محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
فعل مطلوبك ، فكأنك قلت : ما أطلب منك إلا فعلك ، ففعلت ، بمعنى المصدر ، مفعول به لما أطلب ، الذي دلّ عليه نشدتك الله ، وإنما جعلته فعلا ماضيا لقصد المبالغة في الطلب حتى كأن المخاطب فعل ما تطلبه ، وصار ماضيا ثم أنت تخبر عنه ، فهو مثل قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ) (١) ، و: (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ) (٢) ، وقولهم : رحمك الله ؛ ومعنى عزمت عليك ، أي أوجبت عليك ، وهو من قسم الملوك ؛
و «لمّا» في الاستثناء ، لا تجيئ إلا بعد النفي ظاهرا أو مقدرا كما رأيت ، ولا تجيئ إلا في المفرّغ نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣) ؛
__________________
(١) صدر كل من الآيتين ٧١ ، ٧٣ في سورة الزمر
(٢) من الآية ٥٠ سورة الأعراف
(٣) الآية ٢٢ سورة يس ؛
[خبر كان]
[وأخواتها]
[قال ابن الحاجب :]
«خبر كان وأخواتها ، هو المسند بعد دخولها ، مثل : كان»
«زيد قائما ، وأمره على نحو خبر المبتدأ ، ويتقدم معرفة» ؛
[قال الرضي :]
لمّا قال : هو المسند ، دخل فيه خبر المبتدأ ، وجميع ما كان في الأصل كذلك ، فقوله : بعد دخولها ، يخرجها كلها ، وقد ذكرنا أنه يدخل في حدّه ، نحو : قائم في قولك : كان زيد أبوه قائم ، مع أنه ليس بخبر كان ؛
قوله : «وأمره على نحو خبر المبتدأ» ، أي فيما يجوز له من كونه معرفة ونكرة ، ومفردا وجملة ، ومتقدما على المسند إليه ومتأخرا عنه ، وما يجب من تقدمه على الاسم إذا كان ظرفا والاسم نكرة ، نحو : كان في الدار رجل ، واشتماله على الضمير إذا كان جملة أو مشتقا أو ظرفا ، وغير ذلك من الأحكام المذكورة في باب المبتدأ ؛
وقد يختص خبر «كان» ببعض من الأحكام ، نذكر بعضها هنا ، وبعضها في الأفعال الناقصة ؛
فممّا قيل إنه من خصائصه ما ذهب إليه ابن درستويه (١) ، وهو أنه لا يجوز أن يقع
__________________
(١) ابن درستويه هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه ، الفارسيّ الأصل ، أخذ عن المبرد وثعلب وغيرهما من علماء عصره ، توفي ببغداد سنة ٣٤٧ ه ؛
الماضي خبر «كان» ، فلا يقال : كان زيد قام ، ولعل ذلك لدلالة «كان» على الماضي ، فيقع المضيّ في خبرها لغوا ، فينبغي أن يقال : كان زيد قائما أو يقوم ؛ وكذا ينبغي أن يمنع نحو : يكون زيد يقوم لمثل تلك العلة ، سواء ؛
وجمهورهم على أنه غير مستحسن ، ولا يحكمون بمطلق المنع ، قالوا : فإن وقع ، (١) فلا بدّ من «قد» ظاهرة أو مقدّرة ، لتفيد التقريب من الحال ، إذ لم يستفد من مجرّد «كان» ، وكذا قالوا في : أصبح وأمسى وأضحى ، وظلّ وبات ؛ وكذا ينبغي أن يمنعوا (٢) نحو : يصبح زيد يقول وكذا البواقي ،
والأولى ، كما ذهب إليه ابن مالك : تجويز وقوع خبرها ماضيا بلا «قد» ، فلا نقدرها في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ) (٣) ، و: (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ)(٤) ؛ وفي قول الشاعر :
٢٣٧ ـ وكان طوى كشحا على مستكنّة |
|
فلا هو أبداها ولم يتقدم (٥) |
ولا في قوله :
٢٣٨ ـ أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا |
|
أخنى عليها الذي أخنى على لبد (٦) |
إذ لا منع (٧) من قيام شيئين يفيدان معنى واحدا ؛
__________________
(١) أي إن وقع خبرها ماضيا ،
(٢) المناسب أن يقول : ينبغي ألّا يستحسنوا ،
(٣) الآية ١٥ في سورة الأحزاب
(٤) الآية ٢٧ في سورة يوسف ؛
(٥) من معلقة زهير بن أبي سلمى وقد تضمنت حديثا عما كان بين عبس وذبيان ، وفيه أن حصين بن ضمضم امتنع عن الصلح ، واستتر من الناس ، وهو المقصود بهذا البيت وقيله :
لعمري لنعم الحيّ جرّ عليهم |
|
بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم |
(٦) هذا من معلقة النابغة الذبياني وتقدمت بعض أبيات منها ، ولبد : اسم أحد النسور التي قالوا إن لقمان الحكيم أعطى عمر سبعة منها ، والنسور أطول الطيور أعمارا ، ولبد كان آخرها ؛
(٧) تعليل لقوله : والأولى تجويز وقوع خبرها .. الخ ؛
ومنع ابن مالك ، وهو الحق ، من مضيّ خبر «صار» و «ليس» و «ما دام» ، وكل ما كان ماضيا من : ما زال ولا زال ومرادفتها (١) ،
أمّا «صار» فلكونها ظاهرة في الانتقال ، في الزمن الماضي ، إلى حالة مستمرة ، وهي مضمون خبرها ، نحو : كنت فقيرا فصرت غنيا ، وإن جاز مع القرينة ألّا يستمرّ به الحال المنتقل إليها ، كقول المريض : كنت مريضا ثم صرت متماثلا ، ثم نكست ؛
وكذلك ما زال وأخواتها ، موضوعة لاستمرار مضمون أخبارها في الماضي إلا أن تمنع قرينة ، وما يصلح للاستمرار هو الاسم الجامد ، نحو : هذا أسد ، أو الصفة ، نحو : زيد قائم ، أو غنيّ ، أو مضروب ، أو الفعل المضارع نحو : زيد يقدم في الحروب ، ويسخو بموجوده ، أي هذه عادته ، لأنه وإن كان في الأصل فعلا دالّا على أحد الأزمنة ، إلا أنه ، لمضارعته اسم الفاعل لفظا ومعنى ، يستعمل غير مفيد للزمان استعماله (٢) ، فلذلك إذا قلت : كنت رأيت زيدا ، لا يدل على الاستمرار ، وإذا قلت : كنت أراه ، فظاهره الاستمرار ؛ فناسبت الثلاثة ، أي الجامد ، والصفة ، والمضارع ، لصلاحيتها للاستمرار ، أن تقع أخبارا لصار ، وما زال وأخواتها ، بخلاف الماضي ، فإنه لا يستعمل في الاستمرار استعمال هذه الثلاثة ، فلم يقع خبرا لهذه الأفعال ؛
وأمّا «ما دام» فلم يقع خبرها ماضيا ، لأن «ما» المفيدة للمدة (٣). نحو : ما درّ شارق ، تقلب الماضي في الأغلب إلى معنى الاستقبال ، كما يجيئ في قسم الأفعال ، فلهذا تقول : اجلس ما دام زيد جالسا ، وقد تجيئ بمعنى الماضي ، كقوله تعالى : (مَا دُمْتُ حَيًّا) (٤) ،
وأمّا «ليس» ، فهي للنفي مطلقا ، كما هو مذهب سيبويه ، على ما نبيّن في الأفعال
__________________
(١) ما فتئ ، وما برح وبقية الأفعال التي يشترط فيها دخول النفى وكذلك في قوله بعد : ما زال وأخواتها ؛
(٢) أي مثل استعمال اسم الفاعل ،
(٣) أي للزمان ويسمونها المصدرية الظرفية ؛
(٤) من الآية ٣١ من سورة مريم ؛
الناقصة ، والمستعمل للإطلاق من دون تعرض للزمان ، إمّا جامد ، أو صفة ، أو مضارع لمشابهته اسم الفاعل بخلاف الماضي ؛
وأجاز الأندلسيّ وقوع أخبارها جميعها ماضية ، والأولى ما تقدم لعدم السماع ؛
قوله : «ويتقدم معرفة» ، هذا بخلاف خبر المبتدأ ، لأنه لم يجز تقدمه على المبتدأ إذا كانا معرفتين ولا قرينة للإلباس ، أمّا ههنا فلا لبس وإن كانا معرفتين ، أو متساويين ، لأن تخالف اعرابهما رافع للّبس ، ويكفي ظهور اعراب أحدهما ، نحو : كان زيد هذا ؛
وينبغي ههنا ، أيضا ، إذا انتفي الاعراب ولا قرينة : ألّا يجوز التقديم نحو : كان الفتى هذا ؛
[حذف كان]
[قال ابن الحاجب :]
«وقد يحذف عامله في مثل : الناس مجزيّون بأعمالهم ، إن»
«خيرا فخير ، ويجوز في مثله أربعة أوجه ؛ ويجب الحذف»
«في مثل : أمّا أنت منطلقا انطلقت ، أي لأن كنت» ؛
[قال الرضي :]
قوله : «عامله» ، أي عامل خبر «كان» وأخواتها ؛ وما كان ينبغي له هذا الاطلاق ، لأنه لا يحذف من هذه الأفعال إلّا «كان» ؛
واعلم أنه يجوز حذف «كان» مع اسمها بعد : إن ولو ، إن كان اسمها ضمير ما علم من حاضر أو غائب ، نحو : اطلبوا العلم ولو بالصين ؛ أي ولو كان العلم بالصين ، وادفع الشرّ ولو إصبعا ، أي : ولو كان الدفع اصبعا ، أي قليلا ؛ وقوله :
٢٣٩ ـ قد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا |
|
فما اعتذارك من قول إذا قيلا (١) |
__________________
(١) من أبيات قالها النعمان بن المنذر للربيع بن زياد ، وكان مقرّبا إلى النعمان فوشي بينهما لبيد بن ربيعة بقصة جعلت النعمان ينفر من الربيع وينحيه عن مجلسه ، وحاول الربيع أن ينفي ما نسبه لبيد إليه ويبرّئ نفسه فلم يقبل منه النعمان وقال له أبياتا. أولها :
شرّد برحلك عني حيث شئت ولا |
|
تكثر عليّ ودع عنك الأقاويلا ، |
إلى آخر ما قال ومنها هذا البيت ،
أي : إن كان حقا ، وتقول : لأرتحلنّ إن فارسا وإن راجلا ، ولو فارسا ولو راجلا ، أي إن كنت ، ولو كنت ؛
وأمّا في مثل التركيب الذي في المتن ، أعني أن يكون بعد «إن» اسم ، وجزاؤها بالفاء ، وبعد الفاء اسم مفرد ، نحو : المرء مقتول بما قتل به ، إن سيفا فسيف ، وإن خنجرا فخنجر ، فتقول : ننظر فيه ، فإن جاز مع «كان» المحذوفة بعد «إن» : تقدير «فيه» أو «معه» أو نحو ذلك ، كما في قوله : الناس مجزيون بأعمالهم ... ؛ فإنه يصح أن يقال : إن كان معه ، أو في عمله (١) ؛ جاز في الأول مع النصب : الرفع أيضا ،
ولكن على ضعف معنوي ، إذ معنى : إن كان معه ، أو في يده سيف ، و: إن كان في عمله خير : معنى غير مقصود ، لأن مراد المتكلم : إن كان نفس عمله ، خيرا ، وإن كان ما قتل به سيفا ، لا : أن له أعمالا وفي تلك الأعمال خير ، ولا أن في يده ، أو في صحبته وقت القتل سيفا ؛
هذا الذي قلنا ، ضعف من حيث المعنى ، وأمّا من حيث اللفظ ، فضعيف ، أيضا ، لأن حذف «كان» مع خبره ، الذي هو في صورة المفعول الفضلة ، حذف شيء كثير ، ولا سيّما إذا كان الخبر جارّا ومجرورا بخلاف حذفه مع اسمه الذي هو كجزئه ، ولا سيّما إذا كان ضميرا متصلا ؛
فإن قلت : فقدّر للرفع : «كان» التامة ؛
قلت : يضعف لقلة استعمالها ، ولا يحذف إلا كثير الاستعمال للتخفيف ، ولكون الشهرة دالة على المحذوف ؛
وإن لم يحسن تقدير مثل ذلك ، تعيّن نصب الأوّل ، نحو : أسير كما تسير ، إن راكبا فراكب ، وإن راجلا فراجل ، أي : إن كنت راكبا فأنا راكب ؛
__________________
(١) المناسب أن يقول في شرح الأثر : إن كان معهم أو في عملهم بصيغة الجمع ،
وربّما جرّ ما بعد «إن» أو ، «إن لا» مع ما بعد فائهما ، إن صح رجوع ضمير «كان» المقدر إلى مصدر ما عدّي بحرف الجر ، نحو : المرء مقتول بما قتل به : إن سيف فسيف ، أي إن كان قتله بسيف فقتله أيضا بسيف (١) ،
وحكي عن يونس : مررت برجل صالح ، إن لا صالح فطالح ، أي : إن لا يكن المرور بصالح فالمرور بطالح ، ومررت برجل : إن زيد وإن عمرو ، وذلك لقوّة الدلالة على الجارّ بتقدم ذكره ؛
فتبيّن بما ذكرنا ، أن النصب في الأول ، إمّا مختار ، أو واجب ، وأمّا الاسم الذي بعد الفاء فرفعه أولى ، لأن رفعه بإضمار مبتدأ بعد الفاء ، وهو شائع كثير ، وأمّا نصبه فإمّا بتقدير «كان» بعد الفاء ، أي : فيكون ما يقتل به سيفا ، أو بتقدير فعل لائق ؛ نحو : فيجزى خيرا ؛ وحذف المبتدأ أولى ، لأنه مفرد ، من حذف الجملة ، وأيضا ، حذف المبتدأ ، أكثر من حذف «كان» وغير ذلك من نحو الفعل الناصب المذكور ؛
وقيل : (٢) لأنّ مجيئ الفاء مع الجملة الاسمية أكثر منه مع الفعلية ، ويجوز أن يقال : إن مجيئ الفاء في الفعلية ، إنما يقلّ إذا كان الفعل ظاهرا ، وأمّا إذا كان مقدّرا فلا بدّ من الفاء ، نحو : إن ضربتني فزيدا ضربته ؛
فإذا ثبت أن نصب الأول ورفع الثاني أصل ، فعكسه يكون أقبح الوجوه لمخالفة الأصل في الموضعين ؛ ورفعهما ، ونصبهما ، متوسطان ، لمخالفة الأصل في موضع واحد ؛
قوله : «ويجب الحذف» ، أي : يجب حذف «كان» بعد «أن» معوّضا منها «ما» نحو قوله :
__________________
(١) أي إن كان القتل الذي وقع منه بسيف ، فالقتل الذي يقع عليه ، بسيف ،
(٢) هذا وجه آخر لبيان أرجحية رفع الثاني ، ولكن عقب عليه الرضي بما ينتقضه ؛
٢٤٠ ـ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر |
|
فإن قومي لم تأكلهم الضبع (١) |
أي لأن كنت ، فحذف حرف الجر ، جوازا على القياس المذكور في المفعول له ، ثم حذفت «كان» وأبدل منها «ما» فوجب الحذف ، لئلّا يجمع بين العوض والمعوّض منه ،
وأجاز المبرد ظهور «كان» على أن «ما» زائدة ، لا عوض ، ولا يستند ذلك إلى سماع ؛
ثم أدغم (٢) النون الساكنة في الميم وجوبا ، فبقي الضمير المرفوع المتصل بلا عامل يتصل به ، فجعل منفصلا ، فصار : أمّا أنت ؛ وتقول أيضا ، أمّا زيد قائما قمت ؛
وقال الكوفيون : «أن» المفتوحة ، بمعنى المكسورة الشرطية ، ويجوّزون مجيئ «أن» المفتوحة شرطية ، قالوا (٣) : القراءتان في قوله تعالى : (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا) (٤) ، أي فتح الهمزة وكسرها بمعنى واحد ، أي بمعنى الشرط ، و «ما» عندهم ، عوض من الفعل المحذوف ؛
ولا أرى قولهم بعيدا من الصواب ، لمساعدة اللفظ والمعنى إياه ، أمّا المعنى فلأن معنى قوله : أمّا أنت ذا نفر ... البيت : إن كنت ذا عدد ، فلست بفرد ، (٥) وأمّا اللفظ ، فلمجيئ الفاء في هذا البيت ؛
وفي قوله :
__________________
(١) أكل الضبع للناس ، كناية عن ضعفهم ، وذلك أن الناس إذا أجدبوا وقل طعامهم ضعفوا عن الدفاع عن أنفسهم وسقطت قواهم ، فتنتشر بينهم الضباع آمنة لا يستطيعون ردّها ، فتأكلهم ؛ والبيت للعباس بن مرداس السلمي ، يخاطب خفاف بن ندبة ، وكنيته أبو خراشة ، وهو أحد فرسان العرب ، وكانت بينه وبين العباس مهاجاة ؛
(٢) مرتبط بقوله : حذفت كان وأبدل منها الميم .. الخ ، واعترض بينهما بذكر رأي المبرد ؛
(٣) أي في الاستدلال على جواز مجيئها شرطية ،
(٤) الآية ٢٨٢ سورة البقرة ،
(٥) يعني إن كان عدد قومك كثيرا ، فليس عدد قومي قليلا ؛
٢٤١ ـ إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا |
|
فالله يكلأ ما تأتي وما تذر (١) |
مع عطف : أمّا أنت بفتح الهمزة على : إمّا أقمت بكسرها ؛ وهي حرف شرط بلا خلاف ؛
والبصريون يقولون : أمّا أنت منطلقا ، أنطلق معك بالرفع ، والكوفيون جوّزوا جزمه بأن المفتوحة الشرطية ، وجوّزوا الرفع مع كونه جواب الشرط لكون الشرط محذوفا حذفا لازما ؛
ولما كان معنى الشرط ههنا ظاهرا ، قال سيبويه : دخل في «أن» معنى «إذ» ، فأمّا بمعنى : اذ ما ، واذ ما ، شرطية بلا خلاف ؛
ولا بدّ عند البصريين من تقدير فعل يعمل في الجار والمجرور ، أعني في : أمّا أنت ذا نفر ، الذي هو بمعنى : لأن كنت .. ولا يصلح أن يكون (٢) ذلك : لم تأكلهم ، لأن معمول خبر «إنّ» لا يتقدم عليها ، وأما نحو : أمّا يوم الجمعة فإن زيدا قائم ، فسيجيئ الكلام عليه في حروف الشرط ، وأيضا ، ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبل الفاء إلا مع «أمّا» الشرطية ، إمّا ظاهرة ، كما في قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٣) ، وإمّا مقدّرة كما في قوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٤) ، كما يجيئ في حروف الشرط ، فيقدر (٥) البصريون : أمّا أنت ذا نفر ، تتكبّر وتفتخر ؛
وينبغي ، على هذا ، أن يكون قوله : فالله يكلأ ، جواب إما أقمت ، والعامل في :
أمّا أنت مرتحلا : محذوف ، أي : يكلؤك الله لأجل ارتحالك ، وكله تكلف ؛ والأولى أن نقول :
__________________
(١) قال البغدادي في الخزانة بعد أن شرح هذا البيت : وهذا البيت ، مع استفاضته في كتب النحو ، لم أظفر بقائله ، ولا بتتمته ، ويريد بتتمته أنه لا يوجد شيء قبله ولا بعده ، وكذلك قال السيوطي في شواهد المغني ،
(٢) أي الفعل الذي لا بد من تقديره ليتعلق به الجار والمجرور ،
(٣) الآية ١١ سورة الضحى ،
(٤) الآية ٣ سورة المدثر ،
(٥) هذا مرتبط بقوله : ولا بدّ عند البصريين من تقدير فعل ، فهذا نتيجة لرأيهم وبيان لتقدير الفعل في المثال الذي هو موضع البحث ؛
انّ «إن» الشرطية ، كثيرة الاستعمال ، مع كان الناقصة ، فإن حذف شرطها جوازا ، لم يغيّر حرف الشرط عن صورته ، نحو : إن سيفا فسيف ، وإن حقا وإن كذبا ؛ وكذا إن حذف شرطها وجوبا مع مفسّر ، كما في : إن زيد كان منطلقا ؛ وإن حذف شرطها وجوبا بلا مفسّر ، وجب تغيير صورتها ، من كسر الهمزة إلى فتحها ، لأن بقاءها على وضعها الأصلي مع قطعها وجوبا عن مقتضاها الأصلي بلا مفسر هو كالعوض : مستكره ، (١) فإذا غيّرت عن حالها الوضعي ، سهل حذف شرطها على سبيل الوجوب ، لأنها تصير كأنها ليست في الظاهر حرف الشرط ، ولا بدّ ، إذن ، من «ما» لتكون كالكافّة لها عن مقتضاها ، أعني الشرط ؛ ثم لا يخلو حالها عند ذلك من أن تحذف منها «كان» مع اسمها وخبرها ، أو تحذفها وحدها ، فإن كان الأول ، وجب في جزائها الفاء لتؤذن بها أنّ «أمّا» في الأصل حرف شرط ، لأن الفاء علم السببيّة ، فجيئ بها لمّا تغيّرت صورة حرف السببية أعني «إن» ؛ وسقط على سبيل الوجوب جميع أجزاء السبب ، أعني : كان مع اسمها وخبرها ، وذلك نحو : أمّا زيد فمنطلق ، أي : أمّا يكن في الدنيا شيء ، فزيد منطلق ، أي إن يكن شيء موجودا ، يوجد انطلاق زيد ، أي هو منطلق لا محالة ، فلا بدّ ، إذن ، من اقامة جزء من الجزاء مقام الشرط ، لأنه لم يبق منه شيء ، كما يجيئ في حروف الشرط ؛
وإن كان الثاني ، فالفاء غير لازمة ، بل يجوز حذفها والإتيان بها ، نحو : أمّا زيد منطلقا ، انطلقت ، وأمّا أنت ذا نفر فإن قومي ... ؛
وأمّا فتح همزة «إن» الشرطية ، من دون حذف الشرط ، كما أثبته الكوفيون فليس بمشهور ؛
وقد تحذف «كان» بعد «إمّا» المكسورة قليلا ؛ وقال سيبويه (٢) : لم يجز حذف الفعل مع «إمّا» المكسورة ؛ وقال أبو علي (٣) : لأن «ما» التي بعدها ، أشبهت اللام في تأكيد
__________________
(١) خبر عن قوله : لأن بقاءها ، وقوله قبل ذلك : هو كالعوض ، صفة لمفسّر ؛
(٢) ج ١ ص ١٤٨ ، وهو بمعناه ،
(٣) أي الفارسي ، تعليلا لقول سيبويه ؛
الفعل ، فمن ثمّ جاز في : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ) (١) ، و:
٤٢٤ ـ ومن عضه ما ينبتنّ شكيرها (٢)
النون (٣) ، كما جازت مع اللام في نحو : لتفعلنّ ، كما يجيئ في نون التوكيد ، فلم يحسن حذف الفعل ، مع ثبوت ما يؤكده ؛
وقد جاءت كان الناقصة محذوفة بعد «لدن» ، وأخواته (٤) ، نحو رأيتك لدن قائما ، أي لدن كنت قائما ، قال ،
٢٤٣ ـ من لد شولا فإلى إتلائها (٥)
أي : من لد كانت شولا ، والإتلاء : أن تلد الناقة ، فتصير ذات تلو ؛ (٦)
__________________
(١) الآية ٥٨ سورة الأنفال
(٢) العضه بالهاء : واحدة العضاه نوع من الشجر وقيل إنه بالتاء في آخره محذوف اللام مثل شفة والشكير ما ينبت حولها من الشوك ؛ أو من صغارها ، وهو مثل يضرب لمشابهة الولد لأبيه وقد أورده سيبويه هكذا ج ٢ ص ١٥٣ من غير اشارة إلى أنه شعر ، ولعل ذلك هو السبب في أن شارح شواهده لم يكتب عليه ؛ وقد ورد هذا المثل ضمن بيتين من الشعر ، صدر في أحدهما ، وتمامه : قديما ويقتط الزناد من الرند ، وعجز في الآخر وصدره :
إذا مات منهم سيّد سرق ابنه ، ولم ينسب أي منهما إلى قاتل ،
(٣) أي نون التوكيد ، وهو فاعل لقوله فمن ثم جاز في وإما تخافن الخ ،
(٤) يريد : اللغات المستعملة في لدن ،
(٥) هذا من شواهد سيبويه التي لم يعرف لها قائل ، وهو في سيبويه ج ١ ص ١٣٤ ، وعبارته : ومن قول العرب ..
وربما كان ذلك دليلا على أنه مثل وليس شعرا ؛ والشول جمع شائل ، وهو خاص بالناقة التي تتهيّأ للحمل ، وإلى اتلائها أي إلى أن تلد كما قال الشارح ،
(٦) التلو بكسر التاء : ولد الناقة لأنه يتلوها أي يتبعها ،
[اسم انّ]
[وأخواتها]
[قال ابن الحاجب :]
«اسم انّ وأخواتها ، هو المسند إليه بعد دخولها ، مثل إنّ زيدا»
«قائم» ؛
[قال الرضي :]
ينتقض بمثل : أخوه ، في قولك : إن زيدا قائم أخوه (١) ؛
[المنصوب]
[بلا التي لنفي الجنس]
[قال ابن الحاجب :]
«المنصوب بلا التي لنفي الجنس هو المسند إليه بعد دخولها ،»
«يليها ، نكرة ، مضافا أو مشبها به ، مثل : لا غلام رجل لك ،»
__________________
(١) هكذا اقتصر الرضي على هذه العبارة في شرح كلام ابن الحاجب هنا ؛
«ولا عشرين درهما لك ؛ فإن كان مفردا فهو مبني على ما»
«ينصب به وإن كان معرفة ، أو مفصولا بينه وبين لا ، وجب»
«الرفع والتكرير ؛ ونحو : قضية ولا أبا حسن لها ، متأول» ؛
[قال الرضي :]
لم يقل : اسم «لا» التي لنفي الجنس ، كما قال : اسم «ان» وأخواتها ، لأن كلامه في المنصوبات ، وجميع ما هو اسم «لا» المذكورة ليس منصوبا (١) ، بل بعضه مبني ، نحو : لا رجل ، فلما قصد المنصوب ، احتاج إلى التمييز ، بالتقييدات المذكورة ، لأن اسم «لا» ، لا يكون منصوبا إلا باجتماعها ، وهي ثلاثة ، كونه نكرة ، وكونه مضافا ، أو مشبّها به ، وأن يليها ، فلو اختل واحد منها ، لم ينتصب ، كما يجيئ ، ولو قصد إلى اسم «لا» من حيث كونه اسمها ، لكان يكفيه أن يقول ، كما هي عادته : هو المسند إليه بعد دخولها ؛ (٢)
قوله : يليها ، ونكرة ، ومضافا : أحوال مترادفة ، والعامل فيها «المسند» وذو الحال : الضمير المجرور في «إليه» ؛
قوله : «لا غلام رجل لك» ، مضاف ، وقوله : لا عشرين درهما لك : مضارع له ، وقد بيّنّا المضارع للمضاف في باب المنادى ، (٣)
قوله : «فإن كان مفردا» ، أي : فإن كان اسم «لا» مفردا ، ولم يجر ذكر اسم «لا» تصريحا ، لكن سياق الكلام يدل عليه ؛ ولا يعود الضمير إلى قوله : المنصوب بلا ، لأن المنصوب بلا ، لا يكون مفردا ؛
__________________
(١) حقه أن يقول : وليس جميع ما هو اسم لا منصوبا بل بعضه مبني ،
(٢) أي كان يكفيه أن يقتصر على هذه العبارة بدون ذكر شروط أخرى ،
(٣) ص ٣٥٤ من الجزء الأول ،
قوله : «على ما ينصب به» ، هذا أولى ، كما مرّ في المنادى ؛ من قولهم : مبني على الفتح ، فدخل فيه نحو : لا غلامين لك ، ولا مسلمين لك ؛ ويعني بالمفرد : ما ليس بمضاف ولا مضارع له ، فدخل فيه المثنى والمجموع ؛
والفتحة في : «لا رجل» عند الزجاج والسيرافي : اعرابية ، خلافا للمبرد والأخفش وغيرهما ، وإنما وقع الاختلاف بينهم لإجمال قول سيبويه ، وذلك أنه قال : (١) و «لا» تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين ، ثم قال : وإنما ترك التنوين في معمولها لأنها جعلت هي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد كخمسة عشر ؛ فأوّل المبرد قوله : تنصبه بغير تنوين ، بأنها نصبته أولا لكنة بني بعد ذلك فحذف منه التنوين للبناء ، كما حذف في خمسة عشر ، للبناء ، اتفاقا ؛ وقال الزجاج : بل مراده أنه معرب ، لكنه مع كونه معربا ، مركب مع عامله لا ينفصل عنه ، كما لا ينفصل عشر ، من خمسة ، فحذف التنوين مع كونه معربا لتثاقله بالتركيب مع عامله ؛
قال أبو سعيد (٢) : إنما ركب مع عامله ، لإفادة «لا» التبرئة (٣) ، للاستفراق كما أفادته «من» الاستفراقية في : هل من رجل في الدار ، لأن «لا رجل في الدار» جواب : هل من رجل ، فركبوا «لا» مع النكرة ، كما أن «من» مركبة معها ، تطبيقا للجواب بالسؤال ، ثم حذف التنوين لتثاقل الكلمة بالتركيب ، مع كونها معربة ؛
والأولى ما ذهب إليه المبّرد وأصحابه ، لأن حذف التنوين في حالة الوصل من الاسم المنون ، لغير الإضافة والبناء : غير معهود ، وأيضا : التركيب بين «لا» والمنفي ، ليس بأشدّ منه بين المضاف والمضاف إليه ، والجار والمجرور ؛ ولا يحذف التنوين من الثاني في الموضعين ؛
__________________
(١) هذا في سيبويه ج ١ ص ٣٤٥ ، وما بعدها ، وكذلك النقل الآتي قريبا عن سيبويه ، وكثير مما نقله هنا ، وارد بمعناه أو بلفظه في هذا الموضع من سيبويه
(٢) أي السيرافي ،
(٣) وضحنا فيما سبق معنى تسميتها لا التبرئة ؛
وقال سيبويه : إنما حذف التنوين من المنفي ، لأن «لا» ، لا تعمل الّا في النكرة ، و «لا» ومعمولها في موضع ابتداء ، فلما خولف بها عن حال أخواتها ، خولف بلفظها ؛ يعني أن اختصاصها بالتنكير ، وكون ما بعدها مبتدأ : سبب بناء معمولها ، على مذهب من قال ببنائه ، أو سبب حذف تنوين معمولها عند من قال باعرابه ، لأنها بمجموع الشيئين خالفت سائر العوامل ، كانّ وأخواتها ، فخولف بمعمولها سائر المعمولات ؛
وهذا ضعيف ، أعني بناء المعمول ، أو حذف التنوين منه لمخالفة العامل أخواته ؛ والحق أن نقول : أنه مبني لتضمنه لمن الاستفراقية ، وذلك لأن قولك : لا رجل ، نصّ في نفي الجنس ، بمنزلة : لا من رجل ، بخلاف : لا رجل في الدار ولا امرأة ، فإنه وإن كانت النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، لكن لا نصاّ بل هو الظاهر ؛ كما أنّ : ما جاءني من رجل ، نصّ في الاستفراق ، بخلاف : ما جاءني رجل ، إذ يجوز أن يقال : لا رجل في الدار ، بل رجلان ، وما جاءني رجل ، بل رجلان ، ولا يجوز : لا رجل في الدار ، بالفتح ، بل رجلان ، وما جاءني من رجل بل رجلان للزوم التناقض ، فلما أرادوا التنصيص على الاستفراق ، ضمنوا النكرة معنى «من» فبنوها ؛ وإنما بنيت على ما تنصب به ، ليكون البناء على حركة استحقتها النكرة في الأصل قبل البناء ؛
ولم يبن المضاف ، ولا المضارع له ، لأن الإضافة ترجح جانب الاسمية فيصير الاسم بها إلى ما يستحقه في الأصل ، أعني الإعراب ، ولا يكون مضاف مبني إلا نادرا ، نحو : خمسة عشرك ، ونحوه ؛
ومن قال : المنفي معرب حذف تنوينه ، دلالة على كونه مركبا مع «لا» ، قال : لم يركب المضاف ، والمضارع له ، لأنه لا يركب أكثر من كلمتين ؛
وأمّا نحو : لا رجل ظريف (١) ، فسيجيئ حكمه ؛
ونحو : لا مسلمين ولا مسلمين ، مبني خلافا للمبرد ، فإن قال (٢) به لأن النون كالتنوين
__________________
(١) أي بتركيب الاسم مع صفته ،
(٢) فإن قال أي المبرد ، به أي بالإعراب المستفاد من قوله : مبني خلافا للمبرد ،
الذي هو دليل الإعراب ، فمنقوض بنحو : يا زيدان ، ويا زيدون ، وهما مبنيان مع وجود النون ، إذ لو كانا معربين لقيل : يا زيدين ويا زيدين ، والنون ليست كالتنوين في الدلالة على التمكن كما مرّ في أول الكتاب (١) ؛ ونقل عنه (٢) أنه قال : لأن المثنى والمجموع في حكم المعطوف والمعطوف عليه ، والمعطوف عليه : مضارع للمضاف فيجب النصب ؛ وردّ بأن المعطوف في باب «لا» مبني ، نحو : لا رجل وامرأة ، وله أن يقول (٣) : أردت عطف النسق الذي يكون التابع والمتبوع فيه كاسم واحد ، كما ذكرنا في النداء في نحو : ثلاثة وثلاثين ، ولا شك أن المثنى والمجموع مثل هذا المنسوق ، لكنه ينتقض بيا زيدان ويا زيدون : وقيل : إنما قال ذلك ، لأنه ليس شيء من المركبات يثنى فيه الجزء الثاني ويجمع ، والجواب : أنه لم يقم دليل قاطع على أن «لا» مركب مع المنفي ، كما يجيئ بيانه ، ولو سلمنا ، فليس بناؤه للتركيب كما مرّ بيانه ، وإن سلمنا فنحن نقول : حضرموتان ، وحضرموتون ، في المسمّى بحضرموت ، كما يجيئ في باب المثنى ؛
وأمّا جمع سلامة المؤنث فبعضهم يبنيه على الكسر مع التنوين ، قياسا لا سماعا ، نظرا إلى أنّ التنوين للمقابلة ، لا للتمكن ، بدليل قوله تعالى : (مِّنْ عَرَفَاتٍ) (٤).
وهو منقوض (٥) بنحو : يا مسلمات ، مجردا عن التنوين ، اتفاقا ؛
والجمهور يكسرونه بلا تنوين ، لأنها (٦) وإن لم تكن للتمكن ، فهي مشبهة لتنوين التمكن ، فيكون على هذين القولين داخلا في عموم قوله : يبني على ما ينصب به ؛
__________________
(١) ص ٨٣ من الجزء الأول
(٢) عنه أي عن المبرد في تعليل القول بالإعراب ،
(٣) أي له أن يعتذر عن الردّ بأن المعطوف مبني ؛
(٤) جزء من الآية ١٩٨ سورة البقرة ،
(٥) وهو منقوض ، أي القول ببناء جمع المؤنث على الكسر مع التنوين ؛
(٦) يتكرر في كلام الرضي التعبير عن التنوين وعن بعض الأدوات ، مرة بالمذكر ومرة بالمؤنث وذلك جائز باعتبار ذلك لفظا ، أو كلمة ، ولكنه قد يجمع بين الأسلوبين في وقت واحد ، وقد أصلحت ما سهل اصلاحه من ذلك ؛
والمازني يفتحه بلا تنوين ، نحو قوله :
٢٤٤ ـ إن الشباب الذي مجد عواقبه |
|
فيه نلذّ ولا لذّات للشيب (١) |
حذرا (٢) من مخالفته في الحركة لسائر المبني بعد «لا» التبرئة ، مما كان معربا بالحركة قبل دخولها ، وهذا أولى ممّا قبله ، طردا للباب على نسق واحد ؛
واعلم أن الجارّ ، إذا دخل على «لا» التبرئة ، منع من بناء المنفي بعدها ، نحو قولك : كنت بلا مال ، وغضبت من لا شيء ، وذلك لتعذر تقدير «من» بعدها ، إذ لا يجوز : بلا من مال ؛ وأيضا ؛ فإن عمل «لا» إنما كان لمشابهتها «انّ» ، كما يجيئ ، وبتوسطها يبطل الشبه ، لأنّ «إنّ» لا بدّ لها من التصدّر ، وربّما فتح (٣) ، نظرا إلى لفظ «لا» ، فقيل : كنت بلا مال ، وذلك كما بني مع «لا» الزائدة ، نظرا إلى لفظها ، كما أنشد الأخفش :
٢٤٥ ـ لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها |
|
إذن ، للام ذوو أحسابها عمرا (٤) |
فلا ، زائدة ، وقد اعتبرت فبني الاسم لها ، فما ظنك بجواز البناء ، مع عدم زيادتها ، لكنه ، مع ذلك ، قليل ؛
ونحو قوله تعالى : (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) (٥) ، عند سيبويه ، وجمهور النحاة ، الظرف بعد المنفي لا يتعلق بالمنفي ، وإلا كان مضارعا للمضاف فانتصب ، كما في : لا خيرا من زيد عندنا ، بل الظرف متعلق بمحذوف ، وهو خبر المبتدأ كما في قولك : عليك تثريب ، و «اليوم» معمول لعليكم ، ويجوز العكس ؛
__________________
(١) هذا البيت من قصيدة لسلامة بن جندل السعدي ، وهي إحدى المفضليات ، وقبله :
أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب |
|
أودى وذلك شأو غير مطلوب |
(٢) تعليل لما ذهب إليه المازني.
(٣) أي الاسم الواقع بعد لا المسبوقة بحرف الجر ، وقوله فتح ، أي بني على الفتح.
(٤) هذا من قصيدة للفرزدق في هجاء عمر بن هبيرة الفزاري وقبله :
يا أيها النابح العاوي لشقوته |
|
إليك ، أخبرك عما تجهل الخبرا |
ومعنى بيت الشاهد : لو لم تكن غطفان مذنبة ، لقام كبارها وذوو الرأي فيها بلوم عمر ، ومنعه من التعرض لي ،
(٥) الآية ٩٢ سورة يوسف ،
وكذا قوله تعالى : (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (١) ، اليوم خبر المبتدأ ، [وقوله : من أمر الله ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : العصمة المنفية من أمر الله ؛ وهذه الجملة التبيينية لا محل لها ، كما قلنا في سقيا لك ، ان التقدير : هو لك ، وإنما لم يكن للجملة المبينة محل ، لأنها مستأنفة لفظا ،](٢) أو قوله : من أمر الله متعلق بما دلّ عليه : لا عاصم ، أي : لا يعصم من أمر الله ؛
فلا تظنّن أن مثل هذا الجار والمجرور متعلق بالمنفي ، وإن أوهمت ذلك في الظاهر ، بل مثله متعلق بمحذوف ، وكل مصدر يتعدى بحرف من حروف الجر ، يجوز جعل ذلك الجارّ خبرا عن ذلك المصدر ، مثبتا كان أو منفيا ، كما تقول : الاتكال عليك ، وإليك المصير ، ومنك الخوف ، وبك الاستعانة ، وما عليك المعوّل ، وليس بك الالتجاء ، ومنه : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ، وذلك لأن الخبر المقدّر ههنا ، أعني ما يتعلق به الجار ، فيه معنى المبتدأ لتضمنه خبره ؛ ولا يجوز مثل ذلك في اسم الفاعل ، فلا تقول : بك مارّ ، على أن «بك» خبر عن «مارّ» ؛
فلذا قدّرنا مدلول «لا عاصم» لقوله (٣) «من أمر الله» ؛
وتقول : لا مصلّيا في الجامع ، إذا نفيت في الوجود من يوقع صلاته في الجامع ، أي : ليس في الوجود من يصليّ في الجامع ، ويجوز أن يكون مستقرا في الجامع من يصليّ في غيره ، وإذا قلت : لا مصلّي في الجامع ، فالمعنى : ليس في الجامع مصلّ ، سواء صليّ في الجامع أو في غيره ؛
هذا وحكى أبو عليّ عن البغداديّين أنهم يجوّزون كون الظرف والجار في : لا آمر
__________________
(١) الآية ٤٣ سورة هود ، وتقدمت
(٢) جاءت العبارة التي بين القوسين في النسخة المطبوعة وجاء بعدها عبارة وقوله من أمر الله ، وهي ليست في بعض النسخ كما في تعليقات الجرجاني ، وكان إصلاح «وقوله» إلى «أو قوله» مفيدا ، ليكون وجها آخر ؛
(٣) أي ليتعلق به الجار والمجرور وهو : من أمر الله ،
بالمعروف ، (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ،) من صلة المنفيّ ، وفيه نظر ، لأن المضارع للمضاف لا يبني ؛
وذهب ابن مالك ، إلى أن مثل هذا مضارع (١) معرب ، لكنه انتزع تنوينه ، تشبيها بالمضاف ؛
قوله : «وإن كان معرفة أو مفصولا بينه وبين لا ، وجب التكرير والرفع» ، اعلم أن «لا» التبرئة إنما تعمل لمشابهتها لانّ ، ووجه المشابهة أن : «إنّ» للمبالغة في الإثبات ، إذ معناها التحقيق لا غير ، و «لا» التبرئة للمبالغة في النفي ، لأنها لنفي الجنس (٢) ، فلما توغّلتا في الطرفين ، أعني في النفي والإثبات ، تشابهتا ، فأعملت عملها ، وعملها مع هذه المشابهة المذكورة ضعيف لوجهين : أحدهما أن أصلها التي هي «إنّ» ، إنما تعمل لمشابهتها الفعل ، لا بالأصالة ، فهي مشبّهة بالمشبّهة ؛ والثاني أن الظاهر أنّ بين «إنّ» و «لا» التبرئة تنافيا وتناقضا ، لا مشابهة ولا مقاربة ،
فعلى هذا نقول : إنما لم تعمل في المعرفة ، لأن وجه المشابهة ، وهو كونها لنفي الجنس لم يمكن حصوله فيها مع دخولها على المعرفة ، إذ ليست المعرفة لفظ جنس ، حتى ينتفي الجنس بانتفائها ، وكذا ، لم تعمل في المفصول بينه وبينها ، لما ذكرنا من ضعف عملها ، فلا تقدر على العمل في البعيد عنها ، وكما ، لم يجز العمل في المفصول ، لم يجز بناؤه أيضا ، لأن الموجب للبناء ، تضمّن «من» الاستفراقية ، ودليل تضمنها : «لا» التبرئة ، فلما بعد دليلها ضعف أمر التضمّن ؛
ومن قال : إن الفتحة إعرابية ، قال : إنما حذف التنوين بعد التركيب دلالة على التركيب ، وقد انتفى التركيب بالفصل ؛
__________________
(١) أي مضارع للمضاف وهو معرب ؛
(٢) أشرت عند تفسير قولهم : لا التبرئة ، أن معناه أنها برأت جنس الاسم عن الانصاف بالخبر ، وهذا اصطلاح منهم ،