الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

تقلب همزة فى نحو قول جرير :

فيوما يجازين الهوى غير ماضى

ويوما ترى منهن غولا تغوّل (١)

وكذلك لو كانت الواو إنما انقلبت فى صبية وقنية وصبيان ولياح للكسرة قبلها ، لوجب إذا زالت الكسرة أن تعود الواو ، فتقول : صبوة وصبوان ، وقنوة ولواح ؛ لزوال الكسرة.

والجواب عن هذا وغيره مما هذه حاله أن العلّة فى قلب هذه الأشياء هو ما ذكره القوم : من وقوع الكسرة قبلها ؛ لأشياء.

منها أن أكثر اللغة وشائع الاستعمال هو إعادة الواو عند زوال الكسرة. وذلك قولهم : موازين ، ومواعيد ، وقولهم فى ريح : أرواح ، وفى قيل : أقوال ، وفى ميثاق : مواثيق ، وفى ديوان : دواوين. فأما مياثق ودياوين فإنه لمّا كثر عندهم واطّرد فى الواحد القلب ، وكانوا كثيرا ما يحملون الجمع على حكم الواحد وإن لم يستوف الجمع جميع أحكام الواحد ؛ نحو ديمة وديم ، وقيمة وقيم ، صار الأثر فى الواحد كأنه ليس عندهم مسببا عن أمر ، ومعرّضا لانتقاله بانتقاله ، بل تجاوزوا به ذلك ، وطغوا به إلى ما وراءه ، حتى صار الحرف المقلوب إليه لتمكّنه فى القلب كأنه أصل فى موضعه ، وغير مسبّب عندهم عن علّة ، فمعرّض لانتقاله بانتقالها ، حتى أجروا ياء ميثاق مجرى الياء الأصلية ؛ وذلك كبنائك من اليسر مفعالا ، وتكسيرك إياه على مفاعيل ؛ كميسار ومياسير ، فمكّنوا قدم الياء فى ميثاق ؛ أنسا بها ، واسترواحا إليها ، ودلالة على تقبّل الموضع لها.

وكذلك ـ عندى ـ قياس تحقيره على هذه اللغة أن تقول : مييثيق.

ومنها أن الغرض فى هذا القلب إنما هو طلب للخفّة ؛ فمتى وجدوا طريقا أو شبهة فى الإقامة عليها ، والتعلّل بخفتها سلكوها ، واهتبلوها. وليس غرضهم وإن

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجرير فى ديوانه ص ١٤٠ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣٥٨ ، وشرح الأشمونى ١ / ٤٤ ، وشرح المفصل ١٠ / ١٠١ ، والكتاب ٣ / ٣١٤ ، ولسان العرب (غول) ، (مضى) ، والمقاصد النحوية ١ / ٢٢٧ ، والمقتضب ١ / ١٤٤ ، والمنصف ٢ / ١١٤ ، ونوادر أبى زيد ص ٢٠٣ ، وتاج العروس (غول) ، (مضى) ، وبلا نسبة فى شرح المفصل ١٠ / ١٠٤ ، والمقتضب ٣ / ٣٥٤ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٥٥٦ ، والمنصف ٢ / ٨٠. ويروى : (يوافينى) مكان (يجاذين).

٣٨١

كان قلبها مسببا عن الكسرة أن يتناهوا فى إعلامنا ذلك بأن يعيدوها واوا مع زوالها. وإنما غالب الأمر ومجموع الغرض القلب لها ؛ لما يعقب من الاسترواح إلى انقلابها. فكأنّهم قنّعوا أنفسهم بتصوّر القلب فى الواحد لمّا انتقلوا عنه إلى الجمع ؛ ملاحظة لأحواله ، ومحافظة على أحكامه ، واسترواحا إلى خفّة المقلوب إليه ، ودلالة على تمكّن القلب فى الواحد ، حتى ألحقوه بما أصله الياء.

وعندى مثل يوضّح (الحال فى) إقرار الحكم مع زوال العلّة ، على قلّة ذلك فى (الكلام) ، وكثرة ضدّه فى الاستعمال. وهو العود تقطعه من شجرته غضا رطيبا ، فيقيم على ذلك زمانا ، ثم يعرض له فيما بعد من الجفوف واليبس ما يعرض لما هذه سبيله ، فإذا استقرّ على ذلك اليبس وتمكّن فيه (حتى ينخر) لم يغن عنه فيما بعد أن تعيده إلى قعر البحر فيقيم فيه مائة عام ؛ لأنه قد كان بعد عن الرطوبة بعدا أوغل فيه ، حتى أيأس من معاودته البتّة إليها.

فهذه حال إقرار الحكم مع زوال العلّة ، وهو الأقلّ فى كلامهم. وعلى طرف من الملامحة له قول الله عزوجل : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) [يونس : ٩١].

ومنها أنهم قد قلبوا الواو ياء قلبا صريحا لا عن علّة مؤثّرة أكثر من الاستخفاف ؛ نحو قولهم : رجل غديان ، وعشيان ، والأريحيّة ، ورياح ، ولا كسرة هناك ، ولا اعتقاد كسرة فيه قد كانت فى واحده ، لأنه ليس جمعا فيحتذى به ويقتاس به على حكم واحده. وكذلك قول الآخر :

* جول التراب فهو جيلانىّ (١) *

فإذا جنحوا إلى الياء هذا الجنوح العارى من السبب المؤثّر سوى ما فيه من الاسترواح إليه ، كان قلب الأثقل إلى الأخفّ وبقاؤه على ذلك لضرب من التأوّل أولى وأجدر.

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٤٨٦ ، وجمهرة اللغة ص ٤٩٣ ، وتاج العروس (٢٣ / ١٩١ (خرف) وقبله:

جرّ السحاب فوقه الخرفى

ومردفات المزن والصيفى

ويروى : (جولانى) مكان (جيلانى). جول التراب : انتشاره. يوم جيلانىّ وجولانىّ : كثير التراب والريح.

٣٨٢

نعم ، وإذا كانوا قد أقرّوا حكم الواحد على تكسيره مع ثقل ما صاروا إليه مراعاة لأحكامه ؛ نحو بأز وبئزان حتى شبهوه برأل ورئلان ، كان إقرار قلب الأثقل إلى الأخفّ عند التكسير أولى وأجدر ؛ ألا ترى أن الهمزة أثقل من الياء. وكذلك قولهم لياح ـ وإنما هو فعال من لاح يلوح لبياضه ـ قد راعوا فيه انقلاب عينه مع الكسرة فى (لياح) على ضعف هذا الأثر ؛ لأنه ليس بجمع (كحياض ورياض) ولا مصدر كقيام وصيام. فإقرار الحكم القوىّ الوجوب فى الواحد عند تكسيره أجدر بالجواز.

وكذلك حديث قنية وصبيان وصبية فى إقرار الياء بحالها ، مع زوال الكسرة فى صبيان وقنية. وذلك أن القلب مع الكسرة لم يكن له قوّة فى القياس ، وإنما كان مجنوحا به إلى الاستخفاف. وذلك أن الكسرة لم تل الواو ؛ ألا ترى أن بينهما حاجزا وإن كان ساكنا فإن مثله فى أكثر اللغة يحجز. وذلك نحو جرو وعلو ، وصنو ، وقنو ، ومجول ، ومقول ، و (قرواح ، وجلواخ ، وقرواش ، ودرواس) (١) وهذا كثير فاش. فلما أعلّوا فى صبية وبابه ، علم أن أقوى سببى القلب إنما هو طلب الاستخفاف ، لا متابعة الكسر مضطرّا إلى الإعلال فلمّا كان الأمر كذلك أمضوا العزمة فى ملازمة الياء ؛ لأنه لم يزل من الكسرة مؤثّر يحكم القياس له بقوّة فيدعو زواله إلى المصير إلى ضدّ الحكم الذى كان وجب به ، وليس هذا كمياثق ؛ من قبل أن القلب فى ميثاق واجب ، والقلب فى قنية وصبية ليس بواجب ، فكأن باب ميثاق أثّر فى النفس أثرا قوّى الحكم فقرّره هناك ، فلمّا زال بقى حكمه دالا على قوّة الحكم الذى كان به ، وباب صبية وعلية أقرّ حكمه مع زوال الكسرة عنه ؛ اعتذارا فى ذلك بأن الأوّل لم يكن عن وجوب لزوال ما دعا إليه ، وإنما كان استحسانا ، فليكن مع زوال الكسر أيضا استحسانا. أفلا ترى إلى اختلاف حال الأصلين فى الضعف والقوّة ، كيف صرت له بهما إلى فرع واحد ، وهو القلب. فإنه جيّد فى معناه ، ونافع فى سواه ، مما هو شرواه (٢).

__________________

(١) القرواح : الفضاء من الأرض التى ليس بها شجر ، وناقة قرواح : طويلة القوائم. والجلواخ : الوادى الواسع الممتلئ. والقرواش : الطفيلىّ والعظيم الرأس. والدّرواس : من معانيه العظيم الرأس ، الأسد.

(٢) شروى الشىء مثله ، واوه مبدلة من الياء ، لأن الشىء إنما يشرى بمثله.

٣٨٣

(ومن بعد) فقد قالوا أيضا : صبوان وصبوة وقنوة ؛ وعلى أن البغداديّين قالوا : قنوت ، وقنيت ، وإنما كلامنا على ما أثبته أصحابنا ، وهو قنوت لا غير.

ومن بقاء الحكم مع زوال علّته قول الراجز :

لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع

مال إلى أرطاة حقف فالطجع (١)

وهو افتعل من الضجعة. وأصله : (فاضتجع فأبدلت التاء طاء لوقوع الضاد قبلها ، فصارت) : فاضطجع ، ثم أبدل الضاد لاما. وكان سبيله (إذ أزال) جرس الضاد أن تصحّ التاء ، فيقال : فالتجع ؛ كما يقال : التحم ، والتجأ ؛ لكنه أقرّت الطاء بحالها ؛ إيذانا بأن هذا القلب الذى دخل الضاد إلى اللام لم يكن عن استحكام ، ولا عن وجوب ؛ كما أن صحّة الواو فى قوله :

* وكحل العينين بالعواور (٢) *

إنما جاء لإرادة الياء فى العواوير ، وليعلم أن هذا الحرف ليس بقياس ولا منقاد.

فهذه طريق بقاء الأحكام ، مع زوال العلل والأسباب. فاعرف ذلك ؛ فإنه كثير جدا.

__________________

(١) الرجز لمنظور بن حبة الأسدى فى شرح التصريح ٢ / ٣٦٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨٤ ، وبلا نسبة فى التنبيه والإيضاح ٢ / ٢٣٤ ، والمخصص ٨ / ٢٤ ، وتاج العروس (أبز) ، (أرط) ، (ضجع) ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٤٠ ، وإصلاح المنطق ص ٩٥ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٢١ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٨٢١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٢٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٧٤ ، وشرح المفصل ٩ / ٨٢ ، ١٠ / ٤٦ ، ولسان العرب (أبز) ، (أرط) ، (ضجع) ، (رطا) ، والمحتسب ١ / ١٠٧ ، والممتع فى التصريف ١ / ٤٠٣ ، والمنصف ٢ / ٣٢٩.

(٢) الرجز للعجاج ، وليس فى ديوانه ، ولجندل بن المثنى الطهوى فى شرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٢٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٧٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٧١ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٧٨٥ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧٤ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٧١ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٨٢٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٣١ ، وشرح المفصل ٥ / ٧ ، ١٠ / ٩١ ، ٩٢ ، والكتاب ٤ / ٣٧٠ ، ولسان العرب (عور ، والمحتسب ١ / ١٠٧ ، ١٢٤ ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٢٩ ، والمنصف ٢ / ٤٩ ، ٣ / ٥٠ ، وتاج العروس (عور) والمخصص ١ / ١٠٩. العواور جمع العوّار وهو وجع العين.

٣٨٤

باب فى توجه اللفظ الواحد إلى معنيين اثنين

وذلك فى الكلام على ضربين :

أحدهما ـ وهو الأكثر ـ أن يتفق اللفظ البتّة ، ويختلف فى تأويله. وعليه عامّة الخلاف ؛ نحو قولهم : هذا أمر لا ينادى وليده ؛ فاللفظ غير مختلف فيه ، لكن يختلف فى تفسيره.

فقال قوم : إن الإنسان يذهل عن ولده لشدّته ، فيكون هذا كقول الله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) [الحج : ٢] وقوله سبحانه : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس : ٣٤ ، ٣٥] (والآى فى هذا المعنى كثيرة).

وقال قوم : أى هو أمر عظيم ، فإنما ينادى فيه الرجال والجلّة ، لا الإماء والصبية.

وقال آخرون : الصبيان إذا ورد الحىّ كاهن أو حوّاء أو رقّاء حشدوا عليه ، واجتمعوا له. أى ليس هذا اليوم بيوم أنس ولهو ، إنما هو يوم تجرّد ، وجدّ. وقال آخرون ـ وهم أصحاب المعانى ـ : أى لا وليد فيه فينادى (وإنما فيه الكفاة والنهضة) ومثله قوله (١) :

* على لاحب لا يهتدى بمناره*

أى لا منار فيه فيهتدى به ، وقوله أيضا :

لا تفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الذئب بها ينجحر (٢)

__________________

(١) أى امرئ القيس. وعجزه :

* إذا سافه العود الدّيافىّ جرجرا*

واللاحب : الطريق الواسع. وسافه : شمه ، والعود : البعير المسن. والدّيافىّ ، نسبة إلى دياف ، وهى قرية بالشام تنسب إليها النجائب. والبيت فى اللسان (سوف) وقوله : لا يهتدى بمناره يقول : ليس به منار فيهتدى به ، وإذا ساف الجمل تربته جرجر جزعا من بعده وقلة مائه.

(٢) البيت من السريع ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٦٧ ، وأمالى المرتضى ١ / ٢٢٩ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٩٢ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ١١ / ٣١٣. ويروى : (الضب) مكان (الذئب).

٣٨٥

أى لا أرنب بها فتفزعها أهوالها.

ونحوه ـ عندى ـ بيت الكتاب :

وقدر ككفّ القرد لا مستعيرها

يعار ، ولا من يأتها يتدسّم (١)

أى لا مستعير يستعيرها فيعارها ؛ لأنها ـ لصغرها ولؤمها ـ مأبيّة معيفة. وكذلك قوله :

زعموا أن كل من ضرب العي

ر موال لنا وأنا الولاء (٢)

على ما فيه من الخلاف.

وعلى ذلك عامّة ما جاء فى القرآن ، وفى حديث النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعده رضوان الله عليهم ، وما وردت به الأشعار ، وفصيح الكلام.

وهذا باب فى نهاية الانتشار ، وليس عليه عقد هذا الباب. وإنما الغرض الباب الآخر الأضيق الذى ترى لفظه على صورة ، ويحتمل أن يكون على غيرها ؛ كقوله :

نطعنهم سلكى ومخلوجة

كرّك لامين على نابل (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لتميم بن مقبل فى ملحق ديوانه ص ٣٩٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٦٦ ، والكتاب ٣ / ٧٧ ، ولسان العرب (دسم) ، وتاج العروس (دسم) ، وبلا نسبة فى أساس البلاغة (دسم) ، والمخصص ١٧ / ١٦. ويروى : (كلفّ) مكان (ككف).

(٢) البيت من الخفيف ، وهو للحارث بن حلزة فى ديوانه ص ٢٣ ، ولسان العرب (عير) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٩٢ ، وديوان الأدب ٣ / ٣٠٢ ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٦٧ ، والحيوان ٥ / ١٧٥ ، والزاهر ٢ / ١٤٤ ، وشرح القصائد السبع ص ٤٤٩ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٧٩ ، وفصل المقال ص ٣٠ ، والمعانى الكبير ٢ / ٨٥٥ ، ومعجم البلدان ٤ / ١٩٤ (عير) ، ومعجم ما استعجم ٣ / ٩٨٤ ، وتاج العروس (عير) وبلا نسبة فى لسان العرب (عير) ، وجمهرة اللغة ص ٧٧٧ ، والمخصص ١ / ٩٤ ، ١٥ / ١٣٤. قيل : معناه كلّ من ضرب بجفن على عير ، وقيل : يعنى الوتد أى من ضرب وتدا من أهل العمد ، وقيل : يعنى إيادا ، لأنهم أصحاب حمير ، وقيل : يعنى جبلا ، ومنهم من خصّ فقال :جبلا بالحجاز. اللسان (عير).

(٣) البيت من السريع ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٢٥٧ ، ولسان العرب (خلج) ، (سلك) ، (نبل) ، (لأم) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٥٧ ، ١٠ / ٦٢ ، ١٥ / ٣٦١ ، ٤٠٠ ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٦ ، ـ ـ

٣٨٦

فهذا ينشد على أنه ما تراه : كرك لامين (أى زدك لامين) ـ وهما سهمان ـ على نابل. وذلك أن تعترض من صاحب النبل شيئا منها فتتأمله تردّه إليه ، فيقع بعضه كذا وبعضه كذا. فكذلك قوله : كرك لامين أى طعنا مختلفا : بعضه كذا وبعضه كذا. ويروى أيضا على أنه : كركلامين أى كرّك كلامين على صاحب النبل ؛ كما تقول له : ارم ارم ، تريد السرعة والعجلة. ونحو من ذلك ـ وإن كان فيه أيسر خلاف ـ بيت المثقّب العبدىّ :

أفاطم قبل بينك نوّلينى

ومنعك ما سألت كأن تبينى

فهذه رواية الأصمعىّ : أى منعك كبينك ، وإن كنت مقيمة. ومثله : (قول الطائىّ) الكبير :

لا أظلم النأى قد كانت خلائقها

من قبل وشك النوى عندى نوى قدفا (١)

ورواه ابن الأعرابىّ :

* ومنعك ما سألتك أن تبينى (٢) *

أى منعك إياى ما سألتك هو بينك. ورواية الأصمعىّ أعلى وأذهب فى معانى الشعر. ومن ذلك ما أنشده أبو زيد :

وأطلس يهديه إلى الزاد أنفه

أطاف بنا والليل داجى العساكر

فقلت لعمرو صاحبى إذ رأيته

ونحن على خوص دقاق عواسر (٣)

أى عوى هذا الذئب ، فسر أنت.

وأنشدنا أبو علىّ :

__________________

ومقاييس اللغة ٢ / ٢٠٦ ، ٥ / ٢٢٧ ، وتاج العروس (خلج) ، (سلك) ، (لأم) ، وديوان الأدب ٢ / ٦ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢١٩ ، وكتاب العين ٤ / ١٦٠ ، ٥ / ٣١١ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٤٤ ، والمخصص ٦ / ٥٧ ، ١٥ / ١٩٢. ويروى (لفتك) مكان (كرّك).

(١) نوى قذفا أى فراقا بعيدا. اللسان (قذف).

(٢) سبق.

(٣) سبق.

٣٨٧

خليلىّ لا يبقى على الدهر فادر

بتيهورة بين الطخا فالعصائب (١)

أى بين هذين الموضعين ، وأنشدناه أيضا : بين الطخاف العصائب.

وأنشد (أيضا) :

أقول للضحّاك والمهاجر

إنّا وربّ القلص الضوامر (٢)

إنّا أى تعبنا ، من الأين ، وهو التعب والإعياء. وأنشد أبو زيد :

هل تعرف الدار ببيدا إنّه

دار لخود قد تعفّت إنّه

فانهلّت العينان تسفحنّه

مثل الجمان جال فى سلكنّه

لا تعجبى منّى سليمى إنّه

إنا لحلالون بالثغرنّه

وهذه أبيات عملها أبو علىّ فى المسائل البغدادية فأجاز فى جميع قوافيها أن يكون أراد : إنّ ، وبيّن الحركة بالهاء ، وأطال فيها هناك. وأجاز أيضا أن يكون أراد : ببيداء ثم صرف وشدّد التنوين للقافية ، وأراد : فى سلك ، فبنى منه فعلنا كفرسن ، ثم شدّده لنيّة الوقف ، فصار : سلكنّ ، وأراد : بالثغر ، فبنى منه للضرورة فعلنا ، وإن لم يكن هذا مثالا معروفا ؛ لأنه أمر ارتجله مع الضرورة إليه ، وألحق الهاء فى سلكنه والثغرنه ؛ كحكاية الكتاب : اعطنى أبيّضه. وأنشدوا قوله :

نفلّق هاما لم تنله سيوفنا

بأيماننا هام الملوك القماقم (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى لسان العرب (عصب) ، وتاج العروس (عصب) ، وهو لصخر الغى فى لسان العرب (طخف) ، وتاج العروس (طخف) ، وهو فى شرح أشعار الهذليين ص ٢٤٦ من قصيدة تنسب لأبى ذؤيب ، ولصخر الغى ، ولأخى صخر الغى ، وفيه أن من يرويها لأخى صخر الغى أكثر. ويروى : (أعيني) مكان (خليلى) ، (تحت) مكان (بين) ، (الطخاف) مكان (الطخا).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (أين) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٥٥٠ ، وأساس البلاغة (أين) ، وجمهرة اللغة ص ٢٤٩ ، ١٠٩١ ، وتاج العروس (أين). ويروى : (للمرار) مكان (للضحاك).

وقبله :

* قد قلت للصباح والهواجر*

(٣) البيت من الطويل ، وهو لشبيب بن البرصاء فى لسان العرب (ها) ، وتهذيب اللغة. ويروى (ها من) مكان (هاما) ، (أسيافنا) مكان (أيماننا).

٣٨٨

وإنما هو : ها من لم تنله سيوفنا. ف (ها) تنبيه ، و (من لم تنله سيوفنا) نداء أى يا من لم ننله سيوفنا خفنا ؛ فإنا من عادتنا أن نفلّق بسيوفنا هام الملوك ، فكيف من سواهم.

ومنه المثل السائر : زاحم بعود أو دع ، أى زاحم بقوّة أو فاترك ذلك ، حتى توهّمه بعضهم : بعود أودع ، فذهب إلى أن (أودع) صفة لعود ؛ كقوله : بعود أوقص أو أوطف أو نحو ذلك مما جاء على أفعل وفاؤه واو.

ومن ذلك قول الله تعالى : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [القصص : ٨٢]. فذهب الخليل وسيبويه فيه إلى أنه وى مفصول ، وهو اسم سمّى به الفعل فى الخبر ، وهو معنى أعجب ، ثم قال مبتدئا : كأنه لا يفلح الكافرون ، وأنشد فيه :

وى كأن من يكن له نشب يح

بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (١)

وذهب أبو الحسن فيه إلى أنه : ويك أنه لا يفلح الكافرون ، أراد : ويك أى أعجب أنه لا يفلح الكافرون ، أى أعجب لسوء اختيارهم (ونحو ذلك) فعلّق (أن) بما فى (ويك) من معنى الفعل ، وجعل الكاف حرف خطاب بمنزلة كاف ذلك وهناك. قال أبو علىّ ناصرا لقول سيبويه : قد جاءت كأنّ كالزائدة ؛ وأنشد بيت عمر :

كأننى حين أمسى لا تكلّمنى

ذو بغية يشتهى ما ليس موجودا (٢)

أى أنا كذلك. و (كذلك) قول الله سبحانه : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أى (هم لا يفلحون). (وقال الكسائىّ : أراد : ويلك ، ثم حذف اللام).

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لزيد بن عمرو بن نفيل فى خزانة الأدب ٦ / ٤٠٤ ، ٤٠٨ ، ٤١٠ ، والدرر ٥ / ٣٠٥ ، وذيل سمط اللآلى ص ١٠٣ ، والكتاب ٢ / ١٥٥ ، ولنبيه بن الحجاج فى الأغانى ١٧ / ٢٠٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١ ، ولسان العرب (وا) ، (ويا) ، وبلا نسبة فى الجنى الدانى ص ٣٥٣ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٨٦ ، وشرح المفصل ٤ / ٧٦ ، ومجالس ثعلب ١ / ٣٨٩ ، والمحتسب ٢ / ١٥٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٦.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لعمر بن أبى ربيعة فى ديوانه ص ٣٢٠ ، والجنى الدانى ص ٥٧١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٨٨ ، وليزيد بن الحكم الثقفى فى لسان العرب (عود) ، وبلا نسبة فى تذكرة النحاة ص ٣٩٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٠٧ ، وشرح المفصل ٤ / ٧٧ ، والمحتسب ٢ / ١٥٥ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٦٩. ويروى : (حتيم) مكان (ذو بغية).

٣٨٩

ومن ذلك بيت الطرمّاح :

وما جلس أبكار أطاع لسرحها

جنى ثمر بالواديين وشوع (١)

قيل فيه قولان : وشوع أى كثير. ومنه قوله :

* إنى امرؤ لم أتوشّع بالكذب (٢) *

أى لم أتحسّن به ولم أتكثّر به. وقيل : إنها واو العطف ، والشّوع : ضرب من النبت.

ونحو من ذلك ما أنشده أبو زيد (من قول الشاعر) :

* خالت خويلة أنّى هالك ودأ*

قيل : إنه واو عطف أى إنى هالك (وداء) من قولهم : رجل داء أى دو ، ثم قلب. وحدّثنا عن ابن سلام أن أعرابيا قال للكحّال : كحلنى بالمكحال الذى تكحل به العيون الداء. وأجاز أيضا فى قوله : (ودأ) أن يكون فعلا من قوله :

وللأرض كم من صالح قد تودّأت

عليه فوارته بلمّاعة قفر (٣)

أى غطّته وثقّلت عليه. فكذلك يكون قوله : إنى هالك كدّا وثقلا ، وكان يعتمد التفسير الأوّل ، ويقول : إذا كانت الواو للعطف كان المعنى أبلغ (وأقوى) وأعلى ؛

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للطرماح فى ديوانه ص ٢٩٥ ، ولسان العرب (جلس) ، وكتاب العين ٢ / ١٩٠ ، ٢١٠ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٦٦ ، ١٠ / ٥٤٨ ، وتاج العروس جلس ، (وشع) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (وشع) ، والمخصص ٥ / ١٥. الجلس : العسل. يريد بالأبكار أفراخ النحل لأن عسلها أطيب وأصفى. قيل : وشوع كثير ، وقيل : إنّ الواو للعطف ، والشّوع : شجر البان ، الواحدة شوعة. ويروى : وشوع ، بضمّ الواو ، فمن رواه بفتح الواو وشوع فالواو واو النّسق ومن رواه وشوع فهو جمع وشع ، وهو زهر البقول. (اللسان وشع).

(٢) الرجز للقلاخ فى لسان العرب (وشع) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٥٥ ، وتاج العروس (وشع) ، (وشغ).

(٣) البيت من الطويل ، وهو لهدبة بن الخشرم فى ديوانه ص ٩٦ ، ولسان العرب (لمأ) ، (ودأ) ، (قدر) ، وتاج العروس (لمأ) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ١٠٩٤ ، وكتاب العين ٨ / ٩٦ ، ٣٤٥ ، وتاج العروس (ودأ). الودأ : الهلاك ، وتودّأ عليه : أهلكه.

٣٩٠

كأنه ذهب إلى ما يراه أصحابنا من قولهم فى التشهد : التحيّات لله ، والصلوات لله ، والطّيبات. قالوا : لأنه إذا عطف كان أقوى له ، وأكثر لمعناه ، من أن يجعل الثانى مكررا على الأوّل بدلا أو وصفا. وقال الأصمعىّ فى قوله :

* وأخلفوك عدا الأمر الذى وعدوا (١) *

أراد جمع عدة. وقال الفرّاء : أراد عدة الأمر ، فلمّا أضاف حذف الهاء ؛ كقول الله سبحانه : (وَإِقامِ الصَّلاةِ) [النور : ٣٧] وهذا يجيء فى قول الأصمعىّ على القلب ؛ فوزنه على قوله : علف الأمر.

وهذا باب واسع. وأكثر فى الشعر. فإذا مرّ بك فتنبّه عليه (ومنه قوله :

وغلت بهم سجحاء جارية

تهوى بهم فى لجّة البحر (٢)

يكون : فعلت ن التوغل. وتكون الواو أيضا عاطفة ، فيكون من الغليان.

ومنه قوله :

* غدوت بها طيّا يدى برشائها (٣) *

يكون فعلى من طويت. ويجوز أن يكون تثنية طىّ ، أى طيّا يدى ، وأراد : طياها بيدى فقلب).

ومنه بيت أوس :

فملّك بالليط الذى تحت قشرها

كغرقيء بيض كنّه القيض من عل (٤)

__________________

(١) عجز البيت من البسيط ، وهو للفضل بن عباس فى شرح التصريح ٢ / ٣٩٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٦٤ ، ولسان العرب (غلب) ، (خلط) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٧٢ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٥ / ٢٤١ ، وأوضح المسالك ٤ / ٤٠٧ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٠٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٨٦ ، ولسان العرب (وعد) ، (خلط). وصدره :

* إن الخليط أجدوا البين فانجردوا*

تودّأت عليه الأرض : أى استوت عليه مثلما تستوى على الميّت. اللماعة : الفلاة يلمع فيها السراب. والبيت فى اللسان (ودأ).

(٢) السجحاء : الناقة التامة الخلق.

(٣) عجز البيت من الطويل ، وهو للفرزدق فى ديوانه ١ / ٩ ، والمخصص ١٠ / ٦ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٤٣ ، ولسان العرب (وكع) ، (عمى) ، وتاج العروس (وكع).

(٤) البيت من الطويل ، وهو لأوس بن حجر فى ديوانه ص ٩٧ ، ولسان العرب (ليط) ، وتهذيب ـ ـ

٣٩١

(الأصمعىّ : هو من الملك وهو التشديد. وقال ابن الأعرابىّ) : أراد : من لك بهذا الليط.

ومنه بيت الخنساء :

أبعد ابن عمرو من آل الشري

د حلّت به الأرض أثقالها (١)

هو من الحلية أى زيّنت به موتاها. وقال ابن الأعرابىّ : هو من الحلّ ، كأنه لمّا مات (انحلّ به) عقد الأمور.

* * *

__________________

اللغة ١٤ / ٢٥ ، وتاج العروس (ليط). الغرقئ : قشر البيض الذى تحت القيض.

(١) البيت من المتقارب ، وهو للخنساء فى ديوانها ص ٧٩ ولسان العرب (ثقل) ، ومقاييس اللغة ١ / ٣٩٢ ، وتاج العروس (شرد) ، (ثقل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (شرد) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٧٩.

٣٩٢

باب فى الاكتفاء بالسبب من المسبب

وبالمسبب من السبب

هذا موضع من العربية شريف لطيف ، وواسع لمتأمّله كثير. وكان أبو على ـ رحمه‌الله ـ يستحسنه ، ويعنى به. وذكر منه مواضع قليلة. ومرّ بنا نحن منه ما لا نكاد نحصيه.

فمن ذلك قول الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] (وتأويله) ـ والله أعلم ـ : فإذا أردت قراءة القرآن ؛ فاكتفى بالمسبّب الذى هو القراءة من السبب الذى هو الإرادة. وهذا أولى من تأوّل من ذهب إلى أنه أراد : فإذا استعذت فاقرأ ؛ لأن فيه قلبا لا ضرورة بك إليه. وأيضا فإنه ليس كل مستعيذ بالله واجبة عليه القراءة ؛ ألا ترى إلى قوله :

أعوذ بالله وبابن مصعب

الفرع من قريش المهذّب (١)

وليس أحد أوجب عليه من طريق الشرع القراءة فى هذا الموضع.

وقد يكون على ما قدّمنا قوله عزّ اسمه : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] أى إذا أردتم القيام لها ، والانتصاب فيها.

ونحو منه ما أنشده أبو بكر :

قد علمت إن لم أجد معينا

لأخلطنّ بالخلوق طينا (٢)

يعنى امرأته. يقول : إن لم أجد من يعيننى على سقى الإبل قامت فاستقت معى ، فوقع الطين على خلوق يديها. فاكتفى بالمسبّب الذى هو اختلاط الطين

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى كتاب الجيم ٣ / ٢١٦. وبعده :

* الراكبين كل طرف مثلب*

يقال : هو فرع قومه ، للشريف منهم.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (خلق) ، وتاج العروس (خلق) ، ويروى (لتخلطن) مكان (لأخلطن). الخلوق : ضرب من الطيب.

٣٩٣

بالخلوق من السبب الذى هو الاستقاء معه.

ومثله قول الآخر :

يا عاذلاتى لا تردن ملامتى

إن العواذل لسن لى بأمير (١)

أراد : لا تلمننى ، فاكتفى بإرادة اللوم منه ، وهو تال لها ومسبّب عنها. وعليه قول الله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] أى فضرب فانفجرت ؛ فاكتفى بالمسبّب الذى هو الانفجار من السبب الذى هو الضرب. وإن شئت أن تعكس هذا فتقول : اكتفى بالسبب الذى هو القول ، من المسبب الذى هو الضرب.

ومثله قوله :

* إذا ما الماء خالطها سخينا (٢) *

إن شئت قلت : اكتفى بذكر مخالطة الماء لها ـ وهو السبب ـ من الشرب وهو المسبّب. وإن شئت قلت اكتفى بذكر السخاء ـ وهو المسبّب ـ من ذكر الشرب وهو السبب.

ومثله قول الله عز اسمه : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) [البقرة : ١٩٦] أى فحلق فعليه فدية. وكذلك قوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٥] أى فأفطر فعليه كذا.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة فى شرح شواهد المغنى ٢ / ٥٦١ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٣٢.

(٢) عجز البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن كلثوم فى ديوانه ص ٦٤ ، ولسان العرب (طلح) ، (حصص) ، (سخن) ، (سخا) ، وجمهرة اللغة ص ٩٩ ، وتاج العروس (حصص) ، (سخن) ، وكتاب العين ١ / ٧١ ، والمخصص ٣ / ٢ ، ١٥ / ٦٠ ، والأغانى ١١ / ٤٥ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٣٨٩ ، والخزانة ٣ / ١٧٨ ، وشرح ديوان امرئ القيس ص ٣٢٠ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ١ / ١٨٨ ، وشرح القصائد السبع ص ٣٧٢ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٢١ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٦٥ ، وشرح المعلقات العشر ص ٨٨ ، وشعراء النصرانية ص ٤٥٥ ، وللتغلبى فى تاج العروس (طلح) ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٣ ، ٣ / ١٦٨ ، وديوان الأدب ٤ / ٩٢ ، وبلا نسبة فى أساس البلاغة (حصص) ، وصدره :

* مشعشعة كأن الحص فيها*

٣٩٤

ومنه قول رؤبة :

يا رب إن أخطأت أو نسيت

فأنت لا تنسى ولا تموت (١)

وذلك أن حقيقة الشرط وجوابه ، أن يكون الثانى مسبّبا عن الأول (نحو قوله : إن زرتنى أكرمتك فالكرامة مسبّبة عن الزيارة) وليس كون الله سبحانه غير ناس ولا مخطئا أمرا مسبّبا عن خطأ رؤبة ، ولا عن إصابته ، إنما تلك صفة له ـ عزّ اسمه ـ من صفات نفسه. لكنه كلام محمول على معناه ، أى إن أخطأت أو نسيت فاعف عنّى ؛ لنقصى وفضلك. فاكتفى بذكر الكمال والفضل ـ وهو السبب ـ من العفو وهو المسبّب.

ومثله بيت الكتاب :

إنى إذا ما خبت نار لمرملة

ألفى بأرفع تلّ رافعا نارى

وذلك (أنه إنما) يفخر ببروز بيته لقرى الضيف وإجارة المستصرخ ؛ كما أنه إنما يذمّ من أخفى بيته وضاءل شخصه ، بامتناعه من ذلك. فكأنه قال إذا : إنى إذا منع غيرى وجبن ، أعطيت وشجعت. فاكتفى بذكر السبب ـ وهو (التضاؤل والشخوص) ـ من المسبّب وهو المنع والعطاء.

ومنه بيت الكتاب :

فإن تبخل سدوس بدرهميها

فإن الريح طيّبة قبول (٢)

أى إن بخلت تركناها وانصرفنا عنها. فاكتفى بذكر طيب الريح المعين على الارتحال عنها.

ومنه قول الآخر :

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإن فى أيماننا نيرانا (٣)

__________________

(١) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ٢٥ ، ولسان العرب (خطأ) ، وتاج العروس (خطأ ، وللعجاج فى ديوانه ٢ / ١٨٢.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للأخطل فى ديوانه ص ٢١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٣٣ ، والكتاب ٣ / ٢٤٨ ، ولسان العرب (سدس) ، (قبل).

(٣) الرجز بلا نسبة فى كتاب الجيم (٢ / ١٦٧).

٣٩٥

يعنى سيوفا ، أى (فإنا) نضربكم بسيوفنا. فاكتفى بذكر السيوف من ذكر الضرب بها. وقال :

يا ناق ذات الوخد والعنيق

أما ترين وضح الطريق (١)

أى فعليك بالسير. وأنشد أبو العبّاس :

ذر الآكلين الماء ظلما ؛ فما أرى

ينالون خيرا بعد أكلهم الماء (٢)

وقال : هؤلاء قوم كانوا يبيعون الماء ، فيشترون بثمنه ما يأكلون ؛ فقال : الآكلين الماء ؛ لأن ثمنه سبب أكلهم ما يأكلونه. ومرّ بهذا الموضع بعض مولّدى البصرة ، فقال :

جزت بالساباط يوما

فإذا القينة تلجم

وهذا إنسان كانت له جارية تغنّى ، فباعها ، واشترى بثمنها برذونا ، فمرّ به هذا الشاعر وهو يلجم ، فسمّاه قينة ؛ إذ كان شراؤه مسبّبا عن ثمن القينة. وعليه قول الله سبحانه : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] (وإنما يعصر عنبا يصير خمرا) فاكتفى بالمسبّب الذى هو الخمر من السبب الذى هو العنب. وقال الفرزدق :

قتلت قتيلا لم ير الناس مثله

أقبّله ذا تومتين مسوّرا (٣)

وإنما قتل حيّا يصير بعد قتله قتيلا ، فاكتفى بالمسبّب من السبب. وقال :

قد سبق الأشقر وهو رابض

فكيف لا يسبق إذ يراكض (٤)

يعنى مهرا سبقت أمّه وهو فى جوفها ؛ فاكتفى بالمسبّب الذى هو المهر ، من السبب الذى هو الأمّ. وهو كثير جدّا. فإذا مرّ بك فاضممه إلى ما ذكرنا منه).

__________________

(١) الوخد والعنيق : ضربان من سير الإبل.

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (أكل) ، وتاج العروس (أكل). ويروى : (من) مكان (ذر).

(٣) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق فى لسان العرب (عفر). التومة : اللؤلؤة. المسوّر : لابس السوار.

(٤) الرجز بلا نسبة فى تاج العروس (ركض) ، وجمهرة اللغة ص ٧٥١. ويروى :

قد سبق الجياد وهو رابض

فكيف لا يسبق وهو راكض

٣٩٦

باب فى كثرة الثقيل ، وقلة الخفيف

هذا موضع من كلامهم طريف. وذلك أنا قد أحطنا علما بأنّ الضمة أثقل من الكسرة ، وقد ترى مع ذلك إلى كثرة ما توالت فيه الضمّتان ؛ نحو طنب ، وعنق ، وفنق (١) ، وحشد ، وجمد ، وسهد ، وطنف (٢) ، وقلّة نحو إبل. وهذا موضع محتاج إلى نظر.

وعلّة ذلك عندى أن بين المفرد والجملة أشباها.

منها وقوع الجملة موقع المفرد فى الصفة ، والخبر ، والحال. فالصفة نحو مررت برجل وجهه حسن. والخبر نحو زيد قام أخوه. والحال كقولنا : مررت بزيد فرسه واقفة.

ومنها أن بعض الجمل قد تحتاج إلى جملة ثانية احتياج المفرد إلى المفرد. وذلك فى الشرط وجزائه ، والقسم وجوابه.

فالشرط نحو قولك : إن قام زيد قام عمرو. والقسم نحو قولك : أقسم ليقومنّ زيد. فحاجة الجملة الأولى إلى الجملة الثانية كحاجة الجزء الأوّل من الجملة إلى الجزء الثانى ؛ نحو زيد أخوك ، وقام أبوك.

ومنها أن المفرد قد أوقع موقع الجملة فى مواضع ؛ كنعم ، ولا ؛ لأن كل واحد من هذين الحرفين نائب عن الجملة ؛ ألا ترى إلى قولك : نعم فى موضع قد كان ذاك ، (ولا فى موضع لم يكن ذاك) وكذلك صه ، ومه ، وإيه ، وأفّ ، وأوّتاه ، وهيهات : كل واحد منها جزء مفرد وهو قائم برأسه ، وليس للضمير الذى فيه استحكام الضمير فى الفعل. (يدلّ على ذلك أنه لمّا ظهر فى بعض أحواله ظهر مخالفا للضمير فى الفعل) وذلك قول الله سبحانه : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] وأنت لا تقول فى الفعل : اضربم ولا ادخلم ولا اخرجم ، ولا نحو ذلك.

__________________

(١) يقال جارية فنق : منعمة.

(٢) الطّنف : ما نتأ من الجيل ، والطّنف : السقيفة تشرع فوق باب الدار ، والطّنف : السّيور.

٣٩٧

فلمّا كانت بين المفرد وبين الجملة هذه الأشباه والمقاربات وغيرها ، شبّهوا توالى الضمتين فى نحو سرح (١) وعلط (٢) ، بتواليهما فى نحو زيد قائم ، ومحمد سائر.

وعلى ذلك قال بعضهم : الحمد لله ، فضم لام الجرّ إتباعا لضمّة الدال ، وليس كذلك الكسر فى نحو إبل ؛ لأنه لا يتوالى فى الجملة الجرّان ؛ كما يتوالى الرفعان.

فإن قلت : فقد قالوا : الحمد لله ، فوالوا بين الكسرتين ، كما والوا بين الضمّتين ، قيل : الحمد لله هو الأصل ، ثم شبّه به الحمد لله ؛ ألا ترى أن إتباع الثانى للأوّل ـ نحو مدّ وفرّ وضنّ ـ أكثر من إتباع الأوّل للثانى ؛ نحو : اقتل. وإنما كان كذلك لأن تقدّم السبب أولى من تقدّم المسبّب ؛ لأنهما يجربان مجرى العلّة والمعلول ؛ وعلى أن ضمة الهمزة فى نحو : اقتل لا تعتدّ ، لأن الوصل يزيلها ؛ فإنما هى عارضة ، وحركة نحو مدّ وفرّ وعضّ ثابتة مستمرّة فى الوصل الذى هو العيار ، وبه الاعتبار. وأيضا فإنه إذا انضمّ الزّول ، وأريد تحريك الثانى كانت الضمّة أولى به من الكسرة والفتحة. أما الكسرة فلأنك تصير إلى لفظ فعل ، وهذا مثال لا حظّ فيه للاسم ، وإنما هو أمر يخصّ الفعل. وأما دئل فشاذّ. وقد يجوز أن يكون منقولا أيضا كبذّر (٣) ، وعثّر (٤).

فإن قيل : فإن دئلا نكرة غير علم ، وهذا النقل إنما هو أمر يخصّ العلم ؛ نحو يشكر ، ويزيد ، وتغلب.

قيل : قد يقع النقل فى النكرة أيضا. وذلك الينجلب (٥). فهذا منقول من مضارع انجلب الذى هو مطاوع جلبته ؛ ألا ترى إلى قولهم فى التأخيذ : أخّذته بالينجلب ، فلم يحر ولم يغب. ومثله رجل أباتر. وهو منقول من مضارع باترت ، فنقل فوصف به. وله نظائر.

فهذا حديث فعل.

__________________

(١) يقال : ناقة سرح فى سيرها : سريعة.

(٢) ناقة علط : بلا سمة كعطل ؛ وقيل : بلا خطام.

(٣) بذّر : موضع ، وقيل ماء بمكة.

(٤) عثّر : هو اسم موضع باليمن.

(٥) الينجلب : خرزة يؤخذ بها الرجال ، وهو الرجوع بعد الفرار ، والعطف بعد البغض.

٣٩٨

وأما فعل فدون فعل أيضا. وذلك أنه كثيرا ما يعدل عن أصول كلامهم ؛ نحو عمر ، وزفر ، وجشم ، وقثم ، وثعل ، وزحل. فلما كان كذلك لم يتمكّن عندهم تمكّن فعل الذى ليس معدولا. ويدلّك على انحراف فعل عن بقية الأمثلة الثلاثية غير ذوات الزيادة انحرافهم بتكسيره عن جمهور تكاسيرها. وذلك نحو جعل وجعلان ، وصرد وصردان ، ونغر ونغران (وسلك وسلكان) (١) فاطّراد هذا فى فعل مع عزّته فى غيرها ، يدلّك على أن له فيه خاصية انفرد بها ، وعدل عن نظائره إليها. نعم ، وقد ذهب أبو العباس إلى أنه (كأنه منقوص) من فعال. واستدل على ذلك باستمراره على فعلان ؛ قال : فجرذان وصردان فى بابه كغراب وغربان ، وعقاب وعقبان. وإذا كان كذلك ففيه تقوية لما نحن عليه ؛ ألا ترى أن فعالا أيضا مثال قد يؤلف العدل ؛ نحو أحاد ، وثناء ، وثلاث ، ورباع. وكذلك إلى عشار ؛ قال:

ولم يستريثوك حتى علو

ت فوق الرجال خصالا عشارا (٢)

ومما يسأل عنه من هذا الباب كثرة الواو فاء ، وقلّة الياء هناك. وذلك نحو وعد ، ووزن ، وورد ، ووقع ، ووضع ، ووفد ، على قلّة باب يمن ويسر.

وذلك أن سبب كثرة الواو هناك أنك قادر متى انضمّت أو انكسرت أن تقلبها همزة. وذلك نحو أعد وأجوه وأرقة وأصلة وإسادة وإفادة. وإذا تغيّر الحرف الثقيل فكان تارة كذا ، وأخرى كذا ، كان أمثل من أن يلزم محجّة واحدة. والياء (إذا وقعت أوّلا و) انضمّت أو انكسرت لم تقلب همزة ولا غيرها.

فإن قلت فقد قالوا : باهلة بن أعصر ويعصر ، وقالوا :

* طاف والركب بصحراء يسر (٣) *

__________________

(١) السّلك : فرخ القطا ، وقيل فرخ الحجل. والجمع سلكان.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو للكميت فى ديوانه ١ / ١٩١ ، وأدب الكاتب ص ٥٦٧ ، وخزانة الأدب ١ / ١٧٠ ، ١٧١ ، والدرر ١ / ٩١ ، ولسان العرب (عشر) ، وبلا نسبة فى همع الهوامع ١ / ٢٦. ويروى : (وميت) مكان (علوت). الاستراثة : الاستبطاء. واستراثه : استبطأه.

(٣) عجز البيت من الرمل ، وهو لطرفة فى ديوانه ص ٥٠ ، ولسان العرب (يسر) ، والتنبيه ـ ـ

٣٩٩

وأسر ، وقالوا : قطع الله يديه وأديه.

قيل : أمّا أعصر فهمزته هى الأصل ، والياء فى يعصر بدل منها. يدلّ على هذا أنه إنما سمّى بذلك لبيت قاله ؛ وهو :

أبنىّ إن أباك شيّب رأسه

كرّ الليالى واختلاف الأعصر (١)

فالياء فى يعصر إذا بدل من همزة أعصر. وهذا ضدّ ما أردته ، وبخلاف ما توهّمته. وأمّا أسر ويسر فأصلان ، كلّ واحد منهما قائم بنفسه ؛ كيتن ، وأتن (٢) ، وألملم (٣) ، ويلملم. وأما أديه ويديه فلعمرى إن الهمزة فيه بدل من الياء ؛ بدلالة يديت إليه وأيد ويدىّ ونحو ذلك ، لكنه ليس البدل من ضرب إبدال الواو همزة.

وذلك أن الياء مفتوحة ، والواو إذا كانت مفتوحة شذّ فيها البدل ؛ نحو أناة وأجم.

فإذا كان هذا حديث الواو التى يطّرد إبدالها ، فالياء حرى ألا يكون البدل فيها إلا لضرب من الاتّساع ، وليس طريقه طريق الاستخفاف والاستثقال.

فإن قلت : فالهمزة على كل حال أثقل من الواو ، فكيف عدل عن الأثقل إلى ما هو أثقل منه؟

قيل : الهمزة وإن كانت أثقل من الواو على الإطلاق ، فإن الواو إذا انضمّت كانت أثقل من الهمزة ، لأن ضمتها تزيدها ثقلا. فأمّا إسادة وإعاء فإن الكسرة فيهما محمولة على الضمّة فى أقّتت ، فلذلك قلّ نحو إسادة ، وكثر نحو أجوه ، وأرقة ؛ حتى إنهم قالوا فى الوجنة : الأجنة ، فأبدلوها مع الضمّة البتّة ، ولم يقولوا : وجنة.

__________________

والإيضاح ٢ / ٢٣٠ ، وجمهرة اللغة ص ٧٢٥ ، وتاج العروس (يسر). وصدره :

* أرق العين خيال لم يقر*

ويسر : دحل بالدهناء لبنى يربوع والدّحل : هوّة تكون فى الأرض وفى أسافل الأودية يكون فى رأسها ضيق ثم يتسع أسفلها.

(١) البيت من الكامل ، وهو لباهلة بن أعصر فى لسان العرب (عصر) ، وتاج العروس (عصر) ، ولمنبه بن سعد بن قيس عيلان فى أساس البلاغة (عصر) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (يبر) ، والمخصص ٦ / ٣٣.

(٢) اليتن والأتن : الولاد المنكوس ، تخرج رجلا المولود قبل رأسه ويديه.

(٣) ألملم ويلملم موضع. وهو ميقات أهل اليمن للإحرام بالحج.

٤٠٠