الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

باب فى أضعف المعتلين

وهو اللام ؛ لأنها أضعف من العين. يدلّ على ذلك قولهم فى تكسير فاعل مما اعتلّت لامه : إنه يأتى على فعلة ؛ نحو قاض وقضاة ، وغاز وغزاة ، وساع وسعاة.

فجاء ذلك مخالفا للصحيح الذى يأتى على فعلة ؛ نحو كافر وكفرة ، وبارّ وبررة.

هذا ما دام المعتل من فاعل لامه. فإن كان معتلّه العين فإنه يأتى مأتى الصحيح على فعلة. وذلك نحو حائك وحوكة ، وخائن وخونة وخانة ، وبائع وباعة ، وسائد وسادة. أفلا ترى كيف اعتدّ اعتلال اللام ، فجاء مخالفا للصحيح ، ولم يحفلوا باعتلال العين ؛ لأنها لقوّتها بالتقدّم لحقت بالصحيح.

وجاء عنهم سرىّ وسراة مخالفا. وحكى النضر سراة. فسراة فى تكسير سرىّ عليه بمنزلة شعراء من شاعر. وذلك أنهم كما كسّروا فاعلا على فعلاء ، وإنما فعلاء لباب فعيل ؛ كظريف وظرفاء ، وكريم وكرماء ، كذلك كسّروا أيضا فعيلا على فعلة وإنما هى لفاعل.

فإن قلت : فقد قالوا : فيعل مما عينه معتلة ؛ نحو سيد وميّت فبنوه على فيعل ، فجاء مخالفا للصحيح الذى إنما بابه فيعل ؛ نحو صيرف وخيفق (١) ، وإنما اعتلاله من قبل عينه ، وجاءت أيضا الفيعولة فى مصادر ما اعتلّت عينه ؛ نحو الكينونة والقيدودة ، فقد أجروا العين فى الاعتلال أيضا مجرى اللام فى أن خصّوها بالبناء الذى لا يوجد فى الصحيح.

قيل : على كل حال اعتلال اللام أقعد فى معناه من اعتلال العين ؛ ألا ترى أنه قد جاء فيما عينه معتلة فيعل مفتوحة العين فى قوله :

*ما بال عينى كالشّعيب العيّن (٢) *

__________________

(١) يقال : ناقة خيفق : سريعة جدا.

(٢) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١٦٠ ، ولسان العرب (جون) ، (عين) ، وأدب الكاتب ص ٥٩٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٢٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٦١ ، وجمهرة اللغة ص ٩٥٦ ، وأساس البلاغة (رقن) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٩٥ ، وتاج العروس (جون) ، وبلا نسبة فى لسان ـ ـ

٢٤١

وقالوا أيضا : هيّبان (١) وتيّحان (٢) بفتح عينيهما ، ولم يأت فى باب ما اعتلّت لامه فاعل مكسّرا على فعلة. (فالاعتلال المعتدّ) إذا إنما هو للام ، ثم حملت العين عليها فيما ذكرت لك.

ويؤكّد عندك قوّة العين على اللام أنهما إذا كانتا حرفى علة صحّت العين واعتلّت اللام (وذلك) نحو نواة وحياة ، والجوى والطوى. ومثله الضواة (٣) والحواة (٤). فأما آية وغاية وبابهما فشاذّ. وكأن فيه ضربا من التعويض لكثرة اعتلال اللام مع صحّة العين إذا كانت أحد الحرفين.

ويدلّك على ضعف اللام عندهم أنهم إذا كسّروا كلمة على فعائل وقد كانت الياء ظاهرة فى واحدها لاما فإنهم مما يظهرون فى الجمع ياء. وذلك نحو مطيّة ومطايا وسبيّة وسبايا و (سويّة وسوايا) فهذه اللام. وكذلك إن ظهرت الياء فى الواحد زائدة فإنهم أيضا مما يظهرونها فى الجمع. وذلك نحو خطيئة وخطايا ، ورزيّة ورزايا ؛ أفلا ترى إلى مشابهة اللام للزائد. (وكذلك أيضا لو كسّرت نحو عظاية وصلاية لقلت : عظايا وصلايا). وأيضا فإنك تحذفها كما تحذف الحركة.

وذلك فى نحو لم يدع ولم يرم ولم يخش. فهذا كقولك : لم يضرب ، (ولم يقعد) وإن تقعد أقعد. ومنها أيضا حذفهم إياها وهى صحيحة للترخيم فى نحو يا حار ويا مال. فهذا نحو حذفهم الحركات الزوائد فى كثير من المواضع. ولو لم يكن من ضعف اللام إلا اختلاف أحوالها باختلاف الحركات عليها ، نعم ، وكونها

__________________

العرب (رقم) ، (رقن) ، (عين) ، والإنصاف ٢ / ٨٠١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ١٥٠ ، ٢ / ١٧٦ ، والكتاب ٤ / ٣٦٦ ، والمنصف ٢ / ١٦ ، وجمهرة اللغة ص ٣٤٣ ، ٧٩٣ ، وكتاب العين ٥ / ١٤٣ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٩٢ ، ٤ / ٢٠١ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤٣١ ، المخصّص ١٣ / ٥ ، وتهذيب اللغة ٩ / ١٤٣ ، وتاج العروس (عين). وبعده :

*وبعض أعراض الشجون الشّجن*

الشعيب : القربة الصغيرة. والعيّن : البالية.

(١) هيّبان : الجبان.

(٢) تيّحان : هو الكثير الحركة الذى يتعرض للشاق من الأمور.

(٣) الضواة : هى الورم الصلب.

(٤) الحواة : هى الصوت.

٢٤٢

فى الوقف على حال يخالف حالها فى الوصل ـ نحو مررت بزيد يا فتى ومررت بزيد ، وهذه قائمة يا فتى ، وهذه قائمه ـ لكان كافيا ؛ أولا ترى إلى كثرة حذف اللام ؛ نحو يد ودم وغد وأب وأخ ، وذلك الباب ، وقلّة حذف العين فى سه ومد. فبهذا ونحوه يعلم أن حرف العلة فى نحو قام وباع أقوى منه فى باب غزوت ورميت. فاعرفه.

* * *

٢٤٣

باب فى الغرض فى (مسائل) التصريف

وذلك عندنا على ضربين : أحدهما الإدخال (لما تبنيه) فى كلام العرب والإلحاق له به. والآخر التماسك الرياضة به والتدرّب بالصنعة فيه.

الأوّل نحو قولك فى مثل جعفر من ضرب : ضربب ، ومثل حبرج (١) : ضربب ، ومثل صفرد (٢) : ضربب ، ومثل سبطر : ضرب ، ومثل فرزدق من جعفر : جعفرر. فهذا عندنا كله إذا بنيت شيئا منه فقد ألحقته بكلام العرب ، وادّعيت بذلك أنه منه. وقد تقدم ذكر ما هذه سبيله فيما مضى.

الثانى. وهو نحو ذلك قولك فى مثل فيعول من شويت : شيوىّ ، وفى فعلول منه : شووىّ ، وفى مثل عضرفوط من الآءة : أوأيوء ، ومنها مثل صفرّق : أوؤيؤ ، ومن يوم مثل مرمريس : يويويم ، ومثل ألندد أينوم ، ومثل قولك فى نحو افعوعلت من وأيت : ايأوأيت.

فهذا ونحوه إنما الغرض فيه التأنّس به وإعمال الفكرة فيه ؛ لاقتناء النفس القوّة على ما يرد مما فيه نحو ممّا فيه. ويدلّك على ذلك أنهم قالوا فى مثال إوزّة من أويت : إيّاة ؛ والأصل فيه على الصنعة إيوية ، فأعلت فيه الفاء والعين واللام جميعا. وهذا مما لم يأت عن العرب مثله. نعم ، وهم لا يوالون بين إعلالين إلا لمحا شاذّا ، ومحفوظا نادرا ، فكيف بأن يجمعوا بين ثلاثة إعلالات! هذا مما لا (ريب فيه) ولا تخالج شك فى شيء منه.

* * *

__________________

(١) حبرج : من طيور الماء.

(٢) صفرد : هو طائر يقال له أبو المليح.

٢٤٤

باب فى اللفظ يرد محتملا لأمرين

أحدهما أقوى من صاحبه أيجازان جميعا فيه

أم يقتصر على الأقوى منهما دون صاحبه؟

اعلم أن المذهب فى هذا ونحوه أن يعتقد الأقوى منهما مذهبا. ولا يمتنع (مع ذلك) أن يكون الآخر مرادا وقولا. من ذلك قوله :

*كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا (١) *

فالقول أن يكون (ناهيا) اسم الفاعل من نهيت ؛ كساع من سعيت وسار من سريت. وقد يجوز مع هذا أن يكون (ناهيا) هنا مصدرا كالفالج والباطل والعائر والباغز ونحو ذلك ممّا جاء فيه المصدر على فاعل ، حتى كأنه قال : كفى الشيب والإسلام للمرء نهيا وردعا أى ذا نهى ، فحذف المضاف وعلّقت اللام بما يدلّ عليه الكلام. ولا تكون على هذا معلقة بنفس الناهى ؛ لأن المصدر لا يتقدم شيء من صلته عليه. فهذا وإن كان عسفا فإنه جائز للعرب ؛ لأن العرب قد حملت عليه فيما لا يشكّ فيه ، فإذا أنت أجزته هنا فلم تجز إلا جائزا مثله ، ولم تأت إلا ما أتوا بنحوه.

وكذلك قوله :

*من يفعل الخير لا يعدم جوازيه (٢) *

__________________

(١) عجز بيت من الطويل ، وهو لسحيم عبد بنى الحسحسا فى الإنصاف ١ / ١٦٨ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٦٧ ، ٢ / ١٠٢ ، ١٠٣ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ١٤١ ، وشرح التصريح ٢ / ٨٨ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٣٢٥ ، والكتاب ٢ / ٢٦ ، ٤ / ٢٢٥ ، ولسان العرب (كفى) ، ومغنى اللبيب ١ / ١٠٦ ، والمقاصد النحويّة ٣ / ٦٦٥ ، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ١٤٤ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٥٣ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٦٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٢٥ ، وشرح قطر الندى ص ٣٢٣ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٥ ، ٧ / ٨٤ ، ١٤٨ ، ٨ / ٢٤ ، ٩٣ ، ١٣٨ ، ولسان العرب (نهى). وصدره :

*عميرة ودّع إن تجهّزت غاديا*

(٢) صدر البيت من البسيط ، وهو للحطيئة فى ديوانه ص ١٠٩ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٨٧ ، وتاج ـ ـ

٢٤٥

فظاهر هذا أن يكون (جوازيه) جمع جاز أى لا يعدم شاكرا عليه ، ويجوز أن يكون جمع جزاء أى لا يعدم جزاء عليه. وجاز أن يجمع جزاء على جواز لمشابهة المصدر اسم الفاعل ؛ فكما جمع سيل على سوائل ؛ نحو قوله :

*وكنت لقى تجرى عليك السوائل (١) *

(أى السيول) كذلك يجوز أن يكون (جوازيه) جمع جزاء. ومثله قوله :

*وتترك أموال عليها الخواتم (٢) *

يجوز أن يكون جمع خاتم أى آثار الخواتم ، ويجوز أن يكون جمع ختم على ما مضى. ومن ذلك قوله :

ومن الرجال أسنّة مذروبة

ومزنّدون شهودهم كالغائب (٣)

يجوز أن يكون (شهودهم) جمع شاهد ، وأراد : كالغيّاب ، فوضع الواحد موضع الجمع ؛ على قوله :

*على رءوس كرءوس الطائر*

(يريد الطير) ويجوز أن يكون (شهودهم) مصدرا فيكون الغائب هنا مصدرا أيضا ، كأنه قال : شهودهم كالغيبة أو المغيب ، ويجوز أيضا أن يكون على حذف المضاف ، أى شهودهم كغيبة الغائب.

__________________

العروس (الفاء). ويروى :

*من يفعل الحسنات الله يشكرها*

وعجزه :

*لا يذهب العرف عند الله والناس*

(١) عجز بيت من الطويل ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ٢٣٣ ، ولسان العرب (سيل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (لقا) ، وجمهرة ص ١٠٨٣ ، وتاج العروس (لقى). وصدره :

*فليتك حال البحر دونك كلّه*

(٢) عجز بيت من الطويل ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٢٩ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥٨١ ، ٢ / ٦٦٦ ، ٧٦٩ ، وشرح المفصل ١٠ / ٢٩. وصدره :

*يقلن حرام ما أحلّ بربّنا*

(٣) المذروبة : المحدّدة. والمزندون : البخلاء.

٢٤٦

ومن ذلك قوله :

إلا يكن مال يثاب فإنه

سيأتى ثنائى زيدا بن مهلهل (١)

فالوجه أن يكون (ابن مهلهل) بدلا من زيد لا وصفا له ؛ لأنه لو كان وصفا لحذف تنوينه ، فقيل : زيد بن مهلهل. ويجوز أيضا أن يكون وصفا أخرج على أصله ؛ ككثير من الأشياء تخرج على أصولها تنبيها على أوائل أحوالها ؛ كقول الله سبحانه : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩] (ونحوه).

ومثله قول الآخر :

*جارية من قيس بن ثعلبه (٢) *

القول فى البيتين سواء.

والقول فى هذا واضح ؛ ألا ترى أن العالم الواحد قد يجيب فى الشىء الواحد أجوبة وإن كان بعضها أقوى من بعض ، ولا تمنعه قوّة القوىّ من إجازة الوجه الآخر ، إذ كان من مذاهبهم وعلى سمت كلامهم ، كرجل له عدّة أولاد ، فكلهم ولد له ولا حق به ، وإن تفاوتت أحوالهم فى نفسه. فإذا رأيت العالم قد أفتى فى شيء من ذلك بأحد الأجوبة الجائزة فيه فلأنه وضع يده على أظهرها عنده ، فأفتى به وإن كان مجيزا للآخر وقائلا به ؛ ألا ترى إلى قول سيبويه فى قولهم : له مائة بيضا : إنه حال من النكرة ؛ وإن كان جائزا أن يكون (بيضا) حالا من الضمير المعرفة المرفوع فى (له). وعلى ذلك حمل قوله :

*لعزّة موحشا طلل (٣) *

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للحطيئة فى ديوانه ص ١٧٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥٣١ ، وشرح المفصل ٢ / ٦.

(٢) الرجز للأغلب العجلىّ فى ديوانه ص ١٤٨ ، ولسان العرب (ثعلب) ، (حلا) ، وأساس البلاغة ص ٣٧٢ ، (قعب) ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٣٦ ، والدرر ٣ / ٣٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣١٢ ، وشرح المفصل ٢ / ٦ ، والكتاب ٣ / ٥٠٦ ، وتاج العروس (قبب) ، (قعب) ، (خلل) ، (حلى) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (قبب) ، والمخصص ١٢ / ٢٢ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٣٠ ، وشرح التصريح ٢ / ١٧٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٦ ، وتاج العروس (الياء). وبعده :

*كريمة أخولها والعصبة*

(٣) جزء من بيت وهو من الوافر ، لكثير عزة فى ملحق ديوانه ص ٥٣٦ ، وشرح التصريح ـ ـ

٢٤٧

فقال فيه : إنه حال من النكرة ، ولم يحمله على الضمير فى الظرف. أفيحسن بأحد (أن يدّعى على أحد) متوسّطينا أن يخفى هذا الموضع عليه ، فضلا عن المشهود له بالفضل : سيبويه.

نعم ، وربما أفتى بالوجه الأضعف عنده ؛ لأنه على الحالات وجه صحيح. وقد فعلت العرب ذلك عينه ؛ ألا ترى إلى قول عمارة لأبى العباس وقد سأله عما أراد بقراءته : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] فقال له : ما أردت؟ فقال أردت : سابق النهار ؛ فقال له أبو العباس : فهلا قلته؟ فقال لو قلته لكان أوزن أى أقوى.

وهذا واضح. فاعرف ذلك ونحوه مذهبا يقتاس به ويفزع إليه.

* * *

__________________

١ / ٣٧٥ ، وشرح المفصل ٢ / ٦٢ ، ٦٤ ، وله أو لذى الرمة فى خزانة الأدب ٣ / ٢٠٩ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ١ / ٣٠٠. وتتمته :

لعزة موحشا طلل قديم

عفاه كل أسحم مستديم

٢٤٨

باب فيما يحكم به القياس مما لا يسوغ به النطق

وجماع ذلك التقاء الساكنين المعتلين فى الحشو. وذلك كمفعول مما عينه حرف علة ؛ نحو مقول ومبيع ؛ ألا ترى أنك لما نقلت حركة العين من مقوول ومبيوع إلى الفاء ، فصارت فى التقدير إلى مقوول ومبيوع تصوّرت حالا لا يمكنك النطق بها ، فاضطررت حينئذ إلى حذف أحد الحرفين على اختلاف المذهبين. وعلى ذلك قال أبو إسحاق لإنسان ادّعى له أنه يجمع فى كلامه بين ألفين وطوّل الرجل (الصوت بالألف) فقال له أبو إسحاق : لو مددتها إلى العصر لما كانت إلا ألفا واحدة.

وكذلك فاعل مما (اعتلّت عينه) نحو قائم وبائع ؛ ألا تراك لمّا جمعت بين العين وألف فاعل ولم تجد إلى النطق بهما على ذلك سبيلا حركت العين فانقلبت همزة. ومنهم من يحذف فيقول :

*شاك السلاح بطل مجرّب (١) *

ويقول أيضا :

*لاث به الأشاء والعبرىّ (٢) *

وعلى ذلك أجازوا فى يوم راح ورجل خاف أن يكون فعلا ، وأن يكون فاعلا محذوف العين لالتقاء الساكنين. فإن اختلف الحرفان المعتلان جاز تكلف جمعهما حشوا ؛ نحو قاوت وقايت وقويت وقيوت. فإن تأخرت الألف فى نحو هذا لم يمكن النطق بها ؛ كأن تتكلف النطق بقوات أو بقيات. وسبب امتناع ذلك لفظا أن الألف لا سبيل إلى أن يكون ما قبلها إلا مفتوحا ، وليست كذلك الياء والواو.

فأنت إذا تكلفت نحو قاوت وقايت فكأنك إنما مطلت الفتحة ، فجاءت الواو والياء كأنهما بعد فتحتين ، وذلك جائز ، نحو ثوب وبيت ؛ ولو رمت مثل ذلك فى نحو

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

٢٤٩

قيات أو قوات لم تخل من أحد أمرين ، كل واحد منهما غير جائز : أحدهما أن تثبت حكم الياء والواو حرفين ساكنين فتجيء الألف بعد الساكن ، وهذا ممتنع غير جائز. والآخر أن تسقط حكمهما لسكونهما وضعفهما ، فتكون الألف كأنها تالية للكسرة والضمة ، وهذا خطأ بل محال.

فإن قلت : فهلا جاز على هذا أن تجمع بين الألفين وتكون الثانية كأنها إنما هى تابعة للفتحة (قبل الأولى ؛ لأن الفتحة) ممّا تأتى قبل الألف لا محالة ، وأنت الآن آنفا تحكى عن أبى إسحاق أنه قال : لو مددتها إلى العصر لما كانت إلا ألفا واحدة؟

قيل : وجه امتناع ذلك أنك لو تكلّفت ما هذه حاله للزمك للجمع بين الساكنين اللذين هما الألفان اللتان نحن فى حديثهما أن تمطل الصوت بالأولى تطاولا به إلى اللفظ بالثانية ، ولو تجشّمت ذلك لتناهيت فى مدّ الأولى ، فإذا صارت إلى ذلك تمّت ووفت فوقفت بك بين أمرين ، كلاهما ناقض عليك ما أعلقت به يديك :

أحدهما : أنها لمّا طالت وتمادت ذهب ضعفها وفقد خفاؤها فلحقت لذلك بالحروف الصحاح ، وبعدت عن شبه الفتحة الصغيرة القصيرة الذى رمته.

والآخر : أنها تزيد صوتا على ما كانت عليه ، وقد كانت قبل أن تشبع مطلها أكثر من الفتحة قبلها ؛ أفتشبّها بها من بعد أن صارت للمدّ أضعافها. هذا جور فى القسمة ، وإفحاش فى الصنعة ، واعتداء على محتمل الطبيعة (والمنّة) (١). ولذلك لم يأت عنهم شيء من مقول ومبيع على الجمع بين ساكنيهما وهما مقوول ومبيوع ؛ لأنك إنما تعتقد أن الساكن الأوّل منهما كالحركة ما لم تتناه فى مطله وإطالته (وأمّا) والجمع بينهما ساكنين حشوا يقتادك إلى تمكين الحرف الأوّل وتوقيته حقه ليؤديك إلى الثانى والنطق به فلا يجوز حينئذ وقد أشبعت الحرف وتماديت فيه أن تشبهه بالحركة ؛ لأن فى ذلك إضعافا له بعد أن حكمت بطوله وقوّته ؛ ألا ترى أنك (إنما) شبّهت باب عصىّ بباب أدل وأحق لما خفيت (واو فعول) بادغامها ، فحينئذ جاز أن تشبهها بضمة أفعل. فأمّا وهى على غاية جملة البيان والتمام فلا. وإذا لم يجز هذا التكلف فى الواو والياء وهما أحمل له ، كان مثله فى الألف للطفها وقلة احتمالها ما تحتمله الياء والواو أحرى وأحجى.

__________________

(١) المنة : القوّة.

٢٥٠

وكذلك الحرفان الصحيحان يقعان حشوا ، وذلك غير جائز نحو فصبل ومرطل ؛ هذا خطأ ، بل ممتنع.

فإن كان الساكنان المحشوّ بهما الأوّل منهما حرف معتل والثانى حرف صحيح تحامل النطق بهما. وذلك (نحو قالب ، وقولب ، وقيلب). إلا أنه وإن كان سائغا ممكنا فإن العرب قد عدته وتخطته ؛ عزوفا عنه وتحاميا لتجشّم الكلفة فيه ؛ ألا ترى أنهم لما سكنت عين فعلت ولامه حذفوا العين ألبتة فقالوا : قلت وبعت وخفت ، ولم يقولوا : قولت ، ولا بيعت ، ولا خيفت ولا نحو ذلك ممّا يوجبه القياس.

(وإذا) كانوا قد يتنكبون ما دون هذا فى الاستثقال نحو قول عمارة (ولا الليل سابق النهار) مع أن إثبات التنوين هنا ليس بالمستثقل استثقال قولت وبيعت وخيفت كان ترك هذا ألبتة واجبا.

فإن كان الثانى الصحيح مدغما كان النطق به جائزا حسنا ؛ وذلك نحو شابّة ودابّة وتمودّ الثوب وقوصّ بما عليه. وذلك أن الادغام أنبى اللسان عن المثلين نبوة واحدة ، فصارا لذلك كالحرف الواحد.

فإن تقدّم الصحيح على المعتل لم يلتقيا حشوا ساكنين ؛ نحو ضروب وضريب.

وأمّا الألف فقد كفينا التعب بها ؛ إذ كان لا يكون ما قبلها أبدا ساكنا. وذلك أنّ الواو والياء إذا سكنتا قويتا شبها بالألف. وإنما جاز أن يجيء ما قبلهما من الحركة ليس منهما ؛ نحو بيت وحوض لأنهما على كل حال محرّك ما قبلهما ؛ وإنما النظر فى تلك الحركة ما هى أمنهما أم من غير جنسهما. فأمّا أن يسكن ما قبلهما وهما ساكنتان حشوا فلا ؛ كما أن سكون ما قبل الألف خطأ. فإن سكن ما قبلهما وهما ساكنان طرفا جاز ؛ نحو عدو ، وظبى. وذلك أن آخر الكلمة أحمل لهذا النحو من حشوها ؛ ألا تراك تجمع فيه بين الساكنين وهما صحيحان ؛ نحو بكر وحجر وحلس. وذلك أن الطرف ليس سكونه بالواجب ؛ ألا تراه فى غالب الأمر محرّكا فى الوصل ، وكثيرا ما يعرض له روم (١) الحركة فى الوقف. فلما كان الوقف مظنّة من السكون ، وكان له من اعتقاب الحركات عليه فى الوصل ورومها فيه عند

__________________

(١) الروم ، فى اللغة ، ومصدر رامه : طلبه وفى الاصطلاح : إخفاء الصوت بالحركة عند النطق وذلك بتلفظ الحركات مختلسة اختلاسا بحيث يدركه القريب دون البعيد.

٢٥١

الوقف ما قدّمناه ، تحامل الطبع به ، وتساند إلى تلك التعلّة فيه.

نعم ، وقد تجد فى بعض الكلام التقاء الساكنين الصحيحين فى الوقف وقبل الأوّل منهما حرف مدّ ؛ وذلك فى لغة العجم ؛ نحو قولهم : آرد (١) ، وماست (٢). وذلك أنه فى لغتهم مشبه بدابّة وشابة فى لغتنا.

وعلى ما نحن عليه فلو أردت تمثيل أهرقت على لفظه لجاز ، فقلت : أهفلت.

فإن أردت تمثيله على أصله لم يجز ؛ من قبل أنك تحتاج إلى أن تسكّن فاء أفعلت ، وتوقع قبلها هاء أهرقت وهى ساكنة ، فيلزمك على هذا أن تجمع حشوا بين ساكنين صحيحين. وهذا على ما قدمناه وشرحناه فاسد غير مستقيم.

فاعرف مما ذكرناه حال الساكنين حشوا ؛ فإنه موضع مغفول عنه ؛ وإنما (يسفر ويضح) مع الاستقراء له ، والفحص عن حديثه.

ومن ذلك أنك لما حذفت حرف المضارعة من يضرب ونحوه وقعت الفاء ساكنة مبتدأة. وهذا ما لا سبيل إلى النطق به ، فاحتجت إلى همزة الوصل تسببا إلى النطق به.

* * *

__________________

(١) آرد : كلمة فارسية معناها الدقيق.

(٢) ماست : هو اللبن.

٢٥٢

باب فى حفظ المراتب

هذا موضع يتسمّح الناس فيه ، فيخلّون ببعض رتبه تجاوزا لها ؛ وربما كان سهوا عنها. وإذا تنبهت على ذلك من كلامنا هذا قويت به على ألا تضيع مرتبة يوجبها القياس بإذن الله.

فمن ذلك قولهم فى خطايا : إن أصله كان خطائئ ، ثم التقت الهمزتان غير عينين فأبدلت الثانية على حركة الأولى ، فصارت ياء : خطائى ، ثم أبدلت الياء ألفا ؛ لأن الهمزة عرضت فى الجمع واللام معتلة ، فصارت خطاء ، فأبدلت الهمزة على ما كان فى الواحد وهو الياء ، فصارت خطايا. فتلك أربع مراتب : خطائئ ، ثم خطائى ، ثم خطاء ، ثم خطايا. وهو ـ لعمرى ـ كما ذكروا ؛ إلا أنهم قد أخلّوا من الرتب بثنتين : أما إحداهما فإن أصل هذه الكلمة قبل أن تبدل ياؤها همزة خطايئ بوزن خطايع ، ثم أبدلت الياء همزة فصارت : خطائئ بوزن خطاعع.

والثانية أنك لمّا صرت إلى خطائى فآثرت إبدال الياء ألفا لاعتراض الهمزة فى الجمع مع اعتلال اللام لاطفت الصنعة ، فبدأت بإبدال الكسرة فتحة لتنقلب الياء ألفا ، فصرت من خطائى إلى خطاءى بوزن خطاعى ، ثم أبدلتها ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، على حدّ ما تقول فى إبدال لام رحى وعصا ، فصارت خطاء بوزن خطاعى ، ثم أبدلت الهمزة ياء على ما مضى ، فصارت خطايا. فالمراتب إذا ست لا أربع. وهى خطايئ ، ثم خطائئ ثم خطائىّ ، ثم خطائئ ، ثم خطاءى ، ثم خطاء ، ثم خطايا. فإذا أنت حفظت هذه المراتب ولم تضع موضعا منها قويت دربتك بأمثالها ، وتصرفت بك الصنعة فيما هو جار مجراها.

ومن ذلك قولهم : إوزّة. أصل وضعها إوززة. فهناك الآن عملان :

أحدهما قلب الواو ياء لانكسار ما قبلها ساكنة ؛ والآخر وجوب الادغام. فإن قدّرت أنّ الصنعة وقعت فى الأوّل من العملين فلا محالة أنك أبدلت من الواو ياء ، فصارت إيززة ، ثم أخذت فى حديث الادغام فأسكنت الزاى الأولى ونقلت فتحتها إلى الياء قبلها ، فلما تحركت قويت بالحركة فرجعت إلى أصلها ـ وهو الواو

٢٥٣

ـ ثم ادّغمت الزاى الأولى فى الثانية فصارت : إوزّة كما ترى. فقد عرفت الآن على هذا أن الواو فى إوزة إنما هى بدل عن الياء التى فى إيززة ، وتلك الياء المقدّرة بدل من واو (إوززة) التى هى واو وزّ.

وإن أنت قدّرت أنك لمّا بدأتها فأصرتها إلى إوززة أخذت فى التغيير من آخر الحرف ، فنقلت الحركة من العين إلى الفاء فصارت إوزّة ، فإن الواو فيها على هذا التقدير هى الواو الأصلية لم تبدل ياء فيما قبل ثم أعيدت إلى الواو ؛ كما قدّرت ذلك فى الوجه الأوّل. وكان أبو على ـ رحمه‌الله ـ يذهب إلى أنها لم تصر إلى إيززة. قال : لأنها لو كانت كذلك لكنت إذا ألقيت الحركة على الياء بقيت بحالها ياء ، فكنت تقول : إيزّة. فأدرته عن ذلك وراجعته فيه مرارا فأقام عليه. واحتجّ بأن الحركة منقولة إليها ، فلم تقو بها. وهذا ضعيف جدّا ؛ ألا ترى أنك لمّا حرّكت عين طىّ ، فقويت رجعت واوا فى طووىّ ، وإن كانت الحركة أضعف من تلك ؛ لأنها مجتلبة زائدة وليست منقولة من موضع قد كانت فيه قويّة معتدّة.

ومن ذلك بناؤك مثل فعلول من طويت. فهذا لا بدّ أن يكون أصله : طويوى.

فإن بدأت بالتغيير من الأوّل فإنك أبدلت الواو الأولى ياء لوقوع الياء بعدها ، فصار التقدير إلى طييوى ، ثم ادّغمت الياء فى الياء فصارت طيّوى (ثم أبدلت من الضمة كسرة فصارت طيّوى) ثم أبدلت من الواو ياء فصارت إلى طيّيى ، ثم أبدلت من الضمة قبل واو فعلول كسرة ؛ فصارت طيّيى ، ثم ادّغمت الياء المبدلة من واو فعلول فى لامه فصارت طيّىّ. فلمّا اجتمعت أربع ياءات ثقلت ، فأردت التغيير لتختلف الحروف ، فحرّكت الياء الأولى بالفتح لتنقلب الثانية ألفا فتنقلب الألف واوا ، فصار بك التقدير إلى طيىّ ، فلمّا تحرّكت الياء التى هى بدل من واو طويوى الأولى قويت فرجعت بقوّتها إلى الواو فصار التقدير : طويىّ ، فانقلبت الياء الأولى التى هى لام فعلول الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت طواىّ ، ثم قلبتها واوا لحاجتك إلى حركتها ـ كما أنك لما احتجت إلى حركة اللام فى الإضافة إلى رحى قلبتها واوا ـ فقلت : طووىّ ؛ كما تقول فى الإضافة إلى هوى علما : هووىّ. فلا بدّ أن تستقرئ هذه المراتب شيئا فشيئا ، ولا تسامحك الصنعة بإضاعة شيء منها.

٢٥٤

وإن قدّرت أنك بدأت بالتغيير من آخر المثال فإنك لمّا بدأته على طويوى أبدلت واو فعلول ياء فصار إلى طوييى ثم ادّغمت فصار إلى طويىّ (وأبدلت من ضمة العين (١) كسرة فصار التقدير طويىّ) ثم أبدلت من الواو ياء فصار طيىّ ثم ادّغمت الياء الأولى فى الثانية فصار طيّىّ ثم عملت فيما بعد من تحريك الأولى بالفتح وقلب الثانية ألفا ثم قلبها واوا ما كنت عملته فى الوجه الأوّل. ومن شبّه ذلك بلىّ جمع قرن ألوى (٢) فإنه يقول : طيّىّ وشيّى. ومن قال : لى فضمّ فإنه يقول : طيّىّ وشيّئ فيهما من طويت وشويت.

فاعرف بهذا حفظ المراتب فيما يرد عليك من غيره ، ولا تضع رتبة ألبتّة ؛ فإنه أحوط عليك وأبهر فى الصناعة بك بحول الله.

* * *

__________________

(١) قوله (ضمة العين) سهو ، والصواب : ضمة اللام أولى. (نجار).

(٢) قرن ألوى : معوج.

٢٥٥

باب فى التغييرين يعترضان فى المثال الواحد

بأيهما يبدأ؟

اعلم أن القياس يسوّغك أن تبدأ بأىّ العملين شئت : إن شئت بالأوّل ، وإن شئت بالآخر.

أمّا وجه علّة الأخذ فى الابتداء بالأوّل فلأنك إنما تغيّر لتنطق بما تصيّرك الصنعة إليه ، (وإنما) تبتدئ فى النطق بالحرف من أوّله لا من آخره. فعلى هذا ينبغى أن يكون التغيير من أوّله لا من آخره ؛ لتجتاز بالحروف وقد رتّبت على ما يوجبه العمل فيها ، وما تصير بك الصنعة عليه إليها ، إلى أن تنتهى كذلك إلى آخرها فتعمل ما تعمله ، ليرد اللفظ بك مفروغا منه.

وأمّا وجه علّة وجوب الابتداء بالتغيير من الآخر فمن قبل أنك إذا أردت التغيير فينبغى أن تبدأ به من أقبل المواضع له. وذلك الموضع آخر الكلمة لا أوّلها ؛ لأنه أضعف الجهتين.

مثال ذلك قوله فى مثال إوزّة من أويت : إيّاة. وأصلها إئوية. فإبدال الهمزة التى هى فاء واجب ، وإبدال الياء التى هى اللام واجب أيضا. فإن بدأت بالعمل من الأوّل صرت إلى إيوية ثم إلى إييية ثم إلى إيّاة. وإن بدأت بالعمل من آخر المثال صرت أوّل إلى إثواة ، ثم إلى إيواة ثم إلى إيّاة. ففرّقت العمل فى هذا الوجه ، ولم تواله كما واليته فى الوجه الأوّل ؛ لأنك لم تجد طريقا إلى قلب الواو ياء إلا بعد أن صارت الهمزة قبلها ياء. فلما صارت إلى إيواة أبدلتها ياء ، فصارت إيّاة ؛ كما ترى.

ومن ذلك قوله فى مثال جعفر من الواو : أوّى. وأصلها ووّو. وهاهنا عملان واجبان.

أحدهما إبدال الواو الأولى همزة ؛ لاجتماع الواوين فى أوّل الكلمة. والآخر إبدال الواو الآخرة ياء ؛ لوقوعها رابعة وطرفا ؛ ثم إبدال الياء ألفا ؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها.

٢٥٦

فإن بدأت العمل من أوّل المثال صرت إلى أوّو ، ثم إلى أوّى ، ثم إلى أوّى ، وإن قدّرت ابتداءك العمل من آخره فإنك تتصور أنه كان ووّو ، ثم صار إلى ووّى ؛ ثم إلى ووّى ، ثم إلى أوّى. هكذا موجب القياس على ما قدّمناه.

وتقول على هذا إذا أردت مثال فعل من وأيت : وؤى. (فإن خففت الهمزة فالقياس أن تقرّ المثال على صحّة أوله وآخره ، فتقول : ووى) فلا تبدل الواو الأولى همزة ؛ لأن الثانية ليست بلازمة فلا تعتدّ ؛ إنما هى همزة وؤى ، خففت فأبدلت فى اللفظ واوا ، وجرت مجرى واو رويا تخفيف رؤيا. ولو اعتددتها واوا ألبتّة لوجب أن تبدلها للياء التى بعدها. فتقول : وىّ أو أىّ على ما نذكره بعد.

وقول الخليل فى تخفيف هذا المثال : أوى طريف وصعب ومتعب. وذلك أنه قدّر الكلمة تقديرين ضدّين ؛ لأنه اعتقد صحّة الواو المبدلة من الهمزة ، حتى (قلب لها) الفاء فقال : أوى. فهذا وجه اعتداده إياها. ثم إنه مع ذلك لم يعتددها ثابتة صحيحة ؛ ألا تراه لم يقلبها ياء للياء بعدها. فلذلك قلنا : إن فى مذهبه هذا ضربا من التناقض. وأقرب ما يجب أن نصرفه إليه أن نقول : قد فعلت العرب مثله فى قولهم : مررت بزيد ونحوه. ألا تراها تقدّر الباء تارة كالجزء من الفعل ، وأخرى كالجزء من الاسم. وقد ذكرنا هذا فيما مضى. يقول : فكذلك يجوز لى أنا أيضا أن أعتقد فى العين من ووى من وجه أنها فى تقدير الهمزة ، وأصحّها ولا أعلّها للياء بعدها ، ومن وجه آخر أنها فى حكم الواو ؛ لأنها بلفظها ، فأقلب لها الفاء همزة. فلذلك قلت : أوى.

وكأنّ (أبا عمر) أخذ هذا الموضع من الخليل ، فقال فى همزة نحو رأس وبأس إذا خفّفت فى موضع الردف جاز أن تكون ردفا. فيجوز عنده اجتماع راس وباس مع ناس. وأجاز أيضا أن يراعى ما فيها من نيّة الهمزة ، فيجيز اجتماع راس مع فلس ، وكأن أبا عمر إن كان أخذ هنا الموضع أعذر فيه من الخليل فى مسألته تلك. وذلك أن أبا عمر لم يقض بجواز كون ألف راس ردفا وغير ردف فى قصيدة واحدة ؛ وإنما أجاز ذلك فى قصيدتين ، إحداهما قوافيها نحو حلس وضرس ، والأخرى قوافيها نحو ناس وقرطاس وقرناس. والخليل جمع فى لفظة واحدة أمرين متدافعين. وذلك أن صحّة الواو الثانية فى ووى مناف لهمزة الأولى

٢٥٧

منهما. وليس له عندى إلا احتجاجه بقولهم : مررت بزيد ونحوه ، وبقولهم : لا أبا لك. وقد ذكرنا ذلك فى باب التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين.

ولندع هذا إلى أن نقول : لو وجد فى الكلام تركيب (ووى) فبنيت منه فعلا لصرت إلى ووى. فإن بدأت بالتغيير من الأوّل وجب أن تبدل الواو التى هى فاء همزة ، فتصير حينئذ إلى أوى ، ثم تبدل الواو العين ياء لوقوع اللام بعدها ياء ، فتقول : أىّ.

فإن قلت : أتعيد الفاء واوا لزوال الواو من بعدها (فتقول : وىّ ، أو تقرّها على قلبها السابق إليها فتقول : أىّ؟) فالقول عندى إقرار الهمزة بحالها ، وأن تقول : أىّ ؛ وذلك أنا رأيناهم إذا قلبوا العين ـ وهى حرف علة ـ همزة أجروا تلك الهمزة مجرى الأصلية. ولذلك قال فى تحقير قائم : قويئم ، فأقرّ الهمزة وإن زالت ألف فاعل عنها. فإذا فعل هذا فى العين كانت الفاء أجدر به ؛ لأنها أقوى من العين.

فإن قلت : فقد قدّمت فى إوزّة أنها لمّا صارت فى التقدير إلى إيززة ، ثم أدرت إليها حركة الزاى بعدها فتحركت بها ، أعدتها إلى الواو فصارت إوزّة ، فهلا أيضا أعدت همزة أىّ إلى الواو لزوال العلة التى كانت قلبتها همزة ، أعنى واو أوى ، قيل : انقلاب حرف العلة همزة فاء أو عينا ليس كانقلاب الياء واوا ولا الواو ياء ، بل هو أقوى من انقلابهما إليهما ؛ ألا ترى إلى قولهم : ميزان ، ثم لما زالت الكسرة عادت الواو فى موازين ومويزين. وكذلك عين ريح قلبت للكسرة ياء ، (ثم لما) زالت الكسرة عادت واوا ، فقيل : أرواح ، ورويحة. وكذلك قولهم : موسر وموقن ، لما زالت الضمة عادت الياء فقالوا : مياسر ، ومياقن. فقد ترى أن انقلاب حرف اللين إلى مثله لا يستقرّ ولا يستعصم ؛ لأنه بعد القلب وقبله كأنه صاحبه ، والهمزة حرف صحيح ، وبعيد المخرج ، فإذا قلب حرف اللين إليه أبعده عن جنسه ، واجتذبه إلى حيزه ، فصار لذلك من واد آخر وقبيل غير القبيل الأوّل.

فلذلك أقرّ على ما صار إليه ، وتمكنت قدمه فيما حمل عليه. فلهذا وجب عندنا أن يقال فيه : أىّ.

(وأما إن) أخذت العمل من آخر المثال فإنك تقدّره على ما مضى : ووى ، ثم تبدل العين للام ، فيصير : وىّ ، فتقيم حينئذ عليه ولا تبغى بدلا به ؛ لأنك لم

٢٥٨

تضطرّ إلى تركه لغيره.

وكذلك أيضا يكون هذان الجوابان إن اعتقدت فى عين وؤى أنك أبدلتها إبدالا ولم تخففها تخفيفا : القول فى الموضعين واحد. ولكن لو ارتجلت هذا المثال من وأيت على ما تقدم فصرت منه إلى وؤى ، ثم همزت الواو التى هى الفاء همزا مختارا لا مضطرّا إليه ، لكن على قولك فى وجوه : أجوه ، وفى وقّتت : أقتت ، لصرت إلى أؤى فوجب إبدال الثانية واوا خالصة ؛ فإذا خلصت كما ترى لما تعلم وجب إبدالها للياء بعدها ، فقلت : أىّ لا غير. فهذا وجه آخر من العمل غير جميع ما تقدّم.

فإن قلت : فهلا استدللت بقولهم فى مثال فعولّ من القوّة : قيّوّ على أن التغيير إذا وجب فى الجهتين فينبغى أن يبدأ بالأوّل منهما ، ألا ترى أن أصل هذا قوّوّ ، فبدأ بتغيير الأوليين فقال : قيّوّ ، ولم يغير الأخريين فيقول : قوّىّ؟

قيل : هذا اعتبار فاسد. وذلك أنه لو بدأ فغيّر من الآخر لما وجد بدّا من أن يغير الأوّل أيضا ؛ (لأنه لو أبدال الآخر فصار إلى قوّىّ للزمه أن يبدل الأوّل أيضا) فيقول : قيّىّ ، فتجتمع له أربع ياءات ، فيلزمه أن يحرّك الأولى لتنقلب الثانية ألفا ، فتنقلب واوا ، فتختلف الحروف ، فتقول : قووىّ ، فتصير من عمل إلى عمل ، ومن صنعة إلى صنعة. وهو مكفىّ ذلك وغير محوج إليه. وإنما كان يجب عليه أيضا تغيير الأوليين لأنهما ليستا عينين فتصحّا ؛ كبنائك فعّلا من قلت : قوّل ، وإنما هما عين وواو زائدة.

ولو قيل لك : ابن مثل خروع من قلت لما قلت إلا قيّل ؛ لأن واو فعول لا يجب أن يكون أبدا من لفظ العين ؛ ألا ترى إلى خروع وبروع اسم ناقة ، فقد روى بكسر الفاء ، وإلى جدول ، فقد رويناه عن قطرب بكسر الجيم. وكل ذلك لفظ عينه مخالف لواوه ، وليست كذلك العينان ؛ لأنهما لا يكونان أبدا إلا من لفظ واحد ، فإحداهما تقوّى صاحبتها ، وتنهض منّتها (١).

فإن قلت : فإذا كنت تفصل بين العينين ، وبين العين والزائد بعدها ، فكيف تبنى

__________________

(١) المنة : القوة.

٢٥٩

مثل عليب (١) من البيع؟ فجوابه على قول النحويين سوى الخليل بيّع. ادغمت عين فعيل فى يائه ، فجرى فى اللفظ مجرى فعّل من الياء ؛ نحو قوله :

* وإذا هم نزلوا فمأوى العيّل (٢) *

وقوله :

كأنّ ريح المسك والقرنفل

نباته بين التّلاع السّيّل (٣)

فإن قلت : فهلّا فصلت فى فعيل بين العين والياء وبين العينين (كما فصلت فى فعول وفعّل بين العين والواو وبين العينين؟)

قيل : الفرق أنك لمّا أبدلت عين قوّل وأنت تريد به مثال فعول صرت إلى قيول ، فقلبت أيضا الواو ياء ، فصرت إلى قيّل. وأما فعيل من البيع فلو أبدلت عينه واوا للضمة قبلها ، لصرت إلى بويع. فإذا صرت إلى هنا لزمك أن تعيد الواو ياء لوقوع الياء بعدها ، فتقول : بيّع ، ولم تجد طريقا إلى قلب الياء واوا لوقوع الواو قبلها ؛ كما وجدت السبيل إلى قلب الواو فى قيول ياء لوقوع الياء قبلها ؛ لأن الشرط فى اجتماع الياء والواو أن تقلب الواو للياء ؛ لا أن تقلب الياء للواو.

(وذلك) كسيّد وميّت وطويت طيّا وشويت شيّا. فلهذا قلنا فى فعيل من البيع : بيّع ، فجرى فى اللفظ مجرى فعّل منه ، وقلنا فى فعول من القول : قيّل ، فلم يجر مجرى فعّل منه.

وأمّا قياس قول الخليل فى فعيل من البيع فأن تقول : بويع ؛ ألا تراه يجرى الأصل فى نحو هذا مجرى الزائد ، فيقول فى فعل من أفعلت من اليوم على من قال : أطولت : أووم ، فتجرى ياء أيم الأولى وإن كانت فاء مجرى ياء فيعل من

__________________

(١) عليب : موضع.

(٢) عجز البيت من الكامل ، وهو لأبى كبير الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ٣ / ١٠٧٥ ، وبلا نسبة فى شرح لمفصل ١٠ / ٣١ ، ويروى (فإذا مكان من (وإذا) وصدره :

* تحمى الصحاب إذا تكون كريهة*

والعيّل : جمع العائل ، وهو الفقير.

(٣) الرجز لأبى النجم فى سر صناعة الإعراب ٢ / ٥٨٦ ، وشرح المفصل ١٠ / ٣١ ، والطرائف الأدبية ص ٧١.

٢٦٠