الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

وذهب قطرب إلى أن (أو) قد تكون بمعنى الواو ، وأنشد بيت النابغة :

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا أو نصفه فقد (١)

فقال : معناه : ونصفه. ولعمرى ، إن كذا معناه. وكيف لا يكون كذلك ولا بدّ منه ، وقد كثرت فيه الرواية أيضا بالواو : ونصفه. لكن هناك مذهب يمكن معه أن يبقى الحرف على أصل وضعه : من كون الشكّ فيه ؛ وهو أن يكون تقديره : ليتما هذا الحمام لنا (إلى حمامتنا) أو هو ونصفه. فحذف المعطوف عليها وحرف العطف ؛ على ما قدمناه فى قوله عزوجل : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] أى فضرب فانفجرت. وعليه قول الآخر :

ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث

إلى ذا كما ما غيبتنى غيابيا (٢)

أى شهرين أو شهرين ونصف ثالث ، ألا تراك لا تقول مبتدئا : لبثت نصف ثالث ؛ لأن ثالثا من الأسماء المضمّنة بما معها. ودعانا إلى هذا التأوّل السعى فى إقرار (هذه) اللفظة على أوّل أحوالها.

فأمّا قول الله سبحانه : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] فلا يكون فيه (أو) على مذهب الفرّاء بمعنى بل ، ولا على مذهب قطرب فى أنها بمعنى

__________________

من أهل اليمامة فى جمهرة اللغة ص ٢٩٢ ، وبلا نسبة فى شرح المفصل ٨ / ٧٩ ، ٩ / ٤٨ ، ولسان العرب (سوق) ، والمقرب ٢ / ١٨٢ ، والممتع فى التصريف ص ٤١١.

(١) البيت من البسيط ، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٢٤ ، والأزهيّة ص ٨٩ ، ١١٤ ، والأغانى ١١ / ٣١ ، والإنصاف ٢ / ٤٧٩ ، وتخليص الشواهد ص ٣٦٢ ، وتذكرة النحاة ص ٣٥٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٥١ ، ٢٥٣ ، والدرر ١ / ٢١٦ ، ٢ / ٢٠٤ ، ورصف المبانى ص ٢٩٩ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٧٥ ، ٢٠٠ ، ٢ / ٦٩٠ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٢٣٣ ، وشرح المفصل ٨ / ٥٨ ، والكتاب ٢ / ١٣٧ ، واللمع ص ٣٢٠ ، ومغنى اللبيب ١ / ٦٣ ، ٢٨٦ ، ٣٠٨ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٢٥٤ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ١ / ٣٤٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٥٧ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٤٣ ، وشرح قطر الندى ص ١٥١ ، ولسان العرب (قدد) ، والمقرب ١ / ١١٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٥.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ١٧١ ، والأزهيّة ص ١١٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٩ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٤٨٣ ، والمحتسب ٢ / ٢٢٧.

٢٢١

الواو. لكنها عندنا على بابها فى كونها شكّا. وذلك أن هذا كلام خرج حكاية من الله عزوجل لقول المخلوقين. وتأويله عند أهل النظر : وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموهم لقلتم أنتم فيهم : هؤلاء مائة ألف أو يزيدون.

ومثله مما مخرجه منه تعالى على الحكاية قوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] وإنما هو فى الحقيقة الذليل المهان ، لكن معناه : ذق إنك أنت الذى كان يقال له : العزيز الكريم. ومثله قوله ـ عزوجل ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٤٩] أى يا أيها الساحر عندهم لا عندنا ؛ (وكيف) يكون ساحرا عندهم وهم به مهتدون. وكذلك قوله (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧ ، الكهف : ٥٢] أى شركائى عندكم. وأنشدنا أبو علىّ لبعض اليمانية يهجو جريرا :

أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها

أنّى الأغرّ وأنّى زهرة اليمن

قال : فأجابه جرير ، فقال :

ألم تكن فى وسوم قد وسمت بها

من حان موعظة يا زهرة اليمن! (١)

فسماه زهرة اليمن متابعة له ، وحكاية للفظه. وقد تقدّم القول على هذا الموضع.

ومن ذلك ما يدعيه الكوفيون من زيادة واو العطف ؛ نحو قول الله ـ عزوجل ـ (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] (قالوا : الواو هنا زائدة مخرجة عن العطف. والتقدير عندهم فيها : حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها). وزيادة الواو أمر لا يثبته البصريون. لكنه عندنا على حذف الجواب ، أى حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها كذا وكذا صدقوا وعدهم ، وطابت نفوسهم ، ونحو ذلك مما يقال فى مثل هذا.

وأجاز أبو الحسن زيادة الواو فى خبر كان ؛ نحو قولهم : كان ولا مال له ، أى كان لا مال له. ووجه جوازه عندى شبه خبر كان بالحال ، فجرى مجرى قولهم : جاءنى ولا ثوب عليه ، أى جاءنى عاريا.

__________________

(١) حان : أى هلك.

٢٢٢

فأمّا (هل) فقد أخرجت عن بابها إلى معنى قد ؛ نحو قول الله ـ سبحانه ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١] قالوا : معناه : قد أتى عليه ذلك. وقد يمكن عندى أن تكون مبقّاة فى هذا الموضع على بابها من الاستفهام ، فكأنه قال ـ والله أعلم ـ : هل أتى على الإنسان هذا؟ فلا بدّ فى جوابه من (نعم) ملفوظا بها أو مقدرة ، أى فكما أن ذلك كذلك فينبغى للإنسان أن يحتقر نفسه ، ولا يبأى بما فتح له. وهذا كقولك لمن تريد الاحتجاج عليه : بالله هل سألتنى فأعطيتك! أم هل زرتنى فأكرمتك!. أى فكما أن ذلك كذلك فيجب أن تعرف حقّى عليك ، وإحسانى إليك. ويؤكّد هذا عندك قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٢ ، ٣] أفلا تراه ـ عزّ اسمه ـ كيف عدّد عليه أياديه وألطافه له.

فإن قلت : فما تصنع بقول الشاعر :

سائل فوارس يربوع بشدّتنا

أهل رأونا بسفح القفّ ذى الأكم (١)

ألا ترى إلى دخول همزة الاستفهام على هل ، ولو كانت على ما فيها من الاستفهام لم تلاق همزته لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد. وهذا يدلّ على خروجها عن الاستفهام إلى معنى الخبر.

قيل : هذا قول يمكن أن يقوله صاحب هذا المذهب.

ومثله خروج الهمزة عن الاستفهام إلى التقرير ؛ ألا ترى أن التقرير ضرب من الخبر ، وذلك ضدّ الاستفهام. ويدلّ على أنه قد فارق الاستفهام امتناع النصب بالفاء فى جوابه ، والجزم بغير الفاء (فى جوابه) ألا تراك لا تقول : ألست صاحبنا

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لزيد الخيل فى ديوانه ص ١٥٥ ، والجنى الدانى ص ٣٤٤ ، والدرر ٥ / ١٤٦ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٧٢ ، وشرح المفصل ٨ / ١٥٢ ، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ٣٥٨ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٤٢٧ ، ٧ / ٥٥ ، وتذكرة النحاة ص ٧٨ ، وجواهر الأدب ص ٢٨١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٦١ ، ٢٦٣ ، ٢٦٦ ، ورصف المبانى ص ٤٠٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٨٥ ، واللمع ص ٣١٧ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٥٢ ، والمقتضب ١ / ٤٤ ، ٣ / ٢٩١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧٧ ، ١٣٣. ويروى : (القاع) مكان (القف). القفّ : ما ارتفع من الأرض وغلظ ولم يبلغ أن يكون جبلا. اللسان (قفف).

٢٢٣

فنكرمك ؛ كما تقول ؛ لست صاحبنا فنكرمك. ولا تقول فى التقرير : أأنت فى الجيش أثبت اسمك ؛ كما تقول فى الاستفهام الصريح : أأنت فى الجيش أثبت اسمك ؛ كما نقول : ما اسمك أذكرك أى إن أعرفه أذكرك. ولأجل ما ذكرنا من حديث همزة التقرير ما صارت تنقل النفى إلى الإثبات ، والإثبات إلى النفى ؛ وذلك كقوله :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (١)

أى (أنتم كذاكم) وكقول الله ـ عزوجل ـ (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : ٥٩] ، (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] أى لم يأذن لكم ، ولم تقل للناس : اتخذونى وأمى إلهين ، ولو كانت استفهاما محضا لأقرّت الإثبات على إثباته ، والنفىّ على نفيه.

فإذا دخلت (٢) على الموجب نفته ، (وإذا دخلت على النفى نفته) و (نفى النفى عائد) به إلى الإثبات. ولذلك لم يجيزوا ما زال زيد إلا قائما لمّا آل به المعنى (من النفى) إلى : ثبت زيد إلا قائما. فكما لا يقال هذا فكذلك لا يقال ذلك. فاعرفه.

ويدلّ على صحّة معنى التناكر فى همزة التقرير أنها قد أخلصت للإنكار فى نحو قولهم فى جواب قوله ضربت عمر : أعمراه! ومررت بإبراهيم : أإبراهيماه.

ورأيت جعفرا : (أجعفرنيه ، وأ جعفرا إنيه!). وهذا واضح.

واعلم أنه ليس شيء يخرج عن بابه إلى غيره إلا لأمر قد كان وهو على بابه ملاحظا له ، وعلى صدد من الهجوم عليه.

وذلك أن المستفهم عن الشىء قد يكون عارفا به مع استفهامه فى الظاهر عنه ، لكن غرضه فى الاستفهام عنه أشياء. منها أن يرى المسئول أنه خفى عليه ليسمع جوابه عنه. ومنها أن يتعرف حال المسئول هل هو عارف بما السائل عارف به.

ومنها أن يرى الحاضر غيرهما أنه بصورة السائل المسترشد ؛ لما له فى ذلك من الغرض. ومنها أن يعدّ ذلك لما بعده ممّا يتوقّعه ، حتى إن حلف بعد أنه قد سأله

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لجرير فى ديوانه ص ٨٥ ، ٨٩ ، والجنى الدانى ص ٣٢ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٢ ، ولسان العرب (نقص) ، ومغنى اللبيب ١ / ١٧ ، وبلا نسبة فى رصف المبانى ص ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢.

(٢) أى همزة التقرير.

٢٢٤

عنه حلف صادقا ، فأوضح بذلك عذرا. و (لغير ذلك) من المعانى التى يسأل السائل عما يعرفه لأجلها وبسببها.

فلمّا كان السائل فى جميع هذه الأحوال قد يسأل عما هو عارفه ، أخذ بذلك طرفا من الإيجاب ، لا السؤال عن مجهول الحال. وإذا كان ذلك كذلك جاز لأجله أن يجرّد فى بعض الأحوال ذلك الحرف لصريح ذلك المعنى. فمن هنا جاز أن تقع (هل) فى بعض الأحوال موضع (قد) ؛ كما جاز لأو أن تقع فى (بعض الأحوال موقع) الواو ؛ نحو قوله:

وكان سيّان ألا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبّرت السوح (١)

جاز ذلك لما كنت تقول : جالس الحسن أو ابن سيرين ، فيكون مع ذلك متى جالسهما جميعا كان فى ذلك مطيعا. فمن هنا جاز أن يخرج فى البيت ونحوه إلى معنى الواو.

(وكل) حرف فيما بعد يأتيك قد أخرج عن بابه إلى باب آخر فلا بدّ أن يكون قبل إخراجه إليه قد كان يرائيه ، ويلتفت إلى الشقّ الذى هو فيه. فاعرف ذلك ، وقسه ؛ فإنك إذا (فعلته) لم تجد الأمر إلا كما ذكرته ، وعلى ما شرحته.

* * *

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى خزانة الأدب ٥ / ١٣٤ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، وشرح أشعار الهذليين ص ١٢٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٤٥ ، وشرح شواهد المغنى ص ١٩٨ ، ولسان العرب (سوا) ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٤ / ٨٩ ، ١١ / ٧٠ ، ورصف المبانى ص ١٣٢ ، ٤٢٧ ، وشرح المفصل ٨ / ٩١ ، ومغنى اللبيب ص ٦٣.

٢٢٥

باب فى إيراد المعنى المراد ، بغير اللفظ المعتاد

اعلم أن هذا موضع قد استعملته العرب ، واتبعتها فيه العلماء. والسبب فى هذا الاتساع أن المعنى المراد مفاد من الموضعين جميعا ، فلمّا آذنا به وأدّيا إليه سامحوا أنفسهم فى العبارة عنه ؛ إذ المعانى عندهم أشرف من الألفاظ. وسنفرد لذلك بابا.

فمن ذلك ما حكاه أبو الحسن : أنه سأل أعرابيّا عن تحقير الحبارى ، فقال : حبرور. (وهذا) جواب من قصد الغرض ولم يحفل باللفظ ؛ إذ لم يفهم غرض أبى الحسن ، فجاء بالحبرور ؛ لأنه فرخ الحبارى. وذلك أن هذا الأعرابىّ تلقى سؤال أبى الحسن بما هو الغرض عند الكافّة فى مثله ، ولم يحفل بصناعة الإعراب التى إنما هى لفظية ولقوم مخصوصين ، من بين أهل الدنيا أجمعين. ونحو من ذلك أنى سألت الشجرىّ ، فقلت : كيف تجمع المحرنجم؟ فقال : وأيش فرّقه حتى أجمعه! وسألته يوما (فقلت) : كيف تحقّر الدمكمك؟ فقال : شخيت (١). فجاء بالمعنى الذى يعرفه هو ، ولم يراع مذهب الصناعة.

ونحو من هذا ما يحكى عن أبى السّمال أنه كان يقرأ : «فحاسوا خلال الديار» [الإسراء : ٥] ، فيقال له : إنما هو فجاسوا ، فيقول : جاسوا وحاسوا واحد (٢). وكان أبو مهديّة إذا أراد الأذان قال : الله أكبر مرتين ، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين ، ثم كذلك إلى آخره. فإذا قيل له : ليست السنّة كذلك ، إنما هى : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله إلى آخره ، فيقول : قد عرفتم أنّ المعنى واحد ، والتكرار عىّ. وحكى عيسى بن عمر ، قال : (سمعت ذا الرمّة ينشد) :

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن

عليها الصّبا واجعل يديك لها سترا (٣)

__________________

(١) الدمكمك من الرجال والإبل : القوى الشديد. والشخيت : النحيف الجسم.

(٢) جاسوا وحاسوا بمعنى واحد يذهبون ويجيئون. اللسان (جوس).

(٣) الشخت : الحطب الدقيق.

٢٢٦

فقلت : أنشدتنى : من بائس ، فقال (يابس وبائس) واحد. وأخبرنا أبو بكر محمد ابن الحسن عن أبى العباس أحمد بن يحيى قال (أنشدنى ابن الأعرابى) :

وموضع زبن لا أريد مبيته

كأنى به من شدّة الروع آنس (١)

فقال له شيخ من أصحابه : ليس هكذا أنشدتنا ، إنما أنشدتنا : وموضع ضيق.

فقال : سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزبن والضيق واحد ، وقد قال الله سبحانه وهو أكرم قيلا : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزل القرآن على سبع لغات كلها شاف كاف» (٢).

وهذا ونحوه ـ عندنا ـ هو الذى أدى إلينا أشعارهم وحكاياتهم بألفاظ مختلفة ، على معان متفقة. وكان أحدهم إذا أورد المعنى المقصود بغير لفظه المعهود ، كأنه لم يأت إلا به ، (ولا عدل) عنه إلى غيره ؛ إذ الغرض فيهما واحد ، وكل واحد منهما لصاحبه مرافد. وكان أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ إذا عبر عن معنى بلفظ ما فلم يفهمه القارئ عليه ، وأعاد ذلك المعنى عينه بلفظ غيره ففهمه ، يقول : هذا إذا رأى ابنه فى قميص أحمر عرفه ؛ فإن رآه فى قميص كحلىّ لم يعرفه.

فأما الحكاية عن الحسن ـ رضى الله عنه ـ وقد سأله رجل عن مسئلة ، ثم أعاد السؤال فقال له الحسن : لبّكت علىّ أى خلطت ، فتأويله عندنا أنه أفسد المعنى الأوّل بشىء جاء به فى القول الثانى. فأمّا أن يكون الحسن تناكر الأمر لاختلاف اللفظين (مع اتفاق) المعنيين فمعاذ الله ، و (حاشى أبا سعيد) (٣). ويشبه أن يكون الرجل لمّا أعاد سؤاله بلفظ ثان قدّر أنه بمعنى اللفظ الأوّل ولم يحسن ما فهمه الحسن رضى الله عنه ، كالذى يعترف عند القاضى بما يدّعى عليه ، وعنده أنه مقيم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للمرقش الأكبر فى ديوانه ص ٥٧٤ ، ولسان العرب (زبن) ، وتاج العروس (زبن) ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٠٠١ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (زبق). ويروى : (زبق) مكان (زبن).

(٢) أخرجه البخارى فى «فضائل القرآن» (٤٩٩٢) ، وله غير موضع ، ومسلم بلفظ «أنزل القرآن على سبعة أحرف».

(٣) أبو سعيد كنية الحسن البصرىّ.

٢٢٧

على إنكاره إياه. ولهذا نظائر. ويحكى أن قوما ترافعوا إلى الشعبىّ فى رجل بخص عين رجل فشرقت بالدم ، فأفتى فى ذلك بأن أنشد بيت الراعى :

لها أمرها حتى إذا ما تبوّأت

بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا (١)

لم يزدهم على هذا. وتفسيره أن هذه العين ينتظر بها أن يستقرّ أمرها على صورة معروفة محصّلة ، ثم حينئذ يحكم فى بابها بما توجبه الحال من أمرها.

فانصرف القوم بالفتوى ، وهم عارفون بغرضه فيها.

(وأمّا) أتباع العلماء العرب فى هذا النحو فكقول سيبويه : «ومن العرب من يقول : لبّ فيجرّه كجرّ أمس وغاق» ؛ ألا ترى أنه ليس فى واحد من الثلاثة جرّ ؛ إذ الجرّ إعراب لا بناء ، وهذه الكلم كلها مبنيّة (لا معربة) فاستعمل لفظ الجرّ على معنى الكسر ، كما يقولون فى المنادى المفرد المضموم : إنه مرفوع ، وكما يعبرون بالفتح عن النصب ، وبالنصب عن الفتح ، وبالجزم عن الوقف (وبالوقف عن الجزم) كلّ ذلك لأنه أمر قد عرف غرضه والمعنى المعنىّ به.

وإذا جاز أن يكون فى أصول هذه اللغة المقرّرة اختلاف اللفظين والمعنى واحد كان جميع ما نحن فيه جائزا سائغا ، ومأنوسا به متقبلا.

* * *

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للراعى النميرى فى ديوانه ص ١٦٤ ، والاشتقاق ص ٢٩٥ ، وأمالى القالى ٢ / ١٤٠ ، والمزهر ٢ / ٤٤٢ ، وأمالى المرتضى ١ / ٣٢٢ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٧٣١ ، وتاج العروس (شرق) ، ولسان العرب (شرق).

٢٢٨

باب فى ملاطفة الصنعة

وذلك أن ترى العرب قد غيّرت شيئا من كلامها من صورة إلى صورة ، فيجب حينئذ أن تتأتّى لذلك وتلاطفه ، لا أن تخبطه وتتعسّفه. وذلك كقولنا فى قولهم فى تكسير جرو ودلو أجر وأدل : إن أصله أجرو ، وأدلو ، فقلبوا الواو ياء. وهو ـ لعمرى ـ كذلك ، إلا أنه يجب عليك أن تلاين الصنعة ولا تعازّها ؛ فتقول : إنهم أبدلوا من ضمّة العين كسرة ، فصار تقديره : أجرو وأدلو. فلما انكسر ما قبل الواو ـ وهى لام ـ قلبت ياء ، فصارت أجرى وأدلى ، وإنما وجب أن يرتب هذا العمل هذا الترتيب من قبل أنك لمّا كرهت الواو هنا لما تتعرض له من الكسرة والياء فى أدلوى وأدلوىّ لو سمّيت (١) رجلا بأدلو ثم أضفت إليه ، فلما ثقل ذلك بدءوا بتغيير الحركة الضعيفة تغييرا عبطا وارتجالا. فلمّا صارت كسرة تطرقوا بذلك إلى قلب الواو ياء تطرقا صناعيّا. ولو بدأت فقلبت الواو ياء بغير آلة القلب من الكسرة قبلها لكنت قد استكرهت الحرف على نفسه تهالكا وتعجرفا ، لا رفقا وتلطفا. ولمّا فعلت ذلك فى الضمة كان أسهل منه فى (الواو و) الحرف ؛ لأن ابتذالك الضعيف أقرب مأخذا من إنحائك على القوىّ. (فاعرف ذلك) (أصلا فى هذا الباب).

وكذلك باب فعول ممّا لامه واو ، كدلو ودلىّ ، وحقو وحقى (أصله دلوّ وحقوّ). فلك فى إعلال هذا إلى حقى ودلىّ طريقان.

إن شئت شبهت واو فعول المدغمة (٢) بضمة عين أفعل فى أدلو وأحقو فأبدلت (منها ياء ؛ كما أبدلت) من تلك الضمة كسرة ، فصارت : حقيو. ثم أبدلت الواو التى هى لام ياء ؛ لوقوع الياء ساكنة قبلها ، فصارت حقى ، ثم أتبعت فقلت : حقى. وهذا أيضا ممّا أبدلت من ضمّة عينه كسرة ، فتنقلب واو فعول بعدها ياء

__________________

(١) شرط هذا لأنه جمع فلا ينسب إليه على لفظه إلا إذا كان علما ، وإلا نسب إلى مفرده. (نجار).

(٢) يجرى الصرفيون الإعلال فى مثل هذا قبل الإدغام : فإن الإدغام يقوى الحرف فيتأبى على الإعلال. (نجار).

٢٢٩

كالباب الأوّل. فصارت أوّل : حقوّ ، ثم حقيو ، (ثم حقى) ثم حقى. فهذا وجه.

وإن شئت قلت : بدأت بدلوّ فأبدلت لامها لضعفها بالتطرف (وثقلها) ياء ، فصارت دلوى وحقوى. ثم أبدلت الواو ياء لوقوع الياء بعدها ، فصارت حقى (ثم أبدلت من الضمة فى العين كسرة لتصحّ الياء بعدها ، فصارت : حقى) ثم أتبعت فقلت : حقى (ودلىّ).

ومن ذلك قولهم : إن أصل قام قوم ، فأبدلت الواو ألفا. وكذلك باع أصله بيع ، ثم أبدلت الياء ألفا ؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. وهو ـ لعمرى ـ كذلك ، إلا أنك لم تقلب واحدا من الحرفين إلا بعد أن أسكنته استثقالا لحركته ، فصار إلى قوم وبيع ، ثم انقلبا لتحرّكهما فى الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن. ففارقا بذلك باب ثوب وشيخ ؛ لأن هذين ساكنا العينين ، ولم يسكنا عن حركة ولو رمت قلب الواو والياء من نحو قوم وبيع وهما متحركتان لاحتمتا بحركتيهما ، فعزّتا فلم تنقلبا. فهذا واضح.

ومن ذلك ستّ ؛ أصلها سدس ، فلمّا كثرت فى الكلام أبدلوا السين تاء ؛ كقولهم : النات فى الناس ونحوه ، فصارت سدت. (فلما تقارب الحرفان فى مخرجيهما أبدلت الدال تاء وأدغمت فى التاء فصارت ستّ). ولو بدأت هذا الإبدال عاريا من تلك الصنعة لكان استطالة على الحرفين ، وهتكا للحرمتين.

فاعرف بهذا النحو هذه الطريق ، ولا تقدمنّ على أمر من التغيير إلا لعذر فيه وتأتّ له ما استطعت. فإن لم تجن على الأقوى كانت جنايتك على الأضعف ؛ لتتطرق به إلى إعلال الأقوى أعذر وأولى. فأبه له وقس عليه.

فأمّا قوله :

*أو الفا مكّة من ورق الحمى (١) *

فلم تكن الكسرة لتقلب الميم ياء ؛ ألا تراك تقول : تظنّيت وتقصّيت والفتحة

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ٢ / ٤٥٣. (فيه «الحمى» مكان «الحمى» ، وهى الرواية الصحيحة ورواية اللسان محرفة). ولسان العرب (ألف) ، (منى) ، (وفيه «الحما» مكان «الحمى»). ويروى : قواطنا بدلا من أو ألفا.

٢٣٠

هناك ، لكنه كسر للقافية.

ومن ذلك مذهب أبى الحسن فى قول الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨] لأنه ذهب إلى أنه حذف حرف الجر فصار تجزيه ، ثم حذف الضمير فصار تجزى. فهذه ملاطفة (من الصنعة). ومذهب سيبويه أنه حذف (فيه) دفعة واحدة.

* * *

٢٣١

باب فى التجريد

اعلم أن هذا فصل من فصول العربية طريف حسن. ورأيت أبا على ـ رحمه‌الله ـ به غريا معنيّا ، ولم (يفرد له) بابا ، لكنه وسمه فى بعض ألفاظه بهذه السمة ، فاستقريتها منه وأنقت لها. ومعناه أن (العرب قد تعتقد) أن فى الشىء من نفسه معنى آخر ، كأنه حقيقته ومحصوله. وقد يجرى ذلك إلى ألفاظها لما عقدت عليه معانيها. وذلك نحو قولهم : لئن لقيت زيدا لتلقينّ منه الأسد ، ولئن سألته لتسئلن منه البحر. فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا ، وهو عينه هو الأسد والبحر (لا أن) هناك شيئا منفصلا عنه وممتازا منه.

وعلى هذا يخاطب الإنسان منهم نفسه ، حتى كأنها تقابله أو تخاطبه.

ومنه قول الأعشى :

*وهل تطيق وداعا أيها الرجل (١) *

وهو الرجل نفسه لا غيره. وعليه قراءة من قرأ (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢) [البقرة : ٢٥٩] أى اعلم أيها الإنسان ، وهو نفسه الإنسان ؛ وقال تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصلت : ٢٨] وهى نفسها (دار الخلد).

وقال الأعشى :

لات هنّا ذكرى جبيرة أم من

جاء منها بطائف الأهوال (٣)

__________________

(١) عجز بيت من البسيط ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٠٥ ، ولسان العرب (جهنم) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٢٦ ، وتاج العروس (ودع). وصدره :

*ودع هريرة إن الركب مرتحل*

(٢) وهى قراءة حمزة والكسائى. السبعة لابن مجاهد ص ١٨٩.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ٥٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٩٦ ، ١٩٨ ، والدرر ٢ / ١١٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٠٠ ، وشرح المفصل ٣ / ١٧ ، ولسان العرب (هنا) ، (هنأ) ، والمحتسب ٢ / ٣٩ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٠٦ ، ٤ / ١٩٨ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ٢٨٩ ، ورصف المبانى ص ١٧٠ ، والمقرب ١ / ١٢٦.

٢٣٢

وهى نفسها الجائية بطائف الأهوال.

وقد تستعمل الباء هنا فتقول : لقيت به الأسد ، وجاورت به البحر ، أى لقيت بلقائى إيّاه الأسد. ومنه مسئلة الكتاب : أمّا أبوك فلك أب ، أى لك منه أو به أو بمكانه أب. وأنشدنا :

أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا

وفى الله إن لم يعدلوا حكم عدل (١)

وهذا غاية البيان والكشف ؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يعتقد أن الله سبحانه ظرف لشيء ولا متضمّن له ، فهو إذا على حذف المضاف ، أى فى عدل الله عدل حكم عدل.

(وأنشدنا :

بنزوة لصّ بعد ما مر مصعب

بأشعث لا يفلى ولا هو يقمل (٢)

ومصعب نفسه هو الأشعث). وأنشدنا :

جازت البيد إلى أرحلنا

آخر الليل بيعفور خدر (٣)

وهى نفسها اليعفور. وعليه جاء قوله :

يا نفس صبرا كل حىّ لاق

وكل اثنين إلى افتراق (٤)

وقول الآخر :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبى الخطار الكلبى فى حماسة ابن الشجرى ص ٤ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (حكم) ، وجمهرة اللغة ص ٥٦٤ ، وتاج العروس (حكم). ويروى : أفادت بدلا من أفاءت ، وقيسا بدلا من ظلما ، ولم يحكموا بدلا من لم يعدلوا.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للأخطل فى ديوانه ص ٢٧١ ، والمحتسب ١ / ٤١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٩٧. الأشعث : الوتد. اللسان (شعث).

(٣) البيت من الرمل ، وهو لطرفة فى ديوانه ص ٥٠ ، ولسان العرب (خدر) ، (عفر) ، (رحل) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٢٦٥ ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٦٠ ، ٤ / ٣٧٢ ، ومجمل اللغة ٢ / ١٦٣ ، وديوان الأدب ٢ / ٢٣٢ ، وكتاب العين ٢ / ٣٤٢.

(٤) الرجز بلا نسبة فى الدرر ٦ / ٢٣٩ ، ورصف المبانى ص ٤١ ، وسر صناعة الإعراب ص ٣٤١ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧.

٢٣٣

قالت له النفس إنى لا أرى طمعا

وإنّ مولاك لم يسلم ولم يصد (١)

وقول الآخر :

أقول للنفس تأساء وتعزية

إحدى يدىّ أصابتنى ولم ترد (٢)

(وأما) قوله ـ عزّ اسمه (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧] فليس من ذا ، بل النفس هنا جنس (وهو) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] و (نحوه). وقد دعا تردد هذا الموضع على الأسماع ، ومحادثته الأفهام ، أن ذهب قوم (٣) إلى أن الإنسان هو معنى ملتبس بهذا الهيكل الذى (يراه) ، ملاق له ، وهذا الظاهر مماسّ لذلك الباطن ، كل جزء منه منطو عليه ومحيط به.

* * *

__________________

(١) البيت من البسيط. وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه.

(٢) البيت من البسيط وهو لأعرابى فى خزانة الأدب ٤ / ٣١٢ ، ٦ / ٣٦١ ، وشرح المفصل ٣ / ١٠.

(٣) يعزى مثل هذا القول إلى الإمام مالك رضى الله عنه فى الروح ، وهو فى الحقيقة لأتباعه. نجار.

٢٣٤

باب فى غلبة الزائد للأصلى

أمّا إذا كان الزائد ذا معنى فلا نظر فى استبقائه وحذف الأصلىّ لمكانه ؛ نحو قولهم هذا قاض ومعط ؛ ألا تراك حذفت الياء التى هى لام للتنوين ؛ إذا كان ذا معنى أعنى الصرف. ومثل ذلك قوله :

*لاث به الأشاء والعبرىّ (١) *

حذفت عين فاعل وأقررت ألفه ؛ إذ كانت دليلا على اسم الفاعل. ومثله قوله :

*شاك السلاح بطل مجرّب (٢) *

وهذا أحد ما يقوّى قول أبى الحسن فى أن المحذوف من باب مقول ومبيع إنما هو العين ؛ من حيث كانت الواو دليلا على اسم المفعول. وقال ابن الأعرابىّ فى قوله :

*فى بئر لاحور سرى وما شعر (٣) *

أراد : حئور أى فى بئر (لا حؤور) لا رجوع. قال : فأسكنت الواو الأولى ،

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٤٩٠ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤١١ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٦٧ ، والكتاب ٣ / ٤٦٦ ، ٤ / ٣٧٧ ، ولسان العرب (لثى) ، (عبر) ، وتاج العروس (لوث) ، (عبر) ، وكتاب العين ٢ / ١٣٠ ، ٢٣٩ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٢٠٩ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٧ ، ١٥ / ١٢٩ ، والمخصص ١٦ / ٢٠ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٢٦٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٢٨ ، والمقتضب ١ / ١١٥ ، والمنصف ١ / ٥٢ ، ٣ / ٦٦ ، والمخصص ١٠ / ٢٢٢.

(٢) الرجز لمرحب اليهودى فى لسان العرب (شوك) ، وتاج العروس (شوك). وقبله :

*قد علمت خيبر أنى مرحب*

(٣) الرجز للعجاج فى ديوانه ٢٠ ، ٢٢ ، والأزهيّة ص ١٥٤ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٦٤ ، وخزانة الأدب ٤ / ٥١ ، ٥٢ ، ٥٣ ، وشرح المفصل ٨ / ١٣٦ ، وتاج العروس (حور) ، (لا) ، وتهذيب اللغة ٥ / ٢٢٨ ، ١٥ / ٤١٨ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (جور) ، (غير) ، (لا) ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٢٤ ، وجمهرة اللغة ص ٥٢٥ ، ومجمل اللغة ٢ / ١٢٠ ، وبعده :

*بإفكه حتى رأى الصبح جشر*

٢٣٥

وحذفت لسكونها وسكون الثانية بعدها. وكذلك حذفت لام الفعل لياءى الإضافة فى نحو مصطفىّ وقاضىّ ومرامىّ (فى مرامى). وكذلك باب يعد ويزن ؛ حذفت فاؤه لحرف المضارعة الزائد (كل ذلك) لما كان الزائد ذا معنى. وهذا أحد ما يدلّ على شرف المعانى عندهم ورسوخها فى أنفسهم. نعم ، وقد حذفوا الأصل عند الخليل للزائدة وإن كانا متساويى المعنيين. وإذا كان ذلك جائزا عندهم ، ومسموعا فى لغتهم ، فما ظنّك بالحرف الزائد إذا كان ذا معنى. وذلك قوله :

بنى عقيل ماذه الخنافق!

لمال هدى والنساء طالق

(فالخنافق) جمع خنفقيق والنون زائدة ، والقاف الأولى عند الخليل هى الزائدة ، والثانية هى الأصل وهى المحذوفة ـ وقد قدّمنا دليل ذلك ـ والنون والقاف جميعا لمعنى واحد ، وهو الإلحاق.

(فإذا) كانوا قد حذفوا الأصل للزائد وهما فى طبقة واحدة ـ أعنى اجتماعهما على كونهما للإلحاق ـ فكيف ـ ليت شعرى ـ تكون الحال إذا كان الزائد لمعنى والأصلىّ المحذوف لغير معنى! وهذا واضح.

وفى قولهم : خنافق تقوية لقول سيبويه فى تحقير مقعنسس وتكسيره (مقاعس ومقيعس) فاعرفه ؛ فإنه قوىّ فى بابه.

بل إذا كانوا قد حذفوا الملحق للملحق فحذف الملحق لذى المعنى ـ وهو الميم ـ أقوى وأحجى. وكأنهم إنما أسرعوا إلى حذف الأصلى للزائد ؛ تنويها به ، وإعلاء له ، وتثبيتا لقدمه فى أنفسهم ، وليعلموا بذلك قدره عندهم وحرمته فى تصوّرهم ولحاقه بأصول الكلم فى معتقدهم ؛ ألا تراهم قد يقرّونه فى الاشتقاق مما هو فيه إقرارهم الأصول. وذلك قولهم : قرنيت السقاء إذا دبغته بالقرنوة ، فاشتقّ الفعل منها وأقرت الواو الزائدة فيها ، حتى أبدلت ياء فى قرنيت. ومثله قولهم : قلسيت الرجل ؛ فالياء هنا بدل من واو قلنسوة الزائدة ، ومن قال قلنسته فقد أثبت أيضا النون وهى زائدة. وكذلك قولهم : تعفرت الرجل إذا خبث ، فاشتق من العفريت وفيه التاء زائدة.

فنظير تقويتهم أمر الزائد وحذف الأصل له قول الشاعر :

٢٣٦

أميل مع الذمام على ابن عمّى

وأحمل للصديق على الشقيق (١)

وجميع ما ذكرناه من قوّة الزائد عندهم وتمكّنه فى أنفسهم يضعف قول من حقّر تحقير الترخيم ، ومن كسّر على حذف الزيادة. وقد ذكرنا هذا. إلا أن وجه جواز ذلك قول الآخر:

كيما أعدّهم لأبعد منهم

ولقد يجاء إلى ذوى الأحقاد (٢)

وقول المولّد :

*وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع*

وقول الآخر :

أخاك أخاك إن من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح (٣)

(وهو باب واسع).

__________________

(١) الذمام : الحق والحرمة.

(٢) البيت من الكامل ، وهو للأسدى فى كتاب الجيم ١ / ٧٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لمسكين الدارمى فى ديوانه ص ٢٩ ، والأغانى ٢٠ / ١٧١ ، ١٧٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٦٥ ، ٦٧ ، والدرر ٣ / ١١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٢٧ ، وشرح التصريح ٢ / ١٩٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٥ ، ولمسكين أو لابن هرمة فى فصل المقال ص ٢٦٩ ، ولقيس بن عاصم فى حماسة البحترى ص ٢٤٥ ، ولقيس بن عاصم أو لمسكين الدارمى فى الحماسة البصرية ٢ / ٦٠ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٧٩ ، وتخليص الشواهد ص ٦٢ ، والدرر ٦ / ٤٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٨٨ ، وشرح قطر الندى ص ١٣٤ ، والكتاب ١ / ٢٥٦.

٢٣٧

باب فى أن ما لا يكون للأمر وحده

قد يكون له إذا ضام غيره

من ذلك الحرف الزائد ، لا يكون للإلحاق أوّلا ؛ كهمزة أفعل وأفعل وإفعل وأفعل وإفعل ونحو ذلك ؛ وكذلك ميم مفعل ونحوه ، وتاء تفعل ونحوه. فإذا انضمّ إلى الزيادة أوّلا زيادة أخرى صارت للإلحاق. وذلك (نحو ألندد وألنجج ، الهمزة والنون للإلحاق. وكذلك) يلندد ويلنجج (فإن زالت النون لم تكن الهمزة ولا الياء وحدهما للإلحاق. وذلك نحو ألدّ ويلجّ).

وعلّة ذلك أن الزيادة فى أوّل الكلمة إنما بابها معنى المضارعة ، وحرف المضارعة إنما يكون مفردا أبدا ، فإذا انضمّ إليه غيره خرج بمضامّته إياه عن أن يكون للمضارعة ، فإذا خرج عنها وفارق الدلالة على المعنى جعل للإلحاق ؛ لأنه قد أمن بما انضمّ إليه أن يصلح للمعنى.

وكذلك ميم مفعول ؛ جعلت واو مفعول وإن كانت للمد دليلة على معنى اسم المفعول ؛ ولو لا الميم لم تكن إلا للمدّ ؛ كفعول وفعيل وفعال ونحو ذلك ، إلا أنها وإن كانت قد أفادت هذا المعنى فإنّ ما فيها من المدّ والاستطالة معتدّ فيها مراعى من حكمها. ويدلّك على بقاء المدّ فيها واعتقادها مع ما أفادته من معنى اسم المفعول له (١) أنّ العرب لا تلقى عليها حركة الهمزة بعدها ، إذا آثرت تخفيفها ، بل تجريها مجراها وهى للمدّ خالصة ؛ ألا تراهم يقولون فى تخفيف مشنوءة بالادغام ألبتة ؛ كما يقولون فى تخفيف شنوءة. وذلك قولهم : مشنوّة كشنوّة ، فلا يحرّكون واو مفعول كما لا يحرّكون واو مفعول ؛ وإن كانت واو مفعول تفيد مع مدّها اسم المفعول ، وواو فعول مخلصة للمدّ ألبتّة.

فإن قلت : فما تقول فى أفعول نحو أسكوب هل هو ملحق بجرموق؟ قيل : لا ، ليس ملحقا به ، بل الهمزة فيه للبناء والواو فيه للمدّ ألبتة ؛ لأن حرف المدّ إذا جاور الطرف لا يكون للإلحاق أبدا ؛ لأنه كأنه إشباع للحركة كالصياريف ونحوه ،

__________________

(١) اعتقادها للمدّ : إحرازها له ، من قولهم : اعتقد ضيعة أى اقتناها.

٢٣٨

ولا يكون أفعول إلا للمدّ ؛ ألا ترى أنك لا تستفيد بهمزة أفعول وواوه معنى مخصوصا ؛ كما تستفيد بميم مفعول وواوه معنى مخصوصا ، وهو إفادة اسم المفعول. فهذا من طريق التأمّل واضح. وإذا كان كذلك فكذلك إفعيل لا يكون ملحقا. وأبين منه باب إفعال ؛ لأنه موضوع للمعنى وهو المصدر ؛ نحو الإسلام والإكرام. والمعنى أغلب على المثال من الإلحاق. وكذلك باب أفعال ؛ لأنه موضوع للتكسير ؛ كأقتاب وأرسان.

فإن قلت : فقد جاء عنهم نحو إمخاض ، وإسنام (١) ، (وإصحاب) وإطنابة (٢) ، قيل : هذا فى الأسماء قليل جدّا ، وإنما بابه المصادر ألبتّة. وكذلك ما جاء عنهم من وصف الواحد بمثال أفعال ؛ نحو برمة أعشار ، وجفنة أكسار ، وثوب أكباش (٣) وتلك الأحرف المحفوظة فى هذا. إنما هى على أن جعل كل جزء منها عشرا وكسرا وكبشا. وكذلك كبد أفلاذ (٤) ، وثوب أهباب وأخباب ، وحبل أرمام (٥) وأرماث وأقطاع وأحذاق ، وثوب أسماط ؛ كل هذا متأوّل فيه معنى الجمع.

وكذلك مفعيل ومفعول ومفعال ومفعل : ليس شيء من ذلك ملحقا ؛ لأن أصل زيادة الميم فى الأوّل إنما هى لمعنى ، وهذه غير طريق الإلحاق. ولهذا ادّغموه فقالوا : مصكّ ومتلّ ونحوهما. وأمّا أفاعل كأحامر وأجارد وأباتر (٦) ، فلا تكون الهمزة فيه والألف للإلحاق بباب قذعمل (٧). ومن أدلّ الدليل على ذلك أنك لا تصرف شيئا من ذلك علما. وذلك لما فيه من التعريف ومثال الفعل ؛ (لأنّ) أجارد وأباترا جار مجرى أضارب وأقاتل. وإذا جرى مجراه فقد لحق فى المثال به ، والهمزة فى ذلك إنما هى فى أصل هذا المثال للمضارعة ، والألف هى ألف فاعل فى جارد وباتر لو نطقوا به ، وهى كما تعلم للمعنى كألف ضارب وقاتل. فكل

__________________

(١) الأسنام : ثمر الحلىّ.

(٢) الإطنابة : المظلة.

(٣) هو ضرب من برود اليمن.

(٤) أى قطع.

(٥) أخباب وأرمام. أى بال قديم.

(٦) أحامر : اسم جبل ، وموضع بالمدينة. وأجارد : اسم موضع. وأباتر : هو القاطع لرحمه.

(٧) قذعمل : هو الضخم من الإبل.

٢٣٩

واحد من الحرفين إذا إنما هو للمعنى ، (وكونه) للمعنى أشدّ شيء إبعادا له عن الإلحاق ؛ لتضادّ القضيتين عليه ؛ من حيث كان الإلحاق طريقا صناعيا لفظيا ، والمعنى طريقا مفيدا معنويا. وهاتان طريقتان متعاديتان. وقد فرغنا منهما فيما قبل.

وأيضا فإن الألف لا تكون للإلحاق حشوا أبدا ، إنما تكون له إذا وقعت طرفا لا غير ، كأرطى ومعزى وحبنطى. وقد تقدّم ذلك أيضا.

ولا يكون أجارد أيضا ملحقا بعذافر ؛ لما قدّمناه : من أن الزيادة فى الأوّل لا تكون للإلحاق ، إلا أن يقترن بها حرف غير مدّ ؛ كنون ألندد وواو إزمول (١) وإسحوف (٢) وإدرون (٣) ؛ لكن دواسر (٤) ملحق بعذافر (٥). ومثله عياهم (٦). وكذلك كوألل (٧) ملحق بسبهلل الملحق بهمرجل (٨). وأدلّ دليل على إلحاقه ظهور تضعيفه ، أعنى كوأللا. ومثله سبهلل. فاعرفه.

ومثل طومار ـ عندنا ـ ديماس (٩) فيمن قال : دياميس ، وديباج فيمن قال : ديابيج ؛ هو ملحق بقرطاس ؛ (كما أن طومارا ملحق بفسطاط). وساغ أن تكون الواو الساكنة المضموم ما قبلها ، والياء الساكنة المكسور ما قبلها للإلحاق من حيث كانتا لا تجاوران الطّرف بحيث يتمكّن المدّ. وذلك أنك لو بنيت مثل طومار أو ديماس من سألت لقلت : سوآل وسيئال ؛ فإن خففت حركت كل واحد من الحرفين بحركة الهمزة التى بعده ، فقلت : سوال وسيال ، ولم تقلب الهمزة وتدغم فيها الحرف ؛ كمقروّ والنسىّ ؛ لأن الحرفين تقدّما عن الموضع الذى يقوى فيه حكم المدّ وهو جواره الطرف. وقد تقدّم ذلك.

فتأمل هذه المواضع التى أريتكها ؛ (فإن أحدا من أصحابنا لم يذكر شيئا منها).

__________________

(١) إزمول : هو المصوّت من الوعول وغيرها.

(٢) إسحوف : هى الناقة الكثيرة اللبن.

(٣) إدرون : هو معلف الدابة.

(٤) دواسر : هو الشديد الضخم.

(٥) عذافر : هو الأسد ، والعظيم الشديد من الإبل.

(٦) عياهم : هو الماضى السريع من الإبل.

(٧) كوألل : هو القصير.

(٨) بهمرجل : هو الخفيف العجل.

(٩) ديماس : من معانيه الحمّام.

٢٤٠