شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

لأن الفعل أقعد في اتصال الضمير به من المصدر واسم الفاعل ، لأنه (١) يطلب الفاعل والمفعول لذاته ، وهما لمشابهته ؛

وكذا يشذّ الاتصال في الثاني فيهما (٢) إذا كان أزيد ، أو مساويّا ، نحو : ضربهوك ، وضربهوه ، قال :

٣٧٧ ـ وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة

لضغمهماها يقرع العظم نابها (٣)

وإن كان بعد الضمير المجرور مرفوع ، فلا بدّ من كونه منفصلا ، سواء كان أعرف من المجرور أو أنقص أو مساويا ؛ إذ البارز المرفوع المتصل ، لا يتصل إلا بالفعل ، كما ذكرنا ، نحو : ضربك هو ، وضربك أنا ، وضربه هو ، ولا يكون الأول منهما منصوبا إلّا عند هشام (٤) والأخفش كما مرّ ، في باب الإضافة (٥) في نحو : ضاربك ، فحكم الضمير الذي يليه ، عندهما ، حكم الضمير الذي يلي المجرور ، كما مرّ ؛

قوله : «وليس أحدهما مرفوعا» ، لأنه إن كان مرفوعا وجب تقديمه واتصال الثاني ، كما تقدم ، سواء كان الأول أعرف ، أو ، لا ،

قوله : «فإن كان أحدهما أعرف» ، إنما كان ذلك لأنه إن لم يكن أحدهما أعرف ،

__________________

(١) أي الفعل ؛

(٢) يعني في المصدر والوصف ؛

(٣) لشاعر جاهلي اسمه مغلّس بن لقيط ، كان له أخ عزيز عليه بارّ به فمات وبقي له اخوان أو قريبان اسمهما مدرك ومرة ، لقي منهما ما يضايقه فتذكر أخاه الذي مات وقال في ذلك أبياتا منها :

وأبقت لي الايام بعدك مدركا

ومرة ، والدنيا كريه عتابها

قرينين كالذئبين يقتسمانني

وشر صحابات الرجال ذئابها

إلى أن قال : وقد جعلت نفسي تطيب ، .. يعني أنه أصبح يسره أن تنزل بهذين الرفيقين نازلة كنى عنها بالضغم أي العض الشديد الذي يجعل الناب يغوص في اللحم حتى يقرع العظم ، وهذا الشاهد في سيبويه ج ١ ص ٣٨٤.

(٤) المراد : هشام بن معاوية الملقب بهشام الضرير ، من زعماء النحو في الكوفة ، وتقدم ذكره في هذا الجزء وفي الجزء الأول ؛

(٥) انظر ص ٢٣٣ في هذا الجزء ؛

٤٤١

ولم يكن أحدهما مرفوعا ، وجب انفصال الثاني نحو : أعطاك إيّاك ، وضربي إيّاي ؛

قوله : «وقدّمته» ، أي قدّمت الأعرف ، لأنه إذا كان أحدهما أعرف وأخّرته وليس أحدهما مرفوعا وجب انفصال الثاني ، نحو : أعطاه إيّاك ؛

فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة : أحدها ألّا يكون أحدهما مرفوعا ، والثاني أن يكون أحدهما أعرف ، والثالث أن يكون الأعرف مقدما : كان (١) لك الخيار في الثاني ، وعلل جميع ذلك مفهومة مما قدّمنا ؛

قوله : «وإلّا فهو منفصل» ، أي إن لم يكن أحدهما أعرف كأعطاك إيّاك ، أو إن كان أعرف لكنه ليس بمقدم ، كأعطاك إيّاي وأعطاه إيّاك ، فالثاني منفصل ، كما رأيت.

[حكم الضمير]

[بعد كان ، ولو لا ، وعسى]

[قال ابن الحاجب :]

«والمختار في خبر كان : الانفصال ، والأكثر : لو لا أنت»

«إلى آخرها ، وعسيت إلى آخرها ، وجاء : لولاك وعساك»

«إلى آخرها» ؛

[قال الرضى :]

إنما كان المختار في خبر «كان» وأخواتها : الانفصال ، لأن اسمها في الحقيقة ليس فاعلا حتى يكون كالجزء من عامله ، بل الفاعل في الحقيقة مضمون الجملة ، لأن الكائن

__________________

(١) جواب قوله : فإذا اجتمعت الشروط ..

٤٤٢

في قولك : كان زيد قائما : قيام زيد ، كما يجيء في الأفعال الناقصة ، قال عمر بن أبي ربيعة :

٣٧٨ ـ لئن كان إياه لقد حال بعدنا

عن العهد والإنسان قد يتغيّر (١)

وقال :

٣٧٩ ـ ليت هذا الليل شهر

لا نرى فيه عريبا (٢)

ليس إياي وإيا

ك ، ولا نخشى رقيبا

وقد جاء ، على ما حكى (٣) سيبويه : ليسني وكانني ، قال :

٣٨٠ ـ عددت قومي كعديد الطيس

إذ ذهب القوم الكرام ليسي (٤)

وقيل لبعض العرب : إن فلانا يريدك ، فقال : عليه رجلا ليسني ، وقال أبو الأسود :

٣٨١ ـ فإن لا يكنها أو تكنه فإنه

أخوها غذته أمه بلبانها (٥)

__________________

(١) من قصيدته المشهورة التي أولها :

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجّر

وهي من جيّد شعره ، وقبل بيت الشاهد :

قفي فانظري يا اسم هل تعرفينه

أهذا المغيريّ الذي كان يذكر؟

(٢) نسبهما الأعلم في شرح شواهد سيبويه إلى عمر بن أبي ربيعة ، وفي الأغاني أنهما للعرجي ، وهو عبد الله ابن عمر بن عثمان بن عفان ؛ والشاهد في سيبويه ج ١ ص ٣٨١ ؛

(٣) انظر سيبويه ، ج ١ ص ٣٧.

(٤) من رجز لرؤبة بن العجاج ، ويروى : عهدي بقومي .. ويروى : عهدت قومي ؛ والطيس : المراد العدد الكثير ، وقيل ان معناه : كل ما على وجه الأرض ، وقيل : هو كل خلق كثير النسل كالنمل والذباب ونحوهما من الهوام ، وقيل انه أراد الرمل والله أعلم ؛

(٥) هذا البيت منسوب لأبي الأسود الدؤلي رحمه الله ؛ وقبله بيت يوضح معناه وهو :

دع الخمر يشربها الغواة فإنني

رأيت أخاها مجزئا بمكانها

قالوا : أراد بقوله : أخاها ؛ الزبيب ، أو ما يصنع منه من النبيذ لأنهما ، هما والخمر المصنوع من العنب ينتميان إلى أصل واحد ،

٤٤٣

ووجه الاتصال كون الاسم كالفاعل ، والخبر كالمفعول ، فكنته ، كضربته ؛

قوله : «والأكثر لو لا أنت إلى آخرها» ، يعني أن الأولى أن يجيء بعد لو لا ، غير التحضيضية ، ضمير مرفوع منفصل ، لأنه : إمّا مبتدأ ، أو فاعل فعل محذوف ، أو مرتفع بلولا ، على ما مرّ في باب المبتدأ (١) ، فيجب على الأوجه الثلاثة : الانفصال ؛

وقد يجيء بعدها الضمير المشترك بين النصب والجر ، إلا عند المبرّد فإنه منعه ، قال هو خطأ ؛

والصحيح وروده ، وإن كان قليلا ، كقوله :

٣٨٢ ـ أومت بعينيها من الهودج

لولاك في ذا العام لم أحجج (٢)

وقوله :

٣٨٣ ـ وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بأجرامه من قلّة النّيق منهوى (٣)

والضمير ، عند سيبويه مجرور ، و «لو لا» عنده حرف جر ههنا خاصة ، قال (٤) : ولا يبعد أن يكون لبعض الكلمات مع بعضها حال ، فتكون «لو لا» الداخلة على الضمير المذكور حرف جرّ ، مع أنها مع غيره غير عاملة ، بل هي حرف يبتدأ بعدها نحو : لو لا

__________________

(١) ص ٢٧٤ من الجزء الأول ؛

(٢) من شعر عمر بن أبي ربيعة ، ورووا بعده :

أنت إلى مكة أخرجتني

حبا ولو لا أنت لم أخرج

وقال بعضهم انه للعرجي لأن له قصيدة على الوزن والقافية أولها :

عوجي علينا ربّة الهودج

انك ان لا تفعلي تحرجي

(٣) من قصيدة جيدة ليزيد بن الحكم بن أبي العاصي الثقفي ، فيها عتاب لأخيه عبد ربه ؛ وأولها :

تكاشرني كرها كأنك ناصح

وعيناك تبدي أن صدرك لي دوي

لسانك لي حلو وغيبك علقم

وشرك مبسوط وخيرك منطوي

وقوله : وصدرك لي دوي ، على وزن فرح من دوي إذا امتلأ بالحقد والضغن.

(٤) كثير مما جاء هنا في هذا الموضع ، من كتاب سيبويه ج ١ ص ٣٨٨ وهو في الغالب منقول بالمعنى ، وكذلك قوله بعد ذلك : ومثّل ذلك أي جعله مثل لدن ؛

٤٤٤

زيد ، ولو لا أنت ؛ ومثّل ذلك بلدن ، فإنها تجر ما بعدها بالإضافة ، إلّا إذا وليتها «غدوة» فإنها تنصبها ، كما يجيء ؛

وفي قوله نظر ، وذلك أن الجارّ إذا لم يكن كما في : بحسبك ، فلا بدّ له من متعلّق ، ولا متعلق في نحو : لولاك لم أفعل ، ظاهرا ، ولا يصح تقديره ،

وقال أبو سعيد السيرافي : الجار والمجرور ، أي : لولاك ، في موضع الرفع بالابتداء ، كما في : بحسبك درهم ؛

وفيه نظر ، لأن ذلك إنما يكون بتقدير زيادة الجار ، وإذا لم يكن زائدا فلا بدّ له من متعلق ، فيكون مفعولا لذلك المتعلق لا مبتدأ ،

وعند الأخفش والفراء : أن الضمير بعدها ، ضمير مجرور ناب عن المرفوع ، كما ناب المرفوع عن المجرور في : ما أنا كأنت ؛

وإن رجّح مذهب سيبويه بأن التغيير عنده تغيير واحد ، وهو تغيير «لو لا» وجعلها حرف جر ، يرجح (١) مذهب الأخفش بأن تغيير الضمائر بقيام بعضها مقام بعض ، ثابت في غير هذا الباب ، بخلاف تغيير «لو لا» بجعلها حرف جرّ ؛ وارتكاب خلاف الأصل ، وإن كثر ، إذا كان مستعملا ، أهون من ارتكاب خلاف الأصل غير المستعمل وإن قلّ ؛

وكذلك : الأولى أن يجيء بعد «عسى» ضمير مرفوع متصل نحو عسيت وعسينا. إلى عسين ، لأنه فعل ، وما بعده فاعله ،

وقد جاء بعد «عسى» الضمير المنصوب المتصل نحو : عساك ، وفيه ثلاثة مذاهب ؛

قال سيبويه (٢) : عسى محمول على «لعلّ» لتقاربهما معنى لأن معناهما الطمع والاشفاق ، تقول : عساك أن تفعل كذا ، تحمله على «لعلّ» في اسمه ، فتنصبه به ويبقى خبره مقترنا

__________________

(١) جواب قوله : وإن رجح مذهب سيبويه ، يريد أن لكل من المذهبين ما يرجحه وإن كان الرجحان أقوى إلى جانب مذهب الأخفش ؛

(٢) وهذا أيضا منقول بمعناه من كتاب سيبويه ج ١ ص ٣٨٨

٤٤٥

بأن كما كان مقتضاه في الأصل أعني في نحو : عسى زيد أن يخرج ، فيكون الخبر من وجه محمولا على خبر «لعلّ» وهو كونه في محل الرفع ، ومن وجه مبقى على أصله وهو اقترانه بأن ، لأن خبر «لعلّ» في الأصل : خبر المبتدأ ، ولا يقال : أنت أن تفعل ، فاقتران المضارع بأن في : عساك أن تفعل لا يناسب خبر «لعلّ» ، وقد يقال : عساك تفعل من غير «أن» ، واستعماله أكثر من استعمال : عسى زيد يخرج ، وذلك لحملهم «عسى» على «لعلّ» في اسمه ، فأجروا خبره ، أيضا ، في طرح «أن» مجرى خبره ، لكن لا يخرج بالكلية عن أصله ، فلا يقال : عساك خارج ، كما يقال : لعلك خارج ؛

وربما يجيء خبر «لعل» مضارعا بأن (١) ، حملا لها على «عسى» في الخبر وحده ، كما حمل «عسى» في : عساك أن تفعل ، على «لعل» في اسمه وحده ، قال :

٣٨٤ ـ لعلك يوما أن تلمّ ملمة

عليك من اللائي يدعنك أجدعا (٢)

وقال بعضهم : إن الخبر محذوف ، أي : لعلك تهلك أن تلم ملمة ، أي لأن تلمّ وهذا الاستعمال في لعل ، كثير في الشعر ، قليل في النثر ؛

فعلى مذهب سيبويه : عسى ، مغيّر عن أصله والضمائر جارية على القياس ، تبعا لتغير «عسى» كما قال في «لولاك» ، وحمل «عسى» على «لعل» في نصب الاسم ورفع الخبر مخصوص بكون اسمه ضميرا ، كما كان جرّ «لو لا (٣)» عنده مختصا بالضمير ، فلا يقال : عسى زيدا يخرج ، اتفاقا منهم ، واستدل (٤) على كون الضمير منصوبا بلحوق نون الوقاية في : عساني ، قال :

__________________

(١) يعني مضارعا مقرونا بأن ؛

(٢) هذا من قصيدة متمم بن نويرة التي رثى بها أخاه مالكا ، وهو في هذا الجزء من القصيدة يخاطب الشخص الذي جاء بنعي مالك مسرعا ، واتهمه متمم بأنه فرح بموت مالك فهو يقول له لا تفرح ولا تشمت فإنك معرض لأن تلم بك ملمة من تلك الملمات اللاتي يدعنك ذليلا خاضعا ،

(٣) أي عملها الجر ،

(٤) أي سيبويه ، انظر الموضع المشار إليه سابقا ،

٤٤٦

٣٨٥ ـ ولي نفس أقول لها إذا ما

تنازعني لعلّي أو عساني (١)

لأن هذه النون لم تلحق الياء بعد الفعل إلا إذا كانت منصوبة ؛

وقال الأخفش (٢) : عسى باقية على أصلها ، والضمائر المنصوبة بعدها قائمة مقام المرفوعة ، اسما لعسى ، وقولك : أن تفعل ، أو : تفعل ، منصوب المحل خبرا لها ، كما كان في : عسيت أن تفعل ، وعسيت تفعل ؛

ونقل عن المبرد وجهان في نحو :

٣٨٦ ـ يا أبتا علّك أو عساكا (٣)

أحدهما : أن الضمير البارز منصوب بعسى خبرا لها ، والاسم مضمر فيها مرفوع ، فيكون كقولهم : عسى الغوير أبؤسا (٤) ،

وهو ضعيف من وجوه : أحدها أن مجيء خبر «عسى» اسما صريحا شاذ ، والثاني : أن ذلك لا يستمر إذا جاء بعد الضمير المنصوب : الفعل المضارع مع «أن» أو مجردا ، نحو : عساك أن تفعل ، أو تفعل ، إلّا أن يجعل «أن تفعل» بدلا من الكاف ، بدل الاشتمال ، أي عسى الأمر إيّاك فعلك ، ويكون «تفعل» في : عساك تفعل ، حالا من الكاف ، ويضمر اسم عسى على حسب مدلول الكلام ، كما تقول في عساك تظفر بالمراد :

__________________

(١) لعمران بن حطان ، الخارجي ، وهو من القعدية الذين كانوا يقعدون عن الحروب مع أنهم يحثون غيرهم عليها ويزينونها لهم ، يقول : إذا نازعتني نفسي في أمر من أمور الدنيا قلت لها : لعلي أتورط فيها فأكف عما تدعوني إليه ، وقيل في تفسيره ، غير ذلك ؛

(٢) هذا هو المذهب الثاني ،

(٣) شطر من الرجز لرؤية بن العجاج ، ويزعم قوم أنه لأبيه العجاج ، ورواية الشاهد هكذا هي المشهورة ، وقيل ان الرواية :

تقول بنتي قد أنى إناكا

تأنيا علك أو عساك ،

ومعنى أنى إناك ، حان وقتك ، أي وقت ارتحالك في طلب الرزق ،

(٤) هذا من كلام الزبّاء في قصتها الشهيرة مع قصير ، وكان قد غاب عنها فافتقدته فقيل لها انه ذهب إلى الغوير وهو مكان ، فقالت : عسى الغوير أبؤسا ، جمع بؤس ؛

٤٤٧

عسى الواصل إياك ظافرا ، أو يكون المضارع بتقدير «أن» كما في قولهم : تسمع بالمعيديّ (١) فيكون «تفعل» بدلا من الكاف كما في : عساك أن تفعل ؛ وكل هذا تكلف ، وأيضا ، ليس لذلك المضمر مفسّر ظاهر ؛

وثاني الوجهين المنقولين عنه : أن الضمير المنصوب خبر ، قدّم إلى جانب الفعل فاتصل به ، كما في : ضربك زيد ، والاسم إمّا محذوف كما في قوله :

يا أبتا علّك أو عساكا (٢) ـ ٣٨٦

على حسب دلالة الكلام عليه ، كما حذف في قولهم : جاءني زيد ليس إلّا ، أي ليس الجائي إلا زيدا ؛ وإمّا مذكور كما في قولك : عساك أن تفعل وكذا في عساك تفعل ، بتقدير «أن» ؛

أقول : إن أراد بحذف الفاعل إضماره ، كما هو الظاهر في «ليس» فهو الأول ، والظاهر أنه قصد الحذف الصريح ، فيكون ذهب مذهب الكسائي في جواز حذف الفاعل كما مرّ في باب التنازع ويكون موضع الفاعل المحذوف بعد الضمير المنصوب ، ويكون : عساك أن تفعل ، عنده ، بمنزلة قاربك الفعل كما أن : عسيت أن تخرج ، عند النحاة ، بمنزلة قاربت الخروج ، ولا يكون الاسم والخبر مبتدأ وخبرا ، لأن أحدهما جملة والآخر حدث ، إلّا أن يقدّر في أحدهما مضاف ، أي : عسى حالك أن تفعل ، أو : عساك صاحب أن تفعل كما يجيء في أفعال المقاربة ؛

__________________

(١) المعيدي نسبة إلى معدّ بتشديد الدال وبصيغة التصغير فحذفت منه إحدى الدالين تخفيفا بدون قياس موجب لذلك ، ونقلوا عن الكسائي أنه كان يقول هو بتشديد الدال على الأصل ،

(٢) هو الشاهد المتقدم قريبا ؛

٤٤٨

[نون الوقاية]

[الغرض منها ومواضع دخولها]

[قال ابن الحاجب :]

«ونون الوقاية مع الياء لازمة في الماضي ، ومع المضارع عريّا»

«عن نون الإعراب ، وأتت مع النون ، ولدن ، وإنّ وأخواتها»

«مخيّر ؛ ويختار في : ليت ، ومن ، وعن ، وقد وقط ؛»

«وعكسها لعلّ» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أن نون الوقاية إنما تدخل الفعل لتقيه من الكسر ، لأن ما قبل ياء المتكلم يجب كسره ، كما مرّ في باب الإضافة ؛ ولمّا منعوا الفعل الجرّ وكانت الكسرة هي أصل علامات الجر ، والفتح والياء فرعاها كما تبيّن في أوّل الكتاب ، كرهوا أن يوجد فيه ما يكون في بعض الأحوال علامة الجر ، مبالغة في تبعيده من الجر ؛

ودخولها في نحو أعطاني ، ويعطيني : إمّا طردا للباب ، أو لكون الكسر مقدرا على الألف والياء لو لا النون ، كما في : عصاي وقاضيّ ؛

ودخولها مع نون الإعراب نحو : يضربونني ، ونون التأكيد نحو : اضربنّني ومع ضمير المرفوع المتصل نحو : ضربتني وضربنني ويضربنني ، إنما جاز لكون نوني الإعراب والتأكيد والضمائر المذكورة كجزء الفعل ؛

ولم يحفظوا الفعل من الكسر الذي للساكنين في نحو : (قُلِ ادْعُوا اللهَ)(١) ، واضرب اضرب ؛ لأن الكسرة العارضة للياء ألزم من الكسرة العارضة للساكنين في نحو : قل

__________________

(١) من الآية ١١٠ في سورة الإسراء ،

٤٤٩

ادعوا ، إذ الياء لكونها ضميرا متصلا كجزء الكلمة ، وثانية الكلمتين في نحو : قل ادعوا ، مستقلة ، فنقول : (١)

تلزم هذه النون جميع أمثلة الماضي ، وتلزم من المضارع ما ليس فيه نون الإعراب ، والذي فيه نون الإعراب من المضارع : الأمثلة الخمسة : يفعلان وتفعلان ، ويفعلون ، وتفعلون ، وتفعلين ، فتلزم النون غير هذه الأمثلة ، سواء كان فيه نون الضمير الأولى (٢) نحو : بضربنني ، أو نونا التأكيد الخفيفة والثقيلة ، أو ، لا ؛ وقوله :

٣٨٧ ـ هل تبلغنّي دارها شدنيّة

لعنت بمحروم الشراب مصرّم (٣)

نونه الأولى فيه خفيفة والثانية نون الوقاية ؛

وإنما جاز قيام نون الإعراب مقام نون الوقاية دون نون الضمير ونوني التأكيد ، وإن كان اجتماع المثلين في الكل حاصلا ؛ لأن نون الإعراب لا معنى لها كنون الوقاية ، إذ إعراب الفعل ليس لمعنى ، كما هو مذهب البصريين ، على ما يأتي في قسم الأفعال ، فكلاهما لأمر لفظي بخلاف نون الضمير ونوني التأكيد ؛

هذا على مذهب من قال : المحذوف نون الوقاية ، كالجزولي ، لأن الثقل جاء منها ، لا من نون الإعراب ؛

أمّا على قول سيبويه ، وهو أن المحذوف نون الإعراب ، لأنها المعرّضة للحذف بالجزم والنصب ولا معنى لها ، فالعلة في عدم حذف نون الضمير ونوني التأكيد ظاهرة ، لأنها ليست معرّضة للحذف ولها معنى ؛

__________________

(١) شروع منه في تفصيل مواضع دخول النون بعد أن بيّن الغرض منها ؛

(٢) يعني أن توجد في الفعل قبل نون الوقاية نون الضمير ؛ فتكون هي الأولى ، والتعبير فيه ضعف ؛

(٣) هو من معلقة عنترة العبسي ، وشدنية منسوبة إلى شدن وهي حي باليمن ، والمراد بمحروم الشراب : الضرع الذي حبس حتى لا يدر ، أو الذي انقطع لبنه ، وهو يريد أن هذه الناقة انقطعت عن الحمل والارضاع فهي قوية ؛

٤٥٠

وقد جاء حذف نون الوقاية ، مع نون (١) الضمير للضرورة ، قال :

٣٨٨ ـ تراه كالثغام يعلّ مسكا

يسوء الغاليات إذا فليني (٢)

ولا يجوز أن يكون المحذوف نون الضمير ، إذ الفاعل لا يحذف ؛

وقد تدغم نون الإعراب في نون الوقاية ؛ فعلى هذا يجوز مع نون الإعراب ثلاثة أوجه : حذف إحداهما وإدغام نون الإعراب في نون الوقاية ، وإثباتهما بلا إدغام ، وقرئ قوله تعالى : (أَتُحاجُّونِّي ..)(٣) على الثلاثة ؛

قوله : «ولدن» ، حذف نون الوقاية من «لدن» لا يجوز عند سيبويه ، والزجاج إلا للضرورة ، وعند غيرهما : الثبوت راجح ، وليس الحذف للضرورة ، لثبوته في السبع (٤) ،

وعلى كل حال ، كان حق «لدن» أن يذكره المصنف ، إمّا مع الماضي ، أو مع «ليت» و «من» و «عن» ؛ لكنه تبع الجزولي ، فإنه قال في «لدن» : أنت مخيّر ، والقراءة حملتهما (٥) على ما قالا ؛

وإلحاق نون الوقاية في «لدن» ، وإن لم يكن فعلا ، للمحافظة على سكون النون اللازم ؛

__________________

(١) يعني المقترنة بنون الضمير ، لا أن النون تحذف هي ونون الضمير ؛

(٢) قائله عمرو بن معد يكرب الزبيدي من كلمة له يخاطب فيها امرأته ، يقول فيها :

تقول حليلتي لما رأتني

شرائج بين كدرى وجون

يريد بالشرائج : الأنواع والضروب يقصد تعدد لون شعره ؛ والثغام نبت له زهر أبيض ، وقوله يعلّ مسكا ، أي يدهن بالمسك مرة بعد مرة ، من العلل وهو الشرب بعد الشرب الأول ؛ والبيت الشاهد في سيبويه ج ٢ ص ١٥٤.

(٣) الآية ٨٠ من سورة الأنعام ، وقراءة نافع بحذف إحدى النونين وكذلك ابن عامر في إحدى الروايتين ، وبقية السبعة بإدغام النونين ، ولم يقرأ بإثباتهما من غير إدغام أحد من السبعة ، قال أبو حيان : لم يقرأ أحد ههنا بالفك وإن كان هو الأصل ؛ وروي الإظهار بدون إدغام عن ابن عامر في إحدى الروايتين في قوله تعالى :

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) ، الآية ٦٤ من سورة الزمر ،

(٤) أي في القراءات السبع ، والقارئ بهذه اللغة هو نافع ، وتقدم ذكره ،

(٥) أي المصنف والجزولي ،

٤٥١

وإنما لم يأتوا بها في : عليّ ، وإليّ ، ولديّ ، وإن كان آخرها ألفا أيضا ، ساكنا سكونا لازما ، لأمنهم من انكسار ذلك الساكن لكونه حرف علة ، وذلك أن ما قبل ياء المتكلم ، إذا كان ألفا ، أو واوا ، أو ياء ، تحركت الياء (١) بالفتح ، وبقي ما قبلها على سكونه ، كما تبيّن في باب الإضافة فلذلك لم يجلبوا نون الوقاية في نحو : فتاي ورحاي وعصاي وقاضيّ ومسلميّ في مسلمين ، وعشري ومسلميّ في : عشرون ومسلمون ، أو عشرين ومسلمين ؛

فإن قلت : فكان يجب ألّا تجلب في نحو : يدعوني ، وضربوني ، واضربوني ، ورماني وضرباني ، واضرباني واضربيني ، وأن يقولوا : يدعيّ ، وضربيّ واضربيّ ، ورماي ، وضرباي واضرباي واضربيّ ؛

قلت : ذلك إجراء لباب الفعل مجرى واحدا ، وحملا للفرع على الأصل ، لأن أصل الفعل هو الصحيح اللام الخالي من الضمائر المرفوعة المتصلة ، ولو لم تجلب له نون الوقاية لدخله الكسر ، فحمل عليه ما لم يكن ليدخله الكسر مع عدم النون أيضا ، وهو المعتل اللام ، والمتصل به الضمائر المذكورة ؛

قوله : «وإن وأخواتها» ، يعني بأخواتها : أنّ ، ولكنّ ، وكأنّ ؛ وأمّا ليت ولعلّ ، فسيجيء حكمهما بعد ،

وإنما جاز إلحاق نون الوقاية بأنّ وأخواتها لمشابهتها الفعل على ما يجيء في الحروف ، وأمّا جواز حذفها فلأن الإلحاق للمشابهة لا بالأصالة ، ولاجتماع الأمثال في : إن وأن وكأنّ ولكنّ ، إن الحقت مع كثرة استعمالها ؛

قوله : «ويختار في ليت» ، المشهور في «ليت» أن حذف نون الوقاية لا يجوز فيه إلا لضرورة الشعر ، لا في السعة ، كذا قال سيبويه (٢) وغيره ، قال :

__________________

(١) أي ياء المتكلم الواقعة بعد أحد هذه الثلاثة.

(٢) انظر الكتاب ج ١ ص ٣٨٦.

٤٥٢

٣٨٩ ـ كمنية جابر إذ قال ليتي

أصادفه وأفقد جلّ مالي (١)

قوله : «من وعن وقد وقط» ، كذا قال الجزولي : ان الإثبات فيها هو الأشهر ، وعند سيبويه : الحذف في هذه الكلم ضرورة لا تجوز إلا في الشعر ، قال :

٣٩٠ ـ أيها السائل عنهم وعني

لست من قيس ولا قيس مني (٢)

وقال :

٣٩١ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي

ليس الإمام بالشحيح الملحد (٣)

وإنما ألحق النون في هذه الكلم ، لما قلنا في «لدن» ، أي للمحافظة على السكون اللازم ، ولم يحافظ على الفتح والضم اللازمين ، قال سيبويه : (٤) يقال في «لد» لديّ ؛ ولو أضفت الكاف الجارّة إلى الياء لقلت : ما أنت كي ، لأن (٥) الاسم والحرف المبنيين على السكون يشابهان الفعل نحو : خذ وزن ، ويبعدان من الأسماء المتمكنة بلزومهما السكون الذي لا يدخلها فأجريا مجرى الفعل في إلحاق النون ؛

قوله : «وعكسها لعلّ» ، أي حذفها معها أولى ، لاجتماع اللامات فيه ، وهي مشابهة للنون ، قريبة منها في المخرج وليس بين الأولى والأخيرتين إلا حرف واحد ، أعني العين ،

__________________

(١) البيت لزيد الخيل وهو زيد بن مهلهل الذي سماه النبي صلّى الله عليه وسلّم : زبد الخير وقبله :

تمنى مزيد زيدا فلاقى

أخا ثقة إذا اختلف العوالي

ومزيد بكسر الميم وبالياء المثناة : رجل من بني أسد كان يتمنى أن يلقى زيدا فلما لقيه طعنه زيد فهرب منه ، وقوله كمنية جابر متعلق بقوله تمنى .. وقيل أراد بجابر قيس بن جابر فسماه باسم أبيه ؛

(٢) غير معروف القائل حتى إن بعض العلماء نسبه إلى بعض النحويين يعني أنه من صنعهم ؛ وقال ابن هشام :

في النفس من هذا البيت شيء ، لأنا لا نعرف له قائلا ، ولا نظيرا ؛

(٣) اختلف في قائل هذا البيت ، فنسبه الأعلم في شرح شواهد سيبويه ج ١ ص ٣٨٧ ، إلى أبي نخيلة ، وقيل انه لحميد الأرقط يعرض بابن الزبير وكان يكني بأبي خبيب وثناه لأنه أراد معه : مصعب بن الزبير ، وعلى أنه بصيغة الجمع يريد به أتباع عبد الله بن الزبير ؛

(٤) ج ١ ص ٣٨٧

(٥) هذا تعليل إلحاق النون لهذه الكلمات والمحافظة على سكونها ؛

٤٥٣

ولأن من لغاتها : لعنّ ؛

وكذا الحذف في «بجل» أولى من الإثبات وإن كان ساكن الآخر مثل قد ، وقط ، لكراهة لام ساكنة قبل النون وتعسّر النطق بها ؛

ولفظ «ليس» كليت ، أي أن الإثبات معها أولى ، كما قال : عليه رجلا ليسني (١) ، وجاء : ليسي ، قال :

إذ ذهب القوم الكرام ليسي (٢) ـ ٣٨٠

حملا على «غيري» ، وجاء : عساي ، حملا على «لعليّ» والأكثر : عساني ، ويجوز إلحاقها في أسماء الأفعال لأدائها معنى الفعل ، ويجوز تركها ، أيضا ، لأنها ليست أفعالا في الأصل ، حكى يونس : عليكني ، وحكى الفرّاء : مكانني ؛

وقوله :

ألا فتى من بني ذبيان يحملني

وليس حاملني إلا ابن حمّال (٣) ـ ٢٨٦

شاذ ، سواء جعلت النون للوقاية ، أو تنوينا ، كما ذكرنا في باب الإضافة ، وقد ذكر الكوفيون في فعل التعجب : إسقاط النون ، نحو : ما أقربي منك وما أحسني وما أجملي ؛ قال السيرافي : لست أدري : عن العرب حكوا ذلك ، أم قاسوه على مذهبهم في : ما أفعل زيدا ، لأنه اسم عندهم في الأصل؟ ؛

__________________

(١) تقدم أنه منقول عن سيبويه انظر الكتاب ج ١ ص ٣٨١ ،

(٢) تقدم ذكره في هذا الجزء

(٣) وهذا الشاهد أيضا تقدم ذكره في باب الإضافة من هذا الجزء ؛

٤٥٤

[ضمير الفصل]

[مواضعه وإعرابه]

[قال ابن الحاجب :]

«ويتوسط بين المبتدأ والخبر ، قبل العوامل وبعدها ، صيغة»

«مرفوع منفصل مطابق للمبتدأ ، يسمّى فصلا ، ليفصل بين»

«كونه نعتا وخبرا ، وشرطه أن يكون الخبر معرفة ، أو أفعل»

«من كذا ، نحو : كان زيد هو أفضل من عمرو ، ولا موضع»

«له عند الخليل وبعض العرب يجعله مبتدأ ، ما بعده خبر» ؛

[قال الرضى :]

قوله : «قبل العوامل» ، نحو : زيد هو المنطلق ، وقوله : «وبعدها» ، أي بعد دخول عوامل المبتدأ والخبر ، وهي باب «ظنّ» نحو : ظننته هو الكريم ، وباب «إنّ» نحو : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١) ، و «ما» الحجازية ، نحو : ما زيد هو القائم ، وباب «كان» نحو : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)(٢) ،

قوله : «صيغة مرفوع» ، لم يقل ضمير مرفوع ، لأنه اختلف فيه ، كما يجيء ، هل هو ضمير ، أو ، لا ، ولا يمكن الاختلاف في أنه صيغة ضمير مرفوع ؛ (٣)

__________________

(١) من الآية ١٦ في سورة القصص ،

(٢) من الآية ١١٧ في سورة المائدة ،

(٣) يعني أن التعبير بصيغة مرفوع أحوط لتصلح للمذهبين ،

٤٥٥

قوله : «مطابق للمبتدأ» ، أي في الإفراد وفرعيه ، والتذكير وفرعه ، والغيبة والتكلم والخطاب ، نحو : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ)(١) ، و: (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) ، (٢) و: (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ؛)(٣)

وربما وقع بلفظ الغيبة بعد حاضر ، لقيامه مقام مضاف غائب كقوله :

٣٩٢ ـ وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا (٤)

أي : يرى مصابي هو المصاب ؛

قوله : «يسمّى فصلا» ، هذا في اصطلاح البصريين ، قال المتأخرون : إنما سمّي فصلا ، لأنه فصل به بين كون ما بعده نعتا ، وكونه خبرا ، لأنك إذا قلت : زيد القائم ، جاز أن يتوهم السامع كون «القائم» صفة فينتظر الخبر ، فجئت بالفصل ، ليتعيّن كونه خبرا ، لا صفة ؛

وقال الخليل وسيبويه : (٥) سمّي فصلا لفصله الاسم الذي قبله عما بعده ، بدلالته على أنه ليس من تمامه ، بل هو خبره ، ومآل المعنيين إلى شيء واحد ، إلّا أن تقريرهما (٦) أحسن من تقريرهم ؛

والكوفيون يسمونه عمادا ، لكونه حافظا لما بعده حتى لا يسقط عن الخبريّة كالعماد للبيت ، الحافظ للسقف من السقوط ؛

__________________

(١) إنني بنونين من الآية ١٤ سورة طه ، وبنون واحدة من الآية ٣٠ في سورة القصص ،

(٢) من الآية ١٦ في سورة القصص

(٣) من الآية ١١٨ في سورة المائدة ،

(٤) من قصيدة جرير التي مطلعها :

سئمت من المواصلة العتابا

وأمسى الشيب قد ورث الشبابا

واختلف في معنى البيت الشاهد ، وقيل في تخريجه كلام كثير أسهله ما قاله الشارح هنا ، ورواه الأخفش هكذا :

وكم لي بالاباطح من صديق

وآخر لا يحبّ لنا إيابا

(٥) انظر سيبويه ج ١ ص ٣٩٤ ،

(٦) أي الخليل وسيبويه والمراد بتقريرهما ما ذكراه من التعليل ، وقوله أحسن من تقريرهم أي من تقرير المتأخرين :

٤٥٦

فالغرض من الفصل في الأصل : فصل الخبر عن النعت ، فكان القياس ألّا يجيء إلّا بعد مبتدأ بلا ناسخ ، أو منصوب بفعل قلب ، بشرط كونه معرفة غير ضمير وكون خبره ذا لام تعريف ، صالحا لوصف المبتدأ به ؛ وذلك أنه إذا دخل على المبتدأ ناسخ يتميز به الخبر عن النعت بسبب تخالف اعرابيهما ، نحو : كان أو إنّ أو ما الحجازية ، لم يحتج إلى الفصل ؛ وإذا كان المبتدأ نكرة ، لم يؤت بالفصل ، لأنه يفيد التأكيد ولا تؤكد النكرة ، إلا بما سبق استثناؤه في باب التأكيد (١) ؛

وإنما قلنا ان الفصل يفيد التأكيد ، لأن معنى : زيد هو القائم ، زيد نفسه القائم ، لكنه ليس تأكيدا (٢) ، لأنه يجيء بعد الظاهر والضمير ، والضمير لا يؤكد به الظاهر ، فلا يقال : مررت بزيد هو نفسه ، وأيضا ، يدخل عليه اللام نحو : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(٣) ، ولا يقال : إن زيدا لنفسه قائم ، وقد يجمع بين النفي والتأكيد بالضمير لاختلاف لفظيهما فيقال : ضربته هو نفسه ، وضربته إياه نفسه ، فيكون مثل قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٤) ،

ولا يقال ، عند سيبويه : ضربته هو هو ، ولا : ضربته هو إياه لاجتماع ضميرين بمعنى واحد ، وأجازه الخليل مع اختلاف الضميرين لفظا ، نحو : ضربته هو إياه ، ووافق سيبويه في منع المتفقين ؛

ولم يجوّز سيبويه ، بناء على ذلك : ظننته هو إيّاه القائم ، وإن جعلت أولهما فصلا والثاني تأكيدا ، لأن الفصل كالتأكيد من حيث المعنى كما مرّ ، قال : فإن فصلت بين الفصل والتأكيد ، نحو : أظنه هو القائم إيّاه ، جاز لعدم الاجتماع ؛

وإنما قلنا : كان حق المبتدأ الذي يليه الفصل ألّا يكون ضميرا ، لأنه إن كان ضميرا ،

__________________

(١) انظره في باب التأكيد من هذا الجزء ،

(٢) أي ليس تأكيدا بالمعنى الاصطلاحي عند النحاة ،

(٣) من الآية ٨٧ في سورة هود

(٤) الآية ٣٠ من سورة الحجر ، وهي أيضا ، الآية ٧٣ من سورة ص ؛

٤٥٧

أمن من التباس الخبر بالصفة ، لأن الضمير لا يوصف ، وقلنا : كان حق الخبر الذي بعد الفصل أن يكون معرفا باللام ، لأنه إذا كان كذا ، أفاد الحصر المفيد للتأكيد فناسب ذلك تأكيد المبتدأ بالفصل ؛

فالمبتدأ المخبر عنه بذي اللام : إن كان معرّفا بلام الجنس فهو مقصور على الخبر ، كقوله عليه السّلام : «الكرم التقوى ؛ والمال الحسب ؛ والدين النصيحة» ، أي : لا كرم إلا التقوى ، ولا حسب إلّا المال ، ولا دين إلا النصيحة ، لأن المعنى : كل الكرم التقوى

وإن لم يكن في المبتدأ لام الجنس فالخبر المعرف باللام مقصور على المبتدأ ، سواء كانت اللام في الخبر للجنس نحو : (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١) أي : لا عزيز إلا أنت ، فهو للمبالغة كقولك : أنت الرجل كل الرجل ، أو للعهد ، نحو : أنت الكريم ، أي : أنت ذلك الكريم ، لا غيرك ، وسواء كان اللام موصولا ، نحو : أنت القائم ، أو زائدا داخلا في الموصول نحو : أنت الذي قال كذا ،

ثم إنه اتسع في الفصل ، فأدخل حيث لا لبس بدونه أيضا ، وذلك عند تخالف المبتدأ والخبر في الإعراب نحو : كان زيد هو القائم ، وما زيد هو القائم ، وإنّ زيدا هو القائم ؛ وعند كون المبتدأ ضميرا ، نحو : (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، (٢) وعند كون الخبر ذا لام لا يصلح لوصفية المبتدأ ، كقولك : الدين هو النصيحة ، وعند كون الخبر : أفعل التفضيل ، لمشابهته ذا اللام ، ووجه المشابهة له ، كون مخصصه حرفا يقتضيه أفعل التفضيل معنى ، أعني «من» فهي ملتبسة به ومتحدة معه ، كما أن مخصص ذي اللام ، حرف متحد معه ، أي اللام ، ومن ثمة ، جاز : ما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل كذا ، ولكون «من» التفصيلية كاللام معنى ، لا يجتمعان ، فلا تقول : الأفضل من زيد ، كما يجيء في بابه ؛

__________________

(١) من الآية ١١٨ في سورة المائدة وتقدمت قريبا ؛

(٢) من الآية ٤٩ في سورة الحجر ؛

٤٥٨

وجوّز أهل المدينة مجيء الفصل بعد النكرة في نحو : ما أظن أحدا هو خيرا منك ، قال الخليل : (١) والله إنه لعظيم في المعرفة تصييرهم إيّاه لقوا ؛ يعني (٢) : إذا كان مستبعدا في المعرفة مع أنه قياسه ، كما مرّ ، فما ظنك بالنكرة ؛

وأجاز الجزولي وقوعه بين أفعلي تفضيل ، نحو : خير من زيد هو أفضل من عمرو ، ولست أعرف له شاهدا ؛

وكذا (٣) جوّز بعضهم وقوعه قبل المضاف إلى المعرفة ، كقوله تعالى : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) ، (٤) وجوّز بعضهم وقوعه قبل العلم نحو : إني أنا زيد ؛

والحق ، أن كل هذا ادعاء ، ولم تثبت صحته ببيّنة من قرآن أو كلام موثوق به ، ونحو قوله تعالى (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) ، ليس بنص ، إذ يحتمل أن يكون «أنا» مبتدأ ما بعده خبره ، والجملة خبر «انّ» ؛

بلى ، لو ثبت في كلام يصح الاستدلال به نحو : ما أظن أحدا هو خيرا منك ، وكان خير من زيد هو أفضل من عمرو ، ورأيت زيدا هو مثلك أو غيرك ، بنصب ما بعد صيغة الضمير المذكور في ذلك ، لحكمنا بكونه فصلا ، ولا يثبت ذلك بمجرد القياس ، وإلغاء الضمير ليس بأمر هيّن ، فينبغي أن يقتصر على موضع السماع ، ولم يثبت إلا بين معرفتين ثانيتهما ذات اللام ، أو بين معرفة ونكرة هي أفعل التفضيل ، كما ذكر سيبويه (٥) ؛

وأجاز المازني وقوعه قبل المضارع لمشابهته للاسم ، وامتناع دخول اللام عليه ، فشابه الاسم المعرفة ، قال تعالى : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)(٦) ، قال : ولا يجوز : زيد هو قال ،

__________________

(١) هذا الذي نسبه الشارح للخليل بن أحمد ، نقله عنه سيبويه في ج ١ ص ٣٩٧ والرضي نقله بشيء من التصرف ؛

(٢) أي الخليل ، وهو تفسير لقول الخليل المتقدم ؛

(٣) وقع في بعض النسخ التي أشير إليها بهامش المطبوعة ، اختلاف في هذا الموضع ، وبعد النظر فيه انتهيت إلى إثبات ما هنا ، وأرجو أن يكون هو الصواب إن شاء الله

(٤) من الآية ٦٩ سورة يوسف ؛

(٥) جاء ذلك في الجزء الأول ص ٣٩٧ من الكتاب لسيبويه ؛

(٦) الآية ١٠ سورة فاطر

٤٥٩

لأن الماضي لا يشابه الأسماء حتى يقال فيه كأنه اسم امتنع دخول اللام عليه ؛

وهذا الذي قاله ، أيضا ، دعوى بلا حجة ، وقوله تعالى : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) ، ليس بنص في كونه فصلا ، لجواز كونه مبتدأ ما بعده خبره ، وقوله : ولا يجوز : زيد هو قال ، ليس بشيء ، لقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) ، (١) وروي عن محمد بن مروان ، وهو أحد قراء المدينة : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ، (٢) بالنصب ، وكذا روي عن سعيد بن جبير ،

قال أبو عمرو بن العلاء (٣) احتبى (٤) ابن مروان في لحنه ؛ يعني بإيقاع الفصل بين الحال وصاحبها ؛

وقد أجازوا الفصل بين الخبرين إذا كان للمبتدأ خبران معرّفان باللام ، نحو : هذا الحلو هو الحامض ، حتى لا يلتبس الخبر الثاني بنعت الأول ، وأنا لا أعرف له شاهدا قطعيا ،

ولا يتقدم الفصل مع الخبر المتقدم نحو : هو القائم زيد ، لأمنهم من التباس الخبر بالصفة ، إذ الصفة لا تتقدم على الموصوف ؛

وجوّزه الكسائي ، كما جاز نحو قوله تعالى : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)(٥) ، مع الأمن من اللبس ،

هذا ، وإنما جيء بصيغة ضمير مرفوع منفصل مطابق للمبتدأ ، ليكون في صورة مبتدأ ثان ما بعده خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول فيتميّز بهذا السبب ، ذو اللام عن

__________________

(١) الآيتان ٤٣ ، ٤٤ سورة النجم ،

(٢) من الآية ٧٨ سورة هود ،

(٣) أبو عمرو بن العلاء أحد أئمة النحو المتقدمين وأحد القراء السبعة ، وقوله هذا نقله سيبويه عن يونس بن حبيب ج ١ ص ٣٩٧ ،

(٤) أي صار لحنه حبوة بمعنى أنه اشتمل عليه وأحاط به.

(٥) الآية ١١٧ المتقدمة ، من سورة المائدة ،

٤٦٠