الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

لأنك وصفت المصدر وقد بقيت منه بقيّة ، فكان ذلك فصلا بين الموصول وصلته بصفته. وصحّتها أن تقول : عجبت من ضربك الشديد عمرا ؛ لأنه مفعول الضرب ، وتنصب عمرا بدلا من الشديد ؛ كقولك. مررت بالظريف عمرو ، ونظرت إلى الكريم جعفر. فإن أردت أن تصف المصدر بعد إعمالك إياه قلت : عجبت من ضربك الشديد عمرا الضعيف ، أى عجبت من أن ضربت هذا الشديد ضربا ضعيفا. هذا تفسير المعنى.

وهذا الموضع من هذا العلم كثير فى الشعر القديم والمولّد. فإذا اجتاز بك شيء منه فقد عرفت طريق القول فيه ، والرفق به إلى أن يأخذ مأخذه بإذن الله تعالى.

ومنه قول الحطيئة :

أزمعت يأسا مبينا من نوالكم

ولن ترى طاردا للحزّ كالياس (١)

أى يأسا من نوالكم مبينا. فلا يجوز أن يكون قوله (من نوالكم) متعلّقا بيأس وقد وصفه بمبين ، وإن كان المعنى يقتضيه ؛ لأن الإعراب مانع منه. لكن تضمر له ، حتى كأنك قلت : يئست من نوالكم.

ومن تجاذب الإعراب والمعنى ما جرى من المصادر وصفا ؛ نحو قولك : هذا رجل دنف ، وقوم رضا ، ورجل عدل. فإن وصفته بالصفة الصريحة قلت : رجل دنف ، وقوم مرضيّون ، ورجل عادل. هذا هو الأصل. وإنما انصرفت العرب عنه فى بعض الأحوال إلى أن وصفت بالمصدر لأمرين : أحدهما صناعىّ ، والآخر معنوىّ. أما الصناعىّ فليزيدك أنسا بشبه المصدر للصفة التى أوقعته موقعها ، كما أوقعت الصفة موقع المصدر ، فى نحو قولك : أقائما والناس قعود (أى تقوم قياما والناس قعود) ونحو ذلك.

وأما المعنوىّ فلأنه إذا وصف بالمصدر صار الموصوف كأنه فى الحقيقة مخلوق من ذلك الفعل. وذلك لكثرة تعاطيه له واعتياده إياه. ويدلّ على أن هذا معنى لهم ، ومتصوّر فى نفوسهم قوله ـ (فيما أنشدناه) ـ :

__________________

(١) البيت من البسيط وهو للحطيئة فى ديوانه ص ١٠٧ ، والأغانى ٢ / ١٥٤ ، وحاشية يس ٢ / ٦٣ ، وحماسة البحترى ص ١٦٦ ، والدرر ٥ / ٢٥١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٩١٦ ، ولسان العرب (نسس) ، والمحتسب ١ / ٣٠٧ ، ومغنى اللبيب ص ٢ / ٥٨٨ ، وهمع الهوامع.

٤٦١

ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل

وضنّت علينا والضنين من البخل (١)

أى كأنه مخلوق من البخل لكثرة ما يأتى به منه. ومنه قول الآخر :

* وهنّ من الإخلاف والولعان (٢) *

وقوله :

* وهنّ من الإخلاف بعدك والمطل*

وأصل هذا الباب عندى قول الله ـ عزوجل ـ : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] وقد ذكرنا هذا الفصل فيما مضى. فقولك إذا : هذا رجل دنف ـ بكسر النون ـ أقوى إعرابا ؛ لأنه هو الصفة المحضة غير المتجوّزة. وقولك : رجل دنف أقوى معنى لما ذكرناه : من كونه كأنه مخلوق من ذلك الفعل. وهذا معنى لا تجده ، ولا تتمكن منه مع الصفة الصريحة. فهذا وجه تجاذب الإعراب والمعنى ؛ فاعرفه وأمض الحكم فيه على أىّ الأمرين شئت.

* * *

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للبعيث (خداش بن بشر) ، ولسان العرب (جذم) ، (ضنن) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٨٥ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٢٢ ، والمحتسب ٢ / ٤٦ ، ومغنى اللبيب ١ / ٣١١.

(٢) الشطر من الطويل ، وهو للبعيث فى لسان العرب (ولع).

٤٦٢

باب فى التفسير على المعنى دون اللفظ

اعلم أن هذا موضع قد أتعب كثيرا من الناس واستهواهم ، ودعاهم من سوء الرأى وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به وتتايعوا فيه ؛ حتى إن أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة ، والأقوال المستشنعة ، إنما دعا إليها القائلين بها تعلّقهم بظواهر هذه الأماكن ، دون أن يبحثوا عن سرّ معانيها ، ومعاقد أغراضها.

فمن ذلك قول سيبويه فى بعض ألفاظه : حتّى الناصبة للفعل ، يعنى فى نحو قولنا : اتّق الله حتى يدخلك الجنّة. فإذا سمع هذا من يضعف نظره اعتدها فى جملة الحروف الناصبة للفعل ، وإنما النصب بعدها بأن مضمرة. وإنما جاز أن يتسمّح بذلك من حيث كان الفعل بعدها منصوبا بحرف لا يذكر معها ؛ فصارت فى اللفظ كالخلف له ، والعوض منه ، وإنما هى فى الحقيقة جارّة لا ناصبة.

ومنه قوله أيضا فى قول الشاعر :

أنا اقتسمنا خطّتينا بيننا

فحملت برّة واحتملت فجار (١)

إن فجار معدولة ع الفجرة. وإنما غرضه أنها معدولة عن فجرة (معرفة علما) على ذا يدلّ هذا الموضع من الكتاب. ويقوّيه ورود برّة معه فى البيت ، وهى ـ كما ترى ـ علم. لكنه فسّره على المعنى دون اللفظ. وسوّغه ذلك أنه لمّا أراد تعريف الكلمة المعدول عنها مثّل ذلك (بما تعرّف) باللام ؛ لأنه لفظ معتاد ، وترك لفظ فجرة ؛ لأنه لا يعتاد ذلك علما ، وإنما يعتاد نكرة (وجنسا) نحو فجرت فجرة كقولك : تجرت تجرة ؛ ولو عدلت برّة هذه على هذا الحدّ لوجب أن يقال فيها :

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٥٥ ، وإصلاح المنطق ص ٣٣٦ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٢٧ ، ٣٣٠ ، ٣٣٣ ، والدرر ١ / ٩٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢١٦ ، وشرح التصريح ١ / ١٢٥ ، وشرح المفصل ٤ / ٥٣ ، والكتاب ٣ / ٢٧٤ ، ولسان العرب (برر) ، (فجر) ، (حمل) ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٥ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٣٤٩ ، وجمهرة اللغة ص ٤٦٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٨٧ ، وشرح الأشمونى ١ / ٦٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ١٤١ ، وشرح المفصل ١ / ٣٨ ، ولسان العرب (أنن) ، ومجالس ثعلب ٢ / ٤٦٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٩ ، وتاج العروس (أنن).

٤٦٣

برار كفجار.

ومنه قولهم : أهلك والليل ؛ فإذا فسّروه قالوا : أراد : الحق أهلك قبل الليل.

وهذا ـ لعمرى ـ تفسير المعنى لا تقدير الإعراب ؛ فإنه على : الحق أهلك وسابق الليل.

ومنه ما حكاه الفرّاء من قولهم : معى عشرة فأحدهنّ ، أى اجعلهنّ أحد عشر.

وهذا تفسير المعنى ، أى أتبعهنّ ما يليهنّ (وهو) من حدوث الشىء إذا جئت بعده.

وأما اللفظ فإنه من (وح د) ؛ لأن أصل أحد وحد ؛ ألا ترى إلى قول النابغة :

كأنّ رحلى وقد زال النهار بنا

بذى الجليل على مستأنس وحد (١)

أى منفرد ، وكذلك الواحد إنما هو منفرد. وقلب هذه الواو المفتوحة المنفردة شاذّ ومذكور فى التصريف. وقال لى أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ بحلب سنة ست وأربعين : إن الهمزة فى قولهم : ما بها أحد ونحو ذلك مما أحد فيه للعموم ليست بدلا من واو ؛ بل هى أصل فى موضعها. قال : وذلك أنه ليس من معنى أحد فى قولنا : أحد عشر ، وأحد وعشرون. قال : لأن الغرض فى هذه الانفراد ، والذى هو نصف الاثنين ؛ قال : وأ ما أحد فى نحو قولنا : ما بها أحد ، وديّار ، فإنما هى للإحاطة والعموم. (والمعنيان) ـ كما ترى ـ مختلفان. هكذا قال ؛ وهو الظاهر.

ومنه قول المفسرين فى قول الله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [الصف : ١٤] أى مع الله ، ليس أنّ (إلى) فى اللغة بمعنى مع ؛ ألا تراك لا تقول : سرت إلى زيد ، وأنت تريد : سرت مع زيد ، هذا لا يعرف فى كلامهم. وإنما جاز هذا التفسير فى هذا الموضع ؛ لأن النبىّ إذا كان له أنصار فقد انضمّوا فى نصرته إلى الله ، فكأنه قال : من أنصارى منضمّين إلى الله ؛ كما تقول : زيد إلى خير ، وإلى دعة وستر ، أى آو إلى هذه الأشياء ومنضمّ إليها. فإذا انضمّ إلى الله فهو معه لا محالة. فعلى هذا فسّر المفسرون هذا الموضع.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ١٧ ، والأزهية ص ٢٨٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٨٧ ، وشرح المفصل ٦ / ١٦ ، ولسان العرب (وحد) ، (نهر) ، (أنس) ، (زول). ذو الجليل : موضع. أى على ثور وحشىّ أحسّ بما رابه فهو يستأنس أى يتبصّر ويتلفّت هل يرى أحدا ، أراد أنه مذعور فهو أجدّ لعدوه وسرعته. اللسان (أنس).

٤٦٤

ومن ذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] قالوا : معناه : قد امتلأت ؛ وهذا أيضا تفسير على المعنى دون اللفظ ، و (هل) مبقّاة على استفهامها. وذلك كقولك للرجل لا تشك فى ضعفه عن الأمر : هل ضعفت عنه ، وللإنسان (يحبّ الحياة) : هل تحبّ الحياة ، أى فكما تحبّها فليكن حفظك نفسك لها ، وكما ضعفت عن هذا الأمر فلا تتعرّض لمثله مما تضعف عنه. وكأن الاستفهام إنما دخل هذا الموضع ليتبع الجواب عنه بأن يقال : نعم (فإن كان كذلك) فيحتجّ عليه باعترافه به ، فيجعل ذلك طريقا إلى وعظه أو تبكيته. ولو لم يعترف فى ظاهر الأمر به لم يقو توقيفه عليه ، وتحذيره من مثله ، قوّته إذا اعترف به ؛ لأن الاحتجاج على المعترف أقوى منه على المنكر أو المتوقّف ؛ فكذلك قوله سبحانه : هل امتلات ، فكأنها قالت : لا ، فقيل لها : بالغى فى إحراق المنكر (كان لك) فيكون هذا خطابا فى اللفظ لجهنم ، وفى المعنى للكفار.

(وكذلك) جواب هذا من قولها : هل من مزيد ، أى أتعلم يا ربنا أن عندى مزيدا؟

فجواب هذا منه ـ عزّ اسمه ـ لا ، أى فكما تعلم أن لا مزيد فحسبى ما عندى.

فعليه قالوا فى تفسيره : قد امتلأت ، فتقول : ما من مزيد. فاعرف هذا ونحوه.

وبالله التوفيق.

* * *

٤٦٥

باب فى قوة اللفظ لقوة المعنى

هذا فصل من العربية حسن. منه قولهم : خشن واخشوشن. فمعنى خشن دون معنى اخشوشن ؛ لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو. ومنه قول عمر رضى الله عنه : اخشوشنوا وتمعددوا : أى اصلبوا وتناهوا فى الخشنة. وكذلك قولهم : أعشب المكان ، فإذا أرادوا كثرة العشب فيه قالوا : اعشوشب. ومثله حلا واحلولى ، وخلق واخلولق ، وغدن (١) واغدودن. ومثله باب فعل وافتعل ؛ نحو قدر واقتدر. فاقتدر أقوى معنى من قولهم : قدر. كذلك قال أبو العباس وهو محض القياس ؛ قال الله سبحانه : (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢] ؛ فمقتدر هنا أوفق من قادر ؛ من حيث كان الموضع لتفخيم الأمر وشدّة الأخذ. وعليه ـ عندى ـ قول الله ـ عزوجل ـ : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وتأويل ذلك أن كسب الحسنة بالإضافة إلى اكتساب السيئة أمر يسير ومستصغر. وذلك لقوله ـ عزّ اسمه ـ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠] ؛ أفلا ترى أن الحسنة تصغر بإضافتها إلى جزائها ، صغر الواحد إلى العشرة ، ولمّا كان جزاء السيئة إنما هو بمثلها ، لم تحتقر إلى الجزاء عنها ، فعلم بذلك قوّة فعل السيّئة على فعل الحسنة ؛ ولذلك قال ـ تبارك وتعالى ـ : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩١] فإذا كان فعل السيئة ذاهبا بصاحبه إلى هذه الغاية البعيدة المترامية ، عظّم قدرها ، وفخّم لفظ العبارة عنها ، فقيل : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فزيد فى لفظ فعل السيئة ، وانتقص من لفظ فعل الحسنة ؛ لما ذكرنا.

ومثله سواء بيت الكتاب :

أنا اقتسمنا خطّتينا بيننا

فحملت برة واحتملت فجار (٢)

فعبّر عن البرّ بالحمل ، وعن الفجرة بالاحتمال. (وهذا) هو ما قلناه فى قوله ـ

__________________

(١) الغدن : اللين.

(٢) سبق تخريجه.

٤٦٦

عزّ اسمه ـ : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] ؛ لا فرق بينهما.

وذاكرت بهذا الموضع بعض أشياخنا من المتكلمين فسّر به ، وحسن فى نفسه.

ومن ذلك أيضا قولهم : رجل جميل ، ووضيء ؛ فإذا أرادوا المبالغة فى ذلك قالوا : وضّاء ، وجمّال ، فزادوا فى اللفظ (هذه الزيادة) لزيادة معناه ؛ قال :

والمرء يلحقه بفتيان الندى

خلق الكريم وليس بالوضّاء (١)

وقال :

تمشى بجهم حسن ملّاح

أجمّ حتى همّ بالصياح (٢)

وقال :

* منه صفيحة وجه غير جمّال*

وكذلك حسن وحسّان ؛ قال :

دار الفتاة التى كنا نقول لها

يا ظبية عطلا حسّانة الجيد (٣)

وكأن أصل هذا إنما هو لتضعيف العين فى نحو المثال ؛ نحو قطّع وكسّر وبابهما.

وإنما جعلنا هذا هو الأصل لأنه مطرد فى بابه أشدّ من اطّراد باب الصفة.

وذلك نحو قولك : قطع وقطّع ، وقام الفرس وقوّمت الخيل ، ومات البعير وموّتت الإبل ؛ ولأن العين قد تضعّف فى الاسم الذى ليس يوصف ، نحو قبّر وتمّر وحمر (٤). فدلّ ذلك على سعة زيادة العين. فأما قولهم : خطّاف وإن كان اسما

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبى صدقة الدبيرى فى لسان العرب (وضأ) ، وتاج العروس (وضأ) ، والمخصص ١٦ / ٣٤ ، وبلا نسبة فى المخصص ٢ / ١٥٣ ، ١٥ / ٨٩ ، وأساس البلاغة (وضأ).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (ملح) ، وتاج العروس (ملح). يعنى بالجهم فرجها. اللسان (ملح).

(٣) البيت من البسيط ، وهو للشماخ فى ديوانه ص ١١٢ ، وإصلاح المنطق ص ١٠٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٨٧ ، وشرح المفصل ٥ / ٦٦ ، ولسان العرب (حمم) ، (حسن) ، وكتاب العين ٢ / ٩ ، والمنصف ١ / ٢٤٢.

(٤) قبّر ونمّر وحمر : من الطيور.

٤٦٧

فإنه لاحق بالصفة فى إفادة معنى الكثرة ؛ ألا تراه موضوعا لكثرة الاختطاف به.

وكذلك سكّين ، إنما هو موضوع لكثرة تسكين الذابح به. وكذلك البزّار والعطار والقصّار ونحو ذلك ؛ إنما هى لكثرة تعاطى هذه الأشياء وإن لم تكن مأخوذة من الفعل. وكذلك النسّاف لهذا الطائر ، كأنه قيل له ذلك ؛ لكثرة نسفه بجناحيه.

وكذلك الخضّارى للطائر أيضا ؛ كأنه قيل له ذلك لكثرة خضرته ، والحوّارى لقوّة حوره وهو بياضه. وكذلك الزمّل (١) والزمّيل والزمّال ، إنما كررت عينه لقوّة حاجته إلى أن يكون تابعا وزميلا. وهو باب منقاد.

ونحو من تكثير اللفظ لتكثير المعنى العدول عن معتاد حاله. وذلك فعال فى معنى فعيل ؛ نحو طوال ؛ فهو أبلغ (معنى من) طويل ، وعراض ؛ فإنه أبلغ (معنى من) عريض. وكذلك خفاف من خفيف ، وقلال من قليل ، وسراع من سريع.

ففعال ـ لعمرى ـ وإن كانت أخت فعيل فى باب الصفة ، فإن فعيلا أخصّ بالباب من فعال ؛ ألا تراه أشدّ انقيادا منه ؛ تقول : جميل ولا تقول : جمال ، وبطىء ولا تقول : بطاء ، وشديد ولا تقول : شداد (ولحم غريض ولا يقال غراض). فلمّا كانت فعيل هى الباب المطّرد وأريدت المبالغة ، عدلت إلى فعال. فضارعت فعال بذلك فعّالا. والمعنى الجامع بينهما خروج كل واحد منهما عن أصله. أما فعّال فبالزيادة ، وأمّا فعال فبالانحراف به عن فعيل.

وبعد فإذا كانت الألفاظ أدلة المعانى ، ثم زيد فيها شيء ، أوجبت القسمة له زيادة المعنى به. وكذلك إن انحرف به عن سمته (وهديته) كان ذلك دليلا على حادث متجدّد له. وأكثر ذلك أن يكون ما حدث له زائدا فيه ، لا متنقصا منه ؛ ألا ترى أن كل واحد من مثالى التحقير والتكسير عارضان للواحد ، إلا أن أقوى التغييرين هو ما عرض لمثال التكسير. وذلك أنه أمر عرض للإخراج عن الواحد والزيادة فى العدّة ، فكان أقوى من التحقير ؛ لأنه مبق للواحد على إفراده. ولذلك لم يعتدّ التحقير سببا مانعا من الصرف ، كما اعتدّ التكسير مانعا منه ؛ ألا تراك تصرف دريهما ودنينيرا ، ولا تصرف دراهم ولا دنانير ؛ لما ذكرنا. ومن هنا حمل

__________________

(١) الزّمّل والزّمّيل والرّمّال : الضعيف الجبان الرّذل.

٤٦٨

سيبويه مثال التحقير على مثال التكسير ، فقال تقول : سريحين ؛ لقولك : سراحين ، وضبيعين ؛ لقولك : ضباعين : وتقول سكيران : لأنك لا تقول : سكارين. هذا معنى قوله وإن لم يحضرنا الآن حقيقة لفظه. وسألت أبا علىّ عن ردّ سيبويه مثال التحقير إلى مثال التكسير فأجاب بما أثبتنا آنفا. فاعرف ذلك إلى ما تقدّمه.

* * *

٤٦٩

باب فى نقض الأوضاع إذا ضامها طارئ عليها

من ذلك لفظ الاستفهام ، إذا ضامّه معنى التعجّب استحال خبرا. وذلك قولك : مررت برجل أىّ رجل. فأنت الآن مخبر بتناهى الرجل فى الفضل ، ولست مستفهما. وكذلك مررت برجل أيّما رجل ؛ لأن ما زائدة. وإنما كان كذلك لأن أصل الاستفهام الخبر ، والتعجّب ضرب من الخبر. فكأن التعجّب لمّا طرأ على الاستفهام إنما أعاده إلى أصله : من الخبريّة.

ومن ذلك لفظ الواجب ، إذا لحقته همزة التقرير عاد نفيا ، وإذا لحقت لفظ النفى عاد إيجابا. وذلك كقول الله سبحانه : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] أى ما قلت لهم ، وقوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : ٥٩] أى لم يأذن لكم. وأما دخولها على النفى فكقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] أى أنا كذلك ، وقول جرير :

* ألستم خير من ركب المطايا (١) *

أى أنتم كذلك. وإنما كان الإنكار كذلك لأن منكر الشىء إنما غرضه أن يحيله إلى عكسه وضدّه ، فلذلك استحال به الإيجاب نفيا ، والنفى إيجابا.

ومن ذلك أن تصف العلم ، فإذا أنت فعلت ذلك فقد أخرجته به عن حقيقة ما وضع له ، (فأدخلته) معنى لو لا الصفة لم تدخله إياه. وذلك أنّ وضع العلم أن يكون (مستغنيا بلفظه) عن عدّة من الصفات ، فإذا أنت وصفته فقد سلبته (الصفة له ما كان) فى أصل وضعه مرادا فيه : من الاستغناء بلفظه عن كثير من صفاته.

وقد ذكرنا هذا الموضع فيما مضى. فتأمّل هذه الطريق ، حتى إذا ورد شيء منها عرفت مذهبه.

__________________

(١) صدر بيت من الوافر ، وهو لجرير فى ديوانه ص ٨٥ ، ٨٩ ، والجنى الدانى ص ٣٢ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٢ ، ولسان العرب (نقص) ، ومغنى اللبيب ١ / ١٧ ، ورصف المبانى ص ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢ ، وعجزه :

* وأندى العالمين بطون راح*

٤٧٠

باب فى الاستخلاص من الأعلام معانى الأوصاف

من ذلك ما أنشدناه أبو على ـ رحمه‌الله ـ من قول الشاعر :

أنا أبو المنهال بعض الأحيان

ليس علىّ حسبى بضؤلان (١)

أنشدنيه ـ رحمه‌الله ـ ونحن فى دار الملك. وسألنى عما يتعلّق به الظرف الذى هو (بعض الأحيان) فخضنا فيه إلى أن برد فى اليد من جهته أنه يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون أراد : أنا مثل أبى المنهال ، فيعمل فى الظرف على هذا معنى التشبيه ، أى أشبه أبا المنهال فى بعض الأحيان. والآخر أن يكون قد عرف من أبى المنهال هذا الغناء والنجدة ، فإذا ذكر فكأنه قد ذكرا ، فيصير معناه إلى أنه كأنه قال : أنا المغنى فى بعض الأحيان ، أو أنا النجد فى بعض تلك الأوقات.

أفلا تراك كيف انتزعت من العلم الذى هو (أبو المنهال) معنى الصفة والفعلية.

ومنه قولهم فى الخبر. إنما سمّيت هانئا لنهنأ (٢). وعليه جاء نابغة ؛ لأنه نبغ فسمّى بذلك. فهذا ـ لعمرى ـ صفة غلبت ، فبقى عليها بعد التسمية بها بعض ما كانت تفيده من معنى الفعل من قبل. وعليه مذهب الكتاب فى ترك صرف أحمر إذا سمّى به ، ثم نكّر. وقد ذكرنا ذلك فى غير موضع (إلا أنك) على الأحوال قد انتزعت من العلم معنى الصفة. وقد مرّ بهذا الموضع الطائىّ الكبير ، فأحسن فيه ، واستوفى معناه ، فقال :

فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها

سجيّة نفس كلّ غانية هند

فقوله : (كلّ غانية هند) متناه فى معناه ، وآخذ لأقصى مداه ؛ ألا (ترى أنه) كأنه قال : كلّ غانية غادرة أو قاطعة (أو خائنة) أو نحو ذلك.

__________________

(١) الرجز لأبى المنهال فى لسان العرب (أين) ، وتاج العروس (أين) ، ولبعض بنى أسد فى تهذيب اللغة ١٢ / ٦٥ ، والدرر ٥ / ٣١٠ ، وشرح شواهد المغنى ٣ / ٨٤٣ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٤٣٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٧ ، ولسان العرب (ضأل). ضؤلان : أى ضئيل. اللسان (ضأل).

(٢) يقال : هنأه يهنؤه ويهنئه هنأ ، وأهنأه : أعطاه. لتهنأ ، أى لتعطى. اللسان (هنأ).

٤٧١

ومنه قول الآخر :

إن الذئاب قد اخضرّت براثنها

والناس كلّهم بكر إذا شبعوا (١)

أى إذا شبعوا تعادوا وتغادروا ؛ لأن بكرا هكذا فعلها.

ونحو من هذا ـ وإن لم يكن الاسم المقول عليه علما ـ قول الآخر :

ما أمّك اجتاحت المنايا

كلّ فؤاد عليك أمّ (٢)

كأنه قال : كلّ فؤاد عليك حزين أو كئيب ؛ إذ كانت الأمّ هكذا غالب أمرها ، لا سيما مع المصيبة ، وعند نزول الشدّة.

ومثله فى النكرة أيضا قولهم : مررت برجل صوف تكّته ، أى خشنة ، ونظرت إلى رجل خزّ قميصه أى ناعم ، ومررت بقاع عرفج (٣) كلّه أى جاف وخشن. وإن جعلت (كله) توكيدا لما فى (عرفج) من الضمير فالحال واحدة ؛ لأنه لم يتضمّن الضمير إلا لما فيه من معنى الصفة.

ومن العلم أيضا قوله :

* أنا أبو بردة إذ جدّ الوهل*

أى أنا المغنى والمجدى عند اشتداد الأمر.

وقريب منه قوله :

* أنا أبوها حين تستبغى أبا (٤) *

أى أنا صاحبها ، وكافلها وقت حاجتها إلى ذلك :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (بكر). براثن الذئاب مخالبها بمنزلة الأصابع للإنسان. أراد إذا شبعوا تعادوا وتغاوروا لأنّ بكرا كذا فعلها. اللسان (بكر).

(٢) البيت من مخلع البسيط ، وهو بلا نسبة فى تخليص الشواهد ، ص ١٦٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٦٧.

(٣) العرفج : شجر له ثمرة خشناء كالحسك.

(٤) تستبغى : أى تبغى وتطلب.

٤٧٢

ومثله وأحسن (صنعة منه) :

لا ذعرت السوام فى فلق الصب

ح مغيرا ولا دعيت يزيدا (١)

أى لا دعيت الفاضل المغنى ؛ هذا يريد وليس يتمدّح بأن اسمه يزيد ؛ لأن يزيد ليس موضوعا بعد النقل عن الفعلية إلا للعلميّة. فإنما تمدّح هنا بما عرف من فضله وغنائه. وهو كثير. فإذا مرّ بك شيء منه فقد عرّفتك طريقه.

* * *

__________________

(١) السوام : الإبل الراعية.

٤٧٣

باب فى أغلاط العرب

كان أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ يرى وجه ذلك ، ويقول : إنما دخل هذا النحو فى كلامهم ؛ لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ، ولا قوانين يعتصمون بها. وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به ؛ فربما استهواهم الشىء فزاغوا به عن القصد. هذا معنى قوله وإن لم يكن صريح لفظه.

فمن ذلك ما أنشده أحمد بن يحيى :

غدا مالك يرمى نسائى كأنما

نسائى لسهمى مالك غرضان

فيا ربّ فاترك لى جهينة أعصرا

فمالك موت بالقضاء دهانى (١)

هذا رجل مات نساؤه فشيئا ، فتظلّم من ملك الموت عليه‌السلام. وحقيقة لفظه غلط وفساد. وذلك أن هذا الأعرابىّ لمّا سمعهم يقولون : ملك الموت ، وكثر ذلك فى الكلام ، سبق إليه أن هذه اللفظة مركبة من ظاهر لفظها ؛ فصارت عنده كأنها فعل ؛ لأنّ ملكا فى اللفظ (على صورة) فلك ، فبنى منها فاعلا ، فقال : مالك موت ، وغدا مالك فصار فى ظاهر لفظه كأنه فاعل ، وإنما مالك هنا على الحقيقة والتحصيل مافل ؛ كما أن ملكا على التحقيق مفل ، وأصله ملأك ، فألزمت همزته التخفيف ، فصار ملكا. واللام فيه فاء ، والهمزة عين ، والكاف لام ، هذا أصل تركيبه ، وهو (ل أك) وعليه تصرّفه ، ومجىء الفعل (منه فى الأمر الأكثر) قال :

ألكنى إليها وخير الرسو

ل أعلمهم بنواحى الخبر (٢)

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما بلا نسبة فى لسان العرب (لأك) ، (ملك) ، (جهم) ، وتاج العروس (جهم). ويروى البيت الأول منهما : يبغى بدلا من يرمى. ويروى البيت الآخر : عمّر بدلا من فاترك ، بالفراق بدلا من بالقضاء.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص ١١٣ ، ولسان العرب (لوك) ، (رسل) ، والمخصص ١٢ / ٢٢٥ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ألك) ، (نحا) ، وتاج العروس (ألك).

٤٧٤

وأصله : الئكنى ؛ فخففت همزته. وقال :

ألكنى إليها عمرك الله يا فتى

بآية ما جاءت إلينا تهاديا (١)

وقال :

ألكنى إلى قومى السلام رسالة

بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا (٢)

(وقال يونس : ألك يألك).

فإذا كان كذلك فقول لبيد :

* بألوك فبذلنا ما سأل*

إنما هو عفول قدّمت عينه على فائه. وعلى أنه قد جاء عنهم ألك يألك ، من الرسالة إلا أنه قليل.

وعلى ما قلنا فقوله :

أبلغ أبا دختنوس مألكة

غير الذى قد يقال ملكذب (٣)

(إنما هى) معفلة. وأصلها ملئكة فقلب ، على ما مضى. وقد ذكرنا هذا الموضع فى شرح تصريف أبى عثمان رحمه‌الله.

فإن قلت : فمن أين لهذا الأعرابىّ ـ مع جفائه وغلظ طبعه ـ معرفة التصريف ، حتى بنى من (ظاهر لفظ) ملك فاعلا ، فقال : مالك.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لسحيم عبد بنى الحسحاس فى جمهرة اللغة ص ١٢٣٦ ، ١٢٣٧ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٠٤ ، واللامات ص ٨٤ ، ولسان العرب (لوك) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٨٣.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعمرو بن شأس فى ديوانه ص ٩٠ ، والدرر ٥ / ٣٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٧٩ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٣٥ ، والكتاب ١ / ١٩٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٩٦ ، وبلا نسبة فى المنصف ٢ / ١٠٣ ، وفى لسان العرب (ألك) ، وتاج العروس (ألك) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٨ / ٧٠ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٤٢٠.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو للقيط بن زرارة فى شرح شواهد الإيضاح ص ٢٨٨ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ١٣٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٠٥ ، ورصف المبانى ص ٣٢٥ ، وسر صناعة الإعراب ص ٥٣٩ ، ٥٤٠ ، وشرح المفصل ٨ / ٣٥ ، ٩ / ١٠ ، ١١٦ ، ولسان العرب (ألك) ، (لكن) ، (منن).

٤٧٥

قيل : هبه لا يعرف التصريف (أتراه لا) يحسن بطبعه وقوّة نفسه ولطف حسّه هذا القدر! هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم ، أو آلف لمذاهبهم ؛ لأنه وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصنعة فإنه يجده بالقوّة ؛ ألا ترى أن أعرابيّا بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح ، فلمّا شرب بعضها كظّه الأمر فقال : كبش أملح. فقيل له : ما هذا! تنحنحت. فقال : من تنحنح ، فلا أفلح. ألا تراه كيف استعان لنفسه ببحّة الحاء ، واستروح إلى مسكة النفس بها ، وعللها بالصويت اللاحق (لها فى الوقف) ونحن مع هذا نعلم أن هذا الأعرابىّ لا يعلم أن فى الكلام شيئا يقال له حاء ، فضلا عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة ، وأن الصوت يلحقها فى حال سكونها والوقف عليها ، ما لا يلحقها فى حال حركتها أو إدراجها فى حال سكونها ، فى نحو بحر ، ودحر (١) ؛ إلا أنه وإن لم يحسن شيئا من هذه الأوصاف صنعة ولا علما ، فإنه يجدها طبعا ووهما. فكذلك الآخر : لمّا سمع ملكا وطال ذلك عليه أحسّ من ملك فى اللفظ ما يحسّه من حلك. فكما أنه يقال : أسود حالك قال هنا من لفظة ملك : مالك ، وإن لم يدر أن مثال ملك فعل أو مفل ، ولا أن مالكا هنا فاعل أو مافل. ولو بنى من ملك على حقيقة الصنعة فاعل لقيل : لائك ؛ كبائك ، وحائك.

وإنما مكّنت القول فى هذا الموضع ليقوى فى نفسك قوّة حسّ هؤلاء القوم ، وأنهم قد يلاحظون بالمنّة والطباع ، ما لا نلاحظه نحن عن طول المباحثة والسماع.

فتأمّله ؛ فإن الحاجة إلى مثله ظاهرة.

ومن ذلك همزهم مصائب. وهو غلط منهم. وذلك أنّهم شبهوا مصيبة بصحيفة (فكما همزوا صحائف همزوا أيضا مصائب ، وليست ياء مصيبة زائدة كياء صحيفة) ؛ لأنها عين ، ومنقلبة عن واو ، هى العين الأصلية. وأصلها مصوبة ؛ لأنها اسم الفاعل من أصاب ؛ كما أن أصل مقيمة مقومة ، وأصل مريدة مرودة ، فنقلت الكسرة من العين إلى الفاء ، فانقلبت الواو ياء ، على ما ترى. وجمعها القياسىّ مصاوب. وقد جاء ذلك ؛ قال :

__________________

(١) الدحر : الطرد والإبعاد.

٤٧٦

يصاحب الشيطان من يصاحبه

فهو أذى جمّة مصاوبه (١)

وقالوا فى واحدتها : مصيبة ، ومصوبة ، ومصابة. وكأنّ الذى استهوى فى تشبيه ياء مصيبة بياء صحيفة أنها وإن لم تكن زائدة فإنها ليست على التحصيل بأصل ، وإنما هى بدل من الأصل ، والبدل من الأصل ليس أصلا ، وقد عومل لذلك معاملة الزائد ؛ حكى سيبويه عن أبى الخطّاب أنهم يقولون فى راية : راءة.

فهؤلاء همزوا بعد الألف وإن لم تكن زائدة ؛ وكانت بدلا ؛ كما يهمزون بعد الألف الزائدة فى فضاء وسقاء. وعلّة ذلك أن هذه الألف وإن لم تكن زائدة فإنها بدل ، والبدل مشبه للزائد. والتقاؤهما أن كل واحد منهما ليس أصلا.

ونحو منه ما حكوه فى قولهم فى زاى : زاء. وهذا أشدّ (وأشدّ) من راءة ؛ لأنّ الألف فى راءة على كل حال بدل ، وهى أشبه بالزائد ، وألف زاى ليست منقلبة ، بل هى أصل ؛ لأنها فى حرف ، فكان ينبغى ألا تشبه بالزائد ؛ إلا أنها وإن لم تكن منقلبة فإنها وقعت موقع المنقلبة ؛ لأن الألف هنا فى الأسماء لا تكون أصلا. فلمّا كان كذلك شبّهت ألف زاى لفظا بألف باب ودار ؛ كما أنهم لمّا احتاجوا إلى تصريف أخواتها قالوا : قوّفت قافا ، ودوّلت دالا ، وكوّفت كافا ، ونحو ذلك.

وعلى هذا (أيضا قالوا) زويت زايا ، وحكى : إنها زاى فزوّها. فلما كان كذلك انجذب حكم زاى إلى حكم راءة.

وقد حكيت عنهم منارة ومنائر ، ومزادة ومزائد. وكأنّ هذا أسهل من مصائب ؛ لأن الألف أشبه بالزائد من الياء.

ومن البدل الجارى مجرى الزائد ـ عندى لا عند أبى علىّ ـ همزة وراء. ويجب أن تكون مبدلة من حرف علّة ؛ لقولهم : تواريت عنك ؛ إلا أن اللام لمّا أبدلت همزة أشبهت الزائدة التى فى ضهيأة (٢) ؛ فكما أنك لو حقّرت ضهيأة لقلت : ضهيّئة ، فأقررت الهمزة ، فكذلك قالوا فى تحقير وراء : وريّئة. ويؤكّد ذلك قول بعضهم فيها : وريّة ؛ كما قالوا فى صلاءة : صليّة. فهذا ما أراه أنا وأعتقده فى (وراء) هذه. وأمّا أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ فكان يذهب إلى أن لامها فى الأصل

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (أذى) ، وتاج العروس (أذى).

(٢) ضهيأة : هى التى لا تحيض.

٤٧٧

همزة ، وأنها من تركيب (ورأ) ، وأنها ليست من تركيب (ورى). واستدلّ على ذلك بثبات الهمزة فى التحقير ، على ما ذكرنا. وهذا ـ لعمرى ـ وجه من القول ، إلا أنك تدع معه الظاهر والقياس جميعا. أمّا الظاهر فلأنها فى معنى تواريت ، وهذه اللام حرف علّة ، لا همزة ، وأن تكون ياء واجب ؛ لكون الفاء واوا. وأمّا القياس فما قدّمناه : من تشبيه البدل بالزائد. فاعرف ما رأيناه فى هذا.

ومن أغلاطهم قولهم : حلأت السّويق ، ورثأت زوجى بأبيات ، واستلأمت الحجر ، ولبّأت بالحج ، وقوله :

* كمشترئ بالحمد أحمرة بترا*

وأمّا مسيل فذهب بعضهم فى قولهم فى جمعه : أمسلة إلى أنه من باب الغلط.

وذلك لأنه أخذه من سال يسيل (فهو عندهم على مفعل كالمسير والمحيض) وهو عندنا غير غلط ؛ لأنهم قد قالوا فيه : مسل ، وهذا يشهد بكون الميم فاء. فأمسلة ومسلان : أفعلة وفعلان ؛ كأجربة وجربان. ولو كانت أمسلة ومسلان من السيل لكان مثالهما : أمفلة ومفلان والعين منهما محذوفة ، وهى ياء السيل. وكذلك قال بعضهم فى معين ؛ لأنه أخذه من العين لأنه من ماء العيون ، فحمله على الغلط ؛ لأنهم قد قالوا : قد سالت معنانه (١) ، وإنما هو عندنا من قولهم أمعن له بحقّه ، إذا طاع له به. وكذلك الماء إذا جرى من العين فقد أمعن بنفسه ، وطاع بها. ومنه الماعون ؛ لأنه (ما من) العادة المسامحة به ، والانقياد إلى فعله.

وأنشدنى (أبو عبد الله الشجرىّ) لنفسه من قصيدة :

ترود ولا ترى فيها أريبا

سوى ذى شجّة فيها وحيد (٢)

(كذا أنشدنى هذه القصيدة مقيّدة) فقلت له : ما معنى أريبا ، فقال : من الريبة.

وأخبرنا أبو علىّ (عن الأصمعىّ أنه) كان يقول فى قولهم للبحر : المهرقان : إنه من قولهم : هرقت الماء. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى بقول (بلال بن) جرير :

__________________

(١) المعنان : مجارى الماء فى الوادى. اللسان (معن).

(٢) أريبا : أى ما يريبها. وذو شجة : الوتد.

٤٧٨

إذا ضفتهم أو سآيلتهم

وجدت بهم علّة حاضره (١)

أراد : ساءلتهم (فاعلتهم) من السؤال ، ثم عنّ له أن يبدل الهمزة على قول من قال : سايلتهم ، فاضطرب عليه الموضع فجمع بين الهمزة والياء ، فقال : سآيلتهم.

فوزنه على هذا : فعاعلتهم. وإن جعلت الياء زائدة لا بدلا كان : فعايلتهم. وفى هذا ما تراه فاعجب له.

ومن أغلاطهم ما يتعايبون به فى الألفاظ والمعانى من نحو قول ذى الرمّة :

* والجيد من أدمانة عنود (٢) *

وقوله :

حتى إذا دوّمت فى الأرض راجعه

كبر ولو شاء نجّى نفسه الهرب (٣)

وسنذكر هذا ونحوه فى باب سقطات العلماء ؛ لما فيه من الصنعة. وكذلك غمز بعضهم على بعض فى معانيهم ؛ كقول بعضهم لكثيّر فى قوله :

فما روضة بالحزن طيّبة الثرى

يمجّ الندى جثجاثها وعرارها

بأطيب من أردان عزّة موهنا

وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها (٤)

والله لو فعل هذا بأمة زنجيّة لطاب ريحها ؛ ألا قلت كما قال سيّدك :

ألم تر أنى كلما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب (٥)

__________________

(١) الأدمانة : الأدمة فى الظباء لون مشرب بياضا. والبيت فى اللسان (أدم) وفيه «عتود» بدل «عنود» وانظر اللسان (أدم).

(٢) البيت من المتقارب ، وهو لبلال بن جرير فى لسان العرب (سأل) ، وتاج العروس (سأل).

(٣) البيت من البسيط ، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص ١٠٢ ، وجمهرة اللغة ص ٦٨٤ ، ولسان العرب (دوم) ، (دوا). دوّمت الكلاب : أمعنت فى السير ، وقال ابن الأعرابى : أدامته. وعن الأصمعىّ قال : دوّمت خطأ منه ، لا يكون التدويم إلا فى السماء دون الأرض. وانظر اللسان (دوم).

(٤) الطويل ، وهو لكثير فى ديوانه ص ٤٣٠ ، ولسان العرب (ندل) ، وجمهرة اللغة ص ١٨٠ ، والأغانى ١٥ / ٢٧٤. الجثجاث : ريحانة طيبة الريح برّيّة. والعرار : بهار البرّ ، وهو نبت طيب الريح ، قال ابن برّىّ :هو النرجس البرّيّ. اللسان (عرر). المندل : العود.

(٥) أى امرؤ القيس ، والبيت من قصيدة فى ديوانه.

٤٧٩

وكقول بشّار فى قول كثيّر :

ألا إنما ليلى عصا خيزرانة

إذا غمزوها بالأكفّ تلين

لقد قبح بذكره العصا فى لفظ الغزل ؛ هلا قال كما قلت :

وحوراء المدامع من معد

كأنّ حديثها (قطع الجمان)

إذا قامت لسبحتها تثنّت

كأنّ عظامها من خيزران (١)

وكان الأصمعىّ يعيب الحطيئة ويتعقبه ، فقيل له فى ذلك ، فقال : وجدت شعره كله جيدا ، فدلّنى على أنه كان يصنعه. وليس هكذا الشاعر المطبوع : إنما الشاعر المطبوع الذى يرمى بالكلام على عواهنه : جيّده على رديئه. وهذا باب فى غاية السعة. وتقصّيه يذهب بنا كل مذهب. وإنما ذكرت طريقه (وسمته) لتأتمّ بذلك ، وتتحقّق سعة طرقات القوم فى القول. فاعرفه بإذن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) السبحة بضم السين : صلاة النافلة.

٤٨٠