الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

أسبق رتبة من الإضافة ؛ كما أن التنكير أسبق رتبة من التعريف. فاعرف الطريق ؛ فإنها مع أدنى تأمّل واضحة.

واعلم أن جميع ما مضى من هذا يدفع قول الفرّاء فى قول الله سبحانه : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] : إنه أراد ياء النصب ثم حذفها لسكونها وسكون الألف قبلها. وذلك أن ياء التثنية هى الطارئة على ألف (ذا) فكان يجب أن تحذف الألف لمكانها.

* * *

٣٠١

باب فى الشىء يرد فيوجب له القياس حكما

ويجوز أن يأتى السماع بضده ، أيقطع بظاهره ، أم يتوقف

إلى أن يرد السماع بجلية حاله

وذلك نحو عنتر وعنبر وحنزقر (١) وحنبتر (٢) وبلتع (٣) وقرناس (٤).

فالمذهب أن يحكم فى جميع هذه النونات والتاءات وما يجرى مجراها ـ مما هو واقع موقع الأصول مثلها ـ بأصليته ، مع تجويزنا أن يرد دليل على زيادة شيء منه ؛ كما ورد فى عنسل وعنبس ما قطعنا به على زيادة نونهما ، وهو الاشتقاق المأخوذ من عبس وعسل ، وكما قطعنا على زيادة نون قنفخر (٥) لقولهم : امرأة قفاخريّة (٦) ، وكذلك تاء تألب ؛ لقولهم : ألب (٧) الحمار طريدته يألبها ، فكذلك يجوز أن يرد دليل يقطع به على نون عنبر فى الزيادة ، وإن كان ذلك كالمتعذّر الآن لعدم المسموع من الثقة المأنوس بلغته ، وقوّة طبيعته ؛ ألا ترى أن هذا ونحوه ممّا لو كان له أصل لما تأخّر أمره ، ولوجد فى اللغة ما يقطع له به. وكذلك ألف آءة ، حملها الخليل ـ رحمه‌الله ـ على أنها منقلبة عن الواو ؛ حملا على الأكثر ، ولسنا ندفع مع ذلك أن يرد شيء من السماع يقطع معه بكونها منقلبة عن ياء ؛ على ما قدّمنا من بعد نحو ذلك وتعذّره.

ويجيء على قياس ما نحن عليه أن تسمع نحو بيت وشيخ ؛ فظاهره ـ لعمرى ـ أن يكون فعلا مما عينه ياء ، ثم لا يمنعنا هذا أن نجيز كونها فيعلا مما عينه واو ؛ كميت وهين. ولكن إن وجدت فى تصريفه نحو شيوخ وأشياخ ومشيخة ، قطعت

__________________

(١) حنزقر : هو القصير الدميم.

(٢) حنبتر : هو الشدّة.

(٣) رجل بلتع ومتبلتع وبلتعىّ وبلتعانىّ : حاذق ظريف متكلّم ، والأنثى بالهاء. اللسان (بلتع).

(٤) القرناس والقرناس : شبيه الأنف يتقدم فى الجبل.

(٥) قنفخر : هو الفائق فى نوعه.

(٦) القفاخرىّ : التارّ الناعم الضخم الجثة. اللسان (قفخر). والتارّ : الممتلئ البدن.

(٧) هو الشديد الغليظ من حمر الوحش.

٣٠٢

بكونه من باب : بيع وكيل. غير أنّ القول وظاهر العمل أن يكون من باب بيع.

بل إذا كان سيبويه قد حمل سيدا على أنه من الياء ؛ تناولا لظاهره ، مع توجّه كونه فعلا مما عينه واو كريح وعيد ، كان حمل نحو شيخ على أن يكون من الياء لمجيء الفتحة قبله أولى وأحجى.

فعلى نحو من هذا ، فليكن العمل فيما يرد من هذا.

* * *

٣٠٣

باب فى الاقتصار فى التقسيم على ما يقرب ويحسن

لا على ما يبعد ويقبح

وذلك كأن تقسّم نحو مروان إلى ما يحتمل حاله من التمثيل له ، فتقول : لا يخلو من أن يكون فعلان أو مفعالا أو فعوالا. فهذا ما يبيحك التمثيل فى بابه.

فيفسد كونه مفعالا أو فعوالا أنهما مثالان لم يجيئا ، وليس لك أن تقول فى تمثيله : لا يخلو أن يكون مفلان أو مفوالا أو فعوان أو مفوان أو نحو ذلك ، لأن هذه ونحوها (إنما هى) أمثلة ليست موجودة أصلا ، ولا قريبة من الموجودة ، كقرب فعوال ومفعال من الأمثلة الموجودة ؛ ألا ترى أن فعوالا أخت فعوال كقرواش (١) ، وأخت فعوال كعصواد (٢) ، وأن مفعالا أخت مفعال كمحراب ، وأن كل واحد من مفلان ومفوان وفعوان لا يقرب منه شيء من أمثلة كلامهم.

وتقول على ذلك فى تمثيل أيمن من قوله :

* يبرى لها من أيمن وأشمل (٣) *

لا يخلو أن يكون أفعلا أو فعلنا أو أيفلا أو فيعلا. فيجوز هذا كله ؛ لأن بعضه له نظير (وبعضه قريب مما له نظير) ؛ ألا ترى أن أفعلا كثير النظير ؛ كأكلب وأفرخ ونحو ذلك ، وأن أيفلا له نظير (وهو أينق) فى أحد قولى سيبويه فيه ، وأن فعلنا

__________________

(١) القرواش : الطفيلىّ ، الواغل الذى يدخل على القوم من غير أن يدعوه. اللسان (قرش).

(٢) العصواد ، من معانيه الجلبة والاختلاط.

(٣) الرجز لأبى النجم فى خزانة الأدب ٦ / ٥٠٣ ، ولسان العرب (صمد) ، (يبر) ، (جزل) ، (شمل) ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢١٥ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٥٠ ، والطرائف الأدبية ص ٦٣ ، والكتاب ١ / ٢٢١ ، ٣ / ٢٩٠ ، ٦٠٧ ، والمنصف ١ / ٦١ ، وتاج العروس (صمد) ، (جزل) ، والمخصص ٢ / ٣ ، ١٧ / ١٢ ، وديوان الأدب ٢ / ٢٦٧ ، ومجمل اللغة ١ / ٤٣٢ ، ٣ / ٢٤١ ، ومقاييس اللغة ١ / ٤٥٤ ، ٣ / ٢١٦ ، ٣ / ٣١٠ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ٤٠٦ ، وشرح المفصل ٥ / ٤١ ، والمخصص ٧ / ١٥٩ ، ويروى (يأتى) بدلا من (يبرى) وبعده :

 ...............

وهى حيال الفرقدين تعتلى

تغادر الصمد كظهر الأجزل

٣٠٤

يقارب أمثلتهم. وذلك فعلن فى نحو خلبن (١) وعلجن (٢) ؛ قال ابن العجّاج :

وخلّطت كلّ دلاث علجن

تخليط خرقاء اليدين خلبن (٣)

وأن فيعلا أخت فيعل كصيرف ، وفيعل كسيّد. وأيضا فقد قالوا : أيبلىّ (٤) وهو فيعلىّ ، وهيردان (٥) وهو فيعلان. ولكن لا يجوز لك فى قسمته أن تقول : لا يخلو أيمن أن يكون أيفعا ولا فعملا ولا أيفما ولا نحو ذلك ؛ لأن هذه ونحوها أمثلة لا تقرب من أمثلتهم فيجتاز بها فى جملة تقسيم المثل لها.

وكذلك لو مثّلت نحو عصىّ لقلت فى قسمته : لا يخلو أن يكون فعولا كدلىّ ، أو فعيلا كشعير وبعير ، أو فليعا كقسىّ وأصلها فعول : قووس ، غيرّت إلى قسوّ : فلوع ، ثم إلى قسىّ : فليع ، أو فعلا كطمرّ. وليس لك أن تقول فى عصىّ إذا قسمتها : أو فعليا ؛ لأن هذا مثال لا موجود ولا قريب من الموجود ؛ إلا أن تقول : إنها مقاربة لطمرّ.

وتقول فى تمثيل أوىّ من قوله :

* كما تدانى الحدأ الأويّ (٦) *

__________________

(١) خلبن : هى الحمقاء.

(٢) علجن : هى الناقة الغليظة.

(٣) الرجز لرؤبة بن العجاج فى ديوانه ص ١٦٢ ، ولسان العرب (خلب) ، (دلث) ، (علج) ، (علجن) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢١٤ ، وتاج العروس (خلب) ، (دلث) ، (علج) ، وبلا نسبة فى كتاب العين ٢ / ٣٢٤ ، والمخصص ٤ / ٣٢ ، ١٦ / ١٦٦ ، وديوان الأدب ٢ / ٣٤ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٣٢٤ ، ٧ / ٤٢١. الدّلاث : السريعة.

(٤) أيبلىّ : هو الراهب.

(٥) هيردان : هو نبت.

(٦) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، ولسان العرب (حدأ) ، (أوا) ، وتاج العروس (حدأ) ، (أوى) ، وكتاب العين ٣ / ٢٧٩ ، ٨ / ٤٣٧ ، ومقاييس اللغة ١ / ١٥٢ ، ٢ / ٣٥ ، ومجمل اللغة ٢ / ٣٧ ، وتهذيب اللغة ٥ / ١٨٧ ، ١٥ / ٦٥٠ ، والمخصص ٨ / ١٦١ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ١١٠٧. وقبله :

* فخف والجنادل الثّويّ*

٣٠٥

إذا قسمته : لا يخلو أن يكون فعولا كثدىّ ، أو فعيلا كشعير ، أو فعيّا كمئى إذا نسبت إلى مائة ولم تردد لامها ، أو فعلا كطمرّ. ولا تقول فى قسمتها : أو فوعلا أو إفعلا أو فويا أو إفلعا أو نحو ذلك ؛ لبعد هذه الأمثلة ممّا جاء عنهم. فإذا تناءت عن مثلهم إلى هاهنا لم تمرر بها فى التقسيم ؛ لأن مثلها ليس مما يعرض الشكّ فيه ، ولا يسلّم الفكر به ، ولا توهم الصنعة كون مثله.

* * *

٣٠٦

باب فى خصوص ما يقنع فيه

من أحكام صناعة الإعراب

وذلك كأن تقول فى تخفيف همزة نحو صلاءة وعباءة : لا تلقى حركتها على الألف ؛ لأن الألف لا تكون مفتوحة أبدا. فقولك : (مفتوحة) تخصيص لست بمضطرّ إليه ؛ ألا ترى أن الألف لا تكون متحرّكة أبدا بالفتحة ولا غيرها. وإنما صواب ذلك أن تقول : لأن الألف لا تكون متحرّكة أبدا.

وكذلك لو قلت : لأن الألف لا تلقى عليها حركة الهمزة لكان ـ لعمرى ـ صحيحا كالأوّل ؛ إلا أن فيه تخصيصا يقنع منه عمومه.

فإن قلت : استظهرت بذلك للصنعة ، قيل : لا ، بل استظهرت به عليها ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : إن الألف لا تكون مفتوحة أبدا جاز أن يسبق إلى نفس من يضعف نظره أنها وإن لم تكن مفتوحة فقد يجوز أن تكون مضمومة أو مكسورة.

نعم ، وكذلك إذا قلت : إنها لا تلقى عليها حركة الهمزة جاز أن يظنّ أنها تلقى عليها حركة غير الهمزة. (فإذا أنت قلت : لا يلقى عليها الحركة) أو لا تكون متحركة أبدا احتطت للموضع واستظهرت للفظ والمعنى.

وكذلك لو قلت : إنّ ظننت وأخواتها تنصب مفعوليها المعرفتين ـ نحو ظننت أخاك أباك ـ لكنت ـ لعمرى ـ صادقا ، إلا أنك مع ذلك كالموهم به أنّه إذا كان مفعولاها نكرتين كان لها حكم غير حكمها إذا كانا معرفتين. ولكن إذا قلت : ظننت وأخواتها تنصب مفعوليها عممت الفريقين بالحكم ، وأسقطت الظنّة عن المستضعف الغمر ، وذكرت هذا النحو من هذا اللفظ حراسة له ، وتقريبا منه ، ونفيا لسوء المعتقد عنه.

* * *

٣٠٧

باب فى تركيب المذاهب

قد كنا أفرطنا فى هذا الكتاب باب تركيب اللغات. وهذا الباب نذكر فيه كيف تتركب المذاهب إذا ضممت بعضها إلى بعض (وأنتجت) بين ذلك مذهبا.

وذلك أن أبا عثمان كان يعتقد مذهب يونس فى ردّ المحذوف فى التحقير وإن غنى المثال عنه ، فيقول فى تحقير هار : هويئر ، وفى يضع اسم رجل : يؤيضع ، وفى بالة من قولك ما باليت به بالة : بويلية. وسيبويه إذا استوفى التحقير مثاله لم يردد ما كان قبل ذلك محذوفا. فيقول : هوير ، ويضيع ، وبويلة.

وكان أبو عثمان أيضا يرى رأى سيبويه فى صرف نحو جوار علما وإجرائه بعد العلميّة على ما كان عليه قبلها. فيقول فى رجل أو امرأة اسمها جوار أو غواش بالصرف فى الرفع والجر على حاله قبل نقله ، ويونس لا يصرف ذلك ونحوه علما ، ويجريه مجرى الصحيح فى ترك الصرف.

فقد تحصّل إذا لأبى عثمان هنا مذهب مركّب من مذهبى الرجلين ؛ وهو الصرف على مذهب سيبويه ، والردّ على مذهب يونس. فتقول على قول أبى عثمان فى تحقير اسم رجل سمّيته بيرى : هذا يريء (كيريع). فتردّ الهمزة على قول يونس ، وتصرف على قول سيبويه. ويونس يقول فى هذا : يريئى (بوزن يريعى) فلا يصرف وقياس قول سيبويه يرىّ ، فلا يردّ ، وإذا لم يردّ لم يقع الطرف بعد كسرة ، فلا يصرف إذا ، كما لم يصرف أحىّ تصغير أحوى. وقياس قول عيسى أن يصرف فيقول : يرىّ ؛ كما يصرف تحقير أحوى : أحىّ.

فقد عرفت إذا تركب مذهب أبى عثمان من قولى الرجلين.

فإن خفّفت همزة يريء قلت يريّى ، فجمعت فى اللفظ بين ثلاث ياءات ، والوسطى مكسورة. ولم يلزم حذف الطرف للاستثقال ، كما حذف فى تحقير أحوى إذا قلت : أحىّ ؛ من قبل أن الياء الثانية ليست ياء مخلصة ، وإنما هى همزة مخففة فهى فى تقدير الهمز. فكما لا تحذف فى قولك : يريء ، كذلك لا تحذف فى قولك : يزبّى ، ولو ردّ عيسى كما ردّ يونس للزمه ألا يصرف فى النصب لتمام

٣٠٨

مثال الفعل ؛ فيقول : رأيت يريئى ويريّى ، وأن يصرف فى الرفع والجر على مذهب سيبويه ؛ حملا لذلك على صرف جوار.

و (من ذلك) قول أبى عمر فى حرف التثنية : إن الألف حرف الإعراب ولا إعراب فيها ، وهذا هو قول سيبويه. وكان يقول : إن انقلاب الألف إلى الياء هو الإعراب. وهذا هو قول الفرّاء ، أفلا تراه كيف تركّب له فى التثنية مذهب ليس بواحد من المذهبين الآخرين.

وقال أبو العباس فى قولهم : «أساء سمعا فأساء جابة» : إن أصلها إجابة ، ثم كثر فجرى مجرى المثل ، فحذفت همزته تخفيفا فصارت جابة. فقد تركّب الآن من قوله هذا وقولى أبى الحسن والخليل مذهب طريف. وذلك أن أصلها اجوابة ، فنقلت الفتحة من العين إلى الفاء فسكنت العين (وألف إفعالة بعدها ساكنة فحذفت الألف على قول الخليل ، والعين) على قول أبى الحسن ، جريا على خلافهما المتعالم من مذهبيهما فى مقول ومبيع. فجابة على قول الخليل إذا ضامّه (قول أبى العباس) فعلة ساكنة العين ، وعلى قول أبى الحسن إذا ضامّه قول أبى العباس فالة.

(أفلا ترى) إلى هذا الذى أدّى إليه مذهب أبى العباس فى هذه اللفظة (وأنه قول) مركّب ، ومذهب لو لا ما أبدعه فيه أبو العباس لكان غير هذا.

وذلك أن الجابة ـ على الحقيقة ـ فعلة مفتوحة العين ، جاءت على أفعل ، بمنزلة أرزمت (١) السماء رزمة ، وأجلب القوم جلبة. ويشهد أن الأمر كذا ، لا كما ذهب إليه أبو العباس قولهم : أطعت طاعة ، وأطقت طاقة. وليس واحدة منهما بمثل ، ولا كثرت فتجرى مجرى المثل فتحذف همزتها ؛ إلا أنه تركب من قول أبى العباس فيها إذا سيق على مذهبى الخليل وأبى الحسن ما قدّمناه : من كونها فعلة ساكنة العين (أو فالة) كما ترى. وكذا كثير من المذاهب التى هى مأخوذة من قولين ، ومسوقة على أصلين : هذه حالها.

* * *

__________________

(١) الرّزمة : الصوت الشديد ، والإرزام : صوت الرّعد.

٣٠٩

باب فى السلب

نبّهنا أبو على ـ رحمه‌الله ـ من هذا الموضع على ما أذكره وأبسطه ؛ لتتعجب من حسن الصنعة فيه.

اعلم أن كل فعل أو اسم مأخوذ من الفعل أو فيه معنى الفعل ، فإن وضع ذلك فى كلامهم على إثبات معناه لا سلبهم إيّاه.

وذلك قولك : قام ، فهذا لإثبات القيام ، وجلس لإثبات الجلوس ، وينطلق لإثبات الانطلاق ، وكذلك الانطلاق ، ومنطلق : جميع ذلك وما كان مثله إنما هو لإثبات هذه المعانى لا لنفيها. ألا ترى أنك إذا أردت نفى شيء منها ألحقته حرف النفى فقلت : ما فعل ، ولم يفعل ، ولن يفعل (ولا تفعل) ونحو ذلك.

ثم إنهم مع هذا قد استعملوا ألفاظا من كلامهم من الأفعال ، ومن الأسماء الضامنة لمعانيها ، فى سلب تلك المعانى لا إثباتها. ألا ترى أن تصريف (ع ج م) أين وقعت فى كلامهم إنما (هو للإبهام) وضدّ البيان. من ذلك العجم لأنهم لا يفصحون ، وعجم (١) الزبيب ونحوه لاستتاره فى ذى العجم ، ومنه عجمة الرمل لما استبهم منه على سالكيه فلم يتوجّه لهم. ومنه عجمت العود ونحوه إذا عضضته : لك فيه وجهان : إن شئت قلت : إنما ذلك لإدخالك إياه فى فيك وإخفائك له ، وإن شئت قلت : (إن ذلك) لأنك لمّا عضضته ضغطت بعض ظاهر أجزائه (فغارت) فى المعجوم ، فخفيت. ومن ذلك استعجمت الدار إذا لم تجب سائلها ؛ قال :

صمّ صداها وعفا رسمها

واستعجمت عن منطق السائل (٢)

__________________

(١) العجم ، بالتحريك : النّوى نوى التمر والنّبق ، الواحدة عجمة ، وكلّ ما كان فى جوف مأكول كالزّبيب. اللسان (عجم).

(٢) البيت من السريع ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٢٥٥ ، ولسان العرب (صمم) ، (عجم) ، (صدى) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ١٢٦ ، ٢١٥ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٣٤١ ، ٤ / ٢٤٠ ، وأساس البلاغة (عجم) ، وكتاب العين ٧ / ١٣٩ ، وتاج العروس (صمم) ، (عجم) ، (صدى) ، وبلا نسبة فى المخصص ١ / ٨٧ ، ١٣ / ٧.

٣١٠

ومنه «جرح العجماء جبار» (١) ، لأن البهيمة لا تفصح عما فى نفسها. ومنه (قيل لصلاة) الظهر والعصر : العجماوان ، لأنه لا يفصح فيهما بالقراءة. (وهذا) كله على ما تراه من الاستبهام وضدّ البيان ، ثم إنهم قالوا : أعجمت الكتاب إذا بيّنته وأوضحته. فهو إذا لسلب معنى الاستبهام لا إثباته.

ومثله تصريف (ش ك و) فأين وقع ذلك فمعناه إثبات الشكو والشكوى والشّكاة وشكوت واشتكيت. فالباب فيه كما تراه لإثبات هذا المعنى ؛ ثم إنهم قالوا : أشكيت الرجل إذا (زلت له عما يشكوه) فهو إذا لسلب معنى الشكوى لا لإثباته ، أنشد أبو زيد :

تمدّ بالأعناق أو تلويها

وتشتكى لو أننا نشكيها

مسّ حوايا قلّما نجفيها (٢)

وفى الحديث : شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّ الرّمضاء فلم يشكنا ، أى فلم يفسح لنا فى إزالة ما شكوناه من ذلك إليه (٣).

ومنه تصريف (م ر ض) (إنها لإثبات معنى) المرض ؛ نحو مرض يمرض وهو مريض (ومارض) ومرضى ومراضى. ثم إنهم قالوا : مرّضت الرجل أى داويته من مرضه حتى أزلته عنه أو لتزيله عنه.

وكذلك تصريف (ق ذ ى) إنها لإثبات معنى القذى ؛ منه قذت عينه (وقذيت

__________________

(١) حديث : العجماء جرحها جبار ، أى لا دية فيه ولا قود ؛ أراد بالعجماء البهيمة ، سميت بذلك لأنها لا تتكلم. اللسان (عجم).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (جفا) ، (شكا) ، وإصلاح المنطق ص ٢٣٨ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣١٦ ، والخصائص ٣ / ٧٧ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٨ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٢٩٧ ، والمخصص ١٢ / ٢٩٨ ، ١٣ / ٢٦٣ ، وأساس البلاغة (جفو) ، (شكو) ، وتاج العروس (جفا). ويروى (تثنيها) مكان (تلويها). والحويّة : كساء محشو حول سنام البعير ، وهى السّويّة. والحويّة لا تكون إلا للجمال ، والسّويّة قد تكون لغيرها. والجمع حوايا. اللسان (حوا). نجفيها : أى فلمّا نرفع الحويّة عن ظهرها. اللسان (جفا).

(٣) أخرجه مسلم فى «المساجد ومواضع الصلاة» ، (ح ٦١٩) من حديث خباب ، بلفظ : «شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة فى الرمضاء ، فلم يشكنا».

٣١١

وأقذيتها ثم إنهم مع هذا يقولون : قذّيت عينه) إذا أزلت عنها القذى (وهذا) لسلب القذى لا لإثباته.

ومنه حكاية الفرّاء عن أبى الجرّاح : بى إجل فأجلونى ، أى داوونى ليزول عنّى.

والإجل : وجع فى العنق.

ومن ذلك تصريف (أث م) أين هى وقعت لإثبات معنى الإثم ؛ نحو أثم يأثم وآثم وأثيم وأثوم (والمأثم) وهذا كله لإثباته. ثم إنهم قالوا : تأثّم أى ترك الإثم.

ومثله تحوّب أى ترك الحوب.

فهذا كله كما تراه فى الفعل وفى ذى الزيادة لما سنذكره.

وقد وجدته أيضا فى الأسماء غير الجارية على الفعل إلا أن فيها معانى الأفعال ، كما أن مفتاحا فيه معنى الفتح ، وخطّافا فيه معنى الاختطاف ، وسكّينا فيه معنى التسكين ، وإن لم يكن واحد من ذلك جاريا على الفعل.

فمن تلك الأسماء قولهم : التّودية لعود يصرّ على خلف الناقة ليمنع اللبن.

وهى تفعلة من ودى يدى ، إذا سال وجرى ، وإنما هى لإزالة الودى لا لإثباته.

فاعرف ذلك.

ومثله قولهم السّكاك للجوّ ؛ هو لسلب معنى تصريف (س ك ك) ألا ترى أن ذلك للضيق أين وقع. منه أذن سكّاء ، أى لاصقة ، وظليم أسكّ : إذا ضاق ما بين منسميه ، وبئر سكّ ، أى ضيّقة الجراب (١). ومنه قوله :

* ومسكّ سابغة هتكت فروجها (٢) *

يريد ضيق حلق الدرع. وعليه بقيّة الباب. ثم قالوا للجوّ ـ ولا أوسع منه ـ السكاك ؛ فكأنه سلب ما فى غيره من الضيق.

ومن ذلك قولهم : النالة ، لما حول الحرم. والتقاؤهما أن من كان فيه لم تنله اليد ؛ قال الله ـ عزّ اسمه ـ : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧]. فهذا لسلب

__________________

(١) جراب البئر : اتساعها ، وفى الصحاح : جوفها من أعلاها إلى أسفلها. انظر اللسان (جرب).

(٢) السابغة : الدرع.

٣١٢

هذا المعنى لا لإثباته.

ومنه : المئلاة ، للخرقة فى يد النائحة تشير بها. قال لى أبو علىّ : هى من ألوت ، فقلت له : فهذا إذا من (ما ألوت) ؛ لأنها لا تألو أن تشير بها ؛ فتبسّم رحمه‌الله إلىّ ؛ إيماء إلى ما نحن عليه ، وإثباتا له ، واعترافا به. وقد مرّ بنا من ذلك ألفاظ غير هذه.

وكان أبو على رحمه‌الله يذهب فى الساهر إلى هذا ، ويقول : إن قولهم : سهر فلان أى نبا جنبه عن الساهرة (وهى وجه الأرض) قال الله عزوجل : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٤] فكأنّ الإنسان إذا سهر قلق جنبه عن مضجعه ولم يكد يلاقى الأرض ، فكأنه سلب الساهرة.

ومنه تصريف (ب ط ن) إنما هو لإثبات معنى البطن ؛ نحو بطن ، وهو بطين ومبطان ، ثم قالوا : رجل مبطّن ، للخميص البطن ، فكأنه لسلب هذا المعنى ؛ قال الهذلىّ :

*... مخطوف الحشا زرم (١) *

وهذا مثله سواء.

وأكثر ما وجدت هذا المعنى من الأفعال فيما كان ذا زيادة ؛ ألا ترى أن أعجم ومرّض وتحوّب وتأثّم كل واحد منها ذو زيادة. فكأنه إنما كثر فيما كان ذا زيادة من قبل أن السلب معنى حادث على إثبات الأصل الذى هو الإيجاب ؛ فلمّا كان السلب معنى زائدا حادثا لاق به من الفعل ما كان ذا زيادة ؛ من حيث كانت الزيادة

__________________

(١) عجز البيت من البسيط ، وهو لساعدة بن جؤية الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص ١١٢٥ ، ولسان العرب (غرب) ، (شذف) ، (زرم) ، (صوم) ، وتهذيب اللغة وتاج العروس (عزب) ، (خطف) ، (شدف) ، (زرم) ، (صوم) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٨٩٩ ، ومجمل اللغة ٣ / ٢٥٠ ، والمخصص ١ / ٥٢. وتكملة البيت :

موكل بشدوف الصوم يبصرها

من المغارب ...........

قال يعقوب : إنما يصف الحمار إذا ورد الماء فعينه نحو الشجر ، لأن الصائد يكمن بين الشجر ، فيقول:هذا الحمار من مخافة الشخوص كأنه موكل بالنظر إلى شخوص هذه الأشجار من خوفه من الرماة ، يخاف أن يكون فيه ناس وكلّ ما واراك ، فهو مغرب. الشّدف : الشخص. والصوم : شجر قيام كالناس ؛ اللسان (شدف). والزرم : الذى لا يثبت فى مكان.

٣١٣

حادثة طارئة على الأصل الذى هو الفاء والعين واللام ؛ كما أنّ التأنيث لمّا كان معنى طارئا على التذكير احتاج إلى زيادة فى اللفظ علما له ؛ كتاء طلحة وقائمة ، وألفى بشرى وحمراء (وسكرى) ؛ وكما أن التعريف لمّا كان طارئا على التنكير احتاج إلى زيادة لفظ به كلام التعريف فى الغلام والجارية (ونحوه).

فأمّا سهر فإنه فى بابه ، وإنه خرج إلى سلب أصل الحرف بنفسه من غير زيادة فيه ؛ فلك فيه عذران :

إن شئت قلت : إنه وإن عرى من زيادة الحروف فإنه لم يعر من زيادة ما هو مجار للحرف ، وهو ما فيه من الحركات. وقد عرفت من غير وجه مقاربة الحروف للحركات ، والحركات للحروف ، فكأنّ فى (سهر) ألفا وياء حتى كأنه ساهير ؛ فكأنه إذا ليس بعار من الزيادة ؛ إذ كان فيه ما هو مضارع للحرف ، أعنى الحركة. فهذا وجه.

وإن شئت قلت : خرج (سهر) متنقلا عن أصل بابه إلى سلب معناه منه ؛ كما خرجت الأعلام عن شياع الأجناس إلى خصوصها بأنفسها ، لا بحرف يفيد التعريف فيها ؛ ألا ترى أن بكرا وزيدا ونحوهما من الأعلام إنما تعرّفه بوضعه ، لا بلام التعريف فيه ، كلام الرجل والمرأة وما أشبه ذلك. وكما أن ما كان مؤنّثا بالوضع كذلك أيضا ، نحو هند وجمل وزينب وسعاد ؛ فاعرفه. ومثل سهر فى تعرّيه من الزيادة قوله :

* يخفى التراب بأظلاف ثمانية*

ومن ذى الزيادة منه قولهم : أخفيت الشىء أى أظهرته.

وأنا أرى فى هذا الموضع من العربية ما أذكره لك ، وهو أن هذا المعنى الذى وجد فى الأفعال من الزيادة على معنى الإثبات بسلبه كأنه مسوق على ما جاء من الأسماء ضامنا لمعنى الحرف ، كالأسماء المستفهم بها ؛ نحو كم ومن وأىّ وكيف ومتى (وأين) وبقيّة الباب. فإن الاستفهام معنى حادث فيها على ما وضعت له الأسماء من إفادة معانيها. وكذلك الأسماء المشروط بها : من ، وما ، وأىّ ، وأخواتهنّ ، فإن الشرط معنى زائد على مقتضاهنّ : من معنى الاسميّة. فأرادوا ألا

٣١٤

تخلو الأفعال من شيء من هذا الحكم ـ أعنى تضمّنها معنى حرف النفى ـ كما تضمّن الأسماء معنى حرف الاستفهام ، ومعنى حرف الشرط ، ومعنى حرف التعريف فى أمس والآن ، ومعنى حرف الأمر فى تراك وحذار وصه ومه ونحو ذلك. وكأنّ الحرف الزائد الذى لا يكاد ينفك منه أفعال السلب يصير كأنه عوض من حرف السلب. وأيضا فإن الماضى وإن عرى من حرف الزيادة فإن المضارع لا بدّ له من حرف المضارعة ، والأفعال كلها تجرى مجرى المثال الواحد. فإذا وجد فى بعضها شيء فكأنه موجود فى بقيّتها.

وإنما جعلنا هذه الأفعال فى كونها ضامنة لمعنى حرف النفى ملحقة بالأسماء فى ذلك ، وجعلنا الأسماء أصلا فيه ، من حيث كانت الأسماء أشدّ تصرّفا فى هذا ونحوه من الأفعال ؛ إذ كانت هى الأول ، والأفعال توابع وثوان لها ؛ وللأصول من الاتساع والتصرف ما ليس للفروع.

فإن قيل : فكان يجب على هذا أن يبنى من الأسماء ما تضمّن هذا المعنى ، وهو ما ذكرته : من التودية والسكاك والنالة والمئلاة ، وأنت ترى كلّا من ذلك معربا.

قيل : الموضع فى هذا المعنى من السلب إنما هو للفعل ، وفيه كثرته ، فلمّا لم يؤثّر هذا المعنى فى نفس الفعل كان ألا يؤثّر فيما هو محمول عليه (أولى) وأحرى بذلك.

فإن قيل : وهلا أثّر هذا المعنى فى الفعل أصلا ، كما يؤثّر تضمّن معنى الحرف فى الاسم؟ قيل : البناء لتضمّن معنى الحرف أمر (يخصّ الاسم) ؛ ككم وأين وكيف ومتى ونحو ذلك ؛ والأفعال لا تبنى لمشابهتها الحروف. أمّا الماضى فلأنّ فيه من البناء ما يكفيه ، وكذلك فعل الأمر العارى من حرف المضارعة ، نحو افعل.

وأما المضارع فلأنه لمّا أهيب به ورفع عن ضعة البناء إلى شرف الإعراب لم يروا أن يتراجعوا به إليه ، وقد انصرفوا به عنه لئلا يكون ذلك نقضا.

فإن قلت : فقد بنوا من الفعل المعرب ما لحقته نون التوكيد ، نحو لتفعلنّ.

قيل : لمّا خصّته النون بالاستقبال ، ومنعته الحال التى المضارع أولى بها ، جاز أن يعرض له البناء. وليس كذلك السين وسوف ؛ لأنهما لم يبنيا معه بناء نون التوكيد فيبنى هو ، وإنما هما فيه كلام التعريف (الذى لا يوجب) بناء الاسم ؛ فاعرفه.

٣١٥

باب فى وجوب الجائز

وذلك فى الكلام على ضربين :

أحدهما أن توجبه الصنعة ، فلا بدّ إذا منه.

والآخر أن تعتزمه العرب فتوجبه ، وإن كان القياس يبيح غيره.

الأوّل من ذلك كأن تقول فى تحقير أسود : أسيّد. وإن شئت صحّحت فقلت : أسيود. والإعلال فيه أقوى ؛ لاجتماع الياء والواو وسبق الأولى منهما بالسكون.

وكذلك جدول ؛ تقول فيه : جديّل. وإن شئت صحّحت ، فقلت : جديول. فإذا صرت إلى تحقير نحو عجوز ، ويقوم اسم رجل ، قلت بالإعلال لا غير : عجيّز ، ويقيّم. وفى مقام : مقيّم البتة. وذلك أنك إنما كنت تجيز أسيود وجديولا لصحّة الواو فى الواحد ، وظهورها فى الجمع ؛ نحو أساود وجداول. فأمّا مقام ويقوم علما فإن العين وإن ظهرت فى تكسيرهما ـ وهو مقاوم ويقاوم ـ فإنها فى الواحد معتلّة ؛ ألا (ترى أنها) فى (مقام) مبدلة ، وفى (يقوم) مضعفة بالإسكان لها ، ونقل الحركة إلى الفاء عنها. فإذا كنت تختار فيما تحرّكت واو واحده وظهرت فى جمعه الإعلال ، صار القلب فيما ضعفت واوه بالقلب ، وبألا تصحّ فى جمعه ، واجبا لا جائزا. وأمّا واو عجوز فأظهر أمرا فى وجوب الإعلال من يقوم ومقام ؛ (لأنها) لا حظ لها فى الحركة ، ولا تظهر أيضا فى التكسير ، إنما تقول : عجائز ، ولا يجوز عجاوز على كل حال.

وكذلك تقول : ما قام إلا زيدا أحد ، فتوجب النصب إذا تقدّم المستثنى ، إلا فى لغة ضعيفة. وذلك أنك قد كنت تجيز : ما قام أحد إلا زيدا ، فلما قدّمت المستثنى لم تجد قبله ما تبدله منه ، فأوجبت من النصب له ما كان جائزا فيه. ومثله : فيها قائما رجل. وهذا معروف.

الثانى منهما وهو اعتزام أحد الجائزين. وذلك قولهم : أجنة فى الوجنة. قال أبو حاتم : (ولا) يقولون : وجنة ، وإن كانت جائزة. ومثله قراءة بعضهم : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) [النساء : ١١٧] جمع وثن ولم يأت فيه التصحيح : وثن. فأمّا

٣١٦

أقّتت ووقّتت ، ووجوه وأجوه (وأرقة وورقة) ونحو ذلك فجميعه مسموع.

ومن ذلك قوله :

وفوارس كأوار ح

رّ النار أحلاس الذكور

فذهب الكسائىّ فيه إلى أن أصله وآر ، وأنه فعال من وأرت النار إذا حفرت لها الإرة (١) ، فخفّفت الهمزة ، فصارت لفظا إلى ووار ، فهمزت الفاء البتّة فصارت : أوار. ولم يأت منهم على أصله : وآر (ولا) مخففا (مبدل العين) : ووار.

وكلاهما يبيحه القياس ولا يحظره.

فأمّا قول الخليل فى فعل من وأيت إذا خففته : أوى فقد ردّه أبو الحسن وأبو عثمان ، وما أبيا منه عندى إلا مأبيا.

وكذلك البرّية فيمن أخذها من برأ الله الخلق ـ وعليه أكثر الناس ـ ، والنبى عند سيبويه ومن تبعه فيه ، والذرّيّة فيمن أخذها من ذرأ الله الخلق. وكذلك ترى وأرى ونرى ويرى فى أكثر الأمر ، والخابية ، ونحو ذلك مما ألزم التخفيف. ومنه ما ألزم البدل ، وهو النبىّ ـ عند سيبويه ـ ، وعيد ؛ لقولهم : أعياد ، وعييد.

ومن ذلك ما يبيحه القياس فى نحو يضرب ويجلس ويدخل ويخرج : من اعتقاب الكسر والضمّ على كل واحدة من هذه العيون ، وأن يقال : يخرج ويخرج ، ويدخل ويدخل ، ويضرب ويضرب ، ويجلس ويجلس ، قياسا على ما اعتقبت على عينه الحركتان معا ؛ نحو يعرش ويعرش ويشنق ويشنق ويخلق ويخلق ، وإن كان الكسر فى عين مضارع فعل أولى به من يفعل ؛ لما قد ذكرناه فى شرح تصريف أبى عثمان ، فإنهما على كل حال مسموعان أكثر السماع فى عين مضارع فعل.

فاعرف ذلك ونحوه مذهبا للعرب ، فمهما ورد منه فتلقّه عليه.

* * *

__________________

(١) الإرة : موقد النار.

٣١٧

باب فى إجراء اللازم مجرى غير اللازم

وإجراء غير اللازم مجرى اللازم

الأوّل منهما كقوله :

* الحمد لله العلىّ الأجلل (١) *

وقوله :

* تشكو الوجى من أظلل وأظلل (٢) *

وقوله :

وإن رأيت الحجج الرواددا

قواصرا بالعمر أو مواددا (٣)

ونحو ذلك مما ظهر تضعيفه. فهذا عندنا على إجراء اللازم مجرى غير اللازم من المنفصل ؛ نحو جعل لك وضرب بكر ؛ كما شبّه غير اللازم (من ذلك) باللازم فادّغم ؛ نحو ضربّكر وجعلّك ؛ فهذا مشبّه فى اللفظ بشدّ ومدّ واستعدّ ونحوه ،

__________________

(١) الرجز لأبى النجم فى خزانة الأدب ٢ / ٣٩٠ ، ولسان العرب (جلل) ، والدرر ٦ / ١٣٨ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٤٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٩٥ ، وجمهرة اللغة ص ٤٧١ ، وتاج العروس (جزل) ، (جلل) ، (خول) ، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى ٣ / ٥٠٨ ، ٨٩٣ ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ، ٢٥٣ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٦٤٩ ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، ونوادر أبى زيد ص ٤٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، وبعده :

* أعطى فلم يبخل ولم يبخّل*

(٢) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٢٣٦ ، ٢٣٧ ، ولسان العرب (ظلل) ، (ملل) ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣١٠ ، وكتاب الصناعتين ص ١٥٠ ، ونوادر أبى زيد ص ٤٤ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٣٥٢ ، وتاج العروس (ظلل) ، (ملل) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥١ ، وشرح شافية بن الحاجب ٣ / ٢٤٤ ، والكتاب ٣ / ٥٣٥ ، ولسان العرب (كفج) ، (كدس) ، والمقتضب ١ / ٢٥٢ ، ٣ / ٣٥٤ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٦٥٠ ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، وكتاب العين ٨ / ١٥٠ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٤٦٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ٣٥٨ ، وبعده :

* من طول إملال وظهر أملل*

(٣) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ٤٥ ، وتاج العروس (ردد) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥٢ ، ونوادر أبى زيد ص ١٦٤.

٣١٨

مما لزم فلم يفارق.

ومن ذلك ما حكوه من قول بعضهم : عوى الكلب عوية. وهذا عندى وإن كان لازما فإنه أجرى مجرى بنائك من باب طويت فعلة ، وهو قولك : طوية ، كقولك : امرأة جوية ، ولوية ، من الجوى واللوى (١) ؛ فإن خفّفت حركة العين فأسكنتها قلت : طوية وجوية ولوية ، فصحّحت العين ولم تعلّها بالقلب والادغام ، لأن الحركة فيها منويّة.

وعلى ذلك قالوا فى فعلان من قويت : قويان ، فإن أسكنوا صحّحوا العين أيضا ، فقالوا : قويان ، ولم يردّوا اللام (٢) أيضا وإن زالت الكسرة من قبلها ؛ لأنها مرادة فى العين ، فكذلك قالوا : عوى الكلب عوية تشبيها (بباب امرأة) جوية ولوية وقويان ، هذا الذى نحن بصدده.

فإن قلت : فهلّا قالوا أيضا على قياس هذا : طويت الثوب طوية وشويت اللحم شوية ، رجع الجواب الذى تقدّم فى أوّل الكتاب : من أنه لو فعل ذلك لكان قياسه قياس ما ذكرنا ، وأنه ليست لعوى فيه مزيّة على طوى وشوى ؛ كما لم يكن لجاشم ولا قام مزيّة يجب لها العدل بهما إلى جشم وقثم على مالك وحاتم ، إذ لم يقولوا : ملك ولا حتم. وعلى أن ترك الاستكثار مما فيه إعلال أو استثقال هو القياس.

ومن ذلك قراءة ابن مسعود : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] وذلك أنه أجرى حركة اللام هاهنا ـ وإن كانت لازمة ـ مجراها إذا كانت غير لازمة فى نحو قول الله تعالى : (قُلِ اللهُمَ) [آل عمران : ٢٦] و (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] ، وقوله :

زيادتنا نعمان لا تنسينّها

خف الله فينا والكتاب الذى تتلو (٣)

__________________

(١) اللوى : هو وجع فى المعدة.

(٢) لام الوزن وهى الواو ، فلم يقولوا : قووان.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لعبد الله بن همام السلولى فى الأغانى ١٦ / ٥ ، وسمط اللآلى ص ٩٢٣ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٩٦ ، ولسان العرب (وقى) ، ونوادر أبى زيد ص ٤ ، وتاج العروس (وقى) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥٤ ، وإصلاح المنطق ص ٢٤ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٩٨ ، والمحتسب ٢ / ٣٧٢ ، ويروى : (تحرمننا) مكان (تنسينها) ، (تق) مكان (خف).

٣١٩

ويروى «تق الله فينا». ويروى :

 ... تنسينها ا

تق الله فينا

ونحوه ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر :

وأطلس يهديه إلى الزاد أنفه

أطاف بنا والليل داجى العساكر

فقلت لعمرو صاحبى إذ رأيته

ونحن على خوص دقاق عواسر (١)

أى عوى الذئب فسر أنت. فلم يحفل بحركة الرّاء فيردّ العين التى كانت حذفت لالتقاء الساكنين ، فكذلك شبّه ابن مسعود حركة اللام من قوله : «فقلا له» ـ وإن كانت لازمة ـ بالحركة لالتقاء الساكنين فى (قُلِ اللهُمَ) و (قُمِ اللَّيْلَ) وحركة الإطلاق الجارية مجرى حركة التقائهما فى (سر).

ومثله قول الضبّىّ :

فى فتية كلّما تجمعت ال

بيداء لم يهلعوا ولم يخموا (٢)

يريد : ولم يخيموا. فلم يحفل بضمة الميم ، وأجراها مجرى غير اللازم فيما ذكرناه وغيره ، فلم يردد العين المحذوفة من لم يخم. وإن شئت قلت فى هذين : إنه اكتفى بالحركة من الحرف ، كما اكتفى الآخر بها منه فى قوله :

كفّاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسيف الدما (٣)

وقول الآخر :

__________________

(١) ذئب أطلس : فى لونه غبرة إلى السواد ؛ وكلّ ما كان على لونه فهو أطلس والأنثى طلساء. اللسان (طلس). وخوص دقاق عواسر وصف للناقة.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لمحمد بن شحاذ الضبى فى لسان العرب (جمع) ، وتاج العروس (جمع). خام عنه يخيم خيما وخيمانا وخيوما وخياما وخيمومة : نكص وجبن. اللسان (خيم) ومتجمّع البيداء : معظمها ومحتفلها. أراد الشاعر ولم يخيموا ، فحذف ولم يحفل بالحركة التى من شأنها أن تردّ المحذوف هاهنا ، وهذا لا يوجبه القياس إنما هو شاذّ.

(٣) الرجز بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥٦ ، ٢ / ٦٠ ، والإنصاف ١ / ٣٨٧ ، وتذكرة النحاة ص ٣٢ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥١٩ ، ٧٧٢ ، ولسان العرب (ليق) ، والمنصف ٢ / ٧٤ ، وأساس البلاغة (ليق) ، وتاج العروس (ليق).

٣٢٠