محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
ويجوز القطع إلى الرفع في خبر نواسخ الابتداء ، نحو قوله :
٣٢٨ ـ فلا تجعلي ضيفيّ ضيف مقرب |
|
وآخر معزول عن البيت جانب (١) |
أي منهما ضيف مقرب ، ومنها آخر معزول ؛ وقوله :
٣٢٩ ـ فأصبح في حيث التقينا شريدهم |
|
طليق ومكتوف اليدين ومزعف (٢) |
أي منهم طليق ؛ .. وقوله : مزعف ، أي أزعفه الموت أي قاربه ؛
وفي الثاني (٣) ، أي فيما كانت الصفات فيه أقلّ : الرفع لا غير ، على القطع ، نحو : رأيت ثلاثة رجال : كاتب وشاعر ؛
وقد أجاز بعضهم وصف البعض دون البعض محتجّا بقوله :
٣٣٠ ـ كأنّ حمولهم لمّا استقلت |
|
ثلاثة أكلب يتطاردان (٤) |
وأمّا إن كان الموصوف متحدا (٥) ، والصفات متعددة ، نحو : مررت برجل شاعر كاتب بزاز ، فالأولى الإتباع ، ويجوز القطع على تقدير : هو شاعر ... ولا يجوز تقدير : منهم كاتب ، ولا : بعضهم كاتب ؛
__________________
(١) من شعر العجير السلولي يخاطب امرأته ، يقول لها سوّي بين ضيّفي ، وليس مراده التثنية بل المراد الضيف المتعدد ، وقال سيبويه في هذا المعنى : إن النصب جيّد كما قال النابغة الجعدي :
وكانت قشير شامقا بصديقها |
|
وآخر مزريا عليه وزاريا |
انظر سيبويه ج ١ ص ٢٢٢ ؛
(٢) هذا من قصيدة طويلة للفرزدق امتلأت بالفخر والحديث عن أمجاد قومه يقول فيها منصفا أعداءه :
وأضياف ليل قد نقلنا قراهم |
|
إلينا فأتلفنا المنايا وأتلفوا |
أي جعلنا المنايا متلفة لهم كما جعلوها متلفة لنا ، وهذا من الإنصاف ؛
(٣) مقابل قوله ففي الأول ،
(٤) قال البغدادي في الخزانة : لم أر هذا البيت إلّا في كتاب «المعاياة» للأخفش ، وهو على طريقة أبيات المعاني ، أي الأبيات التي تحتاج إلى تأمل في معناها ، ثم قال نقلا عن بعضهم (ولم يذكر اسمه) : إن هذا شعر مصنوع ، وضع على الخطأ ليعلم السائل كيف فهم المسئول ، والخلاصة أنه من باب الإلغاز ؛
(٥) أي واحدا في المعنى وهو مقابل قوله إذا كان مجموعا ؛
وثالثها : قطع الصفة رفعا أو نصبا ؛
اعلم أن جواز القطع مشروط ، بألّا يكون النعت للتأكيد ، نحو : أمس الدابر ، و: (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)(١) ، لأنه يكون قطعا للشيء عما هو متصل به معنى ، لأن الموصوف في مثل ذلك ، نصّ في معنى الصفة دال عليه ، فلهذا لم يقطع التأكيد في : جاءني القوم أجمعون أكتعون ... ؛
والشرط الآخر أن يعلم السامع من اتصاف المنعوت بذلك النعت ما يعلمه المتكلم ، لأنه إن لم يعلم ، فالمنعوت محتاج إلى ذلك النعت ليبيّنه ويميّزه ، ولا قطع مع الحاجة ؛ وكذلك إذا وصفت بوصف لا يعرفه المخاطب ، لكن ذلك الوصف يستلزم وصفا آخر ، فلك القطع في ذلك الثاني اللازم ، نحو : مررت بالرجل العالم المبجّل ، فإن العلم في الأغلب مستلزم للتبجيل ؛
ومع الشرطين ، جاز القطع وإن كان نعتا أوّل ، كقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(٢) ، وقولك : الحمد لله الحميد ، وشرط الزجّاجيّ في القطع تكرار النعت ؛ والآية رد عليه ،
فنقول : إن كان النعت المراد قطعه معرفة ، وجب ، ألّا يكون المنعوت اسم الإشارة لما ذكرنا أن اسم الإشارة محتاج إلى نعته لتبيين ذاته ؛
وإن كان نكرة ، فالشرط سبقه بنعت آخر مبيّن ، وألّا يكون النعت الثاني ، أيضا ، لمجرد التخصيص ، لأنه إذا احتاجت النكرة إلى ألف نعت لتخصيصها لم يجز القطع ، إذ لا قطع مع الحاجة ؛
والأعرف مجيء نعت النكرة المقطوع بالواو الدالة على القطع والفصل ، إذ ظاهر النكرة محتاج إلى الوصف ، فأكد القطع بحرف هو نصّ في القطع ، أعني الواو ، قال :
__________________
(١) الآية ١٣ سورة الحاقة وتكررت
(٢) الآية ٤ سورة المسد
ويأوي إلى نسوة عطّل |
|
وشعثا مراضيع مثل السعالى (١) ـ ١٤٨ |
ويجوز في المعرفة ، أيضا ، القطع مع الواو ، كقول الخرنق :
٣٣١ ـ لا يبعدن قومي الذين هم |
|
سمّ العداة وآفة الجزر (٢) |
النازلون بكل معترك |
|
والطيبون معاقد الأزر |
والواو في النعت المقطوع ، اعتراضية ، نصبته أو رفعته ؛
ويجوز مخالفة النعت المقطوع للمنعوت ، تعريفا وتنكيرا ، كقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ، الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ)(٣) ؛
وإذا كثرت نعوت شيء معلوم : أتبعت ، أو قطعت ، أو أتبع بعض دون بعض بشرط تقديم الاتباع ، إذ الإتباع بعد القطع قبيح ؛
والأكثر في كل نعت مقطوع أن يكون مدحا أو ذمّا أو ترحّما ، نحو : الحمد لله الحميد ، ومررت بزيد الفاسق ، وبعمرو المسكين ، وقد يكون تشنيعا ، نحو : .. بزيد الغاصب حقّي ؛
وقد ذكرنا في النداء حال هذه المنصوبات والمرفوعات (٤) ؛ ويونس ، أوجب الإتباع
__________________
(١) هذا من قصيدة لأمية بن أبي عائذ الهذلي أولها :
ألا يا لقومي لطيف الخيال |
|
أرّق من نازح ذي دلال |
والبيت الشاهد في وصف الصياد ، يعني أنه يعود إلى مأواه بعد غيبته للصيد فيجد نساءه في أسوأ حال ، من شعت الشعر وقبح المنظر لعدم عنايتهن بأنفسهن في غيبته ، وتقدم هذا الشاهد في الجزء الأول في باب الاختصاص.
(٢) من شعر الخرنق بنت بدر بن هفّان وهي أخت طرفة بن العبد لأمه ، وهذا الشعر دعاء لمن بقي من قومها ومدح لهم بأعلى الصفات وأكرمها ، هكذا قال بعضهم ، وقيل انه رثاء لمن مات منهم ، وأخرجته مخرج الدعاء للحيّ ، كما كانوا يفعلون ، امّا استفظاعا لموت من مات وإنكارا له ، فيدعون له كأنه ما يزال حيا ، واما دعاء له ببقاء ذكره فلا يهلك الحديث عنه كما هلك هو ؛
(٣) الآيتان ١ ، ٢ من سورة الهمزة وتقدم ذكرهما قريبا ،
(٤) يقصد بيان محل جملة النعت المقطوع وأنها إما استثنافية فلا محل لها ، أو في موضع الحال فمحلها النصب ،
في الترحّم ، إمّا على النعت فيما أمكن ، وإمّا على البدل ، فيما لم يمكن ، نحو : رأيته البائس ومررت به المسكين ؛
والخليل أجاز قطعه رفعا ونصبا ، كما في المدح والذم ؛
ولو لم يتضمن النعت شيئا من المعاني المذكورة ، لم يجز قطعه كقولك بزيد البزّاز ، أو صاحب الثّياب ، إلا بعد بل ، ولكن ، فإنه يجوز قطع ما بعدهما على الرفع ، قصدت المعاني المذكورة (١) ، أو ، لا ؛ وسواء كان المعطوف عليه نعتا ، أو ، لا ؛ لأنهما حرفان للاضراب والاستدراك ، فهما مؤذنان بالقطع ، تقول : مررت برجل قائم ، بل قاعد ، وفي غير النعت : ما زيد قائما بل قاعد ، أو لكن قاعد ؛
وربّما قطع النعت الأول بالواو ، والاتباع باق بحاله ، إذا طال ذيل المنعوت ، كما قال الزجّاج في : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) إلى قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ)(٢) ، إن «الموفون» صفة «من آمن» ؛
وهذا الذي ذكرناه من شروط النعت المقطوع ، إنما يعتبر إذا جاز الاتباع على النعت أيضا ، فأمّا إذا لم يجز ، كما في الأمثلة المذكورة في القسم الأول ، أي في جمع الأوصاف مع تفرق الموصوفات ، فلا ؛
ورابعها (٣) : حذف الموصوف ؛
اعلم أن الموصوف يحذف كثيرا ، إن علم ، ولم يوصف بظرف أو جملة ، كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) (٤) ؛ فإن وصف بأحدهما جاز كثيرا ، أيضا ، بالشرط المذكور بعد ، لكن ، لا كالأوّل في الكثرة لأن القائم مقام الشيء ينبغي أن يكون
__________________
(١) التي هي المدح والذم والترحم ؛
(٢) من الآية ١٧٧ سورة البقرة ، وتقدمت ،
(٣) رابع الأحكام الخاصة بالنعت
(٤) الآية ٤٨ سورة الصافات ،
مثله ، والجملة مخالفة للمفرد الذي هو الموصوف ، وكذا الظرف والجارّ ، لكونهما مقدّرين بالجملة على الأصح ؛
وإنما يكثر حذف موصوفهما ، بشرط أن يكون الموصوف بعض ما قبله المجرور بمن أو في ، قال تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ)(١) ، وقال : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ)(٢) ، أي : ما من ملائكتنا إلا ملك له مقام معلوم ، وقال الشاعر :
٣٣٢ ـ وما الدهر إلا تارتان فمنهما |
|
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (٣) |
أي : منهما تارة أموت فيها .. ، وحكى سيبويه : ما منهم مات إلا رأيته في حال كذا (٤) ، وقال :
٣٣٣ ـ وكلمتها ثنتين كالماء منهما |
|
وأخرى على لوح أحرّ من الجمر (٥) |
وقال :
٣٣٤ ـ لو قلت ما في قومها ، لم تيثم |
|
يفضلها في حسب وميسم (٦) |
__________________
(١) الآية ١١ سورة الجن ،
(٢) الآية ١٦٤ سورة الصافات ،
(٣) هذا من شعر تميم بن أبيّ بن مقبل وهو شاعر إسلامي ، وبعد هذا البيت :
وكلتاهما قد خطّ لي في صحيفتي |
|
فلا العيش أهوى لي ولا الميت أروح |
وقوله : أهوى معناه : أكثر هوى ، وأروح أي أكثر راحة ؛
(٤) قد يريد أنه رأى ، في منامه ، كل من مات قبله وعرف حاله بعد موته من نعيم أو عذاب ،
(٥) هذا من أبيات منسوبة لشاعر اسمه أبو العميثل وهو عبد الله بن خالد ، وفي رواية البيت اختلاف في ألفاظه ، وقد استوفى البغدادي الكلام عليه في خزانة الأدب ؛
(٦) من رجز لحكيم بن معيّة الرّبعي ، من بني ربيعة ، وهو شاعر إسلامي معاصر للعجّاج ، وبعد هذا الشاهد :
عفيفة الجيب حرام المحرم |
|
من آل قيس في النصاب الأكرم |
وقوله : لم تيتم بكسر التاء : أصله تأثم مضارع أثم ، وبعد كسر حرف المضارعة كما هو لغتهم ، أبدلت الهمزة ياء جوازا والميسم بكسر الميم من الوسامة وهي الحسن ،
فإن لم يكن (١) كذا ، لم تقم الجملة ، والظرف مقامه إلا في الشعر ، قال :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا |
|
متى أضع العمامة تعرفوني (٢) ـ ٣٨ |
وقال :
٣٣٥ ـ مالك عندي غير سهم وحجر |
|
وغير كبداء شديدة الوتر |
ترمى بكفيّ كان من أرمى البشر (٣) |
وقال :
٣٣٦ ـ كأنك من جمال بني أقيش |
|
يقعقع بين رجليه بشنّ (٤) |
وإنما كثر بالشرط المذكور ، لقوة الدلالة عليه يذكر ما اشتمل عليه قبله ، فيكون كأنه مذكور ؛
ثم اعلم أنه (٥) إن صلح النعت لمباشرة العامل إيّاه ، جاز تقديمه وإبدال المنعوت منه ، نحو ؛ مررت بظريف رجل ، قال :
٣٣٧ ـ والمؤمن العائذات الطير يمسحها |
|
ركبان مكة بين الغيل والسّند (٦) |
__________________
(١) فإن لم يكن ، أي المنعوت كذا ، أي مستوفيا للشرط المذكور وهو كونه مسبوقا باسم يشمله مجرور بمن أو في كما تقدم ؛
(٢) هذا من شعر سحيم بن وثيل الرياحي وتقدم في باب ما لا ينصرف في الجزء الأول
(٣) المراد بالكبداء : القوس التي يملأ مقبضها الكف ، ولا يعرف قائل هذا الرجز ويقول البغدادي : هذا الرجز :
قلّما خلا منه كتاب نحوي ، ومع ذلك لا يعرف قائله ، وتقدير الشطر الأخير : ترمي بكفي رجل أو رام أو نحو ذلك ،
(٤) هذا من قصيدة للنابغة الذبياني يخاطب عيينة بن حصن الفزاري ، وكان قد وقف إلى جانب بني عبس في قضية لهم ضد بني أسد وهم حلفاء لبني ذبيان ؛
(٥) هذا من الأحكام التي استطرد إليها ، وكذلك ما بعده ،
(٦) من معلقة النابغة الذبياني التي أولها
يا دارمية بالعلياء فالسند
وقوله : والمؤمن : الواو للقسم ، يعني والله الذي يؤمن الطير التي تعوذ بالحرم. حتى إن ركبان الحجاج تمسحها فلا تفزع منها ؛
وقريب منه قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ)(١) ، لأن حقّ «غربيب» أن يتبع «أسود» لكونه تأكيدا له ، نحو : أحمر قانئ (٢).
وإن لم يصلح لمباشرة العامل إيّاه ، لم يقدّم إلّا ضرورة ، والنيّة به التأخير ، كما تقول في : ان رجلا ضربك ، في الدار (٣) : إنّ ضربك رجلا ، في الدار ؛
وإذا وصفت النكرة بمفرد ، وظرف أو جملة ، قدّم المفرد ، وأخّر أحد الباقيين ، في الأغلب ، كقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ)(٤) ، وليس ذلك بواجب ، خلافا لبعضهم ، والدليل عليه (٥) قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ)(٦) ، وقوله : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ) (٧) ، وقال الشاعر :
كليني لهمّ يا أميمة ناصب |
|
وليل أقاسيه بطيء الكواكب (٨) ـ ١٣٣ |
وربّما نويت الصفة ولم تذكر للعلم بها ، قال :
٣٣٨ ـ ألا أيها الطير المربة بالضحى |
|
على خالد لقد وقعت على لحم (٩) |
أي : لحم أيّ لحم ؛
__________________
(١) الآية ٢٧ سورة فاطر
(٢) أي شديد الحمرة ، كما أن غربيب معناه شديد السواد ؛
(٣) في الدار هو الخبر ، وجملة ضربك هي النعت في المثالين ،
(٤) الآية ٥٠ من سورة الأنبياء ،
(٥) أي على عدم وجوبه
(٦) من الآية ٧٠ سورة الأنعام
(٧) من الآية ٥٤ سورة المائدة ؛
(٨) مطلع قصيدة للنابغة الذبياني من اعتذارياته للنعمان وتقدم ذكره في الجزء الأول أكثر من مرة ؛
(٩) المقصود بهذا البيت : خالد بن زهير ، ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي ؛ والبيت من قصيدة نسبت إلى أبي خراش الهذلي ، وقيل ان البيت من شعر خراش ابن أبي خراش الهذلي ، في رثاء خالد بن زهير وكان قد قتل ؛ والمربّة : المقيمة الملازمة لجثته ، من أربّ بالمكان أي أقام ؛
وإذا ولي النعت «لا» أو «إمّا» وجب تكريره ، كما ذكرنا في الحال ، قال الله تعالى : (.. لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ)(١) ، وتقول : لقيت رجلا إمّا عالما وإمّا جاهلا ؛
وقد يوصف المضاف إليه لفظا ، والنعت للمضاف ، إذا لم يلبس ؛ ويقال له : الجرّ بالجوار ، وذلك للاتصال الحاصل بين المضاف والمضاف إليه ، فجعل ما هو نعت للأول معنى ، نعتا للثاني لفظا ، وذلك كما يضاف لفظا ، المضاف إليه ، إلى ما ينبغي أن يضاف إليه المضاف ، نحو : هذا جحر ضييّ ، وهذا حبّ رمّاني ، والذي لك : هو الجحر والحبّ ، لا الضبّ ، ولا الرمان ، والخليل يشترط في الجرّ بالجوار : توافق المضاف والمضاف إليه إفرادا وتثنية وجمعا ، وتذكيرا وتأنيثا ، فلا يجيز ، إلّا : هذان جحرا ضبّ خربان ، ولا يجيز : خربين (٢) ، خلافا لسيبويه ؛
واستشهد سيبويه (٣) بقوله :
٣٣٩ ـ فإيّاكم وحيّة بطن واد |
|
هموز الناب ليس لكم بسيىّ (٤) |
بجر هموز ؛
وقال بعض النحويين : إن التقدير : هذا جحر ضبّ خرب جحره ، بحذف المضاف إلى الضمير ، فاستتر الضمير المرفوع في «خرب» لكونه مرفوعا ، لقيامه مقام المضاف
__________________
(١) من الآية ٦٨ سورة البقرة ،
(٢) يعني لا يجيز جره بالجوار ، لعدم موافقته لما قبله في الافراد ؛
(٣) لم يستشهد سيبويه بهذا البيت ، وإنما استشهد بقول العجاج :
كأن نسج العنكبوت المرمل
يجرّ المرمل وهو صفة النسج وذلك في الكتاب ص ٢١٧ من الجزء الأول ، وفيه مناقشته للخليل.
(٤) البيت من شعر الحطيئة وهو يحذّر أعداءه من التعرض له ؛ ويريد نفسه بالحية فهو يقول اني أحمي عرضي كما تحمي الحية بطن الوادي الذي تقيم فيه ؛
المرفوع ، فيكون أصل قوله : هموز الناب : هموز ناب حبّته ، ثم حذف المضاف أي «حيّة» فبقي : هموز نابه ، ثم لما أضيف هموز إلى الناب : استتر الضمير فيه ، كما في حسن الوجه (١) ؛
__________________
(١) في النسخة المطبوعة كتب السيد الجرجاني بعد قوله : كما في حسن الوجه ، كتب ما يأتي : وفي كبير أناس في بجاد مزمل ؛ يشير إلى بيت امرئ القيس :
كأن ثبيرا في عرانين وبله |
|
كبير أناس في بجاد مزمل |
والمقصود أنه يؤوّل كما أوّل غيره بتحويل الإسناد ، لكن الجرجاني لم يشر كعادته أن ذلك الشاهد في بعض نسخ الشرح ، وكأن هذا البيت موجود في النسخة التي كتب عليها البغدادي فقد اعتبره شاهدا وكتب عليه ؛
[عطف النسق]
[قال ابن الحاجب :]
«العطف تابع مقصود بالنسبة مع متبوعه ، يتوسّط بينه وبين»
«متبوعه أحد الحروف العشرة ، وستأتي ، نحو : قام زيد»
«وعمرو» ؛
[قال الرضى :]
قوله : «مقصود بالنسبة» ، يخرج الوصف ، وعطف البيان والتأكيد ، على ما قال (١) ، لأن المقصود في هذه الثلاثة هو المتبوع ، وذلك لأنك تبيّن بالوصف ، المتبوع بذكر معنى فيه ، وتوضح بعطف البيان ، المتبوع بذكر أشهر اسميه ، ولا شك أنك إذا بيّنت شيئا بشيء ، فالمقصود هو المبيّن والبيان فرعه ؛ وكذا ، إنما تجيء بالتأكيد : إمّا لبيان أن المنسوب إليه مقدّما هو المنسوب إليه في الحقيقة ، لا غيره ، لم يقع فيه غلط ، ولا مجاز في نسبة الفعل إليه ، وإمّا لبيان أن المذكور باق على عمومه ، غير خاص ؛
ويعني بالنسبة (٢) : نسبة الفعل إليه ، فاعلا كان أو مفعولا ، ونسبة الاسم إليه إذا كان مضافا ؛
قوله : «مع متبوعه» ، يخرج البدل ، لأنه هو المقصود ، عندهم ، دون متبوعه ،
__________________
(١) أي المصنف في شرحه على الكافية ،
(٢) أي في التعريف المذكور للعطف ،
وسنذكر الكلام عليه في بابه ونذكر أن عطف البيان هو البدل ؛
ويخرج بقوله : مع متبوعه ، العطف بلا ، ولكن ، وأم ، وإمّا ، وأو ، لأن المقصود بالنسبة معها : أحد الأمرين : من المعطوف والمعطوف عليه ؛
قوله : «يتوسط بينه» إلى آخره ، ليس من تمام الحدّ ، بل هو شرط عطف النسق ، ذكره بعد تمام حدّه ، قال : ولم أستغن في الحدّ بقولي : تابع يتوسط بينه وبين متبوعه أحد الحروف العشرة ، لأن الصفات يعطف بعضها على بعض ، كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام |
|
وليث الكتيبة في المزدحم (١) ـ ٧٤ |
وقوله :
٣٤٠ ـ يا لهف زيّابة للحارث ال |
|
صابح فالغانم فالآيب (٢) |
ويجوز أن يعترض على حدّه بمثل هذه الأوصاف ، فإنه يطلق عليها أنها معطوفة ، إلّا أن يدّعي أنها في صورة العطف ، وليست بمعطوفة ، وإطلاقهم العطف عليها مجاز ؛
[العطف على الضمير]
[المرفوع والمجرور]
[قال ابن الحاجب :]
«وإذا عطف على المرفوع المتصل ، أكّد بمنفصل ، مثل :»
__________________
(١) تقدم الاستشهاد بهذا البيت في باب المبتدأ والخبر من الجزء الأول
(٢) البيت لشاعر جاهلي قيل اسمه : سلمة بن ذهل وقيل غير ذلك وكنيته ابن زيابة ، وزيابة اسم أمه ، وقيل اسم أبيه والحارث هو الحارث بن همام من بني شيبان ، والمقصود من البيت التهكم من الحارث بذكر ما يزعمه لنفسه من الشجاعة وأنه يغزو صباحا فيغنم فيرجع سالما ، وكان قد هدد ابن زيابة فردّ عليه بهذا وبعد هذا البيت يقول ابن زبابة :
والله لو لاقيته خاليا |
|
لآب سيفانا مع الغالب |
«ضربت أنا وزيد ، الّا أن يقع فصل ، فيجوز تركه مثل :»
«ضربت اليوم وزيد ؛ وإذا عطف على المضمر المجرور ، أعيد»
«الخافض ، مثل : مررت بك وبزيد» ؛
[قال الرضى :]
إنما أكد بالمنفصل في الأول ، لأن المتصل المرفوع كالجزء مما اتصل به لفظا من حيث إنه متصل لا يجوز انفصاله ، كما جاز في الظاهر والضمير المنفصل ، ومعنى من حيث إنه فاعل ، والفاعل كالجزء من الفعل ، فلو عطف عليه بلا تأكيد ، كان كما لو عطف على بعض حروف الكلمة ، فأكد أولا بمنفصل لأنه بذلك يظهر أن ذلك المتصل ، منفصل من حيث الحقيقة ، بدليل جواز إفراده مما اتصل به بتأكيده ، فيحصل له نوع استقلال ؛
ولا يجوز أن يكون العطف على هذا التأكيد الظاهر ، لأن المعطوف في حكم المعطوف عليه ، فكان يلزم ، إذن ، أن يكون هذا المعطوف أيضا تأكيدا للمتصل ، وهو محال ؛
فإن كان الضمير منفصلا نحو : ما ضربت إلّا أنت وزيد ، لم يكن كالجزء لفظا ، وكذا إن كان متصلا منصوبا ، نحو : ضربتك وزيدا ، لم يكن كالجزء معنى ؛ ويجوز تأكيد المتصل المرفوع ، لا لغرض العطف ، نحو : ضربت أنت ، وضربت أنا ؛
قوله : «إلّا أن يقع فصل فيجوز تركه» ، سواء كان الفصل قبل حرف العطف ، كقوله :
٣٤١ ـ فلست بنازل إلّا ألمّت |
|
برحلي أو خيالتها الكذوب (١) |
أو بعده ، كقوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)(٢) ، فإن المعطوف هو آباؤنا ، و «لا» زائدة ، لتأكيد النفي ؛
__________________
(١) هذا أحد أبيات وردت في ديوان الحماسة غير منسوبة ومنها البيت المشهور :
فقد جعلت قلوص بني زياد |
|
من الأكوار مرتعها قريب |
(٢) من الآية ١٤٨ سورة الأنعام ،
ومع الفصل قد يؤكد بالمنفصل ، كقوله تعالى : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ)(١) ، و: (ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا)(٢) ، وقد لا يؤكد (٣) ، والأمران متساويان. فلذا قال : ويجوز تركه ، وإنما جاز الترك لأن طول الكلام قد يغني عمّا هو الواجب ، فيحذف طلبا للاختصار ، نحو قولك : حضر القاضي امرأة ، و:
الحافظو عورة العشيرة (٤) ... ٢٨٩
بالنصب ، فكيف لا يغني عما ليس بواجب بل هو الأولى ؛ وذلك أن مذهب البصريين أن التأكيد بالمنفصل هو أولى ، ويجوّزون العطف بلا تأكيد ولا فصل ، لكن على قبح ، لا أنهم حظروه أصلا بحيث لا يجوز أن يرتكب ؛
وأمّا الكوفيون فيجوزون العطف المذكور بلا تأكيد ولا فصل من غير استقباح ؛
قوله : «وإذا عطف على المضمر المجرور أعيد الخافض» ، إنما لزم ذلك ، لأن اتصال الضمير المجرور بجارّه ، أشدّ من اتصال الفاعل المتصل ، لأن الفاعل إن لم يكن ضميرا متصلا جاز انفصاله ، والمجرور لا ينفصل من جارّه سواء كان ضميرا أو ظاهرا ، فكره العطف عليه ، إذ يكون كالعطف على بعض حروف الكلمة ، فمن ثمّ ، لم يجز ، إذا عطفت المضمر على المجرور ، إلا إعادة الجارّ أيضا ، نحو : مررت بزيد وبك ، والمال بين زيد وبينك ، وليس للمجرور ضمير منفصل ، كما يجيئ في المضمرات ، حتى يؤكد به أوّلا ثم يعطف عليه ، كما عمل في المرفوع المتصل ، فلم يبق إلّا إعادة العامل الأوّل ، سواء كان اسما ، نحو : المال بيني وبين زيد ، أو حرفا نحو : مررت بك وبزيد ؛
ولا يعاد العامل الاسميّ إلّا إذا لم يشك أنه لم يجلب (٥) إلا لهذا الغرض ، وأنه لا معنى
__________________
(١) الآية ٩٤ سورة الشعراء ،
(٢) الآية ٣٥ سورة النحل ،
(٣) أشرنا غير مرة إلى ضعف هذا التعبير ،
(٤) الشاهد المتقدم وبقيته : لا يأتيهم من ورائها وكف ؛
(٥) يعني أنه لا يعاد الخافض إلا في حالة التأكد من أن الغرض من اجتلابه مع الثاني هو تصحيح العطف فقط وأنه غير مفيد لمعنى جديد ؛
له ، كما في قولنا : بينك وبين زيد ، إذ لا يمكن أن يكون هناك بينان : بين بالنسبة إلى زيد وحده ، وبين آخر بالنسبة إلى المخاطب وحده ، لأن البينيّة أمر يقتضي طرفين ، فعلمنا أن تكرير الثاني لهذا الغرض فقط ؛ فإن ألبس ، نحو : جاءني غلامك وغلام زيد ، وأنت تريد غلاما واحدا مشتركا بينهما ، لم يجز ، بلى ، يجوز ، إذا قامت قرينة دالة على المقصود ؛
فإن قلت : فما تقول بعد إعادة الخافض؟ أتقول : الجار والمجرور عطف على الجار والمجرور ، أم تقول : المجرور عطف على المجرور؟ ؛
قلت : النظر المستقيم يقتضي أن القول بالثاني أولى ، وذلك لأن القول به في نحو : المال بيني وبينك ، متعيّن ، إذ لا معنى للمضاف الثاني ، كما مرّ ، فلا يمكن عطف المضاف على المضاف لفساد المعنى ؛
وفي نحو : مررت بك وبزيد ، وإن أمكن أن يكون للباء الثانية فيه معنى ، إذ لا تقتضي الباء الأولى من حيث المعنى ، اسمين ينجرّان بها ، كما اقتضى معنى «بين» ذلك ، إذ يمكن أن يكون استؤنف معنى الجار والمجرور ، فيكون بسبب الاستثناف ، للباء الثانية معنى ، ولا يمكن ذلك في «بين» الثانية ؛ إلّا أننا لما عرفنا أن الباء الثانية مجتلبة لمثل الغرض الذي اجتلبت له «بين» الثانية ، بعينه ، وجب الحكم بكون المجرور عطفا على المجرور ههنا ، كما في مسألة «بين» ؛
فإذا تقرّر هذا فلنا أن نقول : المعطوف مجرور مع تكرر العامل بما كان مجرورا به قبل تكرره ، أعني العامل الأول ، لأن وجود الثاني لأمر لفظي ، وهو من حيث المعنى كالعدم ، كما قال سيبويه في نحو : لا أبا لزيد ، انّ جرّه بالإضافة ، لا باللام الظاهرة ؛
والأولى (١) أن نحيل جرّه على العامل المتكرر ، إذ ليس بأقل من الحروف الزائدة ، نحو : كفى بزيد ، فإنها لا تلغى مع زيادتها ؛
__________________
(١) لا يتفق هذا مع ما استظهره وأقام الدليل عليه من أن المجرور معطوف على المجرور ، وربما كان قصده هنا راجعا إلى المثال الذي قال عن رأي سيبويه فيه إن جره بالإضافة لا باللام ؛
وهذا الذي ذكرنا أعني لزوم إعادة الجارّ في حال السّعة والاختيار : مذهب البصريين ، ويجوز عندهم تركها (١) اضطرارا ، كقوله :
٣٤٢ ـ فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا |
|
فاذهب فما بك والأيام من عجب (٢) |
وأجاز الكوفيون ترك الإعادة في حال السعة مستدلين بالأشعار ، ولا دليل فيها ، إذ الضرورة حاملة عليه ، ولا خلاف معها ؛ وبقوله تعالى : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)(٣) ، بالجرّ ، في قراءة حمزة (٤) ؛
وأجيب بأن الباء مقدرة ، والجرّ بها ؛ وهو ضعيف ، لأن حرف الجر لا يعمل مقدرا في الاختيار إلّا في نحو : الله لأفعلنّ ، وأيضا لو ظهر الجارّ فالعمل للأول ، كما ذكرنا ، ولا يجوز أن تكون الواو للقسم لأنه يكون ، إذن ، قسم السؤال ، لأن قبله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) وقسم السؤال لا يكون إلا مع الباء كما يجيء (٥) ؛
والظاهر أن حمزة جوّز ذلك بناء على مذهب الكوفيين لأنه كوفي ، ولا نسلم تواتر القراءات (٦) ؛
وذهب الجرمي (٧) وحده ، إلى جواز العطف على المجرور المتصل بلا إعادة الجارّ ، بعد تأكيده بالضمير المنفصل المرفوع نحو : مررت بك أنت وزيد ؛ قياسا على العطف على الضمير المتصل المرفوع ؛ وليس بشيء لأنه لم يسمع ذلك ، مع أن تأكيد المجرور
__________________
(١) أي ترك الإعادة ؛
(٢) قرّبت أي أخذت وشرعت ، ولم ينسب البيت إلى قائل مع كثرته في كتب النحو ، وقال البغدادي انه من أبيات سيبويه التي جهل قائلوها ؛
(٣) من الآية الأولى في سورة النساء ،
(٤) حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة وتقدم ذكره ،
(٥) يجيئ في باب القسم آخر الكتاب ، وتقدم للرضي حديث عنه في آخر باب الاستثناء من هذا الجزء ؛
(٦) يتكرر من الرضي هذا الطعن في القراءات السبع وإنكار تواترها ، وتقدم له مثل ذلك في الفصل بين المضاف والمضاف إليه ،
(٧) صالح بن إسحاق الجرمي ممن تكرر ذكرهم في هذا الشرح ،
بالمرفوع خلاف القياس ، وإعادة الجار أقرب وأخفّ ؛
فإن قيل (١) : كيف جاز تأكيد المرفوع المتصل في نحو : جاءوني كلهم ، والابدال منه ، نحو : أعجبتني جمالك ، من غير شرط تقدم التأكيد بالمنفصل ، وجاز أيضا ، أعجبت بك جمالك من غير إعادة الجارّ ؛ ولم يجز العطف في الأول إلّا بعد التأكيد بالمنفصل ، وفي الثاني إلّا مع إعادة الجارّ؟ ؛
فالجواب أن التأكيد والبدل ليسا بأجنبيّين منفصلين عن متبوعهما ، لا لفظا ولا معنى ، أمّا معنى فلأن البدل ، في الأغلب : إمّا كل المتبوع أو بعضه أو متعلّقه ، والغلط قليل نادر ؛ والتأكيد عين المؤكد ؛ وأمّا اللفظ فلأنه لا يفصل بينهما وبين متبوعهما بحرف كما في عطف النسق فلم ينكر جري ما هو كالجزء من متبوعه على ما هو كالجزء من عامله ، لتوافق التابع والمتبوع من حيث كون كل واحد منهما كالجزء مما قبله ، ومتصل به ؛ وأمّا عطف النسق فمنفصل عن متبوعه لفظا بحرف العطف ومعنى من حيث إن المعطوف ، في الأغلب ، غير المعطوف عليه ، فأنكر جري ما هو مستقل وكالأجني من متبوعه ، على ما هو كالجزء مما قبله لتخالف التابع والمتبوع ؛
فإن قلت : فهلّا طردوا الحكم على هذا الوجه في جميع التواكيد ، إذ كلها متصلة بمتبوعاتها كما قلت ، ولم أفردوا النفس والعين بتأكيد متبوعهما الذي هو مرفوع متصل ، أوّلا بالمنفصل ، قبل التأكيد ؛
قلت : ذلك لعلة أخرى ، وذلك لأن النفس والعين كثيرا ما يليان العامل ويقعان غير تأكيد ، نحو : طابت نفس فلان ، ولقيت عينه ، فلو لم نؤكد معهما أوّلا بالمنفصل ، لالتبس الفاعل إذا كان غائبا أو غائبة بالتأكيد نحو : زيد جاءني نفسه ، وهند جاءتني نفسها ، ثم طرد الحكم في البواقي ، مع أن ضمائرها بارزة ، نحو : ضربتني أنت نفسك ، وإن لم يلتبس ؛
__________________
(١) هذه المناقشة راجعة إلى الأمرين السابقين في العطف على الضمير مرفوعا ومجرورا ؛
وأمّا كل ، وأجمع ، فلا يلتبسان بالفاعل (١) في نحو : الكتاب قرئ كلّه ، لأن «كلا» لا يلي العوامل الظاهرة أصلا فلا تقول (٢) : جاءني كلكم ، ولا قتلت كلكم ، ولا مررت بكلكم ، بلى ، قد استعمل مبتدأ ، لا غير ، إمّا لأن العامل معنوي ، كما هو مذهب الجمهور ، أو لأنّ مرتبته التأخر ، أعني خبر المبتدأ ، كما اخترنا في أول الكتاب ؛
هذا وقد علل المصنف اختصاص النفس والعين بتقدم تأكيد مؤكّدهما بالمنفصل ، بأنهم كرهوا أن يؤكدوا الجزء بما هو كالمستقل ، قال : لأن النفس تستعمل غير تأكيد ولفظ «كل» لا يستعمل إلا تأكيدا ؛ وهذه العلة تبطل عليه في قولهم : مررت بك نفسك ؛ فالأولى ما قدّمناه ؛
[المعطوف في حكم المعطوف عليه]
[معنى ذلك وأثره]
[قال ابن الحاجب :]
«والمعطوف في حكم المعطوف عليه ، ومن ثمّ لم يجز في ما زيد»
«بقائم أو قائما ولا ذاهب عمرو إلا الرفع ، وإنما جاز : الذي»
«يطير فيغضب زيد : الذباب ، لأنها فاء السببيّة» ؛
[قال الرضى :]
لا يريدون بقولهم ان المعطوف في حكم المعطوف عليه : أنّ كل حكم يثبت للمعطوف عليه مطلقا ، يجب ثبوت مثله للمعطوف حتى لا يجوز عطف المعرفة على النكرة وبالعكس ؛
__________________
(١) يكثر من الرضي التعبير عن نائب الفاعل بالفاعل ، وهو سائع لأنه قائم مقامه أو أنه يريد المسند إليه مع الفعل ؛
(٢) مع هذا التصريح من الرضي يقع منه استعمال كل تالية للعوامل اللفظية ، وأشرنا إلى ذلك كثيرا عند ورود مثل ذلك منه ؛
بل المراد : أن كل حكم يجب للمعطوف عليه بالنظر إلى ما قبله ، لا بالنظر إلى نفسه ، يجب ثبوته للمعطوف ، كما إذا لزم في المعطوف عليه بالنظر إلى ما قبله كونه جملة ذات ضمير عائد إليه (١) لكونه صلة له ، لزم مثله في المعطوف ؛ وكما إذا اقتضى ما قبله كونه نكرة ، كمجرور «ربّ» ، أو المجرور بكم ، وجب كون المعطوف كذلك ، فلذا ضعف :
الواهب المائة الهجان وعبدها (٢) ... ـ ٢٨٥
وتقول في : ربّ شاة وسخلتها : إن المعطوف نكرة ، كما يجيء في باب المضمرات ؛ وكان يجب على الأصل المتقدم ألّا يجوز نحو قوله :
علفتها تبنا وماء باردا (٣) ـ ١٧١
وقوله :
٣٤٣ ـ يا ليت زوجك قد غدا |
|
متقلدا سيفا ورمحا (٤) |
لكنه إنما جاز لأن المنصوب بعد العاطف ههنا معمول لعامل مقدر معطوف على العامل الأول ، حذف اعتمادا على فهم المراد ، أي : علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا ، ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا ،
وكذا وجب ، بناء على الأصل المتقدم (٥) ، ألّا يجوز : يا زيد والحارث لوجوب
__________________
(١) أي إلى المتقدم على المعطوف عليه ،
(٢) تقدم هذا الشاهد كاملا في باب الإضافة من هذا الجزء ،
(٣) هذا شطر ورد صدرا وعجزا وتقدم ذكره في باب المفعول معه من الجزء الأول ص ٥٢٠
(٤) لعبد الله بن الزبعري ، كما قال الأخفش وقد ورد في عدد من كتب اللغة والنحو ، ورواه صاحب الانصاف :
يا ليت بعلك في الوغى ، وصحة الرواية ما أثبتناه هنا ، وله تأويل آخر غير ما ذكره الرضي وهو أن يكون قد ضمن «متقلدا» معنى يصح تسليطه على المعطوف والمعطوف عليه معا كأن يكون التقدير مثلا : يا ليت زوجك حاملا سيفا ورمحا ؛
(٥) وهو أن المعطوف في حكم المعطوف عليه بالتفسير الذي ذكره ،
تجرّد المعطوف عليه من اللام ، بالنظر إلى «يا» ، لكن لما كان المكروه هو اجتماع اللام وحرف النداء ، ولم يجتمعا حال كون اللام في المعطوف ، جاز ، كما في : يا أنّها الرجل ؛
وإن وجب للمعطوف عليه حكم بالنظر إلى نفسه وإلى غيره معا ، وجب مثله للمعطوف ، إن كان في نفسه مثل المعطوف عليه ، فلذا ، وجب بناء المعطوف في : يا زيد وعمرو ، لأنّ ضم المنادى بالنظر إلى حرف النداء وإلى كونه مفردا معرفة ؛
وكان يجب بناء المعطوف ، على هذا الأصل في : لا رجل وامرأة ، كما في النداء ، لكن العلة قد تقدمت (١) في المنصوب بلاء التبرئة (٢) ؛
وإن لم يكن حال المعطوف في نفسه كحال المعطوف عليه لم يجب فيه ما وجب في المعطوف عليه ، فلذا لم يضمّ المعطوف في : يا زيد وعبد الله ، لأن ضم المنادى ليس لحرف النداء فقط ، بل لذلك ولكونه مفردا معرفة ، كما قلنا ؛
وكذا لم ينصب المعطوف في : لا رجل ولا زيد عندي. لأن نصب اسم «لا» ، بالنظر إلى «لا» وإلى قابل النصب وهو المنكر المضاف والمضارع له ، لا بالنظر إلى «لا» وحدها ، فنقول (٣) :
يجوز عطف الخبر الجامد على المشتق نحو : زيد أحمر ورجل شجاع ، وذلك لأن الضمير في المشتق الواقع خبرا ، لم يجب لكونه خبرا فقط ، إذ خبر المبتدأ يتجرد أيضا عن الضمير إذا كان جامدا ، بل بالنظر إلى نفسه أيضا وهو كونه مشتقا ، إذ الخبر المشتق لا بدّ من ضمير فيه أو في معموله ؛
فالمقصود (٤) : ان المعطوف يجب أن يكون بحيث لو حذف المعطوف عليه ، جاز قيامه مقامه ؛
__________________
(١) انظر في هذا الجزء ، ص ١٧٣ ،
(٢) بينّا في غير موضع وجه تعبير الرضي بلاء التبرئة من جهة وجود الهمزة في «لاء» ومعنى كونها للتبرئة ،
(٣) تفريع آخر على الأصل الذي أثبته وبيّن معناه ،
(٤) هذه خلاصة أخيرة لمعنى أن المعطوف في حكم المعطوف عليه ؛