الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

*... بالذى تردان*

أى (بالذى) تريدان. وسيأتى هذا فى بابه.

الثانى منهما وهو إجراء غير اللازم مجرى اللازم وهو كثير. من ذلك قول بعضهم فى الأحمر إذا خفّفت همزته : لحمر ، حكاها أبو عثمان. ومن قال :

الحمر قال : حركة اللام غير لازمة ، إنما هى لتخفيف الهمزة ، والتحقيق لها جائز فيها.

ونحو ذلك قول الآخر :

قد كنت تخفى حبّ سمراء حقبة

فبح لان منها بالذى أنت بائح (١)

فأسكن الحاء التى كانت متحرّكة لالتقاء الساكنين فى بح الآن ، لمّا تحركت للتخفيف اللام.

وعليه قراءة من قرأ : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ)(٢) [البقرة : ٧١] فأثبت واو (قالوا) لمّا تحركت لام لان. والقراءة القويّة : «قاللان» بإقرار الواو على حذفها ؛ لأن الحركة عارضة للتخفيف.

وعلى القول الأوّل قول الآخر :

حدبدبى بدبدبى منكم لان

إنّ بنى فزارة بن ذبيان

قد طرّقت ناقتهم بإنسان

مشيّأ سبحان ربّى الرحمن (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعنترة فى ديوانه ص ٢٩٨ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٧٨ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥٦ ، ٥ / ٦٧ ، وتذكرة النحاة ص ٣١ ، وشرح الأشمونى ١ / ٨١ ، وشرح التصريح ١ / ١٤٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٩٢ ، ولسان العرب أين. ويروى : (وقد) مكان (قد).

(٢) عن نافع روايتان إحداهما حذف واو قالوا ، إذ لم يعتد بنقل الحركة ، إذ هو نقل عارض. وانظر البحر المحيط ١ / ٤٢٢.

(٣) الرجز لسالم بن دارة فى خزانة الأدب ٢ / ١٤٧ ، ٤ / ٣٣ ، ولسان العرب (حدب) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٩ ، وتاج العروس (حدب) ، (حدبد) ، ولابن المنهال فى لسان العرب (أين) ، وتاج العروس (أين) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥٧ ، وجمهرة اللغة ص ٢٤٠ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٢٣٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٨٨. حدبدبى اسم لعبة. والتطريق : أن يخرج بعض الولد ويعسر انفصاله ، من قولهم قطاة مطرّق ـ ـ إذا يبست البيضة فى أسفلها. والمشيّأ : القبيح المنظر. والبيت لسالم بن دارة. يهجو مرّ بن رافع الفزارى. اللسان (حدب).

٣٢١

أسكن ميم (منكم) لمّا تحركت لام (لان) وقد كانت مضمومة عند التحقيق فى قولك : منكم الآن ، فاعتدّ حركة التخفيف ، وإن لم تكن لازمة. وينبغى أن تكون قراءة أبى عمرو : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى)(١) [النجم : ٥٠] على هذه اللغة ، وهى قولك مبتدئا : لولى ، لأن الحركة على هذا فى اللام أثبت منها على قول من قال : الحمر. وإن كان حملها أيضا على هذا جائزا ، لأن الادغام وإن كان بابه أن يكون فى المتحرك فقد ادّغم أيضا فى الساكن ، فحرك فى شدّ ومدّ وفرّ يا رجل وعضّ ، ونحو ذلك.

ومثله ما أنشده أبو زيد :

ألا يا هند هند بنى عمير

أرثّ لان وصلك أم جديد (٢)

ادّغم تنوين رثّ فى لام لان.

ومما نحن على سمته قول الله ـ عزوجل ـ (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف : ٣٨] وأصله : لكن أنا ، فخفّفت الهمزة (بحذفها وإلقاء) حركتها على نون لكن ، فصارت لكننا ، فأجرى غير اللازم مجرى اللازم ، فاستثقل التقاء المثلين متحركين ، فأسكن الأوّل ، وادّغم فى الثانى ، فصار : لكنّا ، كما ترى. وقياس قراءة من قرأ : «قاللان» ، فحذف للواو ، ولم يحفل بحركة اللام أن يظهر النونين هنا ؛ لأن حركة الثانية غير لازمة ، فيقول : لكننا ، بالإظهار ؛ كما تقول فى تخفيف حوأبة وجيئل (٣) : حوبة وجيل ، فيصحّ حرفا اللين هنا ، ولا يقلبان لمّا كانت حركتهما غير لازمة.

ومن ذلك قولهم فى تخفيف رؤيا ونؤي : رويا ونوى ، فتصحّ الواو هنا وإن سكنت قبل الياء ؛ من قبل أن التقدير فيهما الهمز ؛ كما صحّت فى ضو ونو

__________________

(١) يريد القراءة بإدغام التنوين فى لام (لولى).

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (أين) ، والأشباه والنظائر ١ / ٩٥ ، وتاج العروس (أين).

(٣) حوأبة : هى الدلو الضخمة. وجيئل : هى الضبع.

٣٢٢

تخفيف ضوء ونوء ؛ لتقديرك الهمز وإرادتك إياه. وكذلك أيضا صحّ نحو شيء وفى فى تخفيف شيء وفىء ، لذلك.

وسألت أبا علىّ ـ رحمه‌الله ـ فقلت : من أجرى غير اللازم مجرى اللازم ، فقال : لكنا ، كيف قياس قوله إذا خفّف نحو حوأبة وجيئل؟ أيقلب فيقول : حابة وجال ، أم يقيم (على التصحيح فيقول حوبة وجيل؟) فقال : القلب هنا لا سبيل إليه. وأومأ إلى أنه أغلظ من الادغام ؛ فلا يقدم عليه.

فإن قيل فيما بعد : فقد قلبت العرب الحرف للتخفيف ، وذلك (قول بعضهم) ريّا ورية فى تخفيف رؤيا ورؤية (وهذا واضح ، قيل : الفرق أنك لما صرت إلى لفظ رويا وروية) ثم قلبت الواو (إلى الياء) فصار إلى ريا وريّة ، إنما قلبت حرفا إلى آخر كأنه هو ؛ ألا ترى إلى قوة شبه الواو بالياء ، وبعدها عن الألف ، فكأنك لمّا قلبت مقيم على الحرف نفسه ، ولم تقلبه ؛ لأن الواو كأنها هى الياء نفسها ، وليست كذلك الألف ؛ لبعدها عنهما بالأحكام الكثيرة التى قد أحطنا بها علما.

وهذا فرق. وما يجرى من كل واحد من الفريقين مجرى صاحبه كثير ؛ وفيما مضى من جملته كاف.

* * *

٣٢٣

باب فى إجراء المتصل مجرى المنفصل

وإجراء المنفصل مجرى المتصل

فمن الأوّل قولهم : اقتتل القوم ، واشتتموا. فهذا بيانه (نحو من بيان) (شئت تلك) وجعل لك ؛ إلا أنه أحسن من قوله :

* الحمد لله العلىّ الأجلل (١) *

(وهذا) لأن هذا إنما يظهر مثله ضرورة ، وإظهار نحو اقتتل واشتتم مستحسن ، وعن غير ضرورة.

وكذلك باب قولهم : هم يضربوننى ، هما يضرباننى ، أجرى ـ وإن كان متصلا ـ مجرى يضربان نعم ، ويضربون نافعا. ووجه الشبه بينهما أن نون الإعراب هذه لا يلزم أن يكون بعدها نون ؛ ألا ترى أنك تقول : يضربان زيدا ، ويكرمونك ، ولا تلزم هى أيضا ، نحو لم يضربانى. ومن ادّغم نحو هذا واحتجّ بأن المثلين فى كلمة واحدة فقال : يضربانىّ و (قال تحاجّونّا) فإنه يدغم أيضا نحو اقتتل ، فيقول : قتّل.

ومنهم من يقول : قتّل ، ومنهم من يقول : قتّل. ومنهم من يقول : اقتّل ، فيثبت همزة الوصل مع حركة القاف ، لمّا كانت الحركة عارضة للنقل أو (لالتقاء) الساكنين. وهذا مبيّن فى فصل الادغام.

ومن ضدّ ذلك قولهم : ها الله ذا ، أجرى مجرى دابّة وشابّة. وكذلك قراءة من قرأ : (فَلا تَتَناجَوْا)(٢) [المجادلة : ٩] و (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها)(٣) [الأعراف : ٣٨] ومنه ـ عندى ـ قول الراجز : ـ فيما أنشده أبو زيد ـ :

من أىّ يومىّ من الموت أفر

أيوم لم يقدر أم يوم قدر (٤)

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) القراءة بإدغام التاءين فى (تتناجوا) وهى قراءة ابن محيصن. وانظر البحر ٨ / ٢٣٤.

(٣) وهو يريد القراءة بإثبات ألف (إذا) على الجمع بين الساكنين. وهى قراءة عصمة عن أبى عمرو. وانظر تفسير القرطبى ٧ / ٢٠٤.

(٤) الرجز للإمام على بن أبى طالب فى ديوانه ص ٧٩ ، وحماسة البحترى ص ٣٧ ، وللحارث بن ـ ـ

٣٢٤

كذا أنشده أبو زيد : لم يقدر ، بفتح الراء ، وقال : أراد النون الخفيفة فحذفها ، وحذف نون التوكيد وغيرها من علاماته جار عندنا مجرى ادّغام الملحق فى أنه نقض الغرض ؛ إذ كان التوكيد من أماكن الإسهاب والإطناب ، والحذف من مظانّ الاختصار والإيجاز. لكن القول فيه عندى أنه أراد : أيوم لم يقدر أم يوم لم قدر ، ثم خفف همزة أم فحذفها وألقى حركتها على راء يقدر فصار تقديره أيوم لم يقدرم ثم أشبع فتحة الراء فصار تقديره) : أيوم لم يقدرام ، فحرّك الألف لالتقاء الساكنين ، فانقلبت همزة ، فصار تقديره يقدرأم (واختار) الفتحة إتباعا لفتحة الراء.

ونحو من هذا التخفيف قولهم فى المرأة والكمأة (إذا خففت الهمزة : المراة والكماة). وكنت ذاكرت الشيخ أبا علىّ ـ رحمه‌الله ـ بهذا منذ بضع عشرة سنة فقال : هذا إنما يجوز فى المتصل. قلت له : فانت أبدا تكرر ذكر إجرائهم المنفصل مجرى المتّصل ، فلم يردّ شيئا. وقد ذكرت قديما هذا الموضع فى كتابى «فى سرّ صناعة الإعراب».

ومن إجراء المنفصل مجرى المتّصل قوله :

* وقد بدا هنك من المئزر*

فشبه (هنك) بعضد فأسكنه ؛ كما يسكّن نحو ذلك.

ومنه :

* فاليوم أشرب غير مستحقب (١) *

__________________

منذر الجرمى فى شرح شواهد المغنى ٢ / ٦٧٤ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ١٤ ، والجنى الدانى ص ٢٦٧ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧٨ ، ولسان العرب (قدر) ، والمحتسب ٢ / ٣٦٦ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٧٧ ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٢٢ ، ونوادر أبى زيد ص ١٣.

(١) صدر البيت من السريع ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ١٢٢ ، وإصلاح المنطق ص ٢٤٥ ، ٣٢٢ ، والأصمعيات ص ١٣٠ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦٢ ، وحماسة البحترى ص ٣٦ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٠٦ ، ٨ / ٣٥٠ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، والدرر ١ / ١٧٥ ، ورصف المبانى ص ٣٢٧ ، وشرح التصريح ١ / ٨٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٦١٢ ، ١١٧٦ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٧٦ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٦ ، وشرح المفصل ١ / ٤٨ ، والشعر والشعراء ١ / ١٢٢ ، والكتاب ٤ / ٢٠٤ ، ولسان العرب (حقب) ، (دلك) ، (وغل) ، والمحتسب ١ / ١٥ ، ١١٠ ، وتاج العروس (وغل) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٦٦ ، والاشتقاق ص ٣٣٧ ، ـ ـ

٣٢٥

كأنه شبّه (رب غ) بعضد. وكذلك ما أنشده أبو زيد :

* قالت سليمى اشتر لنا سويقا (١) *

هو مشبّه بقولهم فى علم : علم ؛ لأن (ترك) بوزن علم. وكذلك ما أنشده أيضا من قول الراجز :

* فاحذر ولا تكتر كريّا أعوجا (٢) *

لأن (ترك) بوزن علم. وهذا الباب نحو من الذى قبله. وفيه ما يحسن ويقاس ، وفيه ما لا يحسن ولا يقاس. ولكلّ وجه ، فاعرفه إلى ما يليه من نظيره.

__________________

وخزانة الأدب ١ / ١٥٢ ، ٣ / ٤٦٣ ، ٤ / ٤٨٤ ، ٨ / ٣٣٩ ، والمقرب ٢ / ٢٠٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٤. وعجزه :

* إثما من الله ولا واغل*

(١) الرجز للعذافر الكندى فى شرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، وملحق نوادر أبى زيد ص ٣٠٦ ، وتاج العروس (بخس) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٦٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٢٧ ، وشرح شافية بن الحاجب ٢ / ٢٩٨ ، والمحتسب ١ / ٣٦١ ، والمنصف ٢ / ٢٣٦ ، ويروى : (دقيقا) مكان (سويقا).

(٢) الرجز بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٦٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٢٥ ، والمنصف ٢ / ٢٣٧ ، وتهذيب اللغة ٧ / ٤٤٣ ، وجمهرة اللغة ص ١١٨٥. وبعده :

* علجا إذ ساق بنا عفنججا*

٣٢٦

باب فى احتمال اللفظ الثقيل لضرورة التمثيل

هذا موضع يتهاداه أهل هذه الصناعة بينهم ، ولا يستنكره ـ على ما فيه ـ أحد منهم. وذلك كقولهم فى التمثيل من الفعل فى حبنطى : فعنلى. فيظهرون النون ساكنة قبل اللام. وهذا شيء ليس موجودا فى شيء من كلامهم ؛ ألا ترى أن صاحب الكتاب قال : ليس فى الكلام مثل قنر ، وعنل. وتقول فى تمثيل عرند (١) : فعنل ، وهو كالأوّل. وكذلك مثال حجنفل : فعنلل ، ومثال عرنقصان (٢) : فعنللان.

وهذا لا بدّ أن يكون هو ونحوه مظهرا ، ولا يجوز ادّغام النون فى اللام فى هذه الأماكن ؛ لأنه لو فعل ذلك لفسد الغرض ، وبطل المراد المعتمد ؛ ألا تراك لو ادّغمت نحو هذا للزمك أن تقول فى مثل عرند : إنه فعلّ ، فكان إذا لا فرق بينه وبين قمدّ (٣) ، وعتلّ ، وصملّ (٤). وكذلك لو قلت فى تمثيل حجنفل : إنه فعلّل لالتبس ذلك بباب سفرجل وفرزدق ، وباب عدبّس وهملّع وعملّس. وكذلك لو ادّغمت مثال حبنطى فقلت : فعلّى لالتبس بباب صلخدى وجلعبى.

وذكرت ذرأ (٥) من هذا ليقوم وجه العذر فيه بإذن الله. وبهذا تعلم أن التمثيل للصناعة ليس ببناء معتمد ؛ ألا تراك لو قيل لك : ابن من دخل مثل حجنفل لم يجز ؛ لأنك كنت تصير به إلى دخنلل ، فتظهر النون ساكنة قبل اللام ، وهذا غير موجود. فدلّ أنك فى التمثيل لست ببان ، ولا جاعل ما تمثّله من جملة كلام العرب ؛ كما تجعله منها إذا بنيته غير ممثّل. ولو كانت عادة هذه الصناعة أن يمثّل فيها من الدخول ، كما مثّل من الفعل لجاز أن تقول : وزن حجنفل من دخل دخنلل ؛ كما قلت فى التمثيل : وزن حجنفل من الفعل فعنلل. فاعرف ذلك فرقا بين الموضعين.

__________________

(١) عرند : هو الشديد من كل شيء.

(٢) عرنقصان : هو نبت.

(٣) قمسدّ : هو القوىّ الشديد.

(٤) صملّ : الشديد الخلق من الناس والإبل والجبال. والأنثى صملّة.

(٥) الذرأ من القول : الشىء اليسير منه. ويقال : بلغنى ذرء من خبر أى طرف ولم يتكامل.

٣٢٧

باب فى الدلالة اللفظية والصناعية والمعنوية

«اعلم أن كل واحد من هذه الدلائل معتدّ مراعى مؤثر ؛ إلا أنها فى القوّة والضعف على ثلاث مراتب :

فأقواهنّ الدلالة اللفظية ، ثم تليها الصناعية ، ثم تليها المعنوية. ولنذكر من ذلك ما يصحّ به الغرض.

فمنه جميع الأفعال. ففى كل واحد منها الأدلّة الثلاثة. ألا ترى إلى قام ، و (دلالة لفظه على مصدره) ودلالة بنائه على زمانه ، ودلالة معناه على فاعله.

فهذه ثلاث دلائل من لفظه وصيغته ومعناه. وإنما كانت الدلالة الصناعيّة أقوى من المعنويّة من قبل أنها وإن لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ ، ويخرج عليها ويستقرّ على المثال المعتزم بها. فلمّا كانت كذلك لحقت بحكمه ، وجرت مجرى اللفظ المنطوق به ، فدخلا بذلك فى باب المعلوم بالمشاهدة». وأما المعنى فإنما دلالته لاحقة بعلوم الاستدلال ، وليست فى حيّز الضروريات ؛ ألا تراك حين تسمع ضرب قد عرفت حدثه ، وزمانه ، ثم تنظر فيما بعد ، فتقول : هذا فعل ، ولا بدّ له من فاعل ، فليت شعرى من هو؟ وما هو؟ فتبحث حينئذ إلى أن تعلم الفاعل من هو وما حاله ، من موضع آخر لا من مسموع ضرب ؛ ألا ترى أنه يصلح أن يكون فاعله كلّ مذكّر يصحّ منه الفعل ، مجملا غير مفصّل. فقولك : ضرب زيد ، وضرب عمرو ، وضرب جعفر ، ونحو ذلك شرع سواء ، وليس لضرب بأحد الفاعلين هؤلاء (ولا) غيرهم خصوص ليس له بصاحبه ؛ كما يخصّ بالضرب دون غيره من الأحداث ، وبالماضى دون غيره من الأبنية. ولو كنت إنما تستفيد. الفاعل (من لفظ) ضرب لا معناه للزمك إذا قلت : قام أن تختلف دلالتهما على الفاعل لاختلاف لفظيهما ، كما اختلفت دلالتهما على الحدث لاختلاف لفظيهما ، وليس الأمر فى هذا كذلك ، بل دلالة ضرب على الفاعل كدلالة قام ، وقعد ، وأكل وشرب وانطلق ، واستخرج عليه ، لا فرق بين جميع ذلك.

فقد علمت أن دلالة المثال على الفاعل من جهة معناه ، لا من جهة لفظه ؛ ألا

٣٢٨

ترى أن كل واحد من هذه الأفعال وغيرها يحتاج إلى الفاعل حاجة واحدة ، وهو استقلاله به ، وانتسابه إليه ، وحدوثه عنه ، أو كونه بمنزلة الحادث عنه ، على ما هو مبيّن فى باب الفاعل. وكان أبو علىّ يقوّى قول أبى الحسن فى نحو قولهم : إنى لأمرّ بالرجل مثلك : إن اللام زائدة ، حتى كأنه قال : إنى لأمرّ برجل مثلك ، لمّا لم يكن الرجل هنا مقصودا معيّنا ، على قول الخليل : إنه تراد اللام فى المثل ، حتى كأنه قال : إنى لأمرّ بالرجل المثل لك ، أو نحو ذلك ؛ قال : لأن الدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوى ، أى أن اللام (فى قول أبى الحسن) ملفوظ بها ، وهى فى قول الخليل مرادة مقدّرة.

واعلم أنّ هذا القول من أبى علىّ غير مرضىّ عندى ؛ لما أذكره لك. وذلك أنه جعل لفظ اللام دلالة على زيادتها ، وهذا محال ، وكيف يكون لفظ الشىء دلالة على زيادته ، وإنما جعلت الألفاظ أدلّة على إثبات معانيها ، لا على سلبها ، وإنما الذى يدلّ على زيادة اللام هو كونه مبهما لا مخصوصا ؛ ألا ترى أنك لا تفصل بين معنيى قولك : إنى لأمر برجل مثلك ، وإنى لأمرّ بالرجل مثلك ، فى كون كلّ واحد منهما منكورا غير معروف ، ولا مومأ به إلى شيء بعينه ؛ فالدلالة أيضا من هذا الوجه (كما ترى) معنويّة ؛ كما أن إرادة الخليل اللام فى (مثلك) إنما دعا إليها جريه صفة على شيء هو فى اللفظ معرفة ، فالدلالتان إذا كلتاهما معنويتان.

ومن ذلك قولهم للسلّم : مرقاة ، وللدرجة مرقاة ، فنفس اللفظ يدلّ على الحدث الذى هو الرقىّ ، وكسر الميم يدل على أنها مما ينقل ويعتمل عليه (وبه) كالمطرقة والمئزر والمنجل ، وفتحة ميم مرقاة تدلّ على أنه مستقرّ فى موضعه ، كالمنارة والمثابة. ولو كانت المنارة ممّا يجوز كسر ميمها لوجب تصحيح عينها ، وأن تقول فيها : منورة (لأنه كانت) تكون حينئذ منقوصة ، من مثال مفعال ؛ كمروحة ومسورة (١) ومعول ومجول (٢) ، فنفس (ر ق ى) يفيد معنى الارتقاء ، و (كسرة الميم وفتحتها تدلان) على ما قدّمناه : من معنى الثبات أو الانتقال. وكذلك الضرب والقتل : نفس اللفظ يفيد الحدث فيهما ، ونفس الصيغة تفيد فيهما صلاحهما

__________________

(١) المسور والمسورة : متكأ من أدم ، وجمعها المساور.

(٢) المجول : ثوب صغير تجول فيه الجارية.

٣٢٩

للأزمنة الثلاثة ، على ما نقوله فى المصادر. وكذلك اسم الفاعل ـ نحو قائم وقاعد ـ لفظه يفيد الحدث الذى هو القيام والقعود ، وصيغته وبناؤه يفيد كونه صاحب الفعل. وكذلك قطّع وكسّر ، فنفس اللفظ هاهنا يفيد معنى الحدث ، وصورته تفيد شيئين : أحدها الماضى ، والآخر تكثير الفعل ؛ كما أن ضارب يفيد بلفظه الحدث ، وببنائه الماضى وكون الفعل من اثنين ، وبمعناه على أن له فاعلا». فتلك أربعة معان. فاعرف ذلك إلى ما يليه ؛ فإنه كثير ؛ لكن هذه طريقه.

* * *

٣٣٠

باب فى الاحتياط

اعلم أن العرب إذا أرادت المعنى مكّنته (واحتاطت) له.

فمن ذلك التوكيد ، وهو على ضربين :

أحدهما : تكرير الأوّل بلفظه. وهو نحو قولك : قام زيد (قام زيد) و (ضربت زيدا ضربت) وقد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، والله أكبر الله أكبر ، وقال :

إذا التّيّاز ذو العضلات قلنا

إليك إليك ضاق بها ذراعا (١)

وقال :

وإيّاك إيّاك المراء فإنه

إلى الشر دعّاء وللشرّ جالب (٢)

وقال :

إن قوما منهم عمير وأشبا

ه عمير ومنهم السفّاح

لجديرون بالوفاء إذا قا

ل أخو النجدة : السلاح السلاح (٣)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للقطامى فى ديوانه ص ٤٠ ، ولسان العرب (تيز) ، (إلى) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٢٣٦ ، وتهذيب اللغة ١٣ / ٢٣٧ ، ١٤ / ١٧٣ ، ١٥ / ٤٢٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٣١ ، وكتاب العين ٧ / ٣٧٩ ، ٨ / ٧٠ ، ومقاييس اللغة ١ / ٣٦٠ ، وديوان الأدب ٣ / ٣٥٨ ، وتاج العروس (تيز) ، (إلى) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (لدى) ، والمخصص ٢ / ٧٥. ويروى : (لديك لديك) مكان (إليك إليك). وهو يصف بكرة اقتضبها وقد أحسن القيام عليها إلى أن قويت وسمنت وصارت بحيث لا يقدر على ركوبها لقوتها وعزة نفسها. ويقال للرجل إذا كان فيه غلظ وشدة : تياز.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للفضل بن عبد الرحمن فى إنباه الرواة ٤ / ٧٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٦٣ ، ومعجم الشعراء ص ٣١٠ ، وله أو للعزرمى فى حماسة البحترى ص ٢٥٣ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ص ٦٨٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٣٦ ، ورصف المبانى ص ١٣٧ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٠٩ ، وشرح التصريح ٢ / ١٢٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٢٥ ، والكتاب ١ / ٢٧٩ ، وكتاب اللامات ص ٧٠ ، ولسان العرب ١٥ / ٤٤١ ، (أيا) ، ومغنى اللبيب ص ٦٧٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١١٣ ، ٣٠٨ ، والمقتضب ٣ / ٢١٣.

(٣) البيت الثانى من الخفيف ، وهو بلا نسبة فى الدرر ٣ / ١١ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٨٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٦ ، والهمع ١ / ١٧٠.

٣٣١

وقال :

أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح (١)

وقال :

أبوك أبوك أربد غير شكّ

أحلّك فى المخازى حيث حلا

يجوز أن يكون من هذا (تجعل) أبوك الثانى منهما تكريرا للأوّل ، وأربد الخبر ، ويجوز أن يكون أبوك الثانى خبرا عن الأوّل أى أبوك الرجل المشهور بالدناءة والقلّة. وقال :

قم قائما قم قائما

رأيت عبدا نائما

وأمة مراغما

وعشراء رائما (٢)

هذا رجل يدعو لابنه وهو صغير ، وقال :

فأين إلى أين النجاء ببغلتى

أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لمسكين الدارمى فى ديوانه ص ٢٩ ، والأغانى ٢٠ / ١٧١ ، ١٧٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٦٥ ، ٦٧ ، والدرر ٣ / ١١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٢٧ ، وشرح التصريح ٢ / ١٩٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٥ ، ولمسكين أو لابن هرمة فى فصل المقال ص ٢٦٩ ، ولقيس بن عاصم فى حماسة البحترى ص ٢٤٥ ، ولقيس بن عاصم أو لمسكين الدارمى فى الحماسة البصرية ٢ / ٦٠ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٧٩ ، وتخليص الشواهد ص ٦٢ ، والدرر ٦ / ٤٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٨٨ ، وشرح قطر الندى ص ١٣٤ ، والكتاب ١ / ٢٥٦.

(٢) «قم قائما» أى قم قياما ، فهو من إقامة اسم الفاعل مقام المصدر. «وأمه مراغما» مغاضبة والترغّم : التغضب ، وقد وصفها بوصف المذكر (نجار) والعشراء من النوق : التى أتى على حملها عشرة أشهر ، فإذا وضعت لتمام سنة فهى عشراء أيضا. انظر اللسان (عشر). الرائم :التى تعطف على ولدها.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٧ / ٢٦٧ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٩٤ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٥٨ ، والدرر ٥ / ٣٢٣ ، ٦ / ٤٤ ، وشرح الأشمونى ١ / ٢٠١ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٨٧ ، وشرح قطر الندى ص ٢٩٠ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ١١١ ، ١٢٥ ، ويروى : (النجاة) مكان (النجاء).

٣٣٢

وقالوا فى قول امرئ القيس :

نطعنهم سلكى ومخلوجة

كرّ كلامين على نابل (١)

قولين : أحدهما ما نحن عليه ، أى تثنية كلامين على ذى النبل إذا قيل له : ارم ارم ، والآخر : كرّك لامين ، وهما السهمان ، أى كما تردّ السهمين على البراء للسهام إذا أخذتهما لتنظر إليهما ، ثم رميتهما إليه فوقعا مختلفين : هكذا أحدهما ، وهكذا الآخر. وهذا الباب كثير جدّا. وهو فى الجمل والآحاد جميعا.

والثانى تكرير الأوّل بمعناه. وهو على ضربين : أحدهما للإحاطة والعموم ، والآخر للتثبيت والتمكين.

الأوّل كقولنا : قام القوم كلّهم ، ورأيتهم أجمعين ـ ويتبع ذلك من اكتع وأبضع وأبتع وأكتعين وأبضعين وأبتعين (٢) ما هو معروف ـ (ومررت بهما كليهما).

والثانى نحو قولك : قام زيد نفسه ، ورأيته نفسه.

ومن ذلك الاحتياط فى التأنيث ، كقولهم : فرسة ، وعجوزة. ومنه ناقة ؛ لأنهم لو اكتفوا بخلاف مذكّرها لها ـ وهو جمل ـ لغنوا بذلك.

ومنه الاحتياط فى إشباع معنى الصفة ؛ كقوله :

* والدهر بالإنسان دوّارىّ (٣) *

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٢٥٧ ، ولسان العرب (خلج) ، (سلك) ، (بنل) ، (لأم) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٥٧ ، ١٠ / ٦٢ ، ١٥ / ٣٦١ ، ٤٠٠ ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٦ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٠٦ ، ٥ / ٢٢٧ ، وتاج العروس (خلج) ، (سلك) (لأم) ، وديوان الأدب ٢ / ٦ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢١٩ ، وكتاب العين ٤ / ١٦٠ ، ٥ / ٣١١ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٤٤ ، والمخصص ٦ / ٥٧ ، ١٥ / ١٩٢. ويروى (الفتك لأمين) مكان (كرّ كلامين). فى اللسان (سلك) كرّ كلامين ؛ وصفه بسرعة الطعن. والسّلكى : الطعنة المستقيمة تلقاء وجهه ، والمخلوجة التى فى جانب.

(٢) وقال البشتيّ : مررت بالقوم أجمعين أبضعين ، بالضاد ، قال الأزهرى : وهذا تصحيف واضح ، قال أبو الهيثم الرازى : العرب تؤكد الكلمة بأربعة تواكيد فتقول : مررت بالقوم أجمعين أكتعين أبصعين أبتعين ، بالصاد ، وكذلك روى عن ابن الأعرابى. اللسان (بضع).

(٣) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٤٨٠ ، ولسان العرب (دور) ، (قسر) ، (قعسر) ، (قنسر) ، وجمهرة ـ ـ

٣٣٣

أى دوّار ، وقوله :

* غضف طواها الأمس كلّابىّ (١) *

أى كلّاب ، وقوله :

* كان حدّاء قراقريّا (٢) *

أى قراقرا. حدثنا أبو على قال : يقال خطيب مصقع ، وشاعر مرقع ، وحدّاء قراقر ، ثم أنشدنا البيت. وقد ذكرنا من أين صارت ياء الإضافة إذا لحقتا الصفة قوّتا معناها.

وقد يؤكّد بالصفة كما تؤكد هى ؛ نحو قولهم : أمس الدابر ، وأمس المدبر ، وقول الله ـ عزّ اسمه ـ : (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] وقوله تعالى : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٢٠] وقوله سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣].

__________________

اللغة ص ١١٥١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٧٤ ، ٢٧٥ ، والدرر ٣ / ٧٤ ، وتاج العروس (دور) ، (قسر) ، (قعسر) ، (قنسر) ، (أرس) ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٥٢ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١٨١٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٤٧ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤١ ، ٢ / ٧٢٢ ، والكتاب ١ / ٣٣٨ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٨٣ ، ١٤ / ١٥٣ ، والمخصص ١ / ٤٥ ، والمحتسب ١ / ٣١٠ ، وكتاب العين ٢ / ٢٩١ ، ٥ / ٢٥٢ ، ٨ / ٥٦ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٩٩ ، ومغنى اللبيب ١ / ١٨ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٦ / ٥٤٠ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٠٥ ، وشرح المفصل ١ / ١٢٣ ، ٣ / ١٠٤ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٦٨١ ، والمقتضب ٣ / ٢٢٨ ، ٢٦٤ ، ٢٨٩ ، والمقرب ١ / ١٦٢ ، ٢ / ٥٤ ، والمنصف ٢ / ١٧٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٢ ، ٢ / ١٩٨ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٣١٠ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٣٩٤ ، وقبله :

* أطربا وأنت قنسيرى*

وبعده :

* أفنى القرون وهو قعسرى*

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٥١٨ ، وبلا نسبة فى المخصص ١ / ٨٥. وكلب أغضف وكلاب غضف ، وقد غضف ، بالكسر ، إذا صار مسترخى الأذن ، وهى صفة غالبة لكلاب الصيد. اللسان (غضف).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (قرر) ، (حدا) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢٨٤ ، وتاج العروس (قرر) ، (حدا) ، والمخصص ٧ / ١١١ ، وجمهرة اللغة ص ١٩٨ ، ١٢٥٦. وقبله :

* أبكم لا يكلم المطيا*

٣٣٤

ومنه قولهم : لم يقم زيد. جاءوا فيه بلفظ المضارع وإن كان معناه المضىّ.

وذلك أن المضارع أسبق رتبة فى النفس من الماضى ؛ ألا ترى أن أوّل أحوال الحوادث أن تكون معدومة ، ثم توجد فيما بعد. فإذا نفى المضارع الذى هو الأصل فما ظنّك بالماضى الذى هو الفرع.

وكذلك قولهم : إن قمت قمت ؛ فيجىء بلفظ الماضى والمعنى (معنى المضارع).

وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى ، فجاء بمعنى المضارع المشكوك فى وقوعه بلفظ الماضى المقطوع) بكونه ، حتى كأنّ هذا قد وقع واستقرّ (لا أنه) متوقّع مترقّب.

وهذا تفسير أبى على عن أبى بكر ، وما أحسنه!

ومنه قوله :

قالت بنو عامر خالوا بنى أسد

يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام (١)

أراد : يا بؤس الجهل ، فأقحم لام الإضافة (تمكينا واحتياطا لمعنى الإضافة) وكذلك قول الآخر :

يا بؤس للحرب الّتى

وضعت أراهط فاستراحوا (٢)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٨٢ ، والإنصاف ١ / ٣٣٠ ، وتذكرة النحاة ص ٦٦٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٣٠ ، ١٣٢ ، ١١ / ٣٣ ، ٣٥ ، والدرر ٣ / ١٩ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٣٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢١٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٥٨ ، والشعر والشعراء ١ / ١٠١ ، والكتاب ٢ / ٢٧٨ ، ولسان العرب (خلا) ، وبلا نسبة فى جواهر الأدب ص ١١٥ ، ٢٨٨ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٠٨ ، ورصف المبانى ص ١٦٨ ، ٢٤٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١٤٨٣ ، وشرح المفصل ٣ / ٦٨ ، ٥٤ / ١٠٤ ، واللامات ص ١٠٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٣. وصدره :

* قالت بنو عامر خالوا بنى أسد*

وخلّى الأمر وتخلّى منه وعنه وخالاه : تركه. وخالى فلانا : تركه ؛ قال النّابغة الذبيانى لزرعة ابن عوف ، حيث بعث بنو عامر إلى حصن بن فزارة وإلى عيينة بن حصن : أن اقطعوا ما بينكم وبين بنى أسد. وانظر اللسان (خلا).

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهو لسعد بن مالك فى خزانة الأدب ١ / ٤٦٨ ، ٤٧٣ ، وشرح شواهد المغنى ص ٥٨٢ ، ٦٥٧ ، والكتاب ٢ / ٢٠٧ ، والمؤتلف والمختلف ١٣٤ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٤ / ٣٠٧ ، وأمالى ابن الحاجب ص ٣٢٦ ، والجنى الدانى ص ١٠٧ ، وجواهر الأدب ص ٢٤٣ ، ورصف المبانى ص ٢٤٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٣٨٩ ، وشرح المفصل ـ ـ

٣٣٥

أى يا بؤس الحرب ؛ إلا أن الجرّ فى هذا ونحوه إنما هو للام الداخلة عليه وإن كانت زائدة. وذلك أن الحرف العامل وإن كان زائدا فإنه لا بدّ عامل ؛ ألا ترى إلى قوله :

بحسبك فى القوم أن يعلموا

بأنّك فيهم غنىّ مضرّ (١)

فالباء زائدة وهى (مع ذا) عاملة. وكذلك قولهم : قد كان من مطر ، وقد كان من حديث فخلّ عنّى ؛ ف (من) زائدة وهى جارّة ، ولا يجوز أن تكون (الحرب) من قوله : يا بؤس للحرب مجرورة بإضافة (بؤس) إليها ، واللام معلّقة ؛ من قبل أن تعليق اسم المضاف والتأوّل له أسهل من تعليق حرف الجرّ والتأوّل له ، لقوّة الاسم وضعف الحرف. فأما قوله :

لو كنت فى خلقاء من رأس شاهق

وليس إلى منها النزول سبيل (٢)

فإن هذا إنما هو فصل بحرف الجرّ ، لا تعليق.

فإن قلت : فما تقول فى قوله :

أنّى جزوا عامرا سوءا بفعلهم

أم كيف يجزوننى السوءى من الحسن (٣)

__________________

٢ / ١٠ ، ١٠٥ ، ٤ / ٣٦ ، ٥ / ٧٢ ، وكتاب اللامات ص ١٠٨ ، ولسان العرب (رهط) ، والمحتسب ٢ / ٩٣ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢١٦.

(١) البيت من المتقارب ، وهو للأشعر الرّقبان فى تذكرة النحاة ص ٤٤٣ ، ٤٤٤ ، ولسان العرب (مسخ) ، (ضرر) ، (با) ، والمعانى الكبير ص ٤٩٦ ، ونوادر أبى زيد ص ٧٣ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ١٧٠ ، وديوان المعانى ١ / ٣٥ ، ورصف المبانى ص ١٤٧ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٣٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١٤٦٩ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٥ ، ٨ / ٢٣ ، ١٣٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى رصف المبانى ص ٢٥٥ ، والمقرب ١ / ١٩٧. ويروى صدره :

* مخلفة لا يستطاع ارتقاؤها*

(٣) البيت من البسيط ، وهو لأفنون بن صريم التغلبى فى شرح اختيارات المفضل ص ١١٦٤ ، وتاج العروس (سوأ) ، والبيان والتبيين ١ / ٩ ، والخزانة ١١ / ١٤٧ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (سوأ) ويروى (سيئا) مكان (سوءا).

٣٣٦

وجمعه بين أم وكيف؟ فالقول أنهما ليسا لمعنى واحد. وذلك أنّ (أم) هنا جرّدت لمعنى الترك والتحوّل ، وجرّدت من معنى الاستفهام ، (وأفيد) ذلك من (كيف) لا منها. وقد دللنا على ذلك فيما مضى.

فإن قيل : فهلا وكدت إحداهما الأخرى كتوكيد اللام لمعنى الإضافة ، وياءي النسب لمعنى الصفة.

قيل : يمنع من ذلك أنّ (كيف) لمّا بنيت واقتصر بها على الاستفهام البتّة جرت مجرى الحرف البتة ، وليس فى الكلام اجتماع حرفين لمعنى واحد ، لأن فى ذلك نقضا لما اعتزم عليه من الاختصار فى استعمال الحروف. وليس كذلك يا بؤس للحرب وأحمرىّ وأشقرىّ. وذلك أن هنا إنما انضم الحرف إلى الاسم ، فهما مختلفان ، فجاز أن يترادفا فى موضعهما لاختلاف جنسيهما.

فإن قلت : فقد قال :

* وما إن طبّنا جبن ولكن (١) *

وقال :

* ما إن يكاد يخلّيهم لوجهتهم (٢) *

__________________

(١) صدر البيت من الوافر ، وهو لفروة بن مسيك فى الأزهية ص ٥١ ، والجنى الدانى ص ٣٢٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ١١٢ ، ١١٥ ، والدرر ٢ / ١٠٠ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٠٦ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٨١ ، ولسان العرب (طبب) ، ومعجم ما استعجم ص ٦٥٠ ، وللكميت فى شرح المفصل ٨ / ١٢٩ ، وللكميت أو لفروة فى تخليص الشواهد ص ٢٧٨ ، وبلا نسبة فى جواهر الأدب ص ٢٠٧ ، وخزانة الأدب ١١ / ٩٤١ ، ٢١٨ ، ورصف المبانى ص ١١٠ ، ٣١١ ، وشرح المفصل ٥ / ١٢٠ ، ٨ / ١١٣ ، والكتاب ٣ / ١٥٣ ، ٤ / ٢٢١ ، والمحتسب ١ / ٩٢ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٥ ، والمقتضب ١ / ٥١ ، ٢ / ٣٦٤ ، والمنصف ٣ / ١٢٨ ، وهمع الهوامع. وعجزه :

* منايانا ودولة آخرينا*

طبّنا : عادتنا وشأننا.

(٢) صدر البيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص ١٧٠ ، ولسان العرب (كفت) ، (برك) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٢٢٩ ، وتاج العروس (كفت) ، (برك) ، وبلا نسبة فى المخصص ٦ / ١٦٨. وعجزه :

* تخالج الأمر إن الأمر مشترك*

٣٣٧

فجمع بين ما وإن ، وكلاهما لمعنى النفى ، وهما ـ كما ترى ـ حرفان.

قيل : ليست إن من قوله :

* ما إن يكاد يخلّيهم لوجهتهم*

بحرف نفى فيلزم ما رمت إلزامه ، وإنما هى حرف يؤكّد به ، بمنزلة ما ولا والباء ومن وغير ذلك ؛ ألا ترى إلى قولهم فى الاستثبات عن زيد من نحو قولك جاءنى زيد : أزيد إنيه؟ وفى باب رأيت زيدا : أزيدا إنيه؟ فكما زيدت (إن) هنا توكيدا مع غير (ما) ، فكذلك زيدت مع (ما) توكيدا.

وأما قوله :

طعامهم لئن أكلوا معدّ

وما إن لا تحاك لهم ثياب (١)

فإنّ (ما) وحدها أيضا للنفى (وإن) و (لا) جميعا للتوكيد ، ولا ينكر اجتماع حرفين للتوكيد لجملة الكلام. وذلك أنهم قد وكّدوا بأكثر من الحرف الواحد فى غير هذا. وذلك قولهم : لتقومنّ ولتقعدنّ. فاللام والنون جميعا للتوكيد. وكذلك قول الله ـ جلّ وعزّ ـ : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم : ٢٦]. فما والنون جميعا مؤكّدتان. فأما اجتماع الحرفين فى قوله :

* وما إن لا تحاك لهم ثياب*

وافتراقهما فى لتفعلنّ وإمّا ترينّ فلأنهم أشعروا لجمعهم إياهما فى موضع واحد بقوّة عنايتهم بتوكيد ما هم عليه ؛ لأنهم كما جمعوا بين حرفين لمعنى واحد ، كذلك أيضا جعلوا اجتماعهما وتجاورهما تنويها وعلما على قوّة العناية بالحال.

وكأنهم حذوا ذلك على الشائع الذائع عنهم من احتمال تكرير الأسماء المؤكّد بها فى نحو أجمع وأكتع وأبضع وأبتع وما يجرى مجراه. فلمّا شاع ذلك وتنوزع فى غالب الأمر فى الأسماء لم يخلوا الحروف من نحو منه ؛ إيذانا بما هم عليه مما اعتزموه ووكّدوه. وعليه أيضا ما جاء عنهم من تكرير الفعل فيه ؛ نحو قولهم : اضرب اضرب ، وقم قم ، وارم ارم ، وقوله :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤٣٠ ، وتذكرة النحاة ص ٦٦٧ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٤١ ، والدرر ٦ / ٢٥٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٨.

٣٣٨

* أتاك أتاك اللّاحقوك احبس احبس (١) *

فاعرف ذلك فرقا بين توكيد المعنى الواحد ، ـ نحو الأمر والنهى والإضافة ـ وتوكيد معنى الجملة ، فى (امتناع اجتماع) حرفين لمعنى واحد ، وجواز اجتماع حرفين لمعنى جملة الكلام فى لتقربنّ وإمّا ترينّ ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : هل تقومنّ ف (هل) وحدها للاستفهام ؛ وأما النون فلتوكيد جملة الكلام. يدلّ على أنها لذلك لا لتوكيد معنى الاستفهام وحده وجودك إياها فى الأمر ؛ نحو اضربنّ زيدا ، وفى النهى فى لا تضربنّ زيدا ، والخبر فى لتضربنّ زيدا ، والنفى فى نحو قلّما تقومنّ ، فشياعها فى جميع هذه المواضع أدلّ دليل على ما نعتقده : من كونها توكيدا لجملة القول ، لا لمعنى مفرد منه مخصوص ؛ لأنها لو كانت موضوعة له وحده لخصّت به ، ولم تشع فى غيره كغيرها من الحروف.

فإن قلت : يكون من الحروف ما يصلح من المعانى لأكثر من الواحد ؛ نحو : من ، فإنها تكون تبعيضا وابتداء ، ولا ، تكون نفيا ونهيا وتوكيدا ، وإن ، فإنها تكون شرطا ونفيا وتوكيدا.

قيل : هذا إلزام يسقطه تأمّله. وذلك أن من ولا وإن ونحو ذلك لم يقتصر بها على معنى واحد ؛ لأنها حروف وقعت مشتركة كما وقعت الأسماء مشتركة ؛ نحو الصدى ؛ فإنه ما يعارض الصوت ، وهو بدن الميت ، وهو طائر يخرج فيما يدّعون من رأس القتيل إذا لم يؤخذ بثأره. وهو أيضا الرجل الجيّد الرعية للمال فى قولهم : هو صدى مال ، وخائل مال ، وخال مال ، وسر سور مال ، وإزاء مال ، و (نحو ذلك من) الشوى (٢) ونحوه مما اتفق لفظه واختلف معناه. وكما وقعت الأفعال مشتركة ؛ نحو وجدت فى الحزن ، ووجدت فى الغضب ، ووجدت فى الغنى ، ووجدت فى الضالّة ، ووجدت بمعنى علمت ، ونحو ذلك ، فكذلك جاء نحو هذا فى الحروف. وليست كذلك النون ؛ لأنها وضعت لتوكيد ما قد أخذ مأخذه ، واستقرّ من الكلام بمعانيه المفادة من أسمائه وأفعاله وحروفه. فليست

__________________

(١) سبق.

(٢) الشوى : الهيّن من الأمر ، والشوى : اليدان والرجلان وأطراف الأصابع وقحف الرأس. اللسان (شوا).

٣٣٩

لتوكيد شيء مخصوص من ذلك دون غيره ؛ ألا تراها للشيء وضدّه ؛ نحو اذهبنّ ، ولا تذهبنّ ، والإثبات فى لتقومنّ ، والنفى فى قلّما تقومنّ. فهى إذا لمعنى واحد ، وهو التوكيد لا غير.

ومن الاحتياط إعادة العامل فى العطف ، والبدل. فالعطف نحو مررت بزيد وبعمرو ؛ فهذا أوكد معنى من مررت بزيد وعمرو. والبدل كقولك : مررت بقومك بأكثرهم ؛ فهذا أوكد معنى من قولك : مررت بقومك أكثرهم.

ووجوه الاحتياط فى الكلام كثيرة ؛ و (هذا طريقها) (فتنبه عليها).

* * *

٣٤٠