الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

فقلت له : ما واحد العلقى؟ فقال : علقاة. قال أبو عثمان : فلم أفسّر له ؛ لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا. وقد ذكرنا نحو هذا فيما قبل ، أو شرحناه.

قال أبو الفتح : قد أتينا فى هذا الباب من هذا الشأن على أكثر مما يحتمله هذا الكتاب ؛ تأنيسا به ، وبسطا للنفس بقراءته. وفيه أضعاف هذا ؛ إلا أن فى هذا كافيا من غيره ، بعون الله.

* * *

٥٠١

باب فى صدق النقلة ، وثقة الرواة والحملة

هذا موضع من هذا الأمر ، لا يعرف صحّته إلا من تصوّر أحوال السلف فيه تصوّرهم ، ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم ، واعتقد فى هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له ، وعلم أنه لم يوفّق لاختراعه ، وابتداء قوانينه وأوضاعه ، إلا البرّ عند الله سبحانه ، الحظيظ بما نوّه به ، وأعلى شأنه. أو لا يعلم أن أمير المؤمنين عليّا ـ رضى الله عنه ـ هو البادئة ، والمنبّه عليه ، والمنشئة والمرشد إليه. ثم تحقّق ابن عباس ، رضى الله عنه به ، واكتفال أبى الأسود ـ رحمه‌الله ـ إياه. هذا ، بعد تنبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليه ، وحضّه على الأخذ بالحظّ منه ، ثم تتالى السلف ـ رحمهم‌الله ـ عليه ، واقتفائهم ـ آخرا على أوّل ـ طريقه. ويكفى من بعد ما تعرف حاله ، ويتشاهد به من عفّة أبى عمرو بن العلاء ومن كان معه ، ومجاورا زمانه.

حدّثنا بعض أصحابنا ـ يرفعه ـ قال : قال أبو عمرو بن العلاء ـ رحمه‌الله ـ : ما زدت فى شعر العرب إلا بيتا واحدا. يعنى ما يرويه للأعشى من قوله :

وأنكرتنى وما كان الذى نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا (١)

أفلا ترى إلى هذا البدر الطالع الباهر ، والبحر الزاخر ، الذى هو أبو العلماء وكهفهم ، وبدء (٢) الرواة وسيفهم ، كيف تخلّصه من تبعات هذا العلم وتحرّجه ، وتراجعه فيه إلى الله وتحوّبه ، حتى إنه لمّا زاد فيه ـ على سعته وانبثاقه ، وتراميه وانتشاره ـ بيتا واحدا ، وفّقه الله للاعتراف به ، (وجعل ذلك) عنوانا على توفيق ذويه وأهليه.

وهذا الأصمعىّ ـ وهو صنّاجة (٣) الرواة والنقلة ، وإليه محطّ الأعباء والثقلة ،

__________________

(١) البيت من البسيط وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٥١ ، ولسان العرب (نكر) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ١٩١ ، وديوان الأدب ٢ / ٢٣٥ ، وأساس البلاغة (نكر) ، وتاج العروس (نكر) ، (صلع) ، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة ٥ / ٤٧٦.

(٢) البدء : السيد.

(٣) الصّنج ذو الأوتار الذى يلعب به ، واللاعب به يقال له : الصّنّاج والصّنّاجة وكان أعشى بكر يسمى صنّاجة العرب لجودة شعره. اللسان (صنج).

٥٠٢

ومنه تجنى الفقر والملح ، وهو ريحانة كل مغتبق ومصطبح ـ كانت مشيخة القرّاء وأماثلهم تحضره ـ وهو حدث ـ لأخذ قراءة نافع عنه. ومعلوم (كم قدر ما) حذف من اللغة ، فلم يثبته ، لأنه لم يقو عنده ، إذ لم يسمعه. وقد ذكرنا فى الباب الذى هذا يليه طرفا منه.

فأما إسفاف من لا علم له ، وقول من لا مسكة به : إن الأصمعىّ كان يزيد فى كلام العرب ، ويفعل كذا ، ويقول كذا ، فكلام معفوّ عنه ، غير معبوء به ، ولا منقوم من مثله ؛ حتى كأنه لم يتأدّ إليه توقّفه عن تفسير القرآن وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحوّبه من الكلام فى الأنواء.

ويكفيك من ذا خشنة أبى زيد وأبى عبيدة. وهذا أبو حاتم بالأمس ، وما كان عليه من الجدّ والانهماك ، والعصمة والاستمساك.

وقال لنا أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ يكاد يعرف صدق أبى الحسن ضرورة. وذلك أنه كان مع الخليل فى بلد واحد (فلم يحك عنه حرفا واحدا).

هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائىّ وعفّته ، وظلفه (١) ، ونزاهته ؛ حتى إن الرشيد كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيّين بحضرته ، ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته.

وحكى أبو الفضل الرّياشىّ قال : جئت أبا زيد لأقرأ عليه كتابه فى النبات ، فقال : لا تقرأه علىّ ؛ فإنى قد أنسيته.

وحسبنا من هذا حديث سيبويه ، وقد حطب بكتابه ـ (وهو) ألف ورقة ـ علما مبتكرا ، ووضعا متجاوزا لما يسمع ويرى ، قلّما تسند إليه حكاية ، أو توصل به رواية ، إلا الشاذّ الفذّ الذى لا حفل به ولا قدر. فلولا تحفّظ من يليه ، ولزومه طريق ما يعنيه ، لكثرت الحكايات عنه ، ونيطت أسبابها به ، لكن أخلد كل إنسان منهم إلى عصمته ، وادّرع جلباب ثقته ، وحمى جانبه من صدقه وأمانته ، ما أريد من صون هذا العلم الشريف (له به).

فإن قلت : فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين ، والمتحلّين به فى المصرين ،

__________________

(١) الظلف : النزاهة.

٥٠٣

كثيرا ما يهجّن بعضهم بعضا ، (ولا) يترك له فى ذلك سماء ولا أرضا.

قيل له : هذا أوّل دليل على كرم هذا الأمر ، ونزاهة هذا العلم ؛ ألا ترى أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنّة ، أو توجّهت نحوه شبهة ، سبّ بها ، وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة فى رواية ، أو عمر فى حكاية ، محمىّ جانب الصدق فيها ، برئ عند الله ذكره من تبعتها ؛ لكن أخذت عليه ، إما لاعتنان شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه ، وإمّا لأن ثالبه ومتعيّبه مقصّر عن مغزاه ، مغضوض الطرف دون مداه. وقد تعرض الشبه للفريقين (وتعترض على كلتا الطريقتين).

فلولا أن هذا العلم فى نفوس أهله ، والمتفيئين بظلّه ، كريم الطرفين ، جدد (١) السمتين ، لما تسابّوا بالهجنة فيه ، ولا تنابزوا بالألقاب فى تحصين فروجه ونواحيه ، ليطووا ثوبه على أعدل غروره (٢) ومطاويه.

نعم ، وإذا كانت هذه المناقضات والمثاقفات (٣) موجودة بين السلف القديم ، ومن باء فيه بالمنصب والشرف العميم ، ممن هم سرج الأنام ، والمؤتمّ بهديهم فى الحلال والحرام ، ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه ، ولا غاضا منه ، ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه ، جاز مثل ذلك أيضا فى علم العرب ، الذى لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له ، ولا يكاد يعدم أهله الأنق به ، والارتياح لمحاسنه. ولله أبو العباس أحمد بن يحيى ، وتقدّمه فى نفوس أصحاب الحديث ثقة وأمانة وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا الشأن ، وأساس هذا البنيان.

وهذا أبو علىّ رحمه‌الله ، كأنه بعد معنا ، ولم تبن به الحال عنّا ، كان من تحوّبه وتأنّيه ، وتحرّجه كثير التوقّف فيما يحكيه ، دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه.

فكان تارة يقول : أنشدت لجرير فيما أحسب ، وأخرى : قال لى أبو بكر فيما أظنّ ، وأخرى : فى غالب ظنىّ كذا ، وأرى أنّى قد سمعت كذا.

هذا جزء من جملة ، وغصن من دوحة ، وقطرة من بحر ، ممّا يقال فى هذا الأمر. وإنما أنسنا بذكره ، ووكلنا الحال فيه ، إلى تحقيق ما يضاهيه.

__________________

(١) الجدد : الأرض المستوية.

(٢) جمع غرّ ـ بفتح الغين ـ وغرور الثوب : مكاسره أى حيث يتثنى وينكسر.

(٣) يقال : ثاقف الرجل فثقفه كنصره غالبه فغلبه فى الحذق. القاموس (ثقف).

٥٠٤

باب فى الجمع بين الأضعف والأقوى فى عقد واحد

وذلك جائز عنهم ، وظاهر وجه الحكمة فى لغتهم ؛ قال الفرزدق :

كلاهما حين جدّ الجرى بينهما

قد أقلعا وكلا أنفيهما رابى (١)

(فقوله : كلاهما قد أقلعا ضعيف ؛ لأنه حمل على المعنى ؛ وقوله : وكلا أنفيهما رابى) قوىّ لأنه حمل على اللفظ. وأنشد أبو عمرو الشيبانىّ :

كلا جانبيه يعسلان كلاهما

كما اهتزّ خوط النّبعة المتتايع (٢)

فإخباره ب (يعسلان) عن (كلا جانبيه) ضعيف على ما ذكرنا. وأمّا (كلاهما) فإن جعلته توكيدا ل (كلا) ففيه ضعف ؛ لأنه حمل على المعنى دون اللفظ. ولو كان على اللفظ لوجب أن يقول : كلا جانبيه يعسل كلّه ، أو قال : يعسلان كلّه ، فحمل (يعسلان) على المعنى ، و (كلّه) على اللفظ ، وإن كان فى هذا ضعف ؛ لمراجعة اللفظ بعد الحمل على المعنى. وإن جعلت (كلاهما) توكيدا للضمير فى (يعسلان) فإنه قوىّ ؛ لأنهما فى اللفظ اثنان ؛ كما أنهما فى المعنى كذلك.

وقال الله ـ سبحانه ـ : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١١٢] فحمل أوّل الكلام على اللفظ ، وآخره على المعنى ، والحمل على اللفظ أقوى.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للفرزدق فى أسرار العربية ص ٢٨٧ ، وتخليص الشواهد ص ٦٦ ، والدرر ١ / ١٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٤٣ ، وشرح شواهد المغنى ص ٥٥٢ ، ونوادر أبى زيد ص ١٦٢ ، ولم أقع عليه فى ديوانه ، وهو للفرزدق أو لجرير فى لسان العرب (سكف) ، وبلا نسبة فى الإنصاف ص ٤٤٧ ، والخزانة ١ / ١٣١ ، ٤ / ٢٩٩ ، وشرح الأشمونى ١ / ٣٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٧١ ، وشرح المفصل ١ / ٥٤ ، ومغنى اللبيب ص ٢٠٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٤١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحميد بن ثور فى ديوانه ص ١٠٤ ، ولسان العرب (طرف) ، وتهذيب اللغة ٢ / ٢٨٤ ، ١٣ / ٣٢٢ ، وأساس البلاغة (تبع) ، (طرف) ، تاج العروس (تبع) ، (طرف). ويروى : ترى طرفيه بدلا من : كلا جانبيه ، عود الساسم بدلا من : خوط النبعة. يعسلان : يضطربان. والخوط : الغصن الناعم. النبعة : من أشجار الجبال يتخذ منه القسى.

٥٠٥

وتقول : أنتم كلّكم بينكم درهم. فظاهر هذا أن يكون (كلكم) توكيدا ل (أنتم) والجملة بعده خبر (عنه. ويجوز أن يكون كلكم مبتدأ ثانيا ، والجملة بعده خبر) عن (كلكم). وكان أجود من ذلك أن يقال : بينه درهم ؛ لأن لفظ كلّ مفرد ؛ ليكون كقولك أنتم غلامكم له مال. ويجوز أيضا : أنتم كلكم بينهم درهم ، فيكون عود الضمير بلفظ الغائب حملا على اللفظ ، وجمعه حملا على المعنى.

كل ذلك (مساغ عندهم) ومجاز بينهم.

وقال ابن قيس :

لئن فتنتنى لهى بالأمس أفتنت

سعيدا فأضحى قد قلى كلّ مسلم (١)

وفتن أقوى من أفتن ؛ حتى إن الأصمعىّ لمّا أنشد هذا البيت شاهدا لأفتن قال : ذلك مخنّث ، ولست آخذ بلغته. وقد جاء به رؤبة إلا أنه لم يضممه إلى غيره ؛ قال :

* يعرضن إعراضا لدين المفتن (٢) *

ولسنا ندفع أن فى الكلام كثيرا من الضعف فاشيا ، وسمتا منه مسلوكا متطرّقا.

وإنما غرضنا هذا أن نرى إجازة العرب جمعها بين قوّى الكلام وضعيفه فى عقد واحد ، وأن لذلك وجها من النظر صحيحا. وسنذكره.

وأما قوله :

أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النّجم حاديها (٣)

فلغتان قويّتان.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأعشى همدان فى لسان العرب (فتن) ، والمخصّص ٤ / ٦٢ ، وتاج العروس (فتن) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (فتن) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٢٨٩ ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٦ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤٧٣ ، وديوان الأدب ٢ / ٣٣٤ ، وكتاب العين ٨ / ١٢٨. وهو يريد سعيد بن جبير.

(٢) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١٦١ ، والكتاب ٤ / ٧٥ ، ولسان العرب (فتن) ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٦ ، ١٢٥٩ ، والمخصص ٤ / ٦٢ ، وتاج العروس (فتن).

(٣) البيت من البسيط ، وهو لطفيل الغنوى فى ديوانه ص ١١٣ ، ولسان العرب (قلص) ، (وفى) ، وتاج العروس (قلص) ، (وفى).

٥٠٦

وقال :

لم تتلفّع بفضل مئزرها

دعد ولم تسق دعد فى العلب (١)

فصرف ولم يصرف. وأجود اللغتين ترك الصرف.

وقال :

إنى لأكنى بأجبال عن اجبلها

وباسم أودية عن اسم واديها (٢)

وأجبال أقوى من أجبل ، وهما ـ كما ترى ـ فى بيت واحد.

ومثله فى المعنى لا فى الصنعة قول الآخر :

أبكى إلى الشرق ما كانت منازلها

ممّا يلى الغرب خوف القيل والقال

وأذكر الخال فى الخدّ اليمين لها

خوف الوشاة ، وما فى الخدّ من خال (٣)

وقال :

* أنك يا معاو يا ابن الأفضل (٤) *

قال صاحب الكتاب : أراد : يا معاوية ، فرخّمه على يا حار ، فصار : يا معاوى ،

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو لجرير فى ملحق ديوانه ص ١٠٢١ ، ولسان العرب (دعد) ، (لفع) ، ولعبيد الله بن قيس الرقيات فى ملحق ديوانه ص ١٧٨ ، وبلا نسبة فى أدب الكاتب ص ٢٨٢ ، وأمالى ابن الحاجب ص ٣٩٥ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٥٢٧ ، وشرح قطر الندى ص ٣١٨ ، وشرح المفصل ١ / ٧٠ ، والكتاب ٣ / ٢٤١ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ٥٠ ، والمنصف ٢ / ٧٧. ويروى : لم تغذ بدلا من : لم تسق.

(٢) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة فى الأغانى ٥ / ٣٠٢ ، ٣٠٤ ، ٣٠٥ ، والمقتضب ٢ / ٢٠٠. ويروى : عن ذكر بدلا من عن اسم.

(٣) البيتان لابن الأحنف فى ديوانه ص ١٢٨.

(٤) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٢٥١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٧٨ ، والدرر ٣ / ٥٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٦٢ ، والكتاب ٢ / ٢٥٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٨٤. وقبله :

* فقد رأى الرّاءون غير البطّل*

٥٠٧

ثم رخّمه ثانيا على قولك : يا حار ، فصار : يا معاو ؛ كما ترى. أفلا تراه كيف جمع بين الترخيمين : أحدهما على يا حار ، وهو الضعيف ، والآخر على يا حار ، وهو القوىّ.

ووجه الحكمة (فى الجمع بين اللغتين) : القويّة والضعيف فى كلام واحد هو : أن يروك أن جميع كلامهم ـ وإن تفاوتت أحواله فيما ذكرنا وغيره ـ على ذكر منهم ، وثابت فى نفوسهم. نعم ، وليؤنّسوك بذاك ، حتى إنك إذا رأيتهم وقد جمعوا بين ما يقوى وما يضعف فى عقد واحد ، ولم (يتحاموه ولم يتجنّبوه) ، ولم يقدح أقواهما فى أضعفهما ، كنت إذا أفردت الضعيف منهما بنفسه ولم تضممه إلى القوىّ فيتبين به ضعفه وتقصيره عنه ، آنس به ، وأقلّ احتشاما لاستعماله ؛ فقد عرفت ما جاء عنهم من نحو قولهم : كل مجر بالخلاء يسرّ.

وأنشد الأصمعىّ :

فلا تصلى بمطروق إذا ما

سرى فى القوم أصبح مستكينا

إذا شرب المرضّة قال : أوكى

على ما فى سقائك قد روينا (١)

وغرضه فى هذين البيتين أن يريك خفضه فى حال دعته. وقريب منه قول لبيد :

يا عين هلا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم فى كبد (٢)

أى : هناك يعرف قدر الإنسان ، لا فى حال الخلوة والخفيضة. وعليه قولها (٣) :

__________________

(١) البيتان من الوافر ، وهما لابن أحمد فى ديوانه ص ١٦١ ، ولسان العرب (رضض) ، (معد) ، (طرق) ، وجمهرة اللغة ص ١٢٢ ، وتاج العروس (رضض) ، (معد) ، وأساس البلاغة (رضض) ، (وكى) ، (طرق) ، وبلا نسبة فى المخصص ٣ / ١٠٢ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٧٥٢ ، والمخصص ٥ / ٤٤ ، ٨ / ٥٥ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٣٧٥ ، ٣ / ٤٨ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤١ ، ويروى البيت الأول منهما : ولا تحلى بدلا من فلا تصلى. المطروق : الضعيف اللين ، والمرضة : اللبن الحليب الذى يحلب على الحامض.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو للبيد فى ديوانه ص ١٦٠ ، وتذكرة النحاة ص ١١٨ ، ولسان العرب (كبد) ، (عدل).

(٣) أى الخنساء فى رثاء أخيها صخر. وفى ط :

* وأبكيه لكل مغيب شمس* (نجار).

٥٠٨

يذكّرنى طلوع الشمس صخرا

وأذكره لكل غروب شمس

أى وقتى الإغارة والإضافة. وقد كثر جدّا. وآخر من جاء به شاعرنا ، قال :

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا (١)

ونظير هذا الإنسان يكون له ابنان أو أكثر من ذلك ، فلا يمنعه نجابة النجيب منهما الاعتراف بأدونهما ، وجمعه بينهما فى المقام الواحد ، إذا احتاج إلى ذلك.

وقد كنا قدّمنا فى هذا الكتاب حكاية أبى العباس مع عمارة وقد قرأ : (ولا الليل سابق النهار) فقال له (أبو العباس) : ما أردت؟ فقال : أردت : سابق النهار.

فقال : فهلا قلته! فقال عمارة : لو قلته لكان أوزن.

وهذا يدلّك على أنهم قد يستعملون من الكلام ما غيره (آثر فى نفوسهم منه) ؛ سعة فى التفسّح ، وإرخاء للتنفّس ، وشحّا على ما جشموه فتواضعوه ، أن يتكارهوه فيلغوه ويطّرحوه. فاعرف ذلك مذهبا لهم ، ولا (تطعن عليهم) متى ورد عنهم شيء منه.

* * *

__________________

(١) فى ز : «فقال». والبيت من قصيدة يمدح فيها أبو الطيب سيف الدولة بن حمدان ، ويذكر انتصاره على الروم. يقول : إنهم أظهروا الإقدام على سيف الدولة ، فلما أحسوا به فرّوا من بين يديه. (نجار).

٥٠٩

باب فى جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه

هذا غور من اللغة بطين ، يحتاج مجتابه إلى فقاهة فى النفس ، ونصاعة من الفكر ، ومساءلة خاصّيّة ، ليست بمبتذلة ولا ذات هجنة.

ألقيت يوما على بعض من كان يعتادنى ، فقلت : من أين تجمع بين قوله :

لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب (١)

وبين قولنا : اختصم زيد وعمرو؟ فأجبل (٢) ورجع مستفهما. فقلت : اجتماعهما من حيث وضع كل واحد منهما فى غير الموضع الذى بدئ له. وذلك أن الطريق خاصّ وضع موضع العامّ. (وذلك) أن وضع هذا أن يقال : كما عسل أمامه الثعلب ، وذلك الأمام قد كان يصلح لأشياء من الأماكن كثيرة : من طريق وعسف وغيرهما. فوضع الطريق ـ وهو بعض ما كان يصلح للإمام أن يقع عليه ـ موضع الإمام. فنظير هذا أنّ واو العطف وضعها لغير الترتيب ، وأن تصلح للأوقات الثلاثة ؛ نحو جاء زيد وبكر. فيصلح أن يكونا جاءا معا ، وأن يكون زيد قبل بكر ، وأن يكون بكر قبل زيد. ثم إنك قد تنقلها من هذا العموم إلى الخصوص. وذلك قولهم : اختصم زيد وعمرو. فهذا لا يجوز أن يكون الواو فيه إلا لوقوع الأمرين فى وقت واحد. ففى هذا أيضا إخراج الواو عن أوّل ما وضعت له فى الأصل : من صلاحها للأزمنة الثلاثة ، والاقتصار بها على بعضها ؛ كما اقتصر على الطريق

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لساعدة بن جؤية الهذلى فى تخليص الشواهد ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٨٣ ، ٨٦ ، والدرر ٣ / ٨٦ ، وشرح أشعار الهذليين ص ١١٢٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣١٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٥٥ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨٨٥ ، والكتاب ١ / ٣٦ ، ٢١٤ ، ولسان العرب (وسط) ، (عسل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٤٤ ، ونوادر أبى زيد ص ١٥ ، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ١٨٠ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٧٩ ، وجمهرة اللغة ص ٨٤٢ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٩٧ ، ومغنى اللبيب ص ١١ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٠.

(٢) وفى حديث عكرمة : ما لك أجبلت ، أى انقطعت ، من قولهم أجبل الحافر إذا أفضى إلى الجبل أو الصخر الذى لا يحيك فيه المعول. وسألته فأجبل ، أى وجدته جبلا. اللسان (جبل).

٥١٠

من بعض ما كان يصلح له الأمام.

ومن ذلك أن يقال لك : من أين تجمع بين قول الله سبحانه : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ* فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [الطارق : ٩ ، ١٠] مع قول الشاعر :

زمان علىّ غراب غداف

فطيّره الدهر عنّى فطارا (١)

فالجواب : أن فى كل واحد من الآية والبيت دليلا على قوّة شبه الظرف بالفعل.

أمّا الآية فلأنه عطف الظرف فى قوله : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) على قوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) والعطف نظير التثنية ؛ وهو مؤذن بالتماثل والتشابه. وأما البيت فلأنه عطف الفعل فيه على الظرف الذى هو قوله : (علىّ غراب غداف). وهذا واضح. وبهذا يقوى عندى قول مبرمان : إن الفاء فى نحو قولك : خرجت فإذا زيد عاطفة ، وليست زائدة كما قال أبو عثمان ؛ ولا للجزاء كما قال الزيادىّ.

ومن ذلك أن يقال : من أين تجمع قول الله سبحانه : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) [الإسراء : ١١١] مع قول امرئ القيس :

على لاحب لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود النباطىّ جرجرا (٢)

والجواب أن معنى قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) : لم يذلّ فيحتاج إلى ولىّ من الذّل ؛ كما أن هذا معناه : لا منار به فيهتدى به. ومثله قول الآخر :

لا تفزع الأرنب أهوالها

ولا يرى الضبّ بها ينجحر (٣)

وعليه قول الله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] أى لا

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو للكميت فى لسان العرب (غرب) ، ويروى : الشيب بدلا من الدهر.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٦٦ ، ولسان العرب (ديف) ، (سوف) ، (لحف) ، وتهذيب اللغة ٥ / ٧٠ ، ١٣ / ٩٢ ، ١٤ / ١٩٨ ، وأساس البلاغة (سوف) ، وتاج العروس (ديف) ، (لحف) ، (سوف) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (نسا) ، ومقاييس اللغة ٢ / ٣١٨ ، ومجمل اللغة ٢ / ٣٠٤ ، ويروى : الدياضىّ بدلا من النباطى.

(٣) البيت من السريع ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٦٧ ، وأمالى المرتضى ١ / ٢٢٩ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٩٢ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ١١ / ٣١٣.

٥١١

يشفعون لهم فينتفعوا بذلك. يدل عليهم قول عز اسمه : «ولا يشفعون إلا لمن ارتضى» وإذا كان كذلك فلا شفاعة إلا للمرتضى. فعلمت بذلك أن لو (شفع لهم لا ينتفعون) بذلك. ومنه قولهم : هذا أمر لا ينادى وليده ، أى لا وليد فيه فينادى.

فإن قيل : فإذا كان لا منار به ولا وليد فيه (ولا أرنب هناك) فما وجه إضافة هذه الأشياء إلى ما لا ملابسة بينها وبينه؟

قيل : لا ؛ بل هناك ملابسة لأجلها ما صحّت الإضافة. وذلك أن العرف أن يكون فى الأرض الواسعة منار يهتدى به ، وأرنب تحلّها. فإذا شاهد الإنسان هذا البساط (١) من الأرض خاليا من المنار والأرنب ، ضرب بفكره إلى ما فقده منهما ، فصار ذلك القدر من الفكر وصلة بين الشيئين ، وجامعا لمعتاد الأمرين.

وكذلك إذا عظم الأمر واشتدّ الخطب علم أنه لا يقوم له ، ولا يحضر فيه إلا الأجلاد وذوو البسالة ، دون الولدان وذوى الضراعة. فصار العلم يفقد هذا الضرب من الناس وصلة فيه بينهما ، وعذرا فى تصاقبهما وتدانى حاليهما.

ومن ذلك أن يقال : من أين تجمع قول الأعشى :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا (٢)

مع قول الآخر ـ فيما رويناه عن ابن الأعرابىّ ـ :

وطعنة مستبسل ثائر

تردّ الكتيبة نصف النّهار (٣)

ومع قول العجاج :

* ولم يضع جاركم لحم الوضم (٤) *

ومع قوله أيضا :

__________________

(١) البساط ـ بفتح الباء وكسرها ـ : الأرض الواسعة.

(٢) السليم : اللديغ.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٧٥٢ ، والمحتسب ٢ / ١٢٢.

(٤) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٤٢٧ ، ولسان العرب (لحم).

٥١٢

* حتى إذا اصطفّوا له جدارا (١) *

والجواب : أن التقاء هذه المواضع كلّها هو فى أن نصب فى جميعها (على المصدر) ما ليس مصدرا. وذلك أن قوله : (ليلة أرمدا) انتصب (ليلة) منه على المصدر ؛ وتقديره : ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد ، فلمّا حذف المضاف الذى هو (اغتماض) أقام (ليلة) مقامه ، فنصبها على المصدر ؛ كما كان الاغتماض منصوبا عليه. فالليلة إذا هاهنا منصوبة على المصدر لا على الظرف. كذا قال أبو علىّ لنا. وهو كما ذكر ؛ لما ذكرنا. فكذلك إذا قوله :

* تردّ الكتيبة نصف النهار (٢) *

(إنما نصف النهار) منصوب على المصدر لا على الظرف ؛ ألا ترى أن ابن الأعرابىّ قال فى تفسيره : إن معناه : تردّ الكتيبة مقدار نصف يوم ، أى مقدار مسيرة نصف يوم. فليس إذا معناه : تردّها فى وقت نصف النهار ؛ بل : الردّ الذى لو بدئ أوّل النهار لبلغ نصف يوم. وكذلك قول العجّاج :

* ولم يضع جاركم لحم الوضم (٣) *

ف (لحم الوضم) منصوب على المصدر ، أى ضياع لحم الوضم. وكذلك قوله أيضا:

* حتى إذا اصطفّوا له جدارا (٤) *

ف (جدارا) منصوب على المصدر. هذا هو الظاهر ؛ ألا ترى أن معناه : (حتى إذا اصطفوا له) اصطفاف جدار ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ؛ على ما مضى. وقد يجوز أن يكون (جدارا) حالا أى مثل الجدار ، وأن يكون أيضا

__________________

(١) من أرجوزة له يمدح فيها الحجاج ، ويذكر إيقاعه بالخوارج. فقوله : «اصطفوا» : أى الخوارج ، يريد : أنهم برزوا له فى الموقعة ، وجواب الشرط فى قوله بعد :

أو رد حذّا تسبق الأبصارا

يسبقن بالموت القنا الحرارا

وهو يريد بالحذّ سهاما خفيفة ، والحرار جمع الحرّى ، وصفها بذلك لحرارة الطعن بها.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) سبق تخريجه.

٥١٣

منصوبا على فعل آخر ، أى صاروا جدارا ، أى مثل جدار ، فنصبه فى هذا الموضع على أنه خبر صاروا. والأوّل أظهر وأصنع.

ومن ذلك أن يقال : من أين يجمع قول الله سبحانه : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) [المؤمنون : ٧٦] مع قوله تعالى : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) [البقرة : ٤٩].

والتقاؤهما أن أبا علىّ ـ رحمه‌الله ـ كان يقول : إن عين (استكانوا) من الياء ، وكان يأخذه من اللفظ الكين ومعناه ، وهو لحم باطن الفرج ، أى فما ذلّوا وما خضعوا. وذلك لذلّ هذا الموضع ومهانته. وكذلك قوله : (ويستحيون نساءكم) إنما هو من لفظ الحياء ومعناه (أى الفرج) ، أى يطئوهنّ. وهذا واضح.

ومن ذلك أن يقال : من أين (يجمع بين) قول الله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] ، (وبين) قوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٤ ، ٥]. والتقاؤهما من قبل أن الفاء فى قوله سبحانه : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) إنما دخلت لما فى الصفة التى هى قوله : (الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) (من معنى الشرط) ، أى إن فررتم منه لاقاكم ـ فجعل ـ عزّ اسمه ـ هربهم منه سببا للقيه إيّاهم ؛ على وجه المبالغة ؛ حتى كأنّ هذا مسبّب عن هذا ؛ كما قال زهير :

* ومن هاب أسباب المنايا ينلنه (١) *

فمعنى الشرط إذا إنما هو مفاد من الصفة لا الموصوف. وكذلك قوله عزوجل : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) إنما استحقّوا الويل لسهوهم عن الصلاة ، لا للصلاة نفسها ، والسهو مفاد من الصفة لا من الموصوف. فقد ترى إلى اجتماع الصفتين فى أن المستحقّ من المعنى إنما هو لما فيهما من الفعل الذى هو الفرار والسهو ، وليس من نفس الموصوفين اللذين هما الموت والمصلّون. وليس كذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ

__________________

(١) صدر البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص ٣٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٦٧ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٣٨٦ ، ولسان العرب (سبب). ويروى : السماء بدلا من : المنايا.

وعجز البيت :

* وإن رام أسباب السماء بسلّم*

٥١٤

سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٢٧٤] ؛ من قبل أن معنى الفعل المشروط به هنا إنما هو مفاد من نفس الاسم الذى ليس موصوفا ، أعنى : الذين ينفقون. وهذا واضح.

وقال لى أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ : «إنى لم أودع كتابى فى الحجة» شيئا من انتزاع أبى العباس غير هذا الموضع ، أعنى قوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] مع قوله :

* ومن هاب أسباب المنايا ينلنه (١) *

وكان ـ رحمه‌الله ـ يستحسن الجمع بينهما.

ومن ذلك أن يقال : من أين يجمع قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤] مع قول الأعشى :

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميّت الناشر (٢)

والتقاؤهما أن معناه : فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة ، وكذلك قوله : حتى يقول الناس ، أى حتى يقول كل واحد من الناس : يا عجبا! ألا ترى أنه لو لا ذلك لقيل : يا عجبنا. ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم : أتينا الأمير فكسانا كلّنا حلّة ، وأعطانا كلّنا مائة ؛ أى كسا كل واحد منا حلّة ، وأعطاه مائة. ومثل قوله سبحانه : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧] أى : أولم نعمر كلّ واحد منكم ما يتذكّر فيه من تذكّر.

ومن ذلك أن يقال : من أين يجمع قول العجّاج :

* وكحّل العينين بالعواور (٣) *

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) البيت من السريع ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٩١ ، ولسان العرب (نشر) ، وتهذيب اللغة ١١ / ٣٣٨ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٤٣٠ ، وتاج العروس (نشر) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٧٣٤ ، والمخصص ٩ / ٩٢.

(٣) الرجز للعجاج ، ولجندل بن المثنى الطهوى فى شرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٢٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٧٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٧١ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ـ ـ

٥١٥

مع قول الآخر :

لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع

مال إلى أرطاة حقف فالطجع (١)

واجتماعهما أنه صحّح الواو فى العواور ؛ لإرادة الياء فى العواوير ؛ كما أنه أراد : فاضطجع ، ثم أبدل من الضاد لاما. فكان قياسه إذا زالت الضاد وخلفتها اللام أن تظهر تاء افتعل ، فيقال : التجع ، كما يقال : التفت ، والتقم ، والتحف.

لكن أقرّت الطاء بحالها ؛ ليكون اللفظ بها دليلا على إرادة الضاد التى هذه اللام بدل منها ؛ كما دلّت صحّة الواو (فى العواور) على إرادة الياء فى العواوير ، وكما دلّت الهمزة فى أوائيل ـ إذا مددت مضطرّا ـ على زيادة الياء فيها ، وأن الغرض إنما هو أفاعل لا أفاعيل.

ونحو من الطجع فى إقرار الطاء لإرادة الضاد ما حكى لنا أبو علىّ عن خلف من قولهم : التقطت النوى واستقطته واضتقطته. فصحّة التاء مع الضاد فى اضتقطته دليل على إرادة اللام فى التقطته ، وأن هذه الضاد بدل من تلك اللام ؛ كما أن لام الطجع بدل من ضاد اضطجع : هذا هنا كذلك ثمّة.

ونحو من ذلك ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم : لا أكلّمك حيرى دهر ، بإسكان الياء فى الكلام وعن غير ضرورة من الشعر. وذلك أنه أراد : حيرىّ دهر ـ أى امتداد الدهر ، وهو من الحيرة ؛ لأنها مؤذنة بالوقوف والمطاولة ـ فحذف الياء

__________________

٢ / ٧٨٥ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧٤ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٧٧١ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٨٢٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٣١ ، وشرح المفصل ٥ / ٧ ، ١٠ / ٩١ ، ٩٢ ، والكتاب ٤ / ٣٧٠ ، ولسان العرب (عور) ، والمحتسب ١ / ١٠٧ ، ١٢٤ ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٢٩ ، والمنصف ٢ / ٤٩ ، ٣ / ٥٠ ، وتاج العروس (عور) ، والمخصص ١ / ١٠٩.

(١) الرجز لمنظور بن حبة الأسدىّ فى شرح التصريح ٢ / ٣٦٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨٤ ، وبلا نسبة فى التنبيه والإيضاح ٢ / ٢٣٤ ، والمخصص ٨ / ٢٤ ، وتاج العروس (أبز) ، (أرط) ، (ضجع) ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٤٠ ، وإصلاح المنطق ص ٩٥ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٢١ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٨٢١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٢٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٧٤ ، وشرح المفصل ٩ / ٨٢ ، ١٠ / ٤٦ ، ولسان العرب (أبز) ، (أرط) ، (ضجع) ، (رطا) ، والمحتسب ١ / ١٠٧ ، والممتع فى التصريف ١ / ٤٠٣ ، والمنصف ٢ / ٣٢٩.

٥١٦

الأخيرة ، وبقيت الياء الأولى على سكونها ، وجعل بقاؤها ساكنة على الحال التى كانت عليها قبل حذف الأخرى من بعدها ، دليلا على إرادة هذا المعنى فيها ، وأنها ليست مبنيّة على التخفيف فى أوّل أمرها ؛ إذ لو كانت كذلك لوجب تحريكها بالفتح ، فيقال : لا أكلمك حيرى دهر ؛ كقولك : مدّة الدهر (وأبد الأبد ويد المسند) و:

* بقاء الوحى فى الصّيمّ الصلاب*

ونحو ذلك. وهذا يدلّ على أن المحذوف من الياءين فى قوله :

بكّى بعينك واكف القطر

ابن الحوارى العالى الذكر (١)

إنما هو الياء الثانية فى الحوارىّ ؛ كما أن المحذوف من حيرى دهر ، إنما هو الثانية فى حيرىّ. فاعرفه.

ومثله إنشاد أبى الحسن :

* ارهن بنيك عنهم أرهن بنى*

يريد بنىّ ، فحذف الياء الثانية للقافية ، ولم يعد النون التى كان حذفها للإضافة ، فيقول : بنين ؛ لأنه نوى الياء الثانية ، فجعل ذلك دليلا على إرادتها ونيّته إياها.

فهذا شرح من خاصّي السؤال ، لم تكدّ تجرى به عادة فى الاستعمال. وقد كان أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ وإن لم يكن تطرّقه ـ يعتاد من الإلقاء نحوا منه ، فيتلو الآية ، وينشد البيت ، ثم يقول : ما فى هذا مما يسأل عنه؟ من غير أن (يبرز) (نفس حال) المسئول عنه ؛ ولا يسمح بذكره من جهته ، ويكله إلى استنباط المسئول عنه ، حتى إذا وقع له غرض أبى علىّ فيه ، أخذ فى الجواب عليه.

* * *

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لعبيد الله بن قيس الرّقيّات فى ملحق ديوانه ص ١٨٣ ، ونوادر أبى زيد ص ٢٠٥ ، وبلا نسبة فى سرّ صناعة الإعراب ٢ / ٦٧٢ ، ولسان العرب (حور) ، (أيا) ، (دوا) ، والمحتسب ١ / ١٦٣ ، ٣٢٣. الحوارىّ : هو الزبير بن العوام حوارىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥١٧

باب فى المستحيل

وصحة قياس الفروع على فساد الأصول

اعلم أن هذا الباب ، وإن ألانه عندك ظاهر ترجمته ، وغضّ منه فى نفسك بذاذة سمته ، فإن فيه ومن ورائه تحصينا للمعانى ، وتحريرا للألفاظ ، وتشجيعا على مزاولة الأغراض.

والكلام فيه من موضعين :

أحدهما : ذكر استقامة المعنى من استحالته ، والآخر : الاستطالة على اللفظ بتحريفه والتلعّب به ؛ ليكون ذلك مدرجة للفكر ، ومشجعة للنفس ، وارتياضا لما يرد من ذلك الطرز. وليس لك أن تقول : فما فى الاشتغال بإنشاء فروع كاذبة ، عن أصول فاسدة!. وقد كان فى التشاغل بالصحيح ، مغن عن التكلّف للسقيم.

هذا خطأ من القول ؛ من قبل أنه إذا أصلح الفكر ، وشحذ البصر ، وفتق النظر ، كان ذلك عونا لك ، وسيفا ماضيا فى يدك ؛ ألا ترى إلى ما كان نحو هذا من الحساب وما فيه من التصرّف والاعتمال.

وذلك قولك : إذا فرضت أن سبعة فى خمسة أربعون فكم يجب أن يكون على هذا ثمانية فى ثلاثة؟ فجوابه أن تقول : سبعة وعشرون وثلاثة أسباع. وبابه ـ على الاختصار ـ أن تزيد على الأربعة والعشرين سبعها ، وهو ثلاثة وثلاثة أسباع ؛ كما زدت على الخمسة والثلاثين سبعها ـ وهو خمسة ـ حتى صارت : أربعين.

وكذلك لو قال : لو كانت سبعة فى خمسة ثلاثين ، كم كان يجب أن تكون ثمانية فى ثلاثة؟ لقلت : عشرين وأربعة أسباع ، نقصت من الأربعة والعشرين سبعها ؛ كما نقضت من الخمسة والثلاثين سبعها. وكذلك لو كان نصف المائة أربعين لكان نصف الثلاثين اثنى عشر. (وكذلك لو كان نصف المائة ستّين لكان نصف الثلاثين ثمانية عشر).

ومن المحال أن يقول لك : ما تقول فى مال نصفه ثلثاه ، كم ينبغى أن يكون ثلثه؟ فجوابه أن تقول : أربعة أتساعه. وكذلك لو قال : ما تقول فى مال ربعه

٥١٨

وخمسه نصفه وعشره ، كم ينبغى أن يكون نصفه وثلثه؟ فجوابه أن يكون : جميعه وتسعه. وكذلك لو قال : ما تقول فى مال نصفه ثلاثة أمثاله ، كما يجب أن تكون سبعة أمثاله؟ فجوابه أن تقول : اثنين وأربعين مثلا له. (وكذلك لو قال : ما تقول فى مال ضعفه ثلثه كم ينبغى أن يكون أربعة أخماسه؟ وجوابه أن تقول : عشره وثلث عشره). وكذلك لو قال لك : إذا كانت أربعة وخمسة ثلاثة عشر فكم يجب أن يكون تسعه وستة؟ فجوابه أن تقول : أحدا وعشرين وثلثين.

وكذلك طريق الفرائض أيضا ؛ ألا تراه لو قال : مات رجل ، وخلّف ابنا وثلاث عشرة بنتا ، فأصاب الواحدة ثلاثة أرباع ما خلّفه المتوفّى ، كم يجب أن يصيب الجماعة؟ فالجواب أنه يصيب جميع الورثة مثل ما خلّفه المتوفّى إحدى عشرة مرّة وربعا.

وكذلك لو قال : امرأة ماتت ، وخلّفت زوجا وأختين لأب وأم ، فأصاب كلّ واحدة منهما أربعة أتساع ما خلّفته المتوفّاة ، كم ينبغى أن يصيب جميع الورثة؟

والجواب أنه يصيبهم ما خلّفته المرأة وخمسة اتساعه.

فهذه كلها ونحوه من غير ما ذكرنا ، أجوبة صحيحة ، على أصول فاسدة.

ولو شئت أن تزيد وتغمض فى السؤال لكان ذلك لك. وإنما الغرض فى هذا ونحوه التدرّب به ، والارتياض بالصنعة فيه. وستراه بإذن الله.

فمن المحال أن تنقض أوّل كلامك بآخره. وذلك كقولك : قمت غدا ، وسأقوم أمس ، ونحو هذا. فإن قلت : فقد تقول ؛ إن قمت غدا قمت معك ، وتقول : لم أقم أمس ، وتقول : أعزّك الله ، وأطال بقاءك ، فتأتى بلفظ الماضى ومعناه الاستقبال ؛ وقال :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّنى

فمضيت ثمّت قلت لا يعنينى (١)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لرجل من سلول فى الدرر ١ / ٧٨ ، وشرح التصريح ٢ / ١١ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٣١٠ ، والكتاب ٣ / ٢٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨ ، ولشمر بن عمرو الحنفىّ فى الأصمعيات ص ١٢٦ ، ولعميرة بن جابر الحنفى فى حماسة البحترى ص ١٧١ ، وبلا نسبة فى الأزهية ص ٢٦٣ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٩٠ ، والأضداد ص ١٣٢ ، وأمالى ابن الحاجب ص ٦٣١ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٠٦ ، وجواهر الأدب ص ٣٠٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٧ ، ـ ـ

٥١٩

أى : ولقد مررت. وقال :

وإنى لآتيكم تشكّر ما مضى

من الأمر واستيجاب ما كان فى غد (١)

أى ما يكون. وقال :

* أوديت إن لم تحب حبو المعتنك (٢) *

أى أودى ـ وأمثاله كثيرة ـ :

قيل : ما قدّمناه على ما أردنا فيه. فأما هذه المواضع المتجوّزة ، وما كان نحوها ، فقد ذكرنا أكثرها فيما حكيناه عن أبى علىّ ، وقد سأل أبا بكر عنه فى نحو هذا فقال (أبو بكر) كان حكم الأفعال إن تأتى كلها بلفظ واحد ؛ لأنها لمعنى واحد ؛ غير أنه لمّا كان الغرض فى صناعتها أن تفيد أزمنتها ، خولف بين مثلها ؛ ليكون ذلك دليلا على المراد فيها. قال : فإن أمن اللبس فيها جاز أن يقع بعضها موقع بعض. وذلك مع حرف الشرط ؛ نحو إن قمت جلست ؛ لأن الشرط معلوم أنه لا يصحّ إلا مع الاستقبال. وكذلك لم يقم أمس ، وجب لدخول لم ما لو لا هى لم يجز. قال : ولأن المضارع أسبق فى الرتبة من الماضى ، فإذا نفى الأصل كان الفرع

__________________

٣٥٨ ، ٣ / ٢٠١ ، ٤ / ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٥ / ٢٣ ، ٥٠٣ ، ٧ / ١٩٧ ، ٩ / ١١٩ ، ٣٨٣ ، والدرر ٦ / ١٥٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٤١ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٧٥ ، والصاحبى فى فقه اللغة ٢١٩ ، ولسان العرب (ثمم) ، (منى) ، ومغنى اللبيب ١ / ١٠٢ ، ٢ / ٤٢٩ ، ٦٤٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٩ ، ٢ / ١٤٠.

(١) البيت من الطويل ، وهو للطرماح فى ملحق ديوانه ص ٥٧٢ ، وتاج العروس (كون) ، ولسان العرب (كون). ويروى : واستنجاز بدلا من واستيجاب.

(٢) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١١٨ ، ولسان العرب (عنك) ، (حبا) ، وتاج العروس (ركك) ، (عنك) ، (حبو) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٢٨٦ ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٦٥ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤١٦ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٥٢ ، وشرح قطر الندى ص ٢٠٩ ، وللعجاج فى اللمع فى العربية ص ١٩٤ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ص ٦٢٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٣ ، والمعانى الكبير ص ٨٧٠ ، والمقتضب ٤ / ٢٠٨ ، وديوان الأدب ٢ / ١٨ ، وكتاب الجيم ٢ / ٢٢٥ ، ٢٧٣ ، وأساس البلاغة (نوخ). وقبله :

* فالذخر فيها عندنا والأجر لك*

٥٢٠