الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

ومن ذلك أن تاء التأنيث فى الواحد لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا ؛ نحو حمزة وطلحة وقائمة ، ولا يكون ساكنا. فإن كانت الألف وحدها من بين سائر الحروف جازت. وذلك نحو قطاة وحصاة وأرطاة وحبنطاة (١). أفلا ترى إلى مساواتهم بين الفتحة والألف ، حتى كأنها هى هى. وهذا يدلّ على أن أضعف الأحرف الثلاثة الألف دون أختيها ؛ لأنها قد خصّت هنا بمساواة الحركة دونها.

ومن ذلك قوله :

ينشب فى المسعل واللهاء

أنشب من مآشر حداء (٢)

قالوا : أراد : حدادا ؛ فلم يعدد الألف حاجزا بين المثلين ، كما لم يعدد الحركة فى ذلك فى نحو أمليت الكتاب فى أمللت.

ومن ذلك أنهم قد بيّنوا الحرف بالهاء ؛ كما بيّنوا الحركة بها (وذلك) نحو قولهم : وا زيداه ، ووا غلامهماه ، ووا غلامهوه ، ووا غلامهموه ، ووا غلامهيه ، ووانقطاع ظهرهيه. فهذا نحو من قولهم : أعطيتكه ، ومرت بكه ، واغزه ، ولا تدعه. والهاء فى كله لبيان الحركة لا ضمير.

ومن ذلك أنّ أقعد الثلاثة فى المدّ لا يسوغ تحريكه وهو الألف ، فجرت لذلك مجرى الحركة ؛ ألا ترى أن الحركة لا يمكن تحريكها. فهذا وجه أيضا من المضارعة فيها.

وأما شبه الحركة بالحرف (ففى) نحو تسميتك امرأة بهند وجمل. فلك فيهما مذهبان : الصرف وتركه. فإن تحرّك الأوسط ثقل الاسم ، فقلت فى اسم امرأة سمّيتها بقدم بترك الصرف معرفة ألبتّة ؛ أفلا ترى كيف جرت الحركة مجرى الحرف

__________________

(١) يقال امرأة حبنطاة : قصيرة دسمة غليظة البطن.

(٢) الرجز لأبى مقدام الراجز فى سمط اللآلى ص ٨٧٤ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٦٥٩ ، والمخصص ١ / ١٥٧ ، ١١ / ١٣١ ، ١٥ / ١٥٢ ، وله أو لأعرابى فى البادية فى الدرر ٦ / ٢٢٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٠٧ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٧٤٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٦٢٨ ، ولسان العرب (حدد) ، (شيش) ، (لها) ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، وتهذيب اللغة ٦ / ٤٣٠ ، وديوان الأدب ٣ / ٣٨١ ، وتاج العروس (شيش) ، (لها). وقبله :

*يا لك من تمر ومن شيشاء*

١٠١

فى منع الصرف. وذلك كامرأة سمّيتها بسعاد وزينب. فجرت الحركة فى قدم وكبد ونحوه مجرى ألف سعاد وياء زينب.

ومن ذلك أنك إذا أضفت إلى الرباعىّ المقصور أجزت إقرار الألف ، وقلبها واوا ؛ نحو الإضافة إلى حبلى : إن شئت قلت : حبلىّ ، وهو الوجه. وإن شئت : حبلويّ. فإذا صرت إلى الخمسة حذفت الألف ألبتّة ، أصلا كانت أو زائدة.

وذلك نحو قولك فى حبارى : حبارىّ ، وفى مصطفى : مصطفىّ. وكذلك إن تحرك الثانى من الرباعىّ حذفت ألفه ألبتّة. وذلك قولك فى جمزى : جمزىّ ، وفى بشكى بشكىّ ؛ ألا ترى إلى الحركة كيف أوجبت الحذف ؛ كما أوجبه الحرف الزائد على الأربعة ، فصارت حركة عين جمزى فى إيجابها الحذف بمنزلة ألف حبارى وياء خيزلى (١).

ومن مشابهة الحركة للحرف أنك تفصل بها ولا تصل إلى الإدغام معها ، كما تفصل بالحرف ، ولا تصل إلى الإدغام معه. وذلك قولك : وتد ، ويطد. فحجزت الحركة بين المتقاربين ، كما يحجز الحرف بينهما ؛ نحو شمليل وحبربر (٢).

ومنها أنهم قد أجروا الحرف المتحرك مجرى الحرف المشدّد. وذلك أنه إذا وقع رويّا فى الشّعر المقيّد سكن ؛ كما أن الحرف المشدّد إذا وقع رويّا فى الشعر المقيّد خفّف. فالمتحرك نحو قوله :

*وقاتم الأعماق خاوى المخترق (٣) *

فأسكن القاف وهى مجرورة. والمشدّد نحو قوله :

*أصحوت اليوم أم شاقتك هرّ (٤) *

فحذف إحدى الراءين ؛ كما حذف الحركة من قاف المخترق. وهذا إن شئت قلبته ، فقلت : إن الحرف أجرى فيه مجرى الحركة ، وجعلت الموضع فى الحذف

__________________

(١) خيزلى : هى مشية فى تثاقل.

(٢) يقال : ناقة شمليل : سريعة. وحبربر : هو الجمل الصغير.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) سبق تخريجه.

١٠٢

للحركة ثم لحق بها فيه الحرف. وهو عندى أقيس.

ومنها استكراههم اختلاف التوجيه : أن يجمع مع الفتحة غيرها من أختيها ، نحو جمعه بين المخترق وبين العقق والحمق. فكراهيتهم هذا نحو من امتناعهم من الجمع بين الألف مع الياء والواو ردفين.

ومن ذلك عندى أن حرفى العلّة : الياء والواو قد صحّا فى بعض المواضع للحركة بعدهما ؛ كما يصحّان لوقوع حرف اللين ساكنا بعدهما. وذلك نحو القود والحوكة والخونة والغيب والصيد وحول وروع و (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ)(١) [الأحزاب : ١٣] فيمن قرأ كذلك. فجرت الياء والواو هنا فى الصحّة لوقوع الحركة بعدهما مجراهما فيها لوقوع حرف اللين ساكنا بعدهما ؛ نحو القواد ، والحواكة ، والخوانة ، والغياب ، والصياد ، وحويل ، ورويع ، وإن بيوتنا عويرة.

وكذلك ما صحّ من نحو قولهم : هيؤ الرجل من الهيئة ؛ هو جار مجرى صحّة هيوء لو قيل. فاعرف ذلك مذهبا فى صحّة ما صحّ من هذا النحو لطيفا غريبا.

* * *

__________________

(١) هى قراءة إسماعيل بن سليمان عن ابن كثير وابن عباس وآخرين. وانظر البحر ٧ / ٢١٨.

١٠٣

باب محل (الحركات من الحروف) معها أم قبلها أم بعدها

أما مذهب سيبويه فإن الحركة تحدث بعد الحرف. وقال غيره : معه وذهب غيرهما إلى أنها تحدث قبله.

قال أبو علىّ : وسبب هذا الخلاف لطف الأمر وغموض الحال. فإذا كان هذا أمرا يعرض للمحسوس الذى إليه تتحاكم النفوس فحسبك به لطفا ، وبالتوقف فيه لبسا.

فممّا يشهد لسيبويه بأن الحركة حادثة بعد الحرف وجودنا إياها فاصلة بين المثلين مانعة من إدغام الأول فى الآخر ؛ نحو الملل والضفف (١) والمشش (٢) ؛ كما تفصل الألف بعدها بينهما ؛ نحو الملال والضفاف والمشاش. وهذا مفهوم. وكذلك شددت ومددت ، فلن تخلو حركة الأول من أن تكون قبله ، أو معه ، أو بعده.

فلو كانت فى الرتبة قبله لما حجزت عن الإدغام ؛ ألا ترى أن الحرف المحرّك بها كان يكون على ذلك بعدها حاجزا بينها وبين ما بعده من الحرف الآخر.

ونحو من ذلك قولهم : ميزان وميعاد ؛ فقلب الواو ياء يدلّ على أن الكسرة لم يحدث قبل الميم ؛ لأنها لو كانت حادثة قبلها لم تل الواو ، فكان يجب أن يقال : موزان وموعاد. وذلك أنك إنما تقلب الواو ياء للكسرة التى تجاورها من قبلها ، فإذا كان بينها وبينها حرف حاجز لم تلها ، وإذا لم تلها لم يجب أن نقلبها للحرف الحاجز بينهما. وأيضا فلو كانت قبل حرفها لبطل الإدغام فى الكلام ؛ لأن حركة الثانى كانت تكون قبله حاجزة بين المثلين. وهذا واضح.

فإذا بطل أن تكون الحركة حادثة قبل الحرف المتحرك بها من حيث أرينا ، وعلى ما أوضحنا وشرحنا ، بقى سوى مذهب سيبويه أن يظنّ بها أنها تحدث مع الحرف نفسه لا قبله ولا بعده. وإذا فسد هذا لم يبق إلا ما ذهب إليه سيبويه.

__________________

(١) الضفف : من معانيه كثرة العيال.

(٢) المشش : من معانيه بياض يعترى الإبل فى عيونها.

١٠٤

والذى يفسد كونها حادثة مع الحرف ألبتّة هو أنا لو أمرنا مذكّرا من الطىّ ، ثم أتبعناه أمرا آخر له من الوجل من غير حرف عطف ؛ لا بل بمجيء الثانى تابعا للأول ألبتة لقلنا : اطو ايجل. والأصل فيه : اطو اوجل ، فقلبت الواو التى هى فاء الفعل من الوجل ياء ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها. فلو لا أن كسرة واو (اطو) فى الرتبة بعدها لما قلبت ياء واو (اوجل). وذلك أن الكسرة إنما تقلب الواو لمخالفتها إياها فى جنس الصوت (فتجتذبها) إلى ما هى بعضه ومن جنسه ، وهو الياء ؛ وكما أن هناك كسرة فى الواو فهناك أيضا الواو ، وهى وفق الواو الثانية لفظا وحسّا ، وليست الكسرة على قول المخالف أدنى إلى الواو الثانية من الواو الأولى ؛ لأنه يروم أن يثبتهما جميعا فى زمان واحد ، ومعلوم أن الحرف أوفى صوتا ، وأقوى جرسا من الحركة ؛ فإذا لم يقل لك : إنها أقوى من الكسرة التى فيها ، فلا أقلّ من أن تكون فى القوّة والصوت مثلها. فإذا كان كذلك لزم ألا تنقلب الواو الثانية للكسرة قبلها ؛ لأن بإزاء الكسرة المخالفة للواو (الثانية الواو) الأولى الموافقة للفظ الثانية. فإذا تأدّى الأمر فى المعادلة إلى هنا ترافعت الواو والكسرة أحكامهما ، فكأن لا كسرة قبلها ولا واو. وإذا كان كذلك لم تجد أمرا تقلب له الواو الثانية ياء ، فكان يجب على هذا أن تخرج الواو الثانية من (اطو اوجل) صحيحة غير معتلة ، لترافع ما قبلها من الواو والكسرة أحكامهما ؛ وتكافؤهما فيما ذكرنا.

لا ، بل دلّ قلب الواو الثانية من (اطو اوجل) ياء حتى صارت (اطوايجل) على أن الكسرة أدنى إليها من الواو قبلها. وإذا كانت أدنى إليها كانت بعد الواو المحركة بها لا محالة.

فهذا إسقاط قول من ذهب إلى أنها تحدث (مع الحرف ، وقول من ذهب إلى أنها تحدث) قبله ؛ ألا تراها لو كانت الكسرة فى باب (اطو) قبل الواو لكانت الواو الأولى حاجزة بينها وبين الثانية ، كما كانت ميم ميزان تكون أيضا حاجزة بينهما ـ على ما قدمنا ـ ، فإذا بطل هذان ثبت قول صاحب الكتاب ، وسقطت عنه فضول المقال.

قال أبو على : يقوّى قول من قال : إن الحركة تحدث مع الحرف أن النون الساكنة مخرجها مع حروف الفم من الأنف ، والمتحركة مخرجها من الفم ، فلو

١٠٥

كانت حركة الحرف تحدث من بعده لوجب أن تكون النون المتحرّكة أيضا من الأنف. وذلك أن الحركة إنما تحدث بعدها ، فكان ينبغى ألا تغنى عنها شيئا ؛ لسبقها هى لحركتها.

كذا قال ـ رحمه‌الله ـ ورأيته معنيّا بهذا الدليل. وهو عندى ساقط عن سيبويه ، وغير لازم له.

وذلك (أنه لا ينكر) أن يؤثّر الشىء فيما قبله من قبل وجوده ؛ لأنه قد علم أن سيرد فيما بعد. وذلك كثير.

فمنه أن النون الساكنة إذا وقعت بعدها الباء قلبت النون ميما فى اللفظ. وذلك نحو عمبر وشمباء ، فى عنبر وشنباء ؛ فكما لا يشكّ فى أن الباء فى ذلك بعد النون وقد قلبت النون قبلها ، فكذلك لا ينكر أن تكون حركة النون الحادثة بعدها تزيلها عن الأنف إلى الفم. بل إذا كانت الباء أبعد من النون قبلها من حركة النون فيها وقد أثّرت على بعدها ما أثّرته كانت حركة النون التى هى أقرب إليها ، وأشدّ التباسا بها ، أولى بأن تجذبها وتنقلها من الأنف إلى الفم. وهذا كما تراه واضح.

وممّا غيّر متقدّما لتوقّع ما يرد من بعده متأخرا ضمهم همزة الوصل لتوقعهم الضمّة بعدها ؛ نحو : اقتل ، ادخل ، استضعف ، اخرج ، استخرج.

وممّا يقوّى عندى قول من قال : إن الحركة تحدث قبل الحرف إجماع النحويين على (قولهم) إن الواو فى يعد ويزن ونحو ذلك إنما حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة. يعنون : فى يوعد ويوزن (ونحوه) (لو خرج على أصله). فقولهم : بين ياء وكسرة يدلّ على أن الحركة عندهم قبل حرفها المحرّك بها ؛ ألا ترى أنه لو كانت الحركة بعد الحرف كانت الواو فى يوعد بين فتحة وعين ، وفى يوزن بين فتحة وزاى. فقولهم : بين ياء وكسرة يدلّ على أن الواو فى نحو يوعد عندهم بين الياء التى هى أدنى إليها من فتحتها ، وكسرة العين التى هى أدنى إليها من العين بعدها. فتأمّل ذلك.

وهذا وإن كان من الوضوح على ما تراه فإنه لا يلزم من موضعين : أحدهما أنه لا يجب أن تكون فيه دلالة على اعتقاد القوم فيما نسبه هذا السائل إلى أنهم

١٠٦

مريدوه ومعتقدوه ؛ ألا ترى أن من يقول : إن الحركة تحدث بعد الحرف ، ومن يقول : إنها تحدث مع الحرف قد أطلقوا جميعا هذا القول الذى هو قولهم : إن الواو حذفت من يعد ونحوه لوقوعها بين ياء وكسرة ، فلو كانوا يريدون ما عزوته إليهم وحملته عليهم ، لكانوا مناقضين ، وموافقين لمخالفهم ، وهم لا يعلمون. وهذا أمر مثله لا ينسب إليهم ، ولا يظنّ بهم.

فإذا كان كذلك علمت أن غرض القوم فيه ليس ما قدّرته ولا ما تصوّرته ؛ وإنما هو أنّ قبلها ياء وبعدها كسرة ، وهما مستثقلتان. فأما أن تماسّا الواو وتباشراها على ما فرضته وادّعيته فلا. وهذا كثير فى الكلام والاستعمال ؛ ألا ترى أنك تقول : خرجنا فسرنا ، فلما حصلنا بين بغداد والبصرة كان كذا. فهذا كما تراه قول صحيح معتاد ؛ إلا أنه قد يقوله من حصل بدير العاقول ، فهو ـ لعمرى ـ بين بغداد والبصرة ، وإن كان أيضا بين جرجرايا والمدائن ، وهما أقرب إليه من بغداد والبصرة. وكذلك الواو فى يوعد هى لعمرى بين ياء وكسرة ، وإن كان أقرب إليها منهما فتحة الياء والعين. وكذلك يقال أيضا : هو من عمره ما بين الخمسين إلى الستين ، فيقال ذلك فيمن له خمس وخمسون سنة ، فهى لعمرى بين الخمسين والستين ، إلا أن الأدنى إليها الأربع والخمسون ، والست والخمسون. وهذا جلىّ غير مشكل. فهذا أحد الموضعين.

وأمّا الآخر فإن أكثر ما فى هذا أن يكون حقيقة عند القوم ، وأن يكونوا مريديه ومعتقديه. ولو أرادوه (واعتقدوه) وذهبوا إليه لما كان دليلا على موضع الخلاف.

وذلك أن هذا موضع إنما يتحاكم فيه إلى النفس والحسّ ، ولا يرجع فيه إلى إجماع ولا إلى سابق سنّة ولا قديم ملّة ؛ ألا ترى أن إجماع النحويين فى هذا ونحوه لا يكون حجّة ؛ لأن كل واحد منهم إنما يردّك ويرجع بك فيه إلى (التأمّل والطبع) لا إلى التبعية والشرع. هذا لو كان لا بدّ من أن يكونوا قد أرادوا ما عزاه السائل إليهم واعتقده لهم. فهذا كلّه يشهد بصحّة مذهب سيبويه فى أن الحركة حادثة بعد حرفها المحرّك بها.

وقد كنا قلنا فيه قديما قولا آخر مستقيما. وهو أن الحركة قد ثبت أنها بعض حرف. فالفتحة بعض الألف ، والكسرة بعض الياء ، والضمّة بعض الواو. فكما

١٠٧

أن الحرف لا يجامع حرفا آخر فينشآن معا فى وقت واحد ، فكذلك بعض الحرف لا يجوز أن ينشأ مع حرف آخر فى وقت واحد ؛ لأن حكم البعض فى هذا جار مجرى حكم الكل. ولا يجوز أن يتصوّر أن حرفا من الحروف حدث بعضه مضامّا لحرف ، وبقيّته من بعده فى غير ذلك الحرف ، لا فى زمان واحد ولا فى زمانين.

فهذا يفسد قول من قال : إن الحركة تحدث مع حرفها المتحرّك بها أو قبله أيضا ؛ ألا ترى أن الحرف الناشئ عن الحركة لو ظهر لم يظهر إلا بعد الحرف المحرّك بتلك الحركة ، وإلا فلو كانت قبله لكانت الألف فى نحو ضارب ليست تابعة للفتحة ؛ لاعتراض الضاد بينهما ، والحسّ يمنعك ويحظر عليك أن تنسب إليه قبوله اعتراض معترض بين الفتحة والألف التابعة لها فى نحو ضارب وقائم ونحو ذلك. وكذلك القول فى الكسرة والياء والضمة والواو إذا تبعتاهما. وهذا تناه فى البيان ، والبروز إلى حكم العيان. فاعرفه. وفى بعض ما أوردناه (من هذا) كاف بمشيئة الله.

* * *

١٠٨

باب الساكن والمتحرك

أمّا إمام ذلك فإن أوّل الكلمة لا يكون إلا متحرّكا ، وينبغى لآخرها أن يكون ساكنا. فأمّا الإشمام (١) فإنه للعين دون الأذن. لكن روم (٢) الحركة يكاد الحرف يكون به متحركا ؛ ألا تراك تفصل به بين المذكّر والمؤنّث فى قولك فى الوقف : أنت وأنت. فلولا أن هناك صوتا لما وجدت فصلا.

فإن قلت : فقد نجد من الحروف ما يتبعه فى الوقف صوت ، وهو مع ذلك ساكن. وهو الفاء والثاء والسين والصاد ونحو ذلك ؛ تقول فى الوقف : اف ، اث ، اس ، اص.

قيل : هذا القدر من الصوت إنما هو متمم للحرف وموفّ له فى الوقف. فإذا وصلت ذهب أو كاد. وإنما لحقه فى الوقف لأن الوقف يضعف الحرف ؛ ألا تراك تحتاج إلى بيانه فيه بالهاء ؛ نحو وا غلاماه ، ووا زيداه ، ووا غلامهوه ، ووا غلامهيه.

وذلك أنك لمّا أردت تمكين الصوت وتوفيته ليمتدّ ويقوى فى السمع وكان الوقف يضعف الحرف ألحقت الهاء ليقع الحرف قبلها حشوا ، فيبين ولا يخفى.

ومع ذلك فإن هذا الصوت اللاحق للفاء والسين ونحوهما إنما هو بمنزلة الإطباق فى الطاء ؛ والتكرير فى الراء ، والتفشّى فى الشين ، وقوّة الاعتماد الذى فى اللام.

فكما أنّ سواكن هذه الأحرف إنما تكال فى ميزان العروض الذى هو عيار الحس (وحاكم القسمة والوضع) بما تكال به الحروف السواكن غيرها ، فكذلك هى أيضا سواكن. بل إذا كان الراء ـ لما فيها من التكرير ـ تجرى مجرى الحرفين فى الإمالة ، ثم مع ذلك لا تعدّ فى وزن الشعر إلا حرفا واحدا ، كانت هذه الأحرف التى إنما فيها تمام وتوفية لهذا أحجى بأن تعدّ حرفا لا غير.

__________________

(١) الإشمام : ضم الشفتين بعد تسكين الحرف الأخير فى الوقف على المضموم.

(٢) روم الحركة : الإشارة للحركة بصوت خفىّ.

١٠٩

ولأبى علىّ ـ رحمه‌الله ـ مسألتان : طويلة قديمة ، وقصيرة حديثة ، كلتاهما فى الكلام على الحرف المبتدأ أيمكن أن يكون ساكنا أم لا. فقد غنينا بهما أن نتكلّف نحن شيئا من هذا الشرح فى معناهما.

ثم من بعد ذلك أن المتحرّك على ضربين : حرف متحرّك بحركة لازمة ، وحرف متحرّك بحركة غير لازمة. أمّا المتحرّك بحركة لازمة فعلى ضربين أيضا : مبتدأ ، وغير مبتدأ. فالمبتدأ ما دام مبتدأ فهو متحرّك لا محالة ؛ نحو ضاد ضرب ، وميم مهدد. فإن اتصل أوّل الكلمة بشىء غيره فعلى قسمين : أحدهما أن يكون الأوّل معه كالجزء منه ، والآخر أن يكون على أحكام المنفصل عنه.

الأوّل من هذين القسمين أيضا على ضربين : أحدهما أن يقرّ الأوّل (على ما) كان عليه من تحريكه. والآخر أن يخلط فى اللفظ به ، فيسكّن على حدّ التخفيف فى أمثاله من المتصل.

فالحرف الذى ينزل مع ما بعده كالجزء منه فاء العطف ، وواوه ، ولام الابتداء ، وهمزة الاستفهام.

الأوّل من هذين كقولك : وهو الله ، وقولك : فهو ما ترى ، ولهو أفضل من عمرو ، وأهى عندك. فهذا الباقى على تحريكه كأن لا شيء قبله.

والقسم الثانى منهما قولك : وهو الله ، وقولك : (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص : ٦١] ولهو أفضل من عمرو ، وقوله :

وقمت للطيف مرتاعا وأرّقنى

فقلت أهى سرت أم عادنى حلم (١)

ووجه هذا أنّ هذه الأحرف لما كنّ على حرف واحد وضعفن عن انفصالها وكان ما بعدها على حرفين ، الأوّل منهما مضموم أو مكسور أشبهت فى اللفظ ما

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لزياد بن منقذ فى خزانة الأدب ٥ / ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، والدرر ١ / ١٩٠ ، وشرح التصريح ٢ / ١٤٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١٣٩٦ ، ١٤٠٢ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٩٠ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ١٣٤ ، ومعجم البلدان ١ / ٢٥٦ ، (أمليح) ، والمقاصد النحويّة ١ / ٢٥٩ ، ٤ / ١٣٧ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ١٢٧ ، وأمالى ابن الحاجب ١ / ٤٥٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٧٠ ، والدرر ٦ / ٩٧ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٩٨ ، وشرح المفصل ٩ / ١٣٩ ، ولسان العرب (هيا) ، ومغنى اللبيب ١ / ٤١ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٢.

١١٠

كان على فعل أو فعل ، فخفّف أوائل هذه كما يخفّف ثوانى هذه ، فصارت (وهو) كعضد (وصار وهو كعضد) كما صارت (أهى) كعلم ، وصار (أهى) بمنزلة علم. وأمّا قراءة أهل الكوفة (ثم ليقطع) فقبيح عندنا ؛ لأنّ (ثمّ) منفصلة يمكن الوقوف عليها ، فلا تخلط بما بعدها ، فتصير معه كالجزء الواحد. لكن قوله : (فلينظر) حسن جميل ؛ لأن الفاء حرف واحد ، فيلطف عن انفصاله وقيامه برأسه.

وتقول على هذا : مررت برجل بطنه كحضجر (١) ، تريد : كحضجر ، ثم تسكّن الحاء الأولى ؛ لأن (كحض) بوزن علم ، فيجرى هذا الصدر مجرى كلمة ثلاثيّة.

وأمّا أوّل الكلمة إذا لم يخلط بما قبله فمتحرك لا محالة على ما كان عليه قبل اتصاله به. وذلك قولك : أحمد ضرب ، وأخوك دخل ، وغلامك خرج ، فهذا حكم الحرف المبتدأ.

وأمّا المتحرّك غير المبتدأ فعلى ضربين : حشو وطرف. فالحشو كراء ضرب ، وتاء قتل ، وجيم رجل ، وميم جمل ، ولام علم. وأمّا الطرف فنحو ميم إبراهيم ، ودال أحمد ، وباء يضرب ، وقاف يغرق.

فإن قلت : قد قدّمت أن هذا ممّا تلزم حركته ، وأنت تقول فى الوقف : إبراهيم ، وأحمد ، ويضرب ، ويغرق ، فلا تلزم الحركة ، قيل : (اعتراض الوقف لا يحفل به ، ولا يقع العمل عليه) وإنما المعتبر بحال الوصل ؛ ألا تراك تقول فى بعض الوقف : هذا بكر ، ومررت ببكر ، فتنقل حركة الإعراب إلى حشو الكلمة ، ولو لا أن هذا عارض جاء به الوقف لكنت ممن يدّعى أن حركة الإعراب تقع قبل الآخر ؛ وهذا خطأ بإجماع.

ولذلك أيضا كانت الهاء فى (قائمه) بدلا عندنا من التاء فى (قائمة) لمّا كانت إنما تكون هاء فى الوقف دون الوصل.

فإن قلت : ولم جرت الأشياء فى الوصل على حقائقها دون الوقف؟

(قيل : لأن) حال الوصل أعلى رتبة من حال الوقف. وذلك أن الكلام إنما وضع للفائدة ، والفائدة لا تجنى من الكلمة الواحدة ، وإنما تجنى من الجمل

__________________

(١) الحضجر : السقاء الضخم.

١١١

ومدارج القول ؛ فلذلك كانت حال الوصل عندهم أشرف وأقوم وأعدل من حال الوقف.

ويدلّك على أن حركة الآخر قد تعتدّ لازمة وإن كانت فى الوقف مستهلكة أنك تقلب حرف اللين لها وللحركة قبله ، فتقول : عصا ، وقفا ، وفتى ، ودعا ، وغزا ، ورمى ؛ كما تقلبه وسطا لحركته وحركة ما قبله ؛ نحو دار ، ونار ، وعاب ، وقال : وقام ، وباع.

فإن قلت : فإنّ الجزم قد يدرك الفعل فيسكّن فى الوصل ؛ نحو لم يضرب أمس ، واضرب غدا ، وما كان كذلك.

قيل : إن الجزم لمّا كان ثانيا للرفع وإعرابا كالنصب فى ذينك جرى الانتقال إليه عن الرفع مجرى الانتقال عن الرفع إلى النصب ، وحمل الجزم فى ذلك على النصب ؛ كما حمل النصب على الجزم فى الحرف ؛ نحو لن يقوما ، وأريد أن تذهبوا ، وتنطلقى. قال أبو علىّ : وقد كان ينبغى أن تثبت النون مع النصب لثبات الحركة فى الواحد. فهذا فرق وعذر.

فهذه أحكام الحركة اللازمة.

وأمّا غير اللازمة فعلى أضرب.

منها حركة التقاء الساكنين ؛ نحو قم الليل ، واشدد الحبل. ومنها حركة الإعراب المنقولة إلى الساكن قبلها ؛ نحو هذا بكر ، وهذا عمرو ومررت ببكر ، ونظرت إلى عمرو. وذلك أن هذا أحد أحداث الوقف فلم يكن به حفل. ومنها الحركة المنقولة لتخفيف الهمزة ؛ نحو قولك فى مسألة : مسلة ، وقولك فى يلؤم : يلم ، وفى يزئر : يزر ، وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] فيمن سكن وخفف (١). وعلى ذلك قول الله تعالى (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف : ٣٨] أصله : لكن أنا ؛ ثم خفّف فصار (لكن نا) ثم أجرى غير اللازم مجرى اللازم ، فأسكن الأوّل وادّغم فى الثانى فصار لكنّا.

ومن التقاء الساكنين أيضا قوله :

__________________

(١) أى سكن الفاء وخفف الهمزة بنقل حركتها على الفاء وحذفها. وهذه القراءة رواية عن نافع.

١١٢

*وذى ولد لم يلده أبوان (١) *

لأنه أراد : لم يلده ، فأسكن اللام استثقالا للكسرة ، وكانت الدال ساكنة فحرّكها لالتقاء الساكنين. وعليه قول الآخر :

*ولكننى لم أجد من ذلكم بدّا (٢) *

أى لم أجد ، فأسكن الجيم وحرّك الدال على ما مضى.

ومن ذلك حركات الإتباع ؛ نحو قوله :

*ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا (٣) *

وقوله :

*مشتبه الأعلام لمّاع الخفق (٤) *

__________________

(١) عجز بيت من الطويل ، وهو لرجل من أزد السراة فى شرح التصريح ٢ / ١٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٢ ، والكتاب ٢ / ٢٦٦ ، ٤ / ١١٥ ، وله أو لعمرو الجنبى فى خزانة الأدب ٢ / ٣٨١ ، والدرر ١ / ١٧٣ ، ١٧٤ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٣٩٨ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٥٤ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ١٩ ، وأوضح المسالك ٣ / ٥١ ، والجنى الدانى ص ٤٤١ ، والدرر ٤ / ١١٩ ، ورصف المبانى ص ١٨٩ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٢٩٨ ، وشرح المفصل ٤ / ٤٨ ، ٩ / ١٢٦ ، والمقرب ١ / ١٩٩ ، ومغنى اللبيب ١ / ١٣٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٤ ، ٢ / ٢٦. وصدره :

*ألا رب مولود وليس له أب*

(٢) عجز بيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى تاج العروس (وجد). ويروى : من سبّكم بدلا من : من ذلكم. وصدره :

*فو الله لو لا بغضكم ما سببتكم*

(٣) عجز بيت من البسيط ، وهو لعبد مناف بن ربع الهذلىّ فى جمهرة اللغة ص ٤٨٣ ، والدرر ٦ / ٢٣٢ ، وشرح أشعار الهذليين ٢ / ٦٧٢ ، ولسان العرب (لعج) ، (جلد) ، (عجل) ، ونوادر أبى زيد ص ٣٠ ، والمنصف ٢ / ٣٠٨. وصدره :

*إذا تأوّب نوح قامتا معه*

لعجه : آلمه.

(٤) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١٠٤ ، والأغانى ١٠ / ١٥٨ ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٨ ، ٦١٤ ، ٩٤١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٥ ، والدرر ٤ / ١٩٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٥٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢٣ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٦٤ ، ٧٨٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٧٢ ، ٥ / ٥٨ ، ـ ـ

١١٣

وقوله :

*......... لم ينظر به الحشك (١) *

وقوله :

*ماء بشرقىّ سلمى فيد أو ركك (٢) *

وقوله :

قضين حجّا وحاجات على عجل

ثم استدرن إلينا ليلة النفر

وقوله :

__________________

وأساس البلاغة (قتم) ، ولسان العرب (خفق) ، (عمق) ، (غلا) ، ومغنى اللبيب ١ / ٣٤٢ ، والمقاصد النحوية ١ / ٣٨ ، والمنصف ٢ / ٣ ، ٣٠٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٦ ، وتهذيب اللغة ١ / ٢٩٠ ، ٩ / ٦٦ ، وتاج العروس (هرجب) ، (خفق) ، (عمق) ، (كلل) ، (وجه) ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٨ ، ٦١٤ ، ٩٤١ ، ورصف المبانى ص ٣٥٥ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٤٩٣ ، ٥٠٢ ، ٦٣٩ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٧٢ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٨ ، والعقد الفريد ٥ / ٥٠٦ ، والكتاب ٤ / ١١٠ ، ولسان العرب (هرجب) ، (قيد) ، (قتم) ، (وجه) ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٠ ، وكتاب العين ١ / ١٨٨. وقبله :

*وقاتم الأعماق خاوى المخترق*

(١) جزء من بيت وهو من البسيط ، لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص ١٧٧ ، ولسان العرب (سبأ) ، (حشك) ، (غطل) ، (خفق) ، وتهذيب اللغة ٤ / ٨٦ ، ٨ / ٥٧ ، ١٣ / ١٢٣ ، ١٧٠ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٠ ، ٢٣٩ ، ٥٣٨ ، ٥٥٨ ، ٦١٤ ، ٩١٨ ، ١١٨٦ ، ٤ / ٤٤٠ ، ومجمل اللغة ٣ / ٥٦ ، وتاج العروس (سبأ) ، (فزز) ، (١٠ / ١١٨). وتتمته :

كما استغاث بسىء فزّ غيطلة

خاف العيون فلم ينظر به الحشك

الحشك : اجتماع اللبن فى الضرع.

(٢) عجز بيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص ١٦٧ ، والعقد الفريد ٥ / ٣٥٥ ، ولسان العرب (فيد) ، (ركك) ، وتاج العروس (فيد) ، (ركك) ، والمحتسب ١ / ٨٧ ، ٢ / ٢٧ ، ومعجم البلدان ٣ / ٦٤ (ركك) ، والمنصف ٢ / ٣٠٩ ، وبلا نسبة فى معجم ما استعجم ص ١٠٣٣ ، والمقتضب ١ / ٢٠٠ ، والمقرب ٢ / ١٥٦ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٦٤٣. وصدره :

ثمّ استمروا وقالوا إنّ مشربكم*

فيد وركك : ماءان بالبادية. وزعم الأصمعى أنّه ركّ وأن زهيرا لم تستقم له القافية بركّ فقال ركك. لسان العرب (ركك).

١١٤

*وحامل المين بعد المين والألف (١) *

وأمّا قول الآخر :

علّمنا أخوالنا بنو عجل

الشغزبىّ واعتقالا بالرجل (٢)

فيكون إتباعا ، ويكون نقلا. وقول طرفة :

*......... ورادا وشقر (٣) *

ينبغى أن يكون إتباعا ؛ يدلّك على ذلك أنه تكسير أشقر وشقراء ، وهذا قد يجيء فيه المعتل اللام (نحو قنو وعشو وظمى وعمى ، ولو كان أصله فعلا لما جاء فى المعتلّ) ؛ ألا ترى أن ما كان من تكسير فعيل وفعول وفعال وفعال ممّا لامه معتلّة لا يأتى على فعل. فلذلك لم يقولوا فى كساء : كسو ولا فى رداء : ردى ولا فى صبىّ : صبو ولا نحو ذلك ؛ لأن أصله فعل. وهى اللغة الحجازيّة القويّة. وقد جاء شيء من ذلك شاذا. وهو ما حكاه من قولهم : ثنىّ وثن. وأنشد الفرّاء :

فلو ترى فيهن سرّ العتق

بين كماتىّ وحوّ بلق (٤)

__________________

(١) عجز بيت من البسيط ، فى سر صناعة الإعراب ١ / ١١٤ ، ولسان العرب (ألف) ، (وأى).

وصدره :

*وكان حاملكم منّا ورافدكم*

المين يريد : المئين فحذف الهمزة.

(٢) الرجز بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٣ / ٧٣ ، والإنصاف ٢ / ٧٣٤ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٧٨٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٦١ ، ولسان العرب (شغزب) ، (مسك) ، (عجل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٦٧ ، ونوادر أبى زيد ص ٣٠ ، وتاج العروس (شغزب) ، (جلد) ، (مسك) ، (عجل) ، (عقل) ، والمخصّص ١١ / ٢٠٠. ويروى :

علّمنا إخواننا بنو عجل

شرب النبيذ واصطفافا بالرّجل

الشغزبىّ : ضرب من المصارعة.

(٣) جزء من بيت من الرمل ، وهو لطرفة بن العبد فى ديوانه ص ٥٧ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٧٩ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٨١ ، وشرح المفصّل ٥ / ٦٠ ، والمحتسب ١ / ١٦٢ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (غلف). وتتمته :

أيها الفتيان فى مجلسنا

جرّدوا منها ورادا وشقر

(٤) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (كمت) ، (فلا) ، وتاج العروس (كمت). (فلا). الفلو : المهر الصغير. والكماتى جمعه على كمتاء ، وإن لم يلفظ به بعد أن جعله اسما كصحراء. اللسان (كمت). والعتق : كرم الأصل. والحوّ : السود.

١١٥

(فهذا جمع فلوّ) وكلا ذينك شاذّ :

ومثله ما أنشده أيضا من قول الشاعر :

أسلمتموها فباتت غير طاهرة

منى الرجال على الفخذين كالموم (١)

فكسّر منيا على منى ؛ ولا يقاس عليه. وإنما ذكرناه لئلا يجيء به جاء ، فترى أنه كسر للباب.

ومن حركات الإتباع قولهم : أنا أجوؤك ؛ وانبؤك ، وهو منحدر من الجبل ومنتن ومغيرة ، ونحو (من ذلك) باب شعير ورغيف وبعير والزئير ، والجنّة لمن خاف وعيد الله. وشبهت القاف بالخاء لقربها منها فيما حكاه أبو الحسن من قولهم : النقيذ ؛ كما شبّهت الخاء والغين بحروف الفم حتى أخفيت النون معهما فى بعض اللغات ؛ كما تخفى مع حروف الفم. وهذا فى فعيل مما عينه حلقيّة مطّرد.

وكذلك فعل ؛ نحو نغر (٢) ومحك وجئر (٣) وضحك ، و (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء : ٥٨]. وقريب من ذلك الحمد لله والحمد لله وقتّلوا وفتّحوا ، وقوله :

*تدافع الشيب ولم تقتّل (٤) *

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لحسان بن ثابت فى ديوانه ص ١٧٧ ، وجمهرة اللغة ص ٢٤٨ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (منى) ، وتاج العروس (منى). الموم : الشمع.

(٢) يقال : رجل نغر : يغلى صدره من الغيرة.

(٣) يقال : جئز بالماء ـ من باب فرح ـ فهو جئز : غص به.

(٤) الرجز لأبى النجم فى جمهرة اللغة ص ٤٠٧ ، ولسان العرب (عصب) ، (لجج) ، (فلل) ، (فلن) ، والطرائف الأدبية ص ٦٦ ، والمنصف ٢ / ٢٢٥ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٦٤٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٨٩ ، والدرر ٣ / ٣٧ ، وسمط اللآلى ص ٢٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٣٩ ، وشرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، وشرح المفصل ٥ / ١١٩ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٥٠ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ٢٢٨ ، والكتاب ٢ / ٢٤٨ ، ٣ / ٤٥٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٨ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٤٨ ، وتاج العروس (عصب) ، (فلن) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤٤٧ ، ٥ / ٢٠٢ ، ومجمل اللغة ٤ / ٦١ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٤٣ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٦٠ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٢٧ ، وشرح المفصل ١ / ٢٤٨ ، والمقتضب ٤ / ٢٣٨ ، والمقرب ١ / ١٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٧.

١١٦

وقوله :

*لا حطّب القوم ولا القوم سقى (١) *

ومن غير اللازم ما أحدثته همزة التذكّر ؛ نحو ألى وقدى. فإذا وصلت سقطت ؛ نحو الخليل ، وقد قام. ومن قرأ اشتروا الضلالة قال فى التذكر : اشترووا ، ومن قرأ : اشتروا الضلالة قال فى التذكر : اشتروى ، ومن قال : اشترو الضلالة قال فى التذكر : اشتروا.

فهذه طريق هذه الحركات فى الكلام.

وأمّا الساكن فعلى ضربين : ساكن يمكن تحريكه ، وساكن لا يمكن تحريكه.

الأول منهما جميع الحروف إلا الألف الساكنة المدّة. والثانى هو هذه الألف ؛ نحو ألف كتاب وحساب وباع وقام.

والحرف الساكن الممكن تحريكه على ضربين : أحدهما ما يبنى على السكون.

والآخر ما كان متحركا ثم أسكن.

الأول منهما يجيء أوّلا وحشوا وطرفا.

فالأول ما لحقته فى الابتداء همزة الوصل. وتكون فى الفعل ؛ نحو انطلق واستخرج واغدودن ، وفى الأسماء العشرة : ابن وابنة وامرئ وامرأة واثنين واثنتين (واسم واست) وابنم وأيمن. وفى المصادر ؛ نحو انطلاق واستخراج واغديدان وما كان مثله. وفى الحروف فى لام التعريف ؛ نحو الغلام والخليل. فهذا حال الحرف الساكن إذا كان أوّلا.

وأمّا كونه حشوا فككاف بكر ، وعين جعفر ، ودال يدلف. وكونه أخرا فى نحو دال قد ولام هلك فهذه الحروف الممكن تحريكها ؛ (إلا أنّها) مبنيّة على السكون.

__________________

(١) الرجز للشماخ فى ديوانه ص ٣٨٠ ـ ٣٨١ ، ولسان العرب (حطب) ، وتاج العروس (حطب) ، وللجليح فى أساس البلاغة (حطب) ، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة ٢ / ٧٩ ، ومجمل اللغة ٢ / ٨٣ ، والمخصّص ١٥ / ١٥٩. وقبله :

*خبّ جروز وإذا جاع بكى*

١١٧

وأمّا ما كان متحركا ثم أسكن فعلى ضربين : متّصل ومنفصل. فالمتصل : ما كان ثلاثيّا مضموم الثانى أو مكسوره ؛ فلك فيه الإسكان تخفيفا ، وذلك كقولك فى علم : قد علم ، وفى ظرف : قد ظرف ، وفى رجل : رجل ، وفى كبد : كبد.

وسمعت الشجرىّ وذكر طعنة فى كتف فقال : الكتفيّة. وأنشد البغداديّون :

رجلان من ضبّة أخبرانا

أنّا رأينا رجلا عريانا (١)

وقد سمع شيء من هذا الإسكان فى المفتوح ؛ قال الشاعر :

وما كلّ مبتاع ولو سلف صفقه

براجع ما قد فاته برداد (٢)

وقد جاء هذا فيما كان على أكثر من ثلاث أحرف ؛ قال العجّاج :

*فبات منتصبا وما تكردسا (٣) *

وحكى صاحب الكتاب : أراك منتفخا ، وقالوا فى قول العجّاج :

*بسبحل الدّفّين عيسجور (٤) *

أراد : سبحل ، فأسكن الباء وحرّك الحاء وغيّر حركة السين. وقال أبو عثمان فى قول الشاعر :

هل عرفت الدار أم أنكرتها

بين تبراك فشسّى عبقر (٥)

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى خزانة الأدب ٩ / ١٨٣ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٣٣ ، والمحتسب ١ / ١٠٩ ، ٢٥٠ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٤١٣ ، ويروى : من مكة بدلا من ضبّة.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للأخطل فى ديوانه ص ٥٢٨ ، وأدب الكاتب ص ٥٣٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٨ ، ولسان العرب (ردد) ، (سلف) ، والمنصف ١ / ٢١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٤٤ ، وشرح المفصل ٧ / ١٥٢ ، والمحتسب ١ / ٥٣ ، ٦٢ ، ٢٤٩. سلف صفقه : وجب بيعه. والرداد ـ بفتح الراء وكسرها ـ اسم من الاسترداد.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) الرجز للزفيان فى ديوانه ص ٩٤ ، ولسان العرب (ضخم) ، (سجل) ، وللعجاج فى ملحق ديوانه ٢ / ٢٩٤ ، وتاج العروس (سبحل). وبعده :

*قلت لها والكفّ فى الحرير*

هذا فى وصف ناقة. ودفاها : جانباها. وسبحل الدفين : عظيمتهما. والعيسجور : الكريمة النسب.

(٥) البيت من الرمل ، وهو للمرار بن منقذ العدوى فى لسان العرب (عبقر) ، (شسس) ، (برك) ،

١١٨

أراد : عبقر ، فغيّر كما ترى إلا أنه حرك الساكن ؛ وقال غيره : أراد : عبيقر فحذف الياء كما حذفت من عرنقصان حتى صارت عرقصانا. وكذلك قوله : لم يلده أبوان ، قد جاء فيه التحريك والتسكين جميعا. وكذلك قوله :

*ولكننى لم أجد من ذلكم بدا (١) *

وقد مضيا آنفا.

وأمّا المنفصل فإنه شبّه بالمتّصل ، وذلك قراءة بعضهم (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) [الشعراء : ٤٥] ، (فَلا تَتَناجَوْا)(٢) [المجادلة : ٩] فهذا مشبّه بدابّة وخدبّ. وعليه قراءة بعضهم (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ)(٣) [يوسف : ٩٠] وذلك أن قوله (تق و) بوزن علم فأسكن ، كما يقال : علم. وأنشدوا :

ومن يتّق فإن الله معه

ورزق الله مؤتاب وغاد (٤)

لأن (تق ف) بوزن علم. وأنشد أبو زيد :

*قالت سليمى اشتر لنا سويقا (٥) *

__________________

وتهذيب اللغة ٣ / ٢٩٢ ، وتاج العروس (شسس) ، (برك) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٤٢٤ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣ ، ٣٢٥ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (صنبر).

(١) سبق تخريجه.

(٢) هذه قراء ابن محيصن.

(٣) هذه القراءة لم أقف عليها فى هذه الآية ، وإنما قرأ حفص (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ) فى الآية ٥٢ من سورة النور بسكون القاف.

(٤) البيت من الوافر ، والدرر ١ / ١٦١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٢٩٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٢٨ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ٤٨ ، ولسان العرب (أوب) ، (وقى) ، والمحتسب ١ / ٣٦١ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٢.

(٥) الرجز للعذافر الكندى فى شرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، وملحق نوادر أبى زيد ص ٣٠٦ ، وتاج العروس (بخس) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٦٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٢٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٢٩٨ ، والمحتسب ١ / ٣٦١ ، والمنصف ٢ / ٢٣٦. ويروى : دقيقا بدلا من سويقا. وبعده :

*وهات خبز البر أو سويقا*

ويروى : دقيقا بدلا من سويقا.

١١٩

لأن (تراه) كعلم. ومنها :

*فاحذر ولا تكتر كريّا أعوجا (١) *

وأما (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) [النساء : ٥٨] و (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] فرواها القرّاء عن أبى عمرو بالإسكان ، ورواها سيبويه بالاختلاس ، وإن لم يكن كان أزكى فقد كان أذكى ، ولا كان بحمد الله مزنّا بريبة ، ولا مغموزا فى رواية. لكن قوله :

*فاليوم أشرب غير مستحقب (٢) *

وقوله :

*وقد بدا هنك من المئزر (٣) *

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٦٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٢٥ ، والمنصف ٢ / ٢٣٧ ، وتهذيب اللغة ٧ / ٤٤٣ ، وجمهرة اللغة ص ١١٨٥. وبعده :

*علجا إذ ساق بنا عفنججا*

(٢) صدر بيت من السريع ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ١٢٢ ، وإصلاح المنطق ص ٢٤٥ ، ٣٢٢ ، والأصمعيات ص ١٣٠ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦٢ ، وحماسة البحترى ص ٣٦ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٠٦ ، ٨ / ٣٥٠ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، والدرر ١ / ١٧٥ ، ورصف المبانى ص ٣٢٧ ، وشرح التصريح ١ / ٨٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٦١٢ ، ١١٧٦ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٧٦ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٦ ، وشرح المفصل ١ / ٤٨ ، والشعر والشعراء ١ / ١٢٢ ، والكتاب ٤ / ٢٠٤ ، ولسان العرب (حقب) ، (دلك) ، (وغل) ، والمحتسب ١ / ١٥ ، ١١٠ ، وتاج العروس (وغل) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٦٦ ، والاشتقاق ص ٣٣٧ ، وخزانة الأدب ١ / ١٥٢ ، ٣ / ٤٦٣ ، ٤ / ٤٨٤ ، ٨ / ٣٣٩ ، والمقرب ٢ / ٢٠٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٤. وعجزه :

*إثما من الله ولا واغل*

(٣) عجز بيت من السريع ، وهو للأقيشر الأسدى فى ديوانه ص ٤٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، ٨ / ٣٥١ ، والدرر ١ / ١٧٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٩١ ، والمقاصد النحويّة ٤ / ٥١٦ ، وللفرزدق فى الشعر والشعراء ١ / ١٠٦ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٦٥ ، ٢ / ٣١ ، وتخليص الشواهد ص ٦٣ ، ورصف المبانى ص ٣٢٧ ، وشرح المفصّل ١ / ٤٨ ، والكتاب ٤ / ٢٠٣ ، ولسان العرب (وأل) ، (هنا) ، وهمع الهوامع ١ / ٥٤. وصدره :

*رحت وفى رجليك ما فيهما*

١٢٠