الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

الفاعل ، وحتى قال سيبويه فيهما : «وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم» خصّوا المفعول إذا أسند الفعل إليه بضربين من الصنعة : أحدهما تغيير صورة المثال مسندا إلى المفعول ، عن صورته مسندا إلى الفاعل ، والعدّة واحدة ؛ وذلك نحو ضرب [زيد] وضرب ، وقتل وقتل ، وأكرم وأكرم ، ودحرج ودحرج. والآخر أنهم لم يرضوا ولم يقنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه إلى أن غيروا عدّة الحروف مع ضمّ أوّله ، كما غيّروا فى الأوّل الصورة والصيغة وحدها. وذلك نحو قولهم : أحببته وحبّ ، وأزكمه الله وزكم ، وأضأده الله وضئد ، وأملاه الله وملئ.

قال أبو علىّ : فهذا يدلّك على تمكّن المفعول عندهم ، وتقدّم حاله فى أنفسهم ؛ إذ أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو للفاعل.

وهذا ضرب من تدريج اللغة عندهم الذى قدّمت بابه ؛ ألا ترى أنهم لمّا غيروا الصيغة والعدّة واحدة فى نحو ضرب وضرب و (شتم وشتم) تدرّجوا من ذلك إلى أن غيّروا الصيغة مع نقصان العدّة ؛ نحو أزكمه الله وزكم ، وآرضه الله وأرض.

فهذا كقولهم فى حنيفة : حنفىّ ، لمّا حذفوا هاء حنيفة حذفوا أيضا ياءها ؛ ولمّا لم يكن فى حنيف تاء تحذف فتحذف لها الياء صحّت الياء ، فقالوا فيه : حنيفىّ. وقد تقدّم القول على ذلك.

وهذا الموضع هو الذى دعا أبا العباس أحمد بن يحيى فى كتاب فصيحه أن أفرد له بابا ، فقال : هذا باب فعل ـ بضمّ الفاء ـ نحو قولك : عنيت بحاجتك وبقيّة الباب. إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى المفعول ولا تسند إلى الفاعل فى اللغة الفصيحة ؛ ألا تراهم يقولون : نخى زيد ؛ من النخوة ولا يقال : نخاه كذا ، ويقولون (امتقع لونه ولا يقولون : امتقعه كذا ، ويقولون) : انقطع بالرجل ولا يقولون انقطع به كذا. فلهذا جاء بهذا الباب ، أى ليريك أفعالا خصّت بالإسناد إلى المفعول دون الفاعل ؛ كما خصّت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول ؛ نحو قام زيد ، وقعد جعفر ، وذهب محمد ، وانطلق بشر. ولو كان غرضه أن يريك صورة ما لم يسمّ فاعله مجملا غير مفصّل على ما ذكرنا لأورد فيه نحو ضرب وركب وطلب وقتل وأكل وسمل وأكرم وأحسن إليه واستقصى عليه.

٢١

وهذا يكاد يكون إلى ما لا نهاية [له].

فاعرف هذا الغرض ؛ فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة.

ونظير مجىء اسم المفعول هاهنا على حذف الزيادة ـ نحو أحببته فهو محبوب ـ مجىء اسم الفاعل على حذفها أيضا ، وذلك نحو قولهم : أورس (١) الرمث فهو وارس ، وأيفع الغلام فهو يافع ، وأبقل المكان فهو باقل ؛ قال الله عزوجل : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] وقياسه ملاقح ؛ لأن الريح تلقح السحاب فتستدرّه ، وقد يجوز أن يكون على لقحت هى ، فإذا لقحت فزكت ألقحت السحاب ، فيكون هذا ممّا اكتفى فيه بالسبب من المسبّب. وضدّه قول الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] أى فإذا أردت قراءة القرآن ، فاكتفى بالمسبّب الذى هو القراءة من السبب الذى هو الإرادة. وقد جاء عنهم مبقل ، حكاها أبو زيد. وقال دواد ابن أبى دواد لأبيه فى خبر لهما ، وقد قال له أبوه ما أعاشك بعدى؟

أعاشنى بعدك واد مبقل

آكل من حوذانه وأنسل (٢)

وقد جاء أيضا حببته ، قال [الشاعر] :

ووالله لو لا تمره ما حببته

ولا كان أدنى من عبيد ومشرق (٣)

ونظير مجىء اسم الفاعل والمفعول جميعا على حذف الزيادة فيما مضى مجىء المصدر أيضا على حذفها ؛ نحو قولهم جاء زيد وحده. فأصل هذا أوحدته بمرورى إيحادا ، ثم حذفت زيادتاه فجاء على الفعل. ومثله قولهم : عمرك الله إلا فعلت أى عمّرتك الله تعميرا. ومثله قوله :

__________________

(١) أورس : أى اصفرّ ورقه. والرمث : شجر ترعاه الإبل.

(٢) الرجز لدؤاد بن أبى دؤاد فى لسان العرب (عيش) ، (بقل) ، وتاج العروس (عيش) ، (بقل) ، وسمط اللآلى ص ٥٧٣ ، ولأبى ذؤيب الهذلى فى زيادات شرح أشعار الهذليين ص ١٣١٢ ، ولسان العرب (نسل) ، وتاج العروس (نسل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (حوذ).

(٣) البيت من الطويل ، وهو لعيلان بن شجاع النهشلى فى لسان العرب (حبب) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤١٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٢٩ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٨٠ ، وشرح المفصل ٧ / ١٣٨ ، ومغنى اللبيب ١ / ٣٦١.

٢٢

*بمنجرد قيد الأوابد هيكل (١) *

أى تقييد الأوابد ثم حذف زائدتيه ؛ وإن شئت قلت : وصف بالجوهر لما فيه من معنى الفعل ؛ نحو قوله :

فلولا الله والمهر المفدّى

لرحت وأنت غربال الإهاب (٢)

فوضع الغربال موضع مخرّق. وعليه ما أنشدناه عن أبى عثمان :

*مئبرة العرقوب إشفى المرفق (٣) *

أى دقيقة المرفق. (وهو كثير).

فأمّا قوله :

*وبعد عطائك المائة الرتاعا (٤) *

__________________

(١) عجز البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ١٩ ، وإصلاح المنطق ص ٣٧٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٥٦ ، ٢٤٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٦٦ ، ٦٨ ، ٣ / ٥١ ، ولسان العرب (قيد) (هكل) وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤١٠ ، ٣ / ٤١ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٥٠ ، ورصف المبانى ص ٣٩٢ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٦٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٨٧ ، والمحتسب ١ / ١٦٨ ، ٢ / ٢٤٣ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٤٦٦. وصدر البيت :

*وقد أغتدى والطّير فى وكناتها*

(٢) البيت من الوافر ، وهو لمنذر بن حسان فى المقاصد النحوية ٣ / ١٤٠ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤١١ ، وديوان المعانى ٢ / ٢٤٩ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٦٢ ، والدرر ٥ / ٢٩١ ، ولسان العرب (عنكب) ، (قيد) (غربل) ، والممتع فى التصريف ص ٧٤.

(٣) الرجز فى الممتع فى التصريف ١ / ٧٤ ، والمخصص ١ / ٨١ ، ١٥ ، ١٠٦ ، وتاج العروس (شفى) ، ولسان العرب (أذن) ، (شفى). الإشفى فى الأصل مخرز الإسكاف. والمئبرة : الإبرة. يهجو امرأة.

(٤) عجز البيت من الوافر ، وهو للقطامىّ فى ديوانه ص ٣٧ ، وتذكرة النحاة ص ٤٥٦ ، وخزانة الأدب ٨ / ١٣٦ ، ١٣٧ ، والدرر ٣ / ٦٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٦٤ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٤٩ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٩٥ ، ولسان العرب (رهف) ، (عطا) ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٧٩ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٠٥ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤١١ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢١١ ، والدرر ٥ / ٢٦٢ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٣٦ ، وشرح شذور الذهب ص ٥٢٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٤١٤ ، ولسان العرب (سمع) ، (غنا) ، وهمع الهوامع ١ / ١٨٨ ، ٢ / ٩٥. وصدر البيت :

*أكفرا بعد ردّ الموت عنّى*

٢٣

فليس على حذف الزيادة ؛ ألا ترى أن فى عطاء ألف إفعال الزائدة. ولو كان على حذف الزيادة لقال : وبعد عطوك ، فيكون كوحده. وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

ولمّا كان الجمع مضارعا للفعل بالفرعيّة فيهما جاءت فيه أيضا ألفاظ على حذف الزيادة التى كانت فى الواحد. وذلك نحو قولهم : كروان وكروان ، وورشان وورشان. فجاء هذا على حذف زائدتيه ، حتى كأنه صار إلى فعل ، فجرى مجرى خرب وخربان ، وبرق وبرقان ؛ قال :

*أبصر خربان فضاء فانكدر (١) *

وأنشدنا لذى الرمّة :

من آل أبى موسى ترى الناس حوله

كأنهم الكروان أبصرن بازيا (٢)

ومنه تكسيرهم فعالا على أفعال ؛ حتى كأنه إنما كسّر فعل ، وذلك نحو جواد وأجواد ، وعياد وأعياد [وحياء وأحياء] وعراء (٣) ، وأنشدنا :

* أو مجن عنه عربت أعراؤه (٤) *

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٤٢ ، ٤٣ ، ولسان العرب (ضبر) ، (ظفر) ، (عمر) ، وأدب الكاتب ص ٤٨٧ ، والأشباه والنظائر ١ / ٤٨ ، وإصلاح المنطق ص ٣٠٢ ، والدرر ٦ / ٢٠ ، وشرح المفصل ١٠ / ٢٥ ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٧٤ ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٥٨ ، وتاج العروس (ضبر) ، (ظفر) ، (عمر) ، (كدر) ، ١٥٨ ، ٤ / ١٣٢ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٩ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٨٧٩ ، والمقرب ٢ / ١٧١ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٢١ ، والمخصّص ٨ / ١٣٢ ، ٩ / ١٤٣ ، ١١ / ١٢ ، ١٢ / ٣٠١ ، ١٣ / ٢٨٩ ، وديوان الأدب ٢ / ٤٠٢ ، وتاج العروس (خرب) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢٥٢. وبعده :

*شاكى الكلاليب إذا أهوى اظّفر*

(٢) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص ١٣١٣ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٤١٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٧٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٥٣ ، والمنصف ٣ / ٧٢.

(٣) حياء وأحياء : والحياء للناقة رحمها وفرجها. وعراء وأعراء : هو ما استوى من ظهر الأرض ، أو هو المكان الخالى.

(٤) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ٣ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (عرا) ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٥٩. ويروى : عرّيت بدلا من : عربت.

٢٤

فيجوز أن يكون جمع عراء ، ويجوز أن يكون جمع عرى ، ويجوز أن يكون جمع عرا ، من قولهم : نزل بعراه أى ناحيته.

ومن ذلك قولهم : نعمة وأنعم ، وشدّة وأشدّ فى قول سيبويه : جاء ذلك على حذف التاء ؛ كقولهم : ذئب وأذؤب ، وقطع وأقطع ، وضرس وأضرس ؛ قال :

*وقرعن نابك قرعة بالأضرس*

وذلك كثير جدّا.

وما يجيء مخالفا ومنتقضا أوسع من ذلك ؛ إلا أنّ لكل شيء منه عذرا وطريقا.

وفصل للعرب طريف ؛ وهو إجماعهم على مجىء عين مضارع فعلته إذا كانت من فاعلنى مضمومة ألبتّة. وذلك نحو قولهم : ضاربنى فضربته أضربه ، وعالمنى فعلمته أعلمه ، وعاقلنى ـ من العقل ـ فعقلته أعقله ، وكارمنى فكرمته أكرمه ، وفاخرنى ففخرته أفخره ، وشاعرنى فشعرته أشعره. وحكى الكسائىّ : فاخرنى ففخرته أفخره ـ بفتح الخاء ـ وحكاها أبو زيد أفخره ـ بالضم ـ على الباب. كل هذا إذا كنت أقوم بذلك الأمر منه.

ووجه استغرابنا له أن خصّ مضارعه بالضمّ. وذلك أنا قد دللنا على أنّ قياس باب مضارع فعل أن يأتى بالكسر ؛ نحو ضرب يضرب وبابه ، وأرينا وجه دخول يفعل على يفعل فيه ، نحو قتل يقتل ، ونخل ينخل ، فكان الأحجى به هنا إذ أريد الاقتصار به على أحد وجهيه أن يكون ذلك الوجه هو الذى كان القياس مقتضيا له فى مضارع فعل ؛ وهو يفعل بكسر العين. وذلك أن العرف والعادة إذا أريد الاقتصار على أحد الجائزين أن يكون ذلك المقتصر عليه هو أقيسهما فيه ؛ ألا تراك تقول فى تحقير أسود وجدول : أسيّد وجديّل بالقلب ، وتجيز من بعد الإظهار وأن تقول : أسيود وجديول ، فإذا صرت إلى باب مقام وعجوز اقتصرت على الإعلال ألبتّة فقلت : مقيّم وعجيّز ، فأوجبت أقوى القياسين لا أضعفهما ؛ وكذلك نظائره.

فإن قلت : فقد تقول : فيها رجل قائم ، وتجيز فيه النصب ، فتقول : فيها رجل قائما ؛ فإذا قدّمت أوجبت أضعف الجائزين. فكذلك أيضا تقتصر فى هذه الأفعال

٢٥

ـ نحو أكرمه وأشعره ـ على أضعف الجائزين وهو الضمّ.

قيل : هذا إبعاد فى التشبيه. وذلك أنك لم توجب النصب فى (قائما) من قولك : فيها رجل قائما ، و (قائما) هذا متأخّر عن رجل فى مكانه فى حال الرفع ، وإنما اقتصرت على النصب فيه لمّا لم يجز فيه الرفع أو لم يقو ، فجعلت أضعف الجائزين واجبا ضرورة لا اختيارا ؛ وليس كذلك كرمته أكرمه ؛ لأنه لم ينقض شيء عن موضعه ، ولم يقدّم ولم يؤخّر. ولو قيل : كرمته أكرمه لكان كشتمته أشتمه ، وهزمته أهزمه.

وكذلك القول فى نحو قولنا : ما جاءنى إلا زيدا أحد فى إيجاب نصبه ، وقد كان النصب لو تأخر (زيد) أضعف الجائزين فيه إذا قلت : ما جاءنى أحد إلا زيدا ، الحال فيهما واحدة ، وذلك أنك لمّا لم تجد مع تقديم المستثنى ما تبدله منه عدلت به ـ للضرورة ـ إلى النصب الذى كان جائزا فيه متأخّرا. هذا كنصب (فيها قائما رجل) البتّة ، والجواب عنهما واحد.

وإذا كان الأمر كذلك فقد وجب البحث عن علّة مجىء هذا الباب فى الصحيح كله بالضم ؛ نحو أكرمه وأضربه.

وعلّته عندى أن هذا موضع معناه الاعتلاء والغلبة ، فدخله بذلك معنى الطبيعة والنحيزة التى تغلب ولا تغلب ، وتلازم ولا تفارق. وتلك الأفعال بابها : فعل يفعل ؛ نحو فقه يفقه إذا أجاد الفقه ، وعلم يعلم إذا أجاد العلم. وروينا عن أحمد ابن يحيى عن الكوفيين : ضربت اليد يده ، على وجه المبالغة.

وكذلك نعتقد نحن أيضا فى الفعل المبنىّ منه فعل التعجب أنه قد نقل عن فعل وفعل إلى فعل ، حتى صارت له صفة التمكّن والتقدّم ، ثم بنى منه الفعل ؛ فقيل : ما أفعله ؛ نحو ما أشعره ، إنما هو من شعر ، وقد حكاها أيضا أبو زيد. وكذلك ما أقتله وأكفره : هو عندنا من قتل وكفر تقديرا ، وإن لم يظهر فى اللفظ استعمالا.

فلمّا كان قولهم : كارمنى فكرمته أكرمه وبابه صائرا إلى معنى فعلت أفعل أتاه الضمّ من هناك. فاعرفه.

فإن قلت : فهلا لمّا دخله هذا المعنى تمّموا فيه الشبه ، فقالوا : ضربته أضربه

٢٦

وفخرته أفخره (ونحو ذلك؟).

قيل : منع من ذلك أنّ فعلت لا يتعدّى إلى المفعول به أبدا ، ويفعل قد يكون فى المتعدّى كما يكون فى غيره ؛ ألا ترى إلى قولهم : سلبه يسلبه ، وجلبه يجلبه ، ونخله ينخله ، فلم يمنع من المضارع ما منع من الماضى ، فأخذوا منهما ما ساغ ، واجتنبوا ما لم يسغ.

فإن قلت : فقد قالوا : قاضانى فقضيته أقضيه ، وساعانى فسعيته أسعيه؟ قيل : لم يكن من (يفعله) هاهنا بدّ ، مخافة أن يأتى على يفعل فينقلب الياء واوا ، وهذا مرفوض فى هذا النحو من الكلام.

وكما لم يكن من هذا بدّ هاهنا لم يجئ أيضا مضارع فعل منه ممّا فاؤه واو بالضم بل جاء بالكسر ، على الرسم وعادة العرب. فقالوا : واعدنى فوعدته أعده ، وواجلنى فوجلته أجله ، وواضأنى فوضأته ، أضؤه. فهذا كوضعته ـ من هذا الباب ـ أضعه.

ويدلّك على أن لهذا الباب أثرا فى تغييره باب فعل فى مضارعه قولهم : ساعانى فسعيته أسعيه ، ولم يقولوا : أسعاه على قولهم : سعى يسعى لمّا كان مكانا قد رتّب وقرّر وزوى عن نظيره فى غير هذا الموضع.

فإن قلت : فهلا غيّروا ما فاؤه واو ؛ كما غيّروا ما لامه ياء فيما ذكرت ، فقالوا : واعدنى فوعدته أوعده ؛ لما دخله من المعنى المتجدّد؟.

قيل : (فعل) مما فاؤه واو لا يأتى مضارعه أبدا بالضمّ ، إنما هو بالكسر ، نحو وجد يجد ، ووزن يزن ، وبابه ، وما لامه ياء فقد يكون على يفعل ، كيرمى ويقضى ، وعلى يفعل ، كيرعى ويسعى. فأمر الفاء إذا كانت واوا فى فعل أغلظ حكما من أمر اللام إذا كانت ياء. فاعرف ذلك فرقا.

* * *

٢٧

باب فى تدافع الظاهر

هذا نحو من اللغة له انقسام.

فمن ذلك استحسانهم لتركيب ما تباعدت مخارجه من الحروف ؛ نحو الهمزة مع النون ، والحاء مع الباء ؛ نحو آن ونأى ، وحبّ وبحّ ، واستقباحهم لتركيب ما تقارب من الحروف ؛ وذلك نحو صس وسص ، وطث وثط. ثم إنا من بعد نراهم يؤثرون فى الحرفين المتباعدين أن يقرّبوا أحدهما من صاحبه ويدنوه إليه ؛ وذلك نحو قولهم فى سويق : صويق ، وفى مساليخ : مصاليخ ، وفى السوق : الصوق ، وفى اصتبر : اصطبر ، وفى ازتان : ازدان ، ونحو ذلك مما أدنى فيه الصوتان أحدهما من الآخر ، مع ما قدّمناه : من إيثارهم لتباعد الأصوات ؛ إذ كان الصوت مع نقيضه أظهر منه مع قرينه ولصيقه ؛ ولذلك كانت الكتابة بالسواد فى السواد خفيّة ، وكذلك سائر الألوان.

والجواب عن ذلك أنهم قد علموا أن ادّغام الحرف فى الحرف أخفّ عليهم من إظهار الحرفين ؛ ألا ترى أن اللسان ينبو عنهما معا نبوة واحدة ، نحو قولك : شدّ وقطّع وسلّم ؛ ولذلك ما حقّقت الهمزتان إذا كانتا عينين ؛ نحو سآل ورءاس ، ولم تصحّا فى الكلمة الواحدة غير عينين ؛ ألا ترى إلى قولهم : آمن وآدم ، وجاء ، وشاء ، ونحو ذلك. فلأجل هذا ما قال يونس فى الإضافة إلى مثنّى : مثنّوىّ.

فأجرى المدغم مجرى الحرف الواحد ، نحو نون مثنى إذا قلت : مثنوىّ ؛ قال الشاعر :

*حلفت يمينا غير ذى مثنويّة (١) *

ولأجل ذلك كان من قال : (هم قالوا) فاستخف بحذف الواو ، ولم يقل فى

__________________

(١) صدر البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٤١ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٢٣ ، ٣٣٠ ، ٦ / ٢٨٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥١ ، والكتاب ٢ / ٣٢٢ ، واللمع فى العربية ص ١٥١. وعجز البيت :

* ولا علم إلا حسن ظنّ بصاحب*

٢٨

(هنّ قلن) إلا بالإتمام.

ولذلك كان الحرف المشدّد إذا وقع رويّا فى الشعر المقيّد خفّف ؛ كما يسكّن المتحرك إذا وقع رويّا فيه. فالمشدّد نحو قوله :

أصحوت اليوم أم شاقتك هرّ

ومن الحبّ جنون مستعر (١)

فقابل براء (هرّ) راء (مستعر) وهى خفيفة أصلا. وكذلك قوله :

ففداء لبنى قيس على

ما أصاب الناس من سوء وضرّ

ما أقلّت قدمى إنهم

نعم الساعون فى الأمر المبرّ (٢)

وأمثاله كثيرة. والمتحرّك (نحو قول رؤبة) :

*وقاتم الأعماق خاوى المخترق (٣) *

ونحو ذلك ممّا كان مفردا محرّكا فأسكنه تقييد الروىّ.

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو لطرفة بن العبد فى ديوانه ص ٥٠ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ١٥٩ ، ورصف المبانى ص ٤٣٦ ، ولسان العرب (هرر). هرّ : اسم امرأة.

(٢) الرمل ، وهو لطرفة بن العبد فى ديوانه ص ٥٨ ، والإنصاف ١ / ١٢٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، والدرر ٥ / ١٩٦ ، ولسان العرب (نعم) ، والمحتسب ١ / ٣٤٢ ، ٣٥٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٤ ، والمقتضب ٢ / ١٤٠. ويروى البيت الثانى منهما : قدم فاعلها بدلا من : قدمى إنهم. الأمر المبرّ : الغالب الذى يعجز الناس.

(٣) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١٠٤ ، والأغانى ١٠ / ١٥٨ ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٨ ، ٦١٤ ، ٩٤١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٥ ، والدرر ٤ / ١٩٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٥٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢٣ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٦٤ ، ٧٨٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٧٢ ، ٥ / ٥٨ ، وأساس البلاغة (قتم) ، ولسان العرب (خفق) ، (عمق) ، (غلا) ، ومغنى اللبيب ١ / ٣٤٢ ، والمقاصد النحوية ١ / ٣٨ ، والمنصف ٢ / ٣ ، ٣٠٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٦ ، وتهذيب اللغة ١ / ٢٩٠ ، ٩ / ٦٦ ، وتاج العروس (هرجب) ، (خفق) ، (عمق) ، (كلل) ، ورصف المبانى ص ٣٥٥ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٤٩٣ ، ٥٠٢ ، ٦٣٩ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٧٢ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٨ ، والعقد الفريد ٥ / ٥٠٦ ، والكتاب ٤ / ١١٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٠ ، وكتاب العين ١ / ١٨٨ ، وتاج العروس (وجه). وبعده :

*مشتبه الأعلام لمّاع الخفق*

٢٩

ومن ذلك أن تبنى مما عينه واو مثل فعّل فتصحّ العين للادغام ؛ نحو قوّل وقوّم ، فتصحّ العين للتشديد ؛ كما تصحّ للتحريك فى نحو قولهم : عوض وحول وطول.

فلمّا كان فى ادّغامهم الحرف فى الحرف ما أريناه من استخفافهم إياه صار تقريبهم الحرف (من الحرف) ضربا من التطاول إلى الادغام. وإن لم يصلوا إلى ذلك فقد حاولوه واشرأبّوا نحوه ؛ إلا أنهم مع هذا لا يبلغون بالحرف المقرّب من الآخر أن يصيّروه إلى أن يكون من مخرجه ؛ لئلا يحصلوا من ذلك بين أمرين كلاهما مكروه.

أمّا أحدهما فأن يدغموا مع بعد الأصلين ؛ وهذا بعيد.

وأمّا الآخر فأن يقرّبوه منه حتّى يجعلوه من مخرجه ثم لا يدغموه ؛ وهذا كأنّه انتكاث وتراجع ؛ لأنه إذا بلغ من قربه إلى أن يصير من مخرجه وجب إدغامه ؛ فإن لم يدغموه حرموه المطلب المروم فيه ؛ ألا ترى أنك إذا قرّبت السين فى سويق من القاف بأن تقلبها صادا فإنك لم تخرج السين من مخرجها ، ولا بلغت بها مخرج القاف فيلزم ادّغامها فيها. فأنت إذا قد رمت تقريب الإدغام المستخفّ ، لكنك لم تبلغ الغاية التى توجبه عليك ، وتنوط أسبابه بك.

وكذلك إذا قلت فى اصتبر : اصطبر ، فأنت قد قرّبت التاء من الصاد بأن قلبتها إلى أختها فى الإطباق والاستعلاء ، والطاء مع ذلك من جملة مخرج التاء.

وكذلك إذا قلت فى مصدر : مزدر ، فأخلصت الصاد زايا. قد قرّبتها من الدال بما فى الزاى من الجهر ، ولم تختلجها عن مخرج الصاد. وهذه أيضا صورتك إذا أشممتها رائحة الزاى فقلت : مصدر ، هذا المعنى قصدت ، إلا أنك لم تبلغ بالحرف غاية القلب الذى فعلته مع إخلاصها زايا.

فإن كان الحرفان جميعا من مخرج واحد ، فسلكت هذه الطريق فليس إلا أن تقلب أحدهما إلى لفظ الآخر البتّة ، ثم تدغم لا غير. وذلك نحو اطّعن القوم ؛ أبدلت تاء اطتعن طاء البتة ثم ادّغمتها فيها لا غير. وذلك أن الحروف إذا كانت من (مخرج واحد ضاقت مساحتها أن تدنى بالتقريب منها ؛ لأنها إذا كانت معها من) مخرجها فهى الغاية فى قربها ؛ فإن زدت على ذلك شيئا فإنما هو أن تخلص الحرف

٣٠

إلى لفظ أخيه البتة ، فتدغمه فيه لا محالة.

فهذا وجه التقريب مع إيثارهم الإبعاد.

ومن تدافع الظاهر ما نعلمه من إيثارهم الياء على الواو. وذلك لويت ليّا ، وطويت طيّا ، وسيّد ، وهيّن (وطىّ) وأغريت (١) ودانيت واستقصيت ، ثم إنهم مع ذلك قالوا : الفتوى ، والتقوى والثنوى ، فأبدلوا الياء واوا عن غير قوّة علّة أكثر من الاستحسان والملاينة.

والجواب عن هذا أيضا أنهم ـ مع ما أرادوه من الفرق بين الاسم والصفة على ما قدمناه ـ أنهم أرادوا أن يعوّضوا الواو من كثرة دخول الياء عليها.

ومثله فى التعويض لا الفرق قولهم : تقىّ ، وتقواء ، ومضى على مضوائه (٢) ، وهذا أمر ممضوّ عليه.

ونحوه فى الإغراب قولهم : عوى الكلب عوّة ، وقياسه عيّة. وقالوا فى العلم للفرق بينه وبين الجنس : حيوة ، وأصله حيّة ، فأبدلوا الياء واوا. وهذا ـ مع إيثارهم خصّ العلم بما ليس للجنس ـ إنما هو لما قدّمنا ذكره : من تعويض الواو من كثرة دخول الياء عليها.

فلا ترينّ من ذلك شيئا ساذجا عاريا من غرض وصنعة.

ومن ذلك استثقالهم المثلين ، حتى قلبوا أحدهما فى نحو أمليت ـ وأصلها أمللت ـ وفيما حكاه أحمد بن يحيى ـ أخبرنا به أبو علىّ عنه ـ من قولهم : لا وربيك لا أفعل ، يريدون : لا وربّك لا أفعل. نعم ، وقالوا فى أشدّ من ذا :

ينشب فى المسعل واللهاء

أنشب من مآشر حداء (٣)

__________________

(١) أصل المادة الغراء وهو يفيد اللصوق ، فإذا قيل : أغرى بينهم العداوة أى ألصقها بهم.

(٢) المضواء : التقدّم.

(٣) الرجز لأبى مقدام الراجز فى سمط اللآلى ص ٨٧٤ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٦٥٩ ، والمخصّص ١ / ١٥٧ ، ١١ / ١٣١ ، ١٥ / ١٥٢ ، وله أو لأعرابى فى البادية فى الدرر ٦ / ٢٢٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٠٧ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٧٤٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٦٢٨ ، ولسان العرب (حدد) ، (شيش) ، (لها) ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، وتهذيب اللغة ٦ / ٤٣٠ ، وديوان الأدب ٣ / ٣٨١ ، وتاج العروس (شيش) ، (لها).

٣١

قالوا : يريد : حداد ، فأبدل الحرف الثانى وبينهما ألف حاجزة ، ثم قال مع هذا :

لقد تعلّلت على أيانق

صهب قليلات القراد اللازق (١)

فجمعوا بين ثلاثة أمثال مصحّحة ، وقالوا : تصبّبت عرقا.

وقال العجّاج :

*إذا حجاجا مقلتيها هجّجا (٢) *

وأجازوا فى مثل فرزدق من رددت رددّد ، فجمعوا بين أربع دالات ، وكرهوا أيضا حنيفىّ ، ثم جمعوا بين أربع ياءات ، فقال بعضهم : أميّىّ وعديّىّ ، وكرهوا أيضا أربع ياءات بينهما حرف صحيح حتى حذفوا الثانية منها. وذلك قولهم فى الإضافة إلى أسيّد : أسيدىّ. ثم إنهم جمعوا بين خمس ياءات مفصولا بينها بالحرف الواحد. وذلك قولهم فى الإضافة إلى مهيّم مهيّيميّ (٣). ولهذه الأشياء أخوات ونظائر كثيرة.

والجواب عن كل فصل من هذا حاضر.

أمّا أمليت فلا إنكار لتخفيفه بإبداله.

وأما (تعللت) و (هججا) ونحو ذلك مما اجتمعت فيه ثلاثة أمثال فخارج على أصله ، وليس من حروف العلّة فيجب تغييره. والذى فعلوه فى (أمليت) و (لا

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (قرد) ، وتاج العروس (قرد) ، والمخصص (١ / ٣١ ، ٩ / ١٧١ ، ١٤ / ١١٨ ، ١٧ / ١٤٥). وبعده :

*وذات ألياط ومخّ زاهق*

(٢) الرجز للعجاج فى ديوانه ٢ / ٤٩ ، ولسان العرب (دلج) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٩٤ ، ١١٧٤. وبعده :

*واجتاب أدمان الفلاة الدّولجا*

الحجاج ـ بفتح الحاء وكسرها ـ : منبت شعر الحاجب من العين. وهجج البعير : أى غارت عينه من جوع أو عطش أو إعياء غير خلقة.

(٣) هو تصغير مهوم ، وهو وصف من هوّم الرجل إذا نام. والياء الساكنة بعد ياء التصغير للتعويض من حذف إحدى الواوين. انظر الكتاب ٢ / ٨٦ ، وشرح الشافية ٢ / ٣٤.

٣٢

وربيك لا أفعل) و (أنشب من مآشر حداء) لم يكن واجبا فيجب هذا أيضا ، وإنما غيّر استحسانا ، فساغ ذلك فيه ، ولم يكن موجبا لتغيير كل ما اجتمعت فيه أمثال ؛ ألا ترى أنهم لمّا قلبوا ياء طىّء ألفا فى الإضافة فقالوا : طائىّ لم يكن ذلك واجبا فى نظيره ؛ لمّا كان الأوّل مستحسنا.

وأمّا حنفىّ فإنهم لمّا حذفوا التاء شجعوا أيضا على حذف الياء ، فقالوا : حنفىّ.

وليس كذلك عديّىّ وأمّيّىّ فيمن أجازها ؛ (ألا ترى) عديّا لمّا جرى مجرى الصحيح فى اعتقاب حركات الإعراب عليه ـ نحو عدىّ وعديا وعدىّ ـ جرى مجرى حنيف ، فقالوا : عدّيىّ ؛ كما قالوا : حنيفىّ. وكذلك أميّىّ أجروه مجرى نميرىّ وعقيلىّ. مع هذا فليس أميّىّ وعديىّ بأكثر فى كلامهم. وإنما يقولها بعضهم.

وأمّا جمعهم فى مهيّيميّ بين خمس ياءات وكراهيتهم فى أسيدىّ أربعا فلأن الثانية من أسيدىّ لمّا كانت متحركة وبعدها حرف متحرك قلقت لذلك وجفت. ولمّا تبعتها فى مهييميّ ياء المدّ لانت ونعمت. وذلك من شأن المدّات. ولذلك استعملن فى الأرداف والوصول والتأسيس والخروج ، وفيهنّ يجرى الصوت للغناء والحداء والترنّم والتطويح.

وبعد فإنهم إذا خفّفوا فى موضع وتركوا آخر فى نحوه كان أمثل من ألا يخففوا فى أحدهما. وكذلك جميع ما يرد عليك مما ظاهره ظاهر التدافع ؛ يجب أن ترفق به ولا تعنف عليه ولا تسرع إلى إعطاء اليد بانتقاض بابه. والقياس القياس.

* * *

٣٣

باب فى التطوع بما لا يلزم

هذا أمر قد جاء فى الشعر القديم والمولّد جميعا مجيئا واسعا.

وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه ، ليدلّ بذلك على غزرة وسعة ما عنده فمن ذلك ما أنشده الأصمعىّ لبعض الرجّاز :

وحسّد أوشلت من خظاظها

على أحاسى الغيظ واكتظاظها (١)

حتى ترى الجوّاظ من فظاظها

مذلوليا بعد شدا أفظاظها

وخطّة لا روح فى كظاظها

أنشطت عنى عروتى شظاظها (٢)

بعد احتكاء أربتى أشظاظها

بعزمة جلّت غشا إلظاظها (٣)

بجّك كرش الناب لافتظاظها (٤)

فالتزم فى جميعها ما تراه من الظاء الأولى مع كون الروىّ ظاء ، على عزّة ذلك مفردا من الظاء الأول ، فكيف به إذا انضم إليه ظاء قبله. وقلّما رأيت فى قوّة الشاعر مثل هذا.

وأنشد الأصمعىّ أيضا من مشطور السريع رائيّة طويلة التزم قائلها تصغير قوافيها فى أكثر الأمر إلا القليل النّزر. وأولها :

عزّ على ليلى بذى سدير

سوء مبيتى ليلة الغمير

__________________

(١) أوشل حظه : أقله وأخسه. والحظاظ واحده الحظ. والأحاسى كأنه جمع الحساء على غير قياس. اللسان (حظظ ، حسا).

(٢) الخطة : الخطب والأمر المهم. والروح : الراحة. والكظاظ : الملازمة على الشدة. والشظاظ : العود الذى يجعل فى عروة الجوالق. وأنشط العقدة : حلها.

(٣) الأربة : العقدة. واحتكاء الأربة أن يحكم شدها. والغشا جمع الغشوة وهى الغطاء ، والإلظاظ : لزوم الشىء والمثابرة عليه.

(٤) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (حفظ) ، (كظظ) ، (وشل) ، (حسا) ، (فظظ) ، (شظظ) ، (لظظ) ، وتاج العروس (حظظ) ، (وشل) ، (حسا) ، (فظظ) ، (كظظ).

٣٤

مقبّضا نفسىّ فى طمير

تجمّع القنفذ فى الجحير (١)

تنتهض الرعدة فى ظهيرى

يهفو إلىّ الزور من صديرى (٢)

مثل هرير الهرّ للهرير

ظمآن فى ريح وفى مطير

وأرز قرّ ليس بالقرير

من لدما ظهر إلى سحير (٣)

حتى بدت لى جبهة القمير

لأربع غبرن من شهير

ثم غدوت غرضا من فورى

وقطقط البلّة فى شعيرى (٤)

يقذفنى مور إلى ذى مور

حتى إذا ورّكت من أييرى (٥)

سواد ضيفيه إلى القصير

رأت شحوبى وبذاذ شورى (٦)

وجردبت فى سمل عفير

راهبة تكنى بأمّ الخير (٧)

جافية معوى ملاث الكور

تحزم فوق الثوب بالزنّير (٨)

تقسم استيا لها بنير

وتضرب الناقوس وسط الدير (٩)

قبل الدجاج وزقاء الطير

قالت ترثّى لى ويح غيرى

إنى أراك هاربا من جور

من هذه السلطان قلت جير

__________________

(١) الطمير مصغر الطمر ، وهو الثوب البالى.

(٢) الزور : أعلى الصدر أو وسطه ، أو هو الصدر. والمناسب هنا أحد المعنيين الأولين.

(٣) الأرز : شدة البرد. يقال : ليلة آرزة.

(٤) غرضا أى قلقا. والقطقط : صغار البرد ـ بفتح الراء ـ وهو المطر المتفرق.

(٥) المور : الطريق. «أييرى» تصغير الأير ، وهو الذكر.

(٦) الضيف فى الأصل : جانب الوادى ، استعاره للذكر. وسواد الشىء : معظمه. والبذاذ : سوء الحالة ورثاثتها. والشور : الزينة.

(٧) جردبت أى بخلت بالطعام. والجردبة فى الطعام أن يستر ما بين يديه من الطعام بشماله لئلا يتناوله غيره. والسمل : الخلق من الثياب. وعفير : أى مصبوغ بصبغ بين البياض والحمرة. انظر اللسان (عفر).

(٨) الزنير لغة فى الزنار. وهو ما يلبسه النصرانىّ يشده فى وسطه.

(٩) الأستىّ : الثوب المسدّى. نير الثوب : علمه ، والجمع أنيار ، ويجوز أن يكون أراد بنير فغير للضرورة. قال : وعسى أن يكون النّير لغة فى النّير. اللسان (نير).

٣٥

ما زلت فى منكظة وسير

لصبية أغيرهم بغير (١)

كلهم أمعط كالنغير

وأرملات ينتظرن ميرى (٢)

قالت ألا أبشر بكل خير

ودهنت وسرّحت ضفيرى

وأدمت خبزى من صيير

من صير مصرين أو البحير (٣)

وبزييت نمس مرير

وعدس قشّر من قشير (٤)

وقبصات من فغى تمير

وأتأرتنى نظرة الشفير (٥)

وجعلت تقذف بالحجير

شطرى وما شطرى وما شطيرى

حتى إذا ما استنفدت خبيرى

قامت إلى جنبى تمسّ أيرى

فزفّ رألى واستطير طيرى

وقلت حاجاتك عند غيرى (٦)

حقّرت ألا يوم قد سيرى

إذ أنا مثل الفلتان العير (٧)

حمسا ولما إضت كالنسير

وحين أقعيت على قبيرى

أنتظر المحتوم من قديرى

كلا ومن منفعتى وخيرى

بكفّه ومبدئى وحورى (٨)

__________________

(١) المنكظة : الجهد فى السفر والشدة. والغير : هو المير أى إحضار الميرة وهى الطعام يجلب.

(٢) الأمعط : من لا شعر على جسده. والنغير : طائر يشبه العصفور.

(٣) الصير : سمك مملوح يتخذ منه طعام. «مصرين» ضبط على أنه جمع وكأنه أراد مصر فجمعها باعتبار تعدد أقاليمها. وضبط أيضا بالتثنية ، وهذا هو الأقرب ويراد البصرة والكوفة. اللسان (صير ، مصر).

(٤) النمس : الفاسد المتغير.

(٥) القبصات جمع القبصة. وهو بضم القاف وفتحها : ما تناولته بأطراف أصابعك. والفغى : الردىء. ويقال : أتأره بصره : أتبعه إياه. والشفير تصغير الشفر ، وهو للعين ما نبت عليه الشعر.

(٦) الرأل : ولد النعام ، ويقال زف رأله إذا فزع ونفر ، واستطير طيره : كناية عن فزعه.

(٧) قد سيره قد يريد به أنه طليق غير مقيد فقد قطع قيده ، أو يريد جدته بجدة سيره. والعير : الحمار الوحشىّ. والفلتان : الجرىء ، ويقال فرس فلتان : نشيط.

(٨) البيت الأول منها من الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (سدر) ، وتاج العروس (سدر). وهذه ـ ـ القصيدة مجهولة القائل. الحور : الرجوع.

٣٦

أفلا ترى إلى قلّة غير المصغّر فى قوافيها. وهذا أفخر ما فيها ، وأدلّه على قوّة قائلها ، وأنه إنما لزم التصغير فى أكثرها سباطة وطبعا ، لا تكلفا وكرها ؛ ألا ترى أنه لو كان ذلك منه تجشّما وصنعة لتحامى غير المصغّر ليتمّ له غرضه ، ولا ينتقض عليه ما اعتزمه.

وكذلك ما أنشده الأصمعىّ من قول الآخر :

قالوا ارتحل فاخطب فقلت هلا

إذ أنا روقاى معا ما انفلا (١)

وإذ أؤلّ المشى ألا ألا

وإذ أرى ثوب الصبا رفلا (٢)

علىّ أحوى نديا مخضلا

حتى إذا ثوب الشباب ولّى

وانضمّ بدن الشيخ واسمألا

وانشنج العلباء فاقفعلا (٣)

مثل نضىّ السقم حين بلا

وحرّ صدر الشيخ حتى صلا (٤)

على حبيب بان إذ تولى

غادر شغلا شاغلا وولّى

قلت تعلّق فيلقا هوجلا

عجّاجة هجاجة تألىّ (٥)

لأصبحنّ الأحقر الأذلا

وأن أعلّ الرّغم علا علا

فإن أقل يا ظبى حلا حلا

تقلق وتعقد حبلها المنحلا

وحملقت حولىّ حتى احولا

مأقان كرهان لها واقبلا

إذا أتت جاراتها تفلّى

تريك أشغى قلحا أفلا (٦)

__________________

(١) روقاى : قرناى. والانفلال : الانثلام.

(٢) أل المشى : أسرع فيه واهتز. ويقال ثوب رفل : أى طويل.

(٣) اسمأل : ضمر. وانشنج : تقبض. والعلباء : عصب العنق. واقفعل : يبس من الكبر.

(٤) النضى : الذى أبلاه السفر. يقال : بل من مرضه : شفى ونجا. وحرّ صدره : اشتدت حرارته ، ويقال صل صليلا : صوت.

(٥) الفيلق : الصخابة ، والهوجل : المرأة الفاجرة. والعجاجة : الصياحة. الهجاجة : الحمقاء.

(٦) أشغى وصف من الشغا ، وهو اختلاف نبتة الأسنان بالطول والقصر.

٣٧

مركّبا راووله مثعلا

كأنّ كلبا لثقا مبتلا (١)

وغلقة معطونة وجلا

أنداه يوم ما طر فطلا (٢)

وعلهبا من التيوس علا

يغلّ تحت الردن منها غلا (٣)

منتوفة الوجه كأنّ ملا

يملّ وجه العرس فيه ملا (٤)

كأن صابا آل حتى امطلا

تسفّه وشبرما وخلا (٥)

إن حلّ يوما رحله محلا

حمولها أزجت إليه صلا (٦)

وعقربا تمتلّ ملا ملا

ذاك وإن ذو رحمها استقلا (٧)

من عثرة ماتت جوى وسلا

أو كثر الشىء له أو قلا

قالت لقد أثرى فلا تملّى

وإن تقل يا ليته استبلا

من مرض أحرضه وبلا

تقل : لأنفيه ولا تعلّى

تسرّ إن يلق البلاد فلا

مجروزة نفاسة وغلا (٨)

وإن وصلت الأقرب الأخلا

جنّت جنونا واستخفّت قلا (٩)

وأجللت من ناقع أفكلا

إذا ظبىّ الكنسات انغلا (١٠)

__________________

(١) الراوول : السن الزائدة لا تنبت على نبتة الأضراس. والمثعل من الثعل. وهو دخول سن تحت أخرى. واللثق : المبتل الندى.

(٢) الغلقة : عشبة تنقع فى مائها الجلود فيزول ما عليها. والجل : ما تلبسه الدابة لتصان به.

(٣) العلهب : التيس من الظباء. والعل : الضخم من التيوس. والردن : أصل الكم.

(٤) المل : الرماد الحار الذى يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج. ويقال : مل الشىء فى الجمر : أدخله فيه.

(٥) آل : خثر. امطلّ : امتد. والشبرم : نبات له حب كالعدس.

(٦) الصل : الداهية ، وأصله : الحية. يريد أنها آذته أبلغ إيذاء.

(٧) تمتل : تسرع. واستقل من العثرة : نهض منها وارتفع.

(٨) الفل : الأرض القفرة. وأرض مجروزة : لا تنبت. نفاسة : مصدر قولك نفس عليه الشىء : لم يره أهلا له.

(٩) الأخل : المعدم المحتاج. والقل : الرعدة.

(١٠) الأفكل : الرعدة. والكنسات : جمع الكنس ـ بوزن الكتب ـ جمع الكناس ، وهو ما يستكن فيه الوحش من الظباء والبقر. وانغل : دخل. اللسان (كنس).

٣٨

تحت الإران سلبته الظلا

وإن رأت صوت السباب علىّ (١)

سحابة ترعد أو قسطلا

أجّت إليه عنقا مئلا (٢)

أجّ الظليم رعته فانشلا

ترى لها رأسا وأى قندلا (٣)

لو تنطح الكنادر العتلا

الكندر الزوازى الصملا (٤)

الصتم والشنظيرة المتلا

فضّت شئون رأسه وافتلا (٥)

تقول لابنيها إذا ما سلا

سليلة من سرق أو غلا

أو فجعا جيرتها فشلا

وسيقة فكرّشا وملا (٦)

أحسنتما الصنع فلا تشلا

لا تعدما أخرى ولا تكلا

يا ربّ ربّ الحجّ إذ أهلا

محرمه ملبّيا وصلّى

وحلّ حبلى رحله إذ حلا

بالله قد أنضى وقد أكلا

وأنقب الأشعر والأظلا

من نافه قد انضوى واختلا (٧)

يحمل بلو سفر قد بلّى

أجلاده صيامه وألا (٨)

يزال نضو غزوة مملا

وصّال أرحام إذا ما ولى

ذو رحم وصّله وبلا

سقاء رحم منه كان صلا

__________________

(١) الإران : كناس الوحش يستكن فيه من الحر.

(٢) القسطل : الغبار. وأج : أسرع فى سيره. ومئلا : سريعا.

(٣) انشل مطاوع شله أى طرده. والوأى : الشديد الخلق. والقندل : الضخم ، وثقله للضرورة.

(٤) الكنادر : الغليظ من حمر الوحش ، الكندر : الغليظ أيضا. والزوازى : القصير الغليظ والصمل : الشديد الخلق العظيم.

(٥) الصتم : الضخم الشديد. والشنظيرة : البذيء السيئ الخلق. المتل : الشديد.

(٦) الشل : الطرد. والوسيقة : القطعة من الإبل المجتمعة ، فإذا سرقت ذهبت معا. وكرشا : أى طبخا اللحم فى الكرش. وملا : وضعاه فى الملة وهى الجمر الحار. انظر اللسان (كرش).

(٧) الأشعر : ما استدار بالحافر من منتهى الجلد حيث تنبت الشعيرات حوالى الحافر ، والجمع أشاعر. والأظل : ما تحت منسم البعير. الناقة : البعير المعى الكال.

(٨) بلو السفر : الذى أبلاه السفر وأهزله : وأجلاده : شخصه.

٣٩

وينفق الأكثر والأقلا

من كسب ما طاب وما قد حلا

إذا الشحيح غلّ كفّا غلا

بسّط كفّيه معا وبلا

وحلّ زاد الرحل حلا حلا

يرقب قرن الشمس إذ تدلّى

حتى إذا ما حاجباها انغلا

تحت الحجاب بادر المصلى (١)

أقام وجه النضو ثم خلّى

سبيله إذا تسدّى خلا (٢)

أحذى القطيع الشارف الهبلا

فجال مخطوف الحشى شملا (٣)

حتى إذا أوفى بلالا بلا

بدمعه لحيته وانغلا

بها وفاض شرقا فابتلا

جيب الرداء منه فارمعلا (٤)

وحفز الشانين فاستهلا

كما رأيت الوشلين انهلا (٥)

حتى إذا حبل الدعاء انحلّا

وانقاض زبرا جاله فابتلا (٦)

أثنى على الله علا وجلا

ثم انثنى من بعد ذا فصلّى

على النبىّ نهلا وعلا

وعمّ فى دعائه وخلا

ليس كمن فارق واستحلا

دماء أهل دينه وولىّ

وجهته سوى الهدى مولّى

مجتنبا كبرى الذنوب الجلّى

مستغفرا إذا أصاب القلى

لما أتى المزدلفات صلّى

سبعا تباعا حلّهن حلا

حتى إذا أنف الفجير جلّى

برقعه ولم يسرّ الجلا

هبّ إلى نضيّه فعلّى

__________________

(١) انغلا تحت الحجاب : أى دخلا تحته ، يريد غروب الشمس.

(٢) تسدّاه : علاه وركبه. الخل : الطريق فى الرمل. والنضو : أى بعيره المهزول.

(٣) القطيع : السوط. الشارف : المسن من النوق. الشمل : السريع.

(٤) ارمعل : ابتل.

(٥) الشأنان : عرقان ينحدران من الرأس إلى الحاجبين ثم إلى العينين. والوشل : الماء القليل يتحلب من صخرة أو جبل يقطر قليلا قليلا.

(٦) الزبر : طىّ البئر بالحجارة. والجال : جانب البئر. وانقاض : تصدع وتشقق.

٤٠