شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

فعل مطلوبك ، فكأنك قلت : ما أطلب منك إلا فعلك ، ففعلت ، بمعنى المصدر ، مفعول به لما أطلب ، الذي دلّ عليه نشدتك الله ، وإنما جعلته فعلا ماضيا لقصد المبالغة في الطلب حتى كأن المخاطب فعل ما تطلبه ، وصار ماضيا ثم أنت تخبر عنه ، فهو مثل قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ) (١) ، و: (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ) (٢) ، وقولهم : رحمك الله ؛ ومعنى عزمت عليك ، أي أوجبت عليك ، وهو من قسم الملوك ؛

و «لمّا» في الاستثناء ، لا تجيئ إلا بعد النفي ظاهرا أو مقدرا كما رأيت ، ولا تجيئ إلا في المفرّغ نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣) ؛

__________________

(١) صدر كل من الآيتين ٧١ ، ٧٣ في سورة الزمر

(٢) من الآية ٥٠ سورة الأعراف

(٣) الآية ٢٢ سورة يس ؛

١٤١

[خبر كان]

[وأخواتها]

[قال ابن الحاجب :]

«خبر كان وأخواتها ، هو المسند بعد دخولها ، مثل : كان»

«زيد قائما ، وأمره على نحو خبر المبتدأ ، ويتقدم معرفة» ؛

[قال الرضي :]

لمّا قال : هو المسند ، دخل فيه خبر المبتدأ ، وجميع ما كان في الأصل كذلك ، فقوله : بعد دخولها ، يخرجها كلها ، وقد ذكرنا أنه يدخل في حدّه ، نحو : قائم في قولك : كان زيد أبوه قائم ، مع أنه ليس بخبر كان ؛

قوله : «وأمره على نحو خبر المبتدأ» ، أي فيما يجوز له من كونه معرفة ونكرة ، ومفردا وجملة ، ومتقدما على المسند إليه ومتأخرا عنه ، وما يجب من تقدمه على الاسم إذا كان ظرفا والاسم نكرة ، نحو : كان في الدار رجل ، واشتماله على الضمير إذا كان جملة أو مشتقا أو ظرفا ، وغير ذلك من الأحكام المذكورة في باب المبتدأ ؛

وقد يختص خبر «كان» ببعض من الأحكام ، نذكر بعضها هنا ، وبعضها في الأفعال الناقصة ؛

فممّا قيل إنه من خصائصه ما ذهب إليه ابن درستويه (١) ، وهو أنه لا يجوز أن يقع

__________________

(١) ابن درستويه هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه ، الفارسيّ الأصل ، أخذ عن المبرد وثعلب وغيرهما من علماء عصره ، توفي ببغداد سنة ٣٤٧ ه‍ ؛

١٤٢

الماضي خبر «كان» ، فلا يقال : كان زيد قام ، ولعل ذلك لدلالة «كان» على الماضي ، فيقع المضيّ في خبرها لغوا ، فينبغي أن يقال : كان زيد قائما أو يقوم ؛ وكذا ينبغي أن يمنع نحو : يكون زيد يقوم لمثل تلك العلة ، سواء ؛

وجمهورهم على أنه غير مستحسن ، ولا يحكمون بمطلق المنع ، قالوا : فإن وقع ، (١) فلا بدّ من «قد» ظاهرة أو مقدّرة ، لتفيد التقريب من الحال ، إذ لم يستفد من مجرّد «كان» ، وكذا قالوا في : أصبح وأمسى وأضحى ، وظلّ وبات ؛ وكذا ينبغي أن يمنعوا (٢) نحو : يصبح زيد يقول وكذا البواقي ،

والأولى ، كما ذهب إليه ابن مالك : تجويز وقوع خبرها ماضيا بلا «قد» ، فلا نقدرها في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ) (٣) ، و: (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ)(٤) ؛ وفي قول الشاعر :

٢٣٧ ـ وكان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها ولم يتقدم (٥)

ولا في قوله :

٢٣٨ ـ أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا

أخنى عليها الذي أخنى على لبد (٦)

إذ لا منع (٧) من قيام شيئين يفيدان معنى واحدا ؛

__________________

(١) أي إن وقع خبرها ماضيا ،

(٢) المناسب أن يقول : ينبغي ألّا يستحسنوا ،

(٣) الآية ١٥ في سورة الأحزاب

(٤) الآية ٢٧ في سورة يوسف ؛

(٥) من معلقة زهير بن أبي سلمى وقد تضمنت حديثا عما كان بين عبس وذبيان ، وفيه أن حصين بن ضمضم امتنع عن الصلح ، واستتر من الناس ، وهو المقصود بهذا البيت وقيله :

لعمري لنعم الحيّ جرّ عليهم

بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم

(٦) هذا من معلقة النابغة الذبياني وتقدمت بعض أبيات منها ، ولبد : اسم أحد النسور التي قالوا إن لقمان الحكيم أعطى عمر سبعة منها ، والنسور أطول الطيور أعمارا ، ولبد كان آخرها ؛

(٧) تعليل لقوله : والأولى تجويز وقوع خبرها .. الخ ؛

١٤٣

ومنع ابن مالك ، وهو الحق ، من مضيّ خبر «صار» و «ليس» و «ما دام» ، وكل ما كان ماضيا من : ما زال ولا زال ومرادفتها (١) ،

أمّا «صار» فلكونها ظاهرة في الانتقال ، في الزمن الماضي ، إلى حالة مستمرة ، وهي مضمون خبرها ، نحو : كنت فقيرا فصرت غنيا ، وإن جاز مع القرينة ألّا يستمرّ به الحال المنتقل إليها ، كقول المريض : كنت مريضا ثم صرت متماثلا ، ثم نكست ؛

وكذلك ما زال وأخواتها ، موضوعة لاستمرار مضمون أخبارها في الماضي إلا أن تمنع قرينة ، وما يصلح للاستمرار هو الاسم الجامد ، نحو : هذا أسد ، أو الصفة ، نحو : زيد قائم ، أو غنيّ ، أو مضروب ، أو الفعل المضارع نحو : زيد يقدم في الحروب ، ويسخو بموجوده ، أي هذه عادته ، لأنه وإن كان في الأصل فعلا دالّا على أحد الأزمنة ، إلا أنه ، لمضارعته اسم الفاعل لفظا ومعنى ، يستعمل غير مفيد للزمان استعماله (٢) ، فلذلك إذا قلت : كنت رأيت زيدا ، لا يدل على الاستمرار ، وإذا قلت : كنت أراه ، فظاهره الاستمرار ؛ فناسبت الثلاثة ، أي الجامد ، والصفة ، والمضارع ، لصلاحيتها للاستمرار ، أن تقع أخبارا لصار ، وما زال وأخواتها ، بخلاف الماضي ، فإنه لا يستعمل في الاستمرار استعمال هذه الثلاثة ، فلم يقع خبرا لهذه الأفعال ؛

وأمّا «ما دام» فلم يقع خبرها ماضيا ، لأن «ما» المفيدة للمدة (٣). نحو : ما درّ شارق ، تقلب الماضي في الأغلب إلى معنى الاستقبال ، كما يجيئ في قسم الأفعال ، فلهذا تقول : اجلس ما دام زيد جالسا ، وقد تجيئ بمعنى الماضي ، كقوله تعالى : (مَا دُمْتُ حَيًّا) (٤) ،

وأمّا «ليس» ، فهي للنفي مطلقا ، كما هو مذهب سيبويه ، على ما نبيّن في الأفعال

__________________

(١) ما فتئ ، وما برح وبقية الأفعال التي يشترط فيها دخول النفى وكذلك في قوله بعد : ما زال وأخواتها ؛

(٢) أي مثل استعمال اسم الفاعل ،

(٣) أي للزمان ويسمونها المصدرية الظرفية ؛

(٤) من الآية ٣١ من سورة مريم ؛

١٤٤

الناقصة ، والمستعمل للإطلاق من دون تعرض للزمان ، إمّا جامد ، أو صفة ، أو مضارع لمشابهته اسم الفاعل بخلاف الماضي ؛

وأجاز الأندلسيّ وقوع أخبارها جميعها ماضية ، والأولى ما تقدم لعدم السماع ؛

قوله : «ويتقدم معرفة» ، هذا بخلاف خبر المبتدأ ، لأنه لم يجز تقدمه على المبتدأ إذا كانا معرفتين ولا قرينة للإلباس ، أمّا ههنا فلا لبس وإن كانا معرفتين ، أو متساويين ، لأن تخالف اعرابهما رافع للّبس ، ويكفي ظهور اعراب أحدهما ، نحو : كان زيد هذا ؛

وينبغي ههنا ، أيضا ، إذا انتفي الاعراب ولا قرينة : ألّا يجوز التقديم نحو : كان الفتى هذا ؛

١٤٥

[حذف كان]

[قال ابن الحاجب :]

«وقد يحذف عامله في مثل : الناس مجزيّون بأعمالهم ، إن»

«خيرا فخير ، ويجوز في مثله أربعة أوجه ؛ ويجب الحذف»

«في مثل : أمّا أنت منطلقا انطلقت ، أي لأن كنت» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «عامله» ، أي عامل خبر «كان» وأخواتها ؛ وما كان ينبغي له هذا الاطلاق ، لأنه لا يحذف من هذه الأفعال إلّا «كان» ؛

واعلم أنه يجوز حذف «كان» مع اسمها بعد : إن ولو ، إن كان اسمها ضمير ما علم من حاضر أو غائب ، نحو : اطلبوا العلم ولو بالصين ؛ أي ولو كان العلم بالصين ، وادفع الشرّ ولو إصبعا ، أي : ولو كان الدفع اصبعا ، أي قليلا ؛ وقوله :

٢٣٩ ـ قد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا

فما اعتذارك من قول إذا قيلا (١)

__________________

(١) من أبيات قالها النعمان بن المنذر للربيع بن زياد ، وكان مقرّبا إلى النعمان فوشي بينهما لبيد بن ربيعة بقصة جعلت النعمان ينفر من الربيع وينحيه عن مجلسه ، وحاول الربيع أن ينفي ما نسبه لبيد إليه ويبرّئ نفسه فلم يقبل منه النعمان وقال له أبياتا. أولها :

شرّد برحلك عني حيث شئت ولا

تكثر عليّ ودع عنك الأقاويلا ،

إلى آخر ما قال ومنها هذا البيت ،

١٤٦

أي : إن كان حقا ، وتقول : لأرتحلنّ إن فارسا وإن راجلا ، ولو فارسا ولو راجلا ، أي إن كنت ، ولو كنت ؛

وأمّا في مثل التركيب الذي في المتن ، أعني أن يكون بعد «إن» اسم ، وجزاؤها بالفاء ، وبعد الفاء اسم مفرد ، نحو : المرء مقتول بما قتل به ، إن سيفا فسيف ، وإن خنجرا فخنجر ، فتقول : ننظر فيه ، فإن جاز مع «كان» المحذوفة بعد «إن» : تقدير «فيه» أو «معه» أو نحو ذلك ، كما في قوله : الناس مجزيون بأعمالهم ... ؛ فإنه يصح أن يقال : إن كان معه ، أو في عمله (١) ؛ جاز في الأول مع النصب : الرفع أيضا ،

ولكن على ضعف معنوي ، إذ معنى : إن كان معه ، أو في يده سيف ، و: إن كان في عمله خير : معنى غير مقصود ، لأن مراد المتكلم : إن كان نفس عمله ، خيرا ، وإن كان ما قتل به سيفا ، لا : أن له أعمالا وفي تلك الأعمال خير ، ولا أن في يده ، أو في صحبته وقت القتل سيفا ؛

هذا الذي قلنا ، ضعف من حيث المعنى ، وأمّا من حيث اللفظ ، فضعيف ، أيضا ، لأن حذف «كان» مع خبره ، الذي هو في صورة المفعول الفضلة ، حذف شيء كثير ، ولا سيّما إذا كان الخبر جارّا ومجرورا بخلاف حذفه مع اسمه الذي هو كجزئه ، ولا سيّما إذا كان ضميرا متصلا ؛

فإن قلت : فقدّر للرفع : «كان» التامة ؛

قلت : يضعف لقلة استعمالها ، ولا يحذف إلا كثير الاستعمال للتخفيف ، ولكون الشهرة دالة على المحذوف ؛

وإن لم يحسن تقدير مثل ذلك ، تعيّن نصب الأوّل ، نحو : أسير كما تسير ، إن راكبا فراكب ، وإن راجلا فراجل ، أي : إن كنت راكبا فأنا راكب ؛

__________________

(١) المناسب أن يقول في شرح الأثر : إن كان معهم أو في عملهم بصيغة الجمع ،

١٤٧

وربّما جرّ ما بعد «إن» أو ، «إن لا» مع ما بعد فائهما ، إن صح رجوع ضمير «كان» المقدر إلى مصدر ما عدّي بحرف الجر ، نحو : المرء مقتول بما قتل به : إن سيف فسيف ، أي إن كان قتله بسيف فقتله أيضا بسيف (١) ،

وحكي عن يونس : مررت برجل صالح ، إن لا صالح فطالح ، أي : إن لا يكن المرور بصالح فالمرور بطالح ، ومررت برجل : إن زيد وإن عمرو ، وذلك لقوّة الدلالة على الجارّ بتقدم ذكره ؛

فتبيّن بما ذكرنا ، أن النصب في الأول ، إمّا مختار ، أو واجب ، وأمّا الاسم الذي بعد الفاء فرفعه أولى ، لأن رفعه بإضمار مبتدأ بعد الفاء ، وهو شائع كثير ، وأمّا نصبه فإمّا بتقدير «كان» بعد الفاء ، أي : فيكون ما يقتل به سيفا ، أو بتقدير فعل لائق ؛ نحو : فيجزى خيرا ؛ وحذف المبتدأ أولى ، لأنه مفرد ، من حذف الجملة ، وأيضا ، حذف المبتدأ ، أكثر من حذف «كان» وغير ذلك من نحو الفعل الناصب المذكور ؛

وقيل : (٢) لأنّ مجيئ الفاء مع الجملة الاسمية أكثر منه مع الفعلية ، ويجوز أن يقال : إن مجيئ الفاء في الفعلية ، إنما يقلّ إذا كان الفعل ظاهرا ، وأمّا إذا كان مقدّرا فلا بدّ من الفاء ، نحو : إن ضربتني فزيدا ضربته ؛

فإذا ثبت أن نصب الأول ورفع الثاني أصل ، فعكسه يكون أقبح الوجوه لمخالفة الأصل في الموضعين ؛ ورفعهما ، ونصبهما ، متوسطان ، لمخالفة الأصل في موضع واحد ؛

قوله : «ويجب الحذف» ، أي : يجب حذف «كان» بعد «أن» معوّضا منها «ما» نحو قوله :

__________________

(١) أي إن كان القتل الذي وقع منه بسيف ، فالقتل الذي يقع عليه ، بسيف ،

(٢) هذا وجه آخر لبيان أرجحية رفع الثاني ، ولكن عقب عليه الرضي بما ينتقضه ؛

١٤٨

٢٤٠ ـ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع (١)

أي لأن كنت ، فحذف حرف الجر ، جوازا على القياس المذكور في المفعول له ، ثم حذفت «كان» وأبدل منها «ما» فوجب الحذف ، لئلّا يجمع بين العوض والمعوّض منه ،

وأجاز المبرد ظهور «كان» على أن «ما» زائدة ، لا عوض ، ولا يستند ذلك إلى سماع ؛

ثم أدغم (٢) النون الساكنة في الميم وجوبا ، فبقي الضمير المرفوع المتصل بلا عامل يتصل به ، فجعل منفصلا ، فصار : أمّا أنت ؛ وتقول أيضا ، أمّا زيد قائما قمت ؛

وقال الكوفيون : «أن» المفتوحة ، بمعنى المكسورة الشرطية ، ويجوّزون مجيئ «أن» المفتوحة شرطية ، قالوا (٣) : القراءتان في قوله تعالى : (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا) (٤) ، أي فتح الهمزة وكسرها بمعنى واحد ، أي بمعنى الشرط ، و «ما» عندهم ، عوض من الفعل المحذوف ؛

ولا أرى قولهم بعيدا من الصواب ، لمساعدة اللفظ والمعنى إياه ، أمّا المعنى فلأن معنى قوله : أمّا أنت ذا نفر ... البيت : إن كنت ذا عدد ، فلست بفرد ، (٥) وأمّا اللفظ ، فلمجيئ الفاء في هذا البيت ؛

وفي قوله :

__________________

(١) أكل الضبع للناس ، كناية عن ضعفهم ، وذلك أن الناس إذا أجدبوا وقل طعامهم ضعفوا عن الدفاع عن أنفسهم وسقطت قواهم ، فتنتشر بينهم الضباع آمنة لا يستطيعون ردّها ، فتأكلهم ؛ والبيت للعباس بن مرداس السلمي ، يخاطب خفاف بن ندبة ، وكنيته أبو خراشة ، وهو أحد فرسان العرب ، وكانت بينه وبين العباس مهاجاة ؛

(٢) مرتبط بقوله : حذفت كان وأبدل منها الميم .. الخ ، واعترض بينهما بذكر رأي المبرد ؛

(٣) أي في الاستدلال على جواز مجيئها شرطية ،

(٤) الآية ٢٨٢ سورة البقرة ،

(٥) يعني إن كان عدد قومك كثيرا ، فليس عدد قومي قليلا ؛

١٤٩

٢٤١ ـ إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا

فالله يكلأ ما تأتي وما تذر (١)

مع عطف : أمّا أنت بفتح الهمزة على : إمّا أقمت بكسرها ؛ وهي حرف شرط بلا خلاف ؛

والبصريون يقولون : أمّا أنت منطلقا ، أنطلق معك بالرفع ، والكوفيون جوّزوا جزمه بأن المفتوحة الشرطية ، وجوّزوا الرفع مع كونه جواب الشرط لكون الشرط محذوفا حذفا لازما ؛

ولما كان معنى الشرط ههنا ظاهرا ، قال سيبويه : دخل في «أن» معنى «إذ» ، فأمّا بمعنى : اذ ما ، واذ ما ، شرطية بلا خلاف ؛

ولا بدّ عند البصريين من تقدير فعل يعمل في الجار والمجرور ، أعني في : أمّا أنت ذا نفر ، الذي هو بمعنى : لأن كنت .. ولا يصلح أن يكون (٢) ذلك : لم تأكلهم ، لأن معمول خبر «إنّ» لا يتقدم عليها ، وأما نحو : أمّا يوم الجمعة فإن زيدا قائم ، فسيجيئ الكلام عليه في حروف الشرط ، وأيضا ، ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبل الفاء إلا مع «أمّا» الشرطية ، إمّا ظاهرة ، كما في قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٣) ، وإمّا مقدّرة كما في قوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٤) ، كما يجيئ في حروف الشرط ، فيقدر (٥) البصريون : أمّا أنت ذا نفر ، تتكبّر وتفتخر ؛

وينبغي ، على هذا ، أن يكون قوله : فالله يكلأ ، جواب إما أقمت ، والعامل في :

أمّا أنت مرتحلا : محذوف ، أي : يكلؤك الله لأجل ارتحالك ، وكله تكلف ؛ والأولى أن نقول :

__________________

(١) قال البغدادي في الخزانة بعد أن شرح هذا البيت : وهذا البيت ، مع استفاضته في كتب النحو ، لم أظفر بقائله ، ولا بتتمته ، ويريد بتتمته أنه لا يوجد شيء قبله ولا بعده ، وكذلك قال السيوطي في شواهد المغني ،

(٢) أي الفعل الذي لا بد من تقديره ليتعلق به الجار والمجرور ،

(٣) الآية ١١ سورة الضحى ،

(٤) الآية ٣ سورة المدثر ،

(٥) هذا مرتبط بقوله : ولا بدّ عند البصريين من تقدير فعل ، فهذا نتيجة لرأيهم وبيان لتقدير الفعل في المثال الذي هو موضع البحث ؛

١٥٠

انّ «إن» الشرطية ، كثيرة الاستعمال ، مع كان الناقصة ، فإن حذف شرطها جوازا ، لم يغيّر حرف الشرط عن صورته ، نحو : إن سيفا فسيف ، وإن حقا وإن كذبا ؛ وكذا إن حذف شرطها وجوبا مع مفسّر ، كما في : إن زيد كان منطلقا ؛ وإن حذف شرطها وجوبا بلا مفسّر ، وجب تغيير صورتها ، من كسر الهمزة إلى فتحها ، لأن بقاءها على وضعها الأصلي مع قطعها وجوبا عن مقتضاها الأصلي بلا مفسر هو كالعوض : مستكره ، (١) فإذا غيّرت عن حالها الوضعي ، سهل حذف شرطها على سبيل الوجوب ، لأنها تصير كأنها ليست في الظاهر حرف الشرط ، ولا بدّ ، إذن ، من «ما» لتكون كالكافّة لها عن مقتضاها ، أعني الشرط ؛ ثم لا يخلو حالها عند ذلك من أن تحذف منها «كان» مع اسمها وخبرها ، أو تحذفها وحدها ، فإن كان الأول ، وجب في جزائها الفاء لتؤذن بها أنّ «أمّا» في الأصل حرف شرط ، لأن الفاء علم السببيّة ، فجيئ بها لمّا تغيّرت صورة حرف السببية أعني «إن» ؛ وسقط على سبيل الوجوب جميع أجزاء السبب ، أعني : كان مع اسمها وخبرها ، وذلك نحو : أمّا زيد فمنطلق ، أي : أمّا يكن في الدنيا شيء ، فزيد منطلق ، أي إن يكن شيء موجودا ، يوجد انطلاق زيد ، أي هو منطلق لا محالة ، فلا بدّ ، إذن ، من اقامة جزء من الجزاء مقام الشرط ، لأنه لم يبق منه شيء ، كما يجيئ في حروف الشرط ؛

وإن كان الثاني ، فالفاء غير لازمة ، بل يجوز حذفها والإتيان بها ، نحو : أمّا زيد منطلقا ، انطلقت ، وأمّا أنت ذا نفر فإن قومي ... ؛

وأمّا فتح همزة «إن» الشرطية ، من دون حذف الشرط ، كما أثبته الكوفيون فليس بمشهور ؛

وقد تحذف «كان» بعد «إمّا» المكسورة قليلا ؛ وقال سيبويه (٢) : لم يجز حذف الفعل مع «إمّا» المكسورة ؛ وقال أبو علي (٣) : لأن «ما» التي بعدها ، أشبهت اللام في تأكيد

__________________

(١) خبر عن قوله : لأن بقاءها ، وقوله قبل ذلك : هو كالعوض ، صفة لمفسّر ؛

(٢) ج ١ ص ١٤٨ ، وهو بمعناه ،

(٣) أي الفارسي ، تعليلا لقول سيبويه ؛

١٥١

الفعل ، فمن ثمّ جاز في : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ) (١) ، و:

٤٢٤ ـ ومن عضه ما ينبتنّ شكيرها (٢)

النون (٣) ، كما جازت مع اللام في نحو : لتفعلنّ ، كما يجيئ في نون التوكيد ، فلم يحسن حذف الفعل ، مع ثبوت ما يؤكده ؛

وقد جاءت كان الناقصة محذوفة بعد «لدن» ، وأخواته (٤) ، نحو رأيتك لدن قائما ، أي لدن كنت قائما ، قال ،

٢٤٣ ـ من لد شولا فإلى إتلائها (٥)

أي : من لد كانت شولا ، والإتلاء : أن تلد الناقة ، فتصير ذات تلو ؛ (٦)

__________________

(١) الآية ٥٨ سورة الأنفال

(٢) العضه بالهاء : واحدة العضاه نوع من الشجر وقيل إنه بالتاء في آخره محذوف اللام مثل شفة والشكير ما ينبت حولها من الشوك ؛ أو من صغارها ، وهو مثل يضرب لمشابهة الولد لأبيه وقد أورده سيبويه هكذا ج ٢ ص ١٥٣ من غير اشارة إلى أنه شعر ، ولعل ذلك هو السبب في أن شارح شواهده لم يكتب عليه ؛ وقد ورد هذا المثل ضمن بيتين من الشعر ، صدر في أحدهما ، وتمامه : قديما ويقتط الزناد من الرند ، وعجز في الآخر وصدره :

إذا مات منهم سيّد سرق ابنه ، ولم ينسب أي منهما إلى قاتل ،

(٣) أي نون التوكيد ، وهو فاعل لقوله فمن ثم جاز في وإما تخافن الخ ،

(٤) يريد : اللغات المستعملة في لدن ،

(٥) هذا من شواهد سيبويه التي لم يعرف لها قائل ، وهو في سيبويه ج ١ ص ١٣٤ ، وعبارته : ومن قول العرب ..

وربما كان ذلك دليلا على أنه مثل وليس شعرا ؛ والشول جمع شائل ، وهو خاص بالناقة التي تتهيّأ للحمل ، وإلى اتلائها أي إلى أن تلد كما قال الشارح ،

(٦) التلو بكسر التاء : ولد الناقة لأنه يتلوها أي يتبعها ،

١٥٢

[اسم انّ]

[وأخواتها]

[قال ابن الحاجب :]

«اسم انّ وأخواتها ، هو المسند إليه بعد دخولها ، مثل إنّ زيدا»

«قائم» ؛

[قال الرضي :]

ينتقض بمثل : أخوه ، في قولك : إن زيدا قائم أخوه (١) ؛

[المنصوب]

[بلا التي لنفي الجنس]

[قال ابن الحاجب :]

«المنصوب بلا التي لنفي الجنس هو المسند إليه بعد دخولها ،»

«يليها ، نكرة ، مضافا أو مشبها به ، مثل : لا غلام رجل لك ،»

__________________

(١) هكذا اقتصر الرضي على هذه العبارة في شرح كلام ابن الحاجب هنا ؛

١٥٣

«ولا عشرين درهما لك ؛ فإن كان مفردا فهو مبني على ما»

«ينصب به وإن كان معرفة ، أو مفصولا بينه وبين لا ، وجب»

«الرفع والتكرير ؛ ونحو : قضية ولا أبا حسن لها ، متأول» ؛

[قال الرضي :]

لم يقل : اسم «لا» التي لنفي الجنس ، كما قال : اسم «ان» وأخواتها ، لأن كلامه في المنصوبات ، وجميع ما هو اسم «لا» المذكورة ليس منصوبا (١) ، بل بعضه مبني ، نحو : لا رجل ، فلما قصد المنصوب ، احتاج إلى التمييز ، بالتقييدات المذكورة ، لأن اسم «لا» ، لا يكون منصوبا إلا باجتماعها ، وهي ثلاثة ، كونه نكرة ، وكونه مضافا ، أو مشبّها به ، وأن يليها ، فلو اختل واحد منها ، لم ينتصب ، كما يجيئ ، ولو قصد إلى اسم «لا» من حيث كونه اسمها ، لكان يكفيه أن يقول ، كما هي عادته : هو المسند إليه بعد دخولها ؛ (٢)

قوله : يليها ، ونكرة ، ومضافا : أحوال مترادفة ، والعامل فيها «المسند» وذو الحال : الضمير المجرور في «إليه» ؛

قوله : «لا غلام رجل لك» ، مضاف ، وقوله : لا عشرين درهما لك : مضارع له ، وقد بيّنّا المضارع للمضاف في باب المنادى ، (٣)

قوله : «فإن كان مفردا» ، أي : فإن كان اسم «لا» مفردا ، ولم يجر ذكر اسم «لا» تصريحا ، لكن سياق الكلام يدل عليه ؛ ولا يعود الضمير إلى قوله : المنصوب بلا ، لأن المنصوب بلا ، لا يكون مفردا ؛

__________________

(١) حقه أن يقول : وليس جميع ما هو اسم لا منصوبا بل بعضه مبني ،

(٢) أي كان يكفيه أن يقتصر على هذه العبارة بدون ذكر شروط أخرى ،

(٣) ص ٣٥٤ من الجزء الأول ،

١٥٤

قوله : «على ما ينصب به» ، هذا أولى ، كما مرّ في المنادى ؛ من قولهم : مبني على الفتح ، فدخل فيه نحو : لا غلامين لك ، ولا مسلمين لك ؛ ويعني بالمفرد : ما ليس بمضاف ولا مضارع له ، فدخل فيه المثنى والمجموع ؛

والفتحة في : «لا رجل» عند الزجاج والسيرافي : اعرابية ، خلافا للمبرد والأخفش وغيرهما ، وإنما وقع الاختلاف بينهم لإجمال قول سيبويه ، وذلك أنه قال : (١) و «لا» تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين ، ثم قال : وإنما ترك التنوين في معمولها لأنها جعلت هي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد كخمسة عشر ؛ فأوّل المبرد قوله : تنصبه بغير تنوين ، بأنها نصبته أولا لكنة بني بعد ذلك فحذف منه التنوين للبناء ، كما حذف في خمسة عشر ، للبناء ، اتفاقا ؛ وقال الزجاج : بل مراده أنه معرب ، لكنه مع كونه معربا ، مركب مع عامله لا ينفصل عنه ، كما لا ينفصل عشر ، من خمسة ، فحذف التنوين مع كونه معربا لتثاقله بالتركيب مع عامله ؛

قال أبو سعيد (٢) : إنما ركب مع عامله ، لإفادة «لا» التبرئة (٣) ، للاستفراق كما أفادته «من» الاستفراقية في : هل من رجل في الدار ، لأن «لا رجل في الدار» جواب : هل من رجل ، فركبوا «لا» مع النكرة ، كما أن «من» مركبة معها ، تطبيقا للجواب بالسؤال ، ثم حذف التنوين لتثاقل الكلمة بالتركيب ، مع كونها معربة ؛

والأولى ما ذهب إليه المبّرد وأصحابه ، لأن حذف التنوين في حالة الوصل من الاسم المنون ، لغير الإضافة والبناء : غير معهود ، وأيضا : التركيب بين «لا» والمنفي ، ليس بأشدّ منه بين المضاف والمضاف إليه ، والجار والمجرور ؛ ولا يحذف التنوين من الثاني في الموضعين ؛

__________________

(١) هذا في سيبويه ج ١ ص ٣٤٥ ، وما بعدها ، وكذلك النقل الآتي قريبا عن سيبويه ، وكثير مما نقله هنا ، وارد بمعناه أو بلفظه في هذا الموضع من سيبويه

(٢) أي السيرافي ،

(٣) وضحنا فيما سبق معنى تسميتها لا التبرئة ؛

١٥٥

وقال سيبويه : إنما حذف التنوين من المنفي ، لأن «لا» ، لا تعمل الّا في النكرة ، و «لا» ومعمولها في موضع ابتداء ، فلما خولف بها عن حال أخواتها ، خولف بلفظها ؛ يعني أن اختصاصها بالتنكير ، وكون ما بعدها مبتدأ : سبب بناء معمولها ، على مذهب من قال ببنائه ، أو سبب حذف تنوين معمولها عند من قال باعرابه ، لأنها بمجموع الشيئين خالفت سائر العوامل ، كانّ وأخواتها ، فخولف بمعمولها سائر المعمولات ؛

وهذا ضعيف ، أعني بناء المعمول ، أو حذف التنوين منه لمخالفة العامل أخواته ؛ والحق أن نقول : أنه مبني لتضمنه لمن الاستفراقية ، وذلك لأن قولك : لا رجل ، نصّ في نفي الجنس ، بمنزلة : لا من رجل ، بخلاف : لا رجل في الدار ولا امرأة ، فإنه وإن كانت النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، لكن لا نصاّ بل هو الظاهر ؛ كما أنّ : ما جاءني من رجل ، نصّ في الاستفراق ، بخلاف : ما جاءني رجل ، إذ يجوز أن يقال : لا رجل في الدار ، بل رجلان ، وما جاءني رجل ، بل رجلان ، ولا يجوز : لا رجل في الدار ، بالفتح ، بل رجلان ، وما جاءني من رجل بل رجلان للزوم التناقض ، فلما أرادوا التنصيص على الاستفراق ، ضمنوا النكرة معنى «من» فبنوها ؛ وإنما بنيت على ما تنصب به ، ليكون البناء على حركة استحقتها النكرة في الأصل قبل البناء ؛

ولم يبن المضاف ، ولا المضارع له ، لأن الإضافة ترجح جانب الاسمية فيصير الاسم بها إلى ما يستحقه في الأصل ، أعني الإعراب ، ولا يكون مضاف مبني إلا نادرا ، نحو : خمسة عشرك ، ونحوه ؛

ومن قال : المنفي معرب حذف تنوينه ، دلالة على كونه مركبا مع «لا» ، قال : لم يركب المضاف ، والمضارع له ، لأنه لا يركب أكثر من كلمتين ؛

وأمّا نحو : لا رجل ظريف (١) ، فسيجيئ حكمه ؛

ونحو : لا مسلمين ولا مسلمين ، مبني خلافا للمبرد ، فإن قال (٢) به لأن النون كالتنوين

__________________

(١) أي بتركيب الاسم مع صفته ،

(٢) فإن قال أي المبرد ، به أي بالإعراب المستفاد من قوله : مبني خلافا للمبرد ،

١٥٦

الذي هو دليل الإعراب ، فمنقوض بنحو : يا زيدان ، ويا زيدون ، وهما مبنيان مع وجود النون ، إذ لو كانا معربين لقيل : يا زيدين ويا زيدين ، والنون ليست كالتنوين في الدلالة على التمكن كما مرّ في أول الكتاب (١) ؛ ونقل عنه (٢) أنه قال : لأن المثنى والمجموع في حكم المعطوف والمعطوف عليه ، والمعطوف عليه : مضارع للمضاف فيجب النصب ؛ وردّ بأن المعطوف في باب «لا» مبني ، نحو : لا رجل وامرأة ، وله أن يقول (٣) : أردت عطف النسق الذي يكون التابع والمتبوع فيه كاسم واحد ، كما ذكرنا في النداء في نحو : ثلاثة وثلاثين ، ولا شك أن المثنى والمجموع مثل هذا المنسوق ، لكنه ينتقض بيا زيدان ويا زيدون : وقيل : إنما قال ذلك ، لأنه ليس شيء من المركبات يثنى فيه الجزء الثاني ويجمع ، والجواب : أنه لم يقم دليل قاطع على أن «لا» مركب مع المنفي ، كما يجيئ بيانه ، ولو سلمنا ، فليس بناؤه للتركيب كما مرّ بيانه ، وإن سلمنا فنحن نقول : حضرموتان ، وحضرموتون ، في المسمّى بحضرموت ، كما يجيئ في باب المثنى ؛

وأمّا جمع سلامة المؤنث فبعضهم يبنيه على الكسر مع التنوين ، قياسا لا سماعا ، نظرا إلى أنّ التنوين للمقابلة ، لا للتمكن ، بدليل قوله تعالى : (مِّنْ عَرَفَاتٍ) (٤).

وهو منقوض (٥) بنحو : يا مسلمات ، مجردا عن التنوين ، اتفاقا ؛

والجمهور يكسرونه بلا تنوين ، لأنها (٦) وإن لم تكن للتمكن ، فهي مشبهة لتنوين التمكن ، فيكون على هذين القولين داخلا في عموم قوله : يبني على ما ينصب به ؛

__________________

(١) ص ٨٣ من الجزء الأول

(٢) عنه أي عن المبرد في تعليل القول بالإعراب ،

(٣) أي له أن يعتذر عن الردّ بأن المعطوف مبني ؛

(٤) جزء من الآية ١٩٨ سورة البقرة ،

(٥) وهو منقوض ، أي القول ببناء جمع المؤنث على الكسر مع التنوين ؛

(٦) يتكرر في كلام الرضي التعبير عن التنوين وعن بعض الأدوات ، مرة بالمذكر ومرة بالمؤنث وذلك جائز باعتبار ذلك لفظا ، أو كلمة ، ولكنه قد يجمع بين الأسلوبين في وقت واحد ، وقد أصلحت ما سهل اصلاحه من ذلك ؛

١٥٧

والمازني يفتحه بلا تنوين ، نحو قوله :

٢٤٤ ـ إن الشباب الذي مجد عواقبه

فيه نلذّ ولا لذّات للشيب (١)

حذرا (٢) من مخالفته في الحركة لسائر المبني بعد «لا» التبرئة ، مما كان معربا بالحركة قبل دخولها ، وهذا أولى ممّا قبله ، طردا للباب على نسق واحد ؛

واعلم أن الجارّ ، إذا دخل على «لا» التبرئة ، منع من بناء المنفي بعدها ، نحو قولك : كنت بلا مال ، وغضبت من لا شيء ، وذلك لتعذر تقدير «من» بعدها ، إذ لا يجوز : بلا من مال ؛ وأيضا ؛ فإن عمل «لا» إنما كان لمشابهتها «انّ» ، كما يجيئ ، وبتوسطها يبطل الشبه ، لأنّ «إنّ» لا بدّ لها من التصدّر ، وربّما فتح (٣) ، نظرا إلى لفظ «لا» ، فقيل : كنت بلا مال ، وذلك كما بني مع «لا» الزائدة ، نظرا إلى لفظها ، كما أنشد الأخفش :

٢٤٥ ـ لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها

إذن ، للام ذوو أحسابها عمرا (٤)

فلا ، زائدة ، وقد اعتبرت فبني الاسم لها ، فما ظنك بجواز البناء ، مع عدم زيادتها ، لكنه ، مع ذلك ، قليل ؛

ونحو قوله تعالى : (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) (٥) ، عند سيبويه ، وجمهور النحاة ، الظرف بعد المنفي لا يتعلق بالمنفي ، وإلا كان مضارعا للمضاف فانتصب ، كما في : لا خيرا من زيد عندنا ، بل الظرف متعلق بمحذوف ، وهو خبر المبتدأ كما في قولك : عليك تثريب ، و «اليوم» معمول لعليكم ، ويجوز العكس ؛

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة لسلامة بن جندل السعدي ، وهي إحدى المفضليات ، وقبله :

أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب

أودى وذلك شأو غير مطلوب

(٢) تعليل لما ذهب إليه المازني.

(٣) أي الاسم الواقع بعد لا المسبوقة بحرف الجر ، وقوله فتح ، أي بني على الفتح.

(٤) هذا من قصيدة للفرزدق في هجاء عمر بن هبيرة الفزاري وقبله :

يا أيها النابح العاوي لشقوته

إليك ، أخبرك عما تجهل الخبرا

ومعنى بيت الشاهد : لو لم تكن غطفان مذنبة ، لقام كبارها وذوو الرأي فيها بلوم عمر ، ومنعه من التعرض لي ،

(٥) الآية ٩٢ سورة يوسف ،

١٥٨

وكذا قوله تعالى : (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (١) ، اليوم خبر المبتدأ ، [وقوله : من أمر الله ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : العصمة المنفية من أمر الله ؛ وهذه الجملة التبيينية لا محل لها ، كما قلنا في سقيا لك ، ان التقدير : هو لك ، وإنما لم يكن للجملة المبينة محل ، لأنها مستأنفة لفظا ،](٢) أو قوله : من أمر الله متعلق بما دلّ عليه : لا عاصم ، أي : لا يعصم من أمر الله ؛

فلا تظنّن أن مثل هذا الجار والمجرور متعلق بالمنفي ، وإن أوهمت ذلك في الظاهر ، بل مثله متعلق بمحذوف ، وكل مصدر يتعدى بحرف من حروف الجر ، يجوز جعل ذلك الجارّ خبرا عن ذلك المصدر ، مثبتا كان أو منفيا ، كما تقول : الاتكال عليك ، وإليك المصير ، ومنك الخوف ، وبك الاستعانة ، وما عليك المعوّل ، وليس بك الالتجاء ، ومنه : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ، وذلك لأن الخبر المقدّر ههنا ، أعني ما يتعلق به الجار ، فيه معنى المبتدأ لتضمنه خبره ؛ ولا يجوز مثل ذلك في اسم الفاعل ، فلا تقول : بك مارّ ، على أن «بك» خبر عن «مارّ» ؛

فلذا قدّرنا مدلول «لا عاصم» لقوله (٣) «من أمر الله» ؛

وتقول : لا مصلّيا في الجامع ، إذا نفيت في الوجود من يوقع صلاته في الجامع ، أي : ليس في الوجود من يصليّ في الجامع ، ويجوز أن يكون مستقرا في الجامع من يصليّ في غيره ، وإذا قلت : لا مصلّي في الجامع ، فالمعنى : ليس في الجامع مصلّ ، سواء صليّ في الجامع أو في غيره ؛

هذا وحكى أبو عليّ عن البغداديّين أنهم يجوّزون كون الظرف والجار في : لا آمر

__________________

(١) الآية ٤٣ سورة هود ، وتقدمت

(٢) جاءت العبارة التي بين القوسين في النسخة المطبوعة وجاء بعدها عبارة وقوله من أمر الله ، وهي ليست في بعض النسخ كما في تعليقات الجرجاني ، وكان إصلاح «وقوله» إلى «أو قوله» مفيدا ، ليكون وجها آخر ؛

(٣) أي ليتعلق به الجار والمجرور وهو : من أمر الله ،

١٥٩

بالمعروف ، (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ،) من صلة المنفيّ ، وفيه نظر ، لأن المضارع للمضاف لا يبني ؛

وذهب ابن مالك ، إلى أن مثل هذا مضارع (١) معرب ، لكنه انتزع تنوينه ، تشبيها بالمضاف ؛

قوله : «وإن كان معرفة أو مفصولا بينه وبين لا ، وجب التكرير والرفع» ، اعلم أن «لا» التبرئة إنما تعمل لمشابهتها لانّ ، ووجه المشابهة أن : «إنّ» للمبالغة في الإثبات ، إذ معناها التحقيق لا غير ، و «لا» التبرئة للمبالغة في النفي ، لأنها لنفي الجنس (٢) ، فلما توغّلتا في الطرفين ، أعني في النفي والإثبات ، تشابهتا ، فأعملت عملها ، وعملها مع هذه المشابهة المذكورة ضعيف لوجهين : أحدهما أن أصلها التي هي «إنّ» ، إنما تعمل لمشابهتها الفعل ، لا بالأصالة ، فهي مشبّهة بالمشبّهة ؛ والثاني أن الظاهر أنّ بين «إنّ» و «لا» التبرئة تنافيا وتناقضا ، لا مشابهة ولا مقاربة ،

فعلى هذا نقول : إنما لم تعمل في المعرفة ، لأن وجه المشابهة ، وهو كونها لنفي الجنس لم يمكن حصوله فيها مع دخولها على المعرفة ، إذ ليست المعرفة لفظ جنس ، حتى ينتفي الجنس بانتفائها ، وكذا ، لم تعمل في المفصول بينه وبينها ، لما ذكرنا من ضعف عملها ، فلا تقدر على العمل في البعيد عنها ، وكما ، لم يجز العمل في المفصول ، لم يجز بناؤه أيضا ، لأن الموجب للبناء ، تضمّن «من» الاستفراقية ، ودليل تضمنها : «لا» التبرئة ، فلما بعد دليلها ضعف أمر التضمّن ؛

ومن قال : إن الفتحة إعرابية ، قال : إنما حذف التنوين بعد التركيب دلالة على التركيب ، وقد انتفى التركيب بالفصل ؛

__________________

(١) أي مضارع للمضاف وهو معرب ؛

(٢) أشرت عند تفسير قولهم : لا التبرئة ، أن معناه أنها برأت جنس الاسم عن الانصاف بالخبر ، وهذا اصطلاح منهم ،

١٦٠