٢٠٩

قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج

ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا (١)

وقول الآخر :

ذهوب بأعناق المئين عطاؤه

عزوم على الأمر الذى هو فاعله

وقول الآخر :

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال (٢)

وقوله :

ووجه كأنّ الشمس حلّت رداءها

عليه نقىّ اللون لم يتخدّد (٣)

جعل للشمس رداء وهو جوهر ، لأنه أبلغ فى النور الذى هو العرض. وهذه الاستعارات كلها داخلة تحت المجاز.

فأمّا قولهم : ملكت عبدا ، ودخلت دارا ، وبنيت حمّاما فحقيقىّ هو ونحوه ، لا استعارة فيه ولا مجاز فى هذه المفعولات ؛ لكن فى الأفعال الواصلة إليها مجاز.

وسنذكره. ولكن لو قال : بنيت لك فى قلبى بيتا أو ملكت من الجود عبدا خالصا أو أحللتك من رأيى وثقتى دار صدق لكان ذلك مجازا واستعارة ؛ لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه ؛ على ما مضى.

ومن المجاز كثير من باب الشجاعة فى اللغة : من الحذوف ، والزيادات ، والتقديم ، والتأخير : والحمل على المعنى ، والتحريف.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (ظنب) ، وتاج العروس (ظنب). الظنابيب : واحدها ظنبوب ، وهو حرف العظم اليابس من الساق. وقرع ظنابيب الأمر : الشىء إذا ذلله. وانظر اللسان (ظنب).

(٢) البيت من الكامل ، وهو لكثير فى ديوانه ص ٢٨٨ ، ولسان العرب (غمر) ، (ضحك) ، (ردى) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٢٨ ، ١٤ / ١٦٩ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٣٠٢ ، ٤ / ٣٩٣ ، وتاج العروس (غمر) ، (ضحك) ، (ردى) ، وبلا نسبة فى المخصص ٣ / ٣ ، ١٦ / ٣٢.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لطرفه بن العبد فى ديوانه ص ٢١ ، ولسان العرب (ردى) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٧٠ ، وأساس البلاغة (ردى).

٢١٠

ألا ترى أنك إذا قلت : بنو فلان يطؤهم الطريق ففيه من السعة إخبارك عمّا لا يصحّ وطؤه بما يصحّ وطؤه. فتقول على هذا : أخذنا على الطريق الواطئ لبنى فلان ، ومررنا بقوم موطوءين بالطريق ، ويا طريق طأ بنا بنى فلان أى أدّنا إليهم.

وتقول : بنى فلان بيته على سنن المارّة ؛ رغبة فى طئة الطريق بأضيافه له. أفلا ترى إلى وجه الاتساع عن هذا المجاز.

ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه. فشبّهته بهم ؛ إذ كان هو المؤدّى لهم ، فكأنه هم.

وأما التوكيد فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم. وذلك أن الطريق مقيم ملازم ، فأفعاله مقيمة معه ، وثابتة بثباته. وليس كذلك أهل الطريق ، لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه ، فأفعالهم أيضا كذلك حاضرة وقتا ، وغائبة آخر. فأين هذا ممّا أفعاله ثابتة مستمرّة. ولمّا كان هذا كلاما الغرض فيه المدح والثناء اختاروا له أقوى اللفظين ؛ لأنه يفيد أقوى المعنيين.

وكذلك قوله سبحانه (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] فيه المعانى الثلاثة. أمّا الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصحّ فى الحقيقة سؤاله.

وهذا نحو ما مضى ؛ ألا تراك تقول : وكم من قرية مسئولة. وتقول : القرى وتسآلك ؛ كقولك : أنت وشأنك. فهذا ونحوه اتساع.

وأمّا التشبيه فلأنها شبّهت بمن يصحّ سؤاله لمّا كان بها ومؤلفا لها. وأمّا التوكيد فلأنه فى ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال (على من) ليس من عادته الإجابة. فكأنهم تضمّنوا لأبيهم عليه‌السلام أنه إن سأل الجمادات والجبال أنبأته بصحّة قولهم.

وهذا تناه فى تصحيح الخبر. أى لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا ، فكيف لو سألت من من عادته الجواب.

وكيف تصرّفت الحال فالاتساع فاش فى جميع أجناس شجاعة العربية.

* * *

٢١١

باب فى أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة

اعلم أن أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة. وذلك عامّة الأفعال ؛ نحو قام زيد ، وقعد عمرو ، وانطلق بشر ، وجاء الصيف وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية فقولك : قام زيد ، معناه : كان منه القيام أى هذا الجنس من الفعل ، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام ؛ وكيف يكون ذلك وهو جنس والجنس يطبّق (١) جميع الماضى وجميع الحاضر وجميع الآتى الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد (فى وقت واحد) ولا فى مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم ؛ هذا محال عند كل ذى لبّ. فإذا كان كذلك علمت أنّ (قام زيد) مجاز لا حقيقة ، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير. ويدلّ على انتظام ذلك لجميع جنسه أنك تعمله فى جميع أجزاء ذلك الفعل ؛ فتقول : قمت قومة ، وقومتين ، ومائة قومة ، وقياما حسنا ، وقياما قبيحا. فإعمالك إيّاه فى جميع أجزائه يدلّ على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها. وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليل ؛ ألا تراك لا تقول : قمت جلوسا ، ولا ذهبت مجيئا ، ولا نحو ذلك لمّا لم تكن فيه دلالة عليه ؛ ألا ترى إلى قوله :

لعمرى لقد أحببتك الحبّ كله

وزدتك حبّا لم يكن قبل يعرف

فانتظامه لجميعه يدلّ على وضعه على اغتراقه واستيعابه) وكذلك قول الآخر :

فقد يجمع الله الشتيتين بعد ما

يظنان كل الظن أن لا تلاقيا (٢)

فقوله (كل الظنّ) يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه. قال لى أبو علىّ : قولنا : قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد ، ومعناه أن قولهم : خرجت فإذا الأسد تعريفه

__________________

(١) يطبّق : أى يعم.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للمجنون فى ديوانه ص ٢٤٣ ، وشرح التصريح ١ / ٣٢٨ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٢ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٢ / ٢١٣ ، وشرح الأشمونى ١ / ٢١٠ ، ولسان العرب (شتت) ، ويروى : (وقد) مكان (فقد).

٢١٢

هنا تعريف الجنس ؛ كقولك : الأسد أشدّ من الذئب وأنت لا تريد أنك (خرجت وجميع الأسد) التى يتناولها الوهم على الباب. هذا محال ، واعتقاده اختلال.

وإنما أردت : خرجت فإذا واحد من هذا الجنس بالباب. فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازا ؛ لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه. أمّا الاتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد. وأمّا التوكيد فلأنك عظّمت قدر ذلك الواحد ، بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة. وأمّا التشبيه فلأنك شبّهت الواحد بالجماعة ؛ لأن كل واحد منها مثله فى كونه أسدا.

وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر ، وانطلق محمد ، وجاء الليل وانصرم النهار.

وكذلك أفعال القديم سبحانه ؛ نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله ؛ ألا ترى ـ أنه عزّ اسمه ـ لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا ، ولو كان حقيقة لا مجازا لكان خالقا للكفر والعدوان وغيرهما (١) من أفعالنا عزّ وعلا. وكذلك علم الله قيام زيد مجاز (٢) أيضا ؛ لأنه ليست الحال التى علم عليها قيام زيد هى الحال التى علم عليها قعود عمرو. ولسنا نثبت له سبحانه علما ؛ لأنه عالم بنفسه ، إلا أنه مع ذلك نعلم أنه ليست حال علمه بقيام زيد هى حال علمه بجلوس عمرو ونحو ذلك.

وكذلك قولك : ضربت عمرا مجاز أيضا من غير جهة التجوّز فى الفعل ـ وذلك أنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ـ ولكن من جهة أخرى ؛ وهو أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه ؛ ألا تراك تقول : ضربت زيدا ولعلّك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحى جسده ؛ ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء ببدل البعض ، فقال : ضربت زيدا وجهه أو رأسه. نعم ، ثم إنه مع ذلك متجوّز ؛ ألا (تراه قد يقول) : ضربت زيدا رأسه ، فيبدل للاحتياط وهو إنما ضرب ناحية من رأسه لا رأسه كله. ولهذا ما يحتاط بعضهم فى نحو هذا ، فيقول : ضربت زيدا جانب وجهه الأيمن أو ضربته أعلى رأسه الأسمق ؛ لأن أعلى رأسه قد تختلف أحواله ، فيكون بعضه أرفع من بعض.

__________________

(١) تراه يتبع المعتزلة. وأهل السنة لا يرون شيئا فى خلق الكفر والعدوان ، ولا يخرج شيء عن خلقه وقدرته.

(٢) وتراه أيضا يتبع المعتزلة فى نفى صفة العلم عن الله سبحانه ، ومذهب أهل السنة بخلاف ذلك.

٢١٣

وبعد فإذا عرف التوكيد لم وقع فى الكلام ـ نحو نفسه وعينه وأجمع ، وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك ـ عرفت منه (حال سعة) المجاز فى هذا الكلام ؛ ألا تراك قد تقول : قطع الأمير اللصّ ويكون القطع له بأمره لا بيده ، فإذا قلت : قطع الأمير نفسه اللصّ رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة ؛ لكن يبقى عليك التجوّز من مكان آخر وهو قولك : اللصّ وإنما لعلّه قطع يده أو رجله ؛ فإذا احتطت قلت : قطع الأمير نفسه يد اللصّ أو رجله. وكذلك جاء الجيش أجمع ، ولو لا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضه ـ وإن أطلقت المجيء على جميعه ـ لما كان لقولك : أجمع معنى.

فوقوع التوكيد فى هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها ؛ حتى إن أهل العربية أفردوا له بابا لعنايتهم به ، وكونه ممّا لا يضاع ولا يهمل مثله ؛ كما أفردوا لكل معنى أهمّهم بابا ؛ كالصفة والعطف والإضافة والنداء والندبة والقسم والجزاء ونحو ذلك.

وبينت منذ قريب لبعض منتحلى هذه الصناعة هذا الموضع ـ أعنى ما فى ضربت زيدا ، وخلق الله ونحو ذلك ـ فلم يفهمه إلا بعد أن بات عليه وراض نفسه فيه واطّلع فى الموضع الذى أومأت له إليه ، فحينئذ ما تصوّره ، وجرى على مذهبه فى أن لم يشكره.

واعلم أن جميع ما أوردناه فى سعة المجاز عندهم واستمراره على ألسنتهم يدفع دفع أبى الحسن القياس على حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة. (أولا) يعلم أبو الحسن كثرة المجاز غيره ، وسعة استعماله وانتشار مواقعه ؛ كقام أخوك وجاء الجيش وضربت زيدا ونحو ذلك ، وكل ذلك مجاز (لا حقيقة) (وهو على غاية الانقياد والاطراد. وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز لا حقيقة) وهو مع ذلك مستعمل.

فإن احتجّ أبو الحسن بكثرة هذه المواضع ؛ نحو قام زيد وانطلق محمد وجاء القوم ونحو ذلك ، قيل له : وكذلك حذف المضاف قد كثر ؛ حتى إن فى القرآن ـ وهو أفصح الكلام ـ منه أكثر من مائة موضع ، بل ثلاثمائة موضع ، وفى الشعر منه ما لا أحصيه.

٢١٤

فإن قيل : يجيد من هذا أن تقول : ضربت زيدا وإنما ضربت غلامه وولده.

قيل : هذا الذى شنّعت به بعينه جائز ؛ ألا تراك تقول : إنما ضربت زيدا بضربك غلامه ، وأهنته بإهانتك ولده. وهذا باب إنما يصلحه ويفسده المعرفة به. فإن فهم عنك فى قولك : ضربت زيدا أنك إنما أردت بذلك : ضربت غلامه أو أخاه أو نحو ذلك جاز ، وإن لم يفهم عنك لم يجز ؛ كما أنك إن فهم عنك بقولك : أكلت الطعام أنك أكلت بعضه لم تحتج إلى البدل ؛ وإن لم يفهم عنك وأردت إفهام المخاطب إياه لم تجد بدّا من البيان ، وأن تقول : بعضه أو نصفه أو نحو ذلك. ألا ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما (أراد بقوله) قال:

صبّحن من كاظمة الخصّ الخرب

يحملن عبّاس بن عبد المطلب (١)

وإنما أراد : عبد الله بن عباس ، ولو لم يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد بدّا من البيان. وعلى ذلك قول الآخر :

*عليهم بما أعيا النطاسىّ حذيما (٢) *

أراد : ابن حذيم.

ويدلك على لحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقته فى أنفسهم أن العرب قد وكّدته كما وكّدت الحقيقة. وذلك قول الفرزدق :

عشيّة سال المربدان كلاهما

سحابة موت بالسيوف الصوارم (٣)

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (نطس) ، (وصى) ، وجمهرة اللغة ص ١٣٢٨.

(٢) عجز البيت من الطويل ، وهو لأوس بن حجر فى ديوانه ص ١١١ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٧٠ ، ٣٧٣ ، ٣٧٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ١١٦ ، ١١٧ ، ولسان العرب (نطس) ، (حذم) ، (إلى) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٨٣٨ ، وشرح المفصل ٣ / ٢٥. ويروى : (طبيب) مكان (عليم). وصدره :

* فهل لكم فيها إلىّ فإننى*

(٣) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق فى ديوانه ٢ / ٣١١ ، ولسان العرب (دبد) ، وتاج العروس (دبد) ، وبلا نسبة فى تاج العروس (سحب) ، ولسان العرب (سحب) ، ويروى (عجاجة) مكان (سحابة). المربدان أراد به المربد وهو كل شيء حبست به الإبل والغنم ، ولهذا قيل مربد النّعم الذى بالمدينة ، وبه سمّى مربد البصرة. اللسان (ربد).

٢١٥

وإنما هو مربد واحد ؛ فثناه مجازا لما يتصل به من مجاوره ، ثم إنه مع ذلك وكده وإن كان مجازا. وقد يجوز أن يكون سمّى كل واحد من جانبيه مربدا.

وقال الآخر :

إذا البيضة الصّماء عضّت صفيحة

بحربائها صاحت صياحا وصلّت (١)

فأكد (صاحت) وهو مجاز بقوله : صياحا.

(وأما) قول الله عزوجل : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] فليس من باب المجاز (فى الكلام) بل هو حقيقة ؛ قال أبو الحسن (٢) : خلق الله لموسى كلاما فى الشجرة ، فكلّم به موسى ، وإذا أحدثه كان متكلّما به. فأمّا أن يحدثه فى شجرة أو فم أو غيرهما فهو شيء آخر ؛ لكن الكلام واقع ؛ ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحقّ هذه الصفة بكونه متكلّما لا غير ، لا لأنه أحدثه فى آلة نطقه ، وإن كان لا يكون متكلما حتى يحرّك به آلات نطقه.

فإن قلت : أرأيت لو أن أحدنا عمل آلة مصوّتة وحرّكها واحتذى بأصواتها أصوات الحروف المقطعة المسموعة فى كلامنا أكنت تسمّيه متكلما وتسمّى تلك الأصوات كلاما؟.

فجوابه ألا تكون تلك الأصوات كلاما ، ولا ذلك المصوّت لها متكلّما. وذلك أنه ليس فى قوّة البشر أن يوردوه بالآلات التى يصنعونها على سمت الحروف المنطوق بها وصورتها (فى النفس) ؛ لعجزهم عن ذلك. وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفنا ؛ فلا يستحقّ لذلك أن تكون كلاما ، ولا أن يكون الناطق بها متكلما ؛ كما أن الذى يصوّر الحيوان تجسيما أو ترقيما لا يسمى خالقا للحيوان ، وإنما يقال مصوّر وحاك ومشبّه. وأمّا القديم سبحانه فإنه قادر على إحداث الكلام على صورته الحقيقية ، وأصواته الحيوانية فى الشجرة والهواء ، وما أحبّ سبحانه وشاء. فهذا فرق.

فإن قلت : فقد أحال سيبويه قولنا : أشرب ماء البحر ، وهذا منه حظر للمجاز

__________________

(١) البيضة : الخوذة. والحرباء : مسمار الدرع. اللسان (حرب). والصفيحة : السيف العريض.

(٢) لأن منهج المعتزلة ينكرون الكلام النفسى لله سبحانه.

٢١٦

الذى أنت مدّع شياعه وانتشاره.

قيل : إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة ، وهذا مستقيم ؛ إذ الإنسان الواحد لا يشرب جميع ماء البحر. فأمّا إن أراد به بعضه ثم أطلق هناك اللفظ يريد به جميعه فلا محالة من جوازه ؛ ألا ترى إلى (قول الأسود بن يعفر)

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيء من أطواد (١)

(فلم يحصل) هنا جميعه ؛ لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجا قبل وصوله إلى أرضهم (بشرب أو بسقى) زرع ونحوه. فسيبويه إذا إنما وضع هذه اللفظة فى هذا الموضع على أصل (وضعها فى اللغة) من العموم ، واجتنب المستعمل فيه من الخصوص.

ومثل توكيد المجاز فيما مضى قولنا : قام زيد قياما ، وجلس عمرو جلوسا ، وذهب سعيد ذهابا ، (ونحو ذلك ؛ لأن) قولنا : قام زيد ونحو ذلك قد قدّمنا الدليل على أنه مجاز. وهو مع ذلك مؤكّد بالمصدر. فهذا توكيد المجاز كما ترى.

وكذلك أيضا يكون قوله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] من هذا الوجه مجازا على ما مضى.

ومن التوكيد فى المجاز قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] ولم تؤت لحية ولا ذكرا. ووجه هذا عندى أن يكون ممّا حذفت صفته ، حتى كأنه قال : وأوتيت من كل شيء تؤتاه المرأة الملكة ؛ ألا ترى (أنها لو) أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلا ، ولما قيل فيها : أوتيت ، ولقيل أوتى. ومثله قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] وهو سبحانه شيء. (وهذا) مما يستثنيه العقل ببديهته ، ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه ؛ ألا ترى أن الشىء كائنا ما كان لا يخلق نفسه ، كما أن المرأة لا تؤتى لحية ولا ذكرا.

فأما قوله سبحانه : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] فحقيقة لا مجاز.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للأسود بن يعفر فى ديوانه ص ٢٧ ، ولسان العرب (نقر) ، وتاج العروس (نقر) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٧٠ ، والحماسة البصرية ٢ / ٤١٢. الأطواد : الجبال.

٢١٧

وذلك أنه سبحانه ليس عالما بعلم ؛ فهو إذا العليم الذى فوق ذوى العلوم أجمعين. ولذلك لم يقل : وفوق كل عالم عليم ، لأنه ـ عز اسمه ـ عالم ، ولا عالم فوقه.

فإن قلت : فليس فى شيء مما أوردته من قولك : «وأوتيت من كل شيء» و (خالق كل شيء) ، «وفوق كل ذى علم عليم» ، اللفظ المعتاد للتوكيد.

قيل : هو وإن لم يأت تابعا على سمت التوكيد فإنه بمعنى التوكيد ألبتّة ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : عممت بالضرب جميع القوم ففائدته فائدة قولك : ضربت القوم كلهم. فإذا كان المعنيان واحدا كان ما وراء ذلك غير معتدّ به ولغوا.

* * *

٢١٨

باب فى إقرار الألفاظ على أوضاعها الأول

ما لم يدع داع إلى الترك والتحول

من ذلك (أو) إنما أصل وضعها أن تكون لأحد الشيئين أين كانت وكيف تصرفت. فهى عندنا على ذلك ؛ وإن كان بعضهم قد خفى عليه هذا من حالها فى بعض الأحوال ، حتى دعاه إلى أن نقلها عن أصل بابها. وذلك أن الفرّاء قال : إنها قد تأتى بمعنى بل ؛ وأنشد بيت ذى الرمّة :

بدت مثل قرن الشمس فى رونق الضحى

وصورتها أو أنت فى العين أملح (١)

وقال : معناه : بل أنت فى العين أملح. وإذا أرينا أنها فى موضعها وعلى بابها ـ بل إذا كانت هنا على بابها كانت أحسن معنى ، وأعلى مذهبا ـ فقد وفّينا ما علينا.

وذلك أنها على بابها من الشكّ ؛ ألا ترى أنه لو أراد بها معنى بل ، فقال : بل أنت فى العين (أملح لم يف بمعنى أو فى الشك ؛ لأنه إذا قطع بيقين أنها فى العين أملح) كان فى ذلك سرف منه ودعاء إلى التهمه فى الإفراط له ، وإذا أخرج الكلام مخرج الشكّ كان فى صورة المقتصد غير المتحامل ولا المتعجرف. فكان أعذب للفظه ، وأقرب إلى تقبل قوله ؛ ألا تراه نفسه (أيضا قال :

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا آنت أم أمّ سالم (٢)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمة فى ملحق ديوانه ص ١٨٥٧ ، والأزهية ص ١٢١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٦٥ ـ ٦٧ ، ولسان العرب (أوا) ، وبلا نسبة فى الإنصاف ص ٤٧٨ ، وجواهر الأدب ص ٢١٥. قرن الشمس : أعلاها.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص ٧٦٧ ، وأدب الكاتب ص ٢٢٤ ، والأزهية ص ٣٦ ، والأغانى ١٧ / ٣٠٩ ، والدرر ٣ / ١٧ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٥٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٤٧ ، وشرح المفصل ١ / ٩٤ ، ٩ / ١١٩ ، والكتاب ٣ / ٥٥١ ، ولسان العرب (جلل) ، (أ) ، (يا) ، واللمع ص ١٩٣ ، ٢٧٧ ، ومعجم ما استعجم ص ٣٨٨ ، (جلاجل) ، والمقتضب ١ / ١٦٣ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ١ / ٤٥٧ ، ـ ـ

٢١٩

فكما لا يشك فى أن كلامه هاهنا خرج مخرج الشك ، لما فيه من عذوبته وظرف مذهبه ، فكذلك ينبغى أن يكون قوله : أو أنت فى العين أملح (أو) فيه باقية فى موضعها وعلى شكّها.

وبعد فهذا مذهب الشعراء : أن يظهروا فى هذا ونحو شكّا وتخالجا ليروا قوّة الشبه واستحكام الشبهة ؛ ولا يقطعوا قطع اليقين ألبتّة فينسبوا بذلك إلى الإفراط ؛ وغلوّ الاشتطاط ؛ وإن كانوا هم ومن بحضرتهم ومن يقرأ من بعد أشعارهم يعلمون أن لا حيرة هناك ولا شبهة ؛ ولكن (كذا خرج) الكلام على الإحاطة بمحصول الحال.

وقال أيضا :

ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن

أمام المطايا تشرئبّ وتسنح (١)

وقال الآخر :

أقول لظبى يرتعى وسط روضة

أأنت أخو ليلى فقال : يقال

وما أحسن ما جاء به الطائىّ الصغير (فى قوله) :

عارضننا أصلا فقلنا الربرب

حتى أضاء الأقحوان الأشنب

وقال الآخر :

فعيناك عيناها ؛ وجيدك جيدها

سوى أنّ عظم الساق منك دقيق (٢)

__________________

٢ / ٦٧٧ ، والإنصاف ٢ / ٤٨٢ ، وجمهرة اللغة ص ١٢١٠ ، والجنى الدانى ص ١٧٨ ، ٤١٩ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٤٧ ، ١١ / ٦٧ ، ورصف المبانى ص ٢٦ ، ١٣٦ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٦٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٢. ويروى (فيا) مكان (أيا). الوعساء : رملة. وجلاجل : موضع.

(١) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص ١١٩٧ ، ولسان العرب (شرب) ، وكتاب العين ٦ / ٢٥٨ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٠٤ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٣٥٥ ، وتاج العروس (شرب). ويروى : (إذ هرت) مكان (أن مرّت). الشادن : ولد الظبية حين يقوى ويشتدّ. وتسنح : تمرّ عن اليمين.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للمجنون فى ديوانه ص ١٦٣ ، وجمهرة اللغة ص ٤٣ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٦٤ ، ٥٦٧ ، ٤٦٨ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٠٦ ، ولسان العرب (روع) ، ولرجل ـ ـ

٢٢٠