شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

أمّا إذا أرادوا الوحدة والاثنينيّة والاجتماع باعتبار نسبة الفعل ، أضافوا (١) الألفاظ الدالة على هذه المعاني ، إلا لفظ «جميع» ، فإن الأغلب فيه ، كما يجيء ، قطعه عن الإضافة مع قصدك اجتماع المذكورين باعتبار نسبة الفعل ، وهذه الألفاظ باعتبار هذا المعنى على ضروب : فبعضها لم يجئ إلّا منصوبا على الحال وهو «وحده» فقط ، تقول : جاءني زيد وحده ، أي لم يشاركه أحد في المجيء ؛ وبعضها لم يجئ إلا تابعا على أنه تأكيد ، وهو «كلا» ، ومعناه : اثنان ، كما ذكرنا ، إلا أن «اثنان» لم يستعمل مضافا في المشهور الفصيح ، استغناء بكلا ، ويستعمل العوام : بالزيدين اثنيهما ؛

وأجمعون ومتصرفاته مثل «كلا» ، لا تجيء إلا تابعة مضافة في التقدير ، على رأي الخليل ، وربّما نصبت «جمعاء» و «جمع» حالين. كجاءتني القبيلة جمعاء والقبائل جمع ، وهو قليل ، وقد يضاف أجمعون ، إضافة ظاهرة ، فيؤكّد به لكن بباء زائدة ، نحو : جاءني القوم بأجمعهم (٢) ، ولا يقال : جاءني القوم أجمعهم ، بخلاف : «عينه» فانه يؤكد بها مع الباء وبدونها ، نحو : رأيته عينه وبعينه ؛

وأمّا جميع ، فهو بمعنى «أجمعين» ، ويستعمل على أحد ثلاثة أوجه ؛ إمّا مقطوعا عن الإضافة ، حالا ، كقوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً)(٣) ، أي بهم أجمعين ؛ وليس بمعنى مجتمعين في حال المجيى ، وإن أردت ذلك المعنى فقل : يأتيني بهم معا ، بل معناه أنه لا يتخلّف منهم أحد ، اجتمعوا في الإتيان أو افترقوا ؛ كأجمعين ، من حيث المعنى سواء ،

وإمّا مضافا غير تأكيد تاليا للعوامل ، نحو : مررت بجميع القوم ، ورأيت جميعهم ؛

وإمّا مضافا تأكيدا ، وهو أقل الثلاثة ، نحو : جاءني القوم جميعهم ؛

__________________

(١) يتكرر مثل هذا التعبير من الرضي وقد أشرنا إلى ذلك ، ولفظ «أضافوا» جواب قوله «أما» فحقه الفاء ، أو يقول فإذا أرادوا ؛

(٢) ورد فيه مع الباء : ضم الميم ،

(٣) من الآية ٨٣ سورة يوسف

٣٦١

وبعضها يستعمل مرة تابعا على التأكيد ، ومرة حالا ، وذلك من الثلاثة فما فوقها ، كما مرّ في باب الحال (١) ، نحو : جاءني القوم ثلاثتهم ، وجاءوني ثلاثتهم ؛ ولا يؤكد بثلاثة وأخواتها إلا بعد أن يعرف المخاطب كميّة العدد قبل ذكر لفظ التأكيد ، وإلّا لم يكن تأكيدا ، بخلاف الوصف في نحو : جاءني رجال ثلاثة ؛

فتبيّن بهذا أنك تقول في الوصف : واحد ، واثنان ، وجماعة لغير معيّن العدد ، وثلاثة وأربعة فصاعدا لمعيّن العدد ؛ وتقول في التأكيد أو الحال وهما بمعنى واحد ههنا : وحده ، وكلاهما ، وأجمعون وأخواته لغير معيّن العدد ، وثلاثتهم وأربعتهم فما فوق ذلك ، لمعيّن العدد ؛

فإذا قصدت الوصف ، لم يكن في هذه الألفاظ نظر إلى نسبة الفعل إلى متبوعاتها ، وإذا قصدت بها التأكيد أو الحال فلا بدّ من النظر إلى متبوعها أو صاحبها ؛

فعلمنا أنه لا فرق بين هذه الألفاظ : تواكيد ، وصفات ، إلّا بالنظر إلى شمول النسبة ، فلا تخرج هذه الألفاظ صفات عن حدّ التأكيد ، إلا بقوله : أو الشمول ، وإلّا ، فمعناها تأكيدا ، وصفة ، سواء ؛

قال المصنف : يدخل عطف البيان في قولنا : يقرر أمر المتبوع ، ويخرج بقولنا : في النسبة أو الشمول ؛

أقول : إن كان معنى التقرير ما ذكرت ، وهو تحقيق ما ثبت في اللفظ الأول ودلّ عليه ، فليس جميع ما هو عطف البيان مدلولا عليه بلفظ المتبوع ، نحو : جاءني العالم زيد ، والفاضل عمرو ، إذ لا دلالة للعالم على زيد ، بلي ، ربّما دلّ بعض متبوعاته عليه ، [لكن لا بعينه](٢) ، وذلك مع قلة الاشتراك نحو :

٣٤٨ ـ أقسم بالله أبو حفص عمر (٣)

__________________

(١) انظر في هذا الجزء ؛ ص ٢١ ،

(٢) جملة لكن لا بعينه زيادة جاءت في بعض النسخ وفي إثباتها توضيح للمعنى ،

(٣) سيأتي هذا الشاهد مشروحا موضحا في كلام الرضي في باب البدل ؛

٣٦٢

إذا فرضنا أنه ليس هناك من سمّي بأبي حفص إلا اثنان أو ثلاثة ؛ وإن كان المراد بالتقرير : التوضيح ، فالوصف داخل أيضا ، وإن كان شيئا آخر فليس بواضح ، وينبغي صيانة الحدود عن مثل هذه المحتملات ؛

[أقسام التوكيد]

[الألفاظ المستعملة في المعنوي]

[قال ابن الحاجب :]

«وهو لفظي ومعنوي ، فاللفظي تكرير اللفظ الأول ، مثل»

«جاءني زيد زيد ، ويجري في الألفاظ كلها ؛ والمعنوي»

«بألفاظ محفوظة ، وهي : نفسه ، وعينه ، وكلاهما ، وكله»

«وأجمع وأكتع وأبتع وأبصع ؛ فالأولان يعمّان باختلاف»

«صيغهما وضميرهما ، تقول : نفسه نفسها ، أنفسهما»

«أنفسهم ، أنفسهن والثاني ، للمثنى : كلاهما كلتاهما»

«والباقي لغير المثنى باختلاف الضمير في : كله ، وكلها»

«وكلهم ، وكلهنّ ، والصيغ في البواقي : أجمع ، جمعاء»

«أجمعون ، جمع» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أن التأكيد ، إمّا لتقرير شمول النسبة ، وهو بأن يكرر من حيث المعنى ، ما فهم من المتبوع تضمنا لا مطابقة ، وذلك ، بكلا ، وكلّ ، وأجمع ، وثلاثتهم وأربعتهم ، ونحو ذلك ؛

وإمّا لتقرير أصل النسبة ، وهو إمّا بتكرير لفظ الأوّل ، أو بتكرير ما دلّ عليه المتبوع مطابقة ، وذلك بالنفس والعين ، وما يتصرف منهما ؛

والتكرير اللفظي يجري في الألفاظ كلها ، أسماء كانت ، أو أفعالا ، أو حروفا ، مفردة كانت أو جملا ، أو غير ذلك ؛

٣٦٣

والمكرر إمّا مستقل أو غير مستقل ، والمستقل : ما يجوز الابتداء به مع الوقف عليه ، وغير المستقل : ما لا يجوز فيه ذلك ، كالضمير المتصل وكل حرف ، إلا التي تؤدي معنى الجملة وتحذف معها الجملة في الغالب ، وهي : لا ، ونعم ، وبلى ؛ فإن جميعها يصح الوقف عليها مع الابتداء بها ؛

فغير المستقل إن كان على حرف واحد كواو العطف وفائه ، ولام الابتداء ، أو كان مما يجب اتصاله بأول نوع (١) من الكلم ، كحروف الجر لأنها لا تنفك عن مجرور بعدها ، أو بآخر نوع منها ، كالضمائر المتصلة ؛ فإنه لا يكرّر وحده إلّا في ضرورة الشعر ، نحو قوله :

فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (٢) ـ ١٣٠

وقوله :

وصاليات ككما يؤتفين (٣) ـ ١٣١

والكاف واللام على حرف واحد مع وجوب اتصالهما بمجرور ؛ بل يكرر مع عماده نحو : مررت بك بك ، وانك انك ، وضربت ضربت ؛

وإن كان العماد في الأول معمولا ظاهرا ، فالمختار : عمد الثاني بضميره ، لا بظاهره ، كقولك : زيد قائم في الدار فيها ؛

وإن لم يكن غير المستقل على حرف ولا واجب الاتصال ، جاز تكريره وحده ، نحو : إنّ إنّ زيدا قائم ، والأحسن الفصل بينهما نحو : إن في الدار ان زيدا قائم ، وليت بكرا ليته قائم ، ويجوز عمده بظاهر ، أيضا ؛

وقد جوّزوا في تكرير الضمير المتصل وجها آخر غير تكرير العماد وهو أن تكرره

__________________

(١) يعني يكون من الألفاظ التي تتصل بأوائل بعض الكلمات أو بأواخرها ؛

(٢) تقدم ذكر هذا البيت في باب النداء حيث ذكر هناك استطرادا ،

(٣) وكذلك هذا الشطر ، تقدم في الموضع السابق ، من الجزء الأول

٣٦٤

منفصلا ، فتقول في المرفوع : ضربت أنت ، وهو من باب تكرير اللفظ ، وإن كان الثاني مخالفا للأول لفظا ، إذ الضرورة داعية إلى المخالفة ، لأنه لا يجوز تكريره متصلا بلا عماد ، لئلا يصير المتصل غير متصل ؛

وتقول في المجرور : مررت بك أنت ومررت به هو ، لأنه لا ضمير للمجرور منفصل حتى يؤكد به ، فاستعير له المرفوع ؛

وأما المنصوب المتصل فأصله : ألّا يؤكد إلا بالمنصوب المنفصل ، إذ للمنصوب ضمير منفصل فيقال : رأيتك إياك ، ورأيته إياه ، لكنهم كما أجازوا تأكيده بالمنصوب المنفصل أجازوا تأكيده بالمرفوع المنفصل ، نحو : رأيتك أنت ورأيته هو ؛ فالمرفوع المنفصل يقع تأكيدا لفظيا لأي متصل كان ، مرفوعا أو منصوبا ، أو مجرورا ؛ وإنما كان كذا دون المنصوب المنفصل. لقوّته وأصالته ، إذ المرفوع قبل المنصوب والمجرور ، فتصرّف فيه أكثر ؛

ومن ثمّ لم يقع الفصل (١) ، إلا بصيغة المرفوع المنفصل ، كما يجيء في باب الضمائر ؛ ولو لا هذا النظر ، لكان القياس أن يؤكد الضمير المجرور بالمنصوب المنفصل ، لما بين الجر والنصب من الأخوّة ، كما مرّ في باب المثنى وجمعي التصحيح (٢) ، وباب ما لا يتصرف (٣)

وقال النحاة : إن المنفصل في نحو : ضربتك أنت : تأكيد ، وفي : ضربتك إياك بدل ، وهذا عجيب ، فإن المعنيين واحد ، وهو تكرير الأول بمعناه فيجب أن يكون كلاهما تأكيدا لاتحاد المعنيين ، والفرق بين البدل والتأكيد معنوي كما يظهر في حدّ كل منهما ؛

وقال الزمخشري في : مررت بك بك (٤) : إن الثاني بدل ، وهذا أعجب من الأول ،

__________________

(١) المراد ما يسمونه ضمير الفصل ،

(٢) يعني في الكلام على أوجه إعرابهما ص ٨٣ ج ١

(٣) ص ١٠٠ ج ١

(٤) شرح ابن يعيش على المفصل ج ٣ ص ٦٩ ،

٣٦٥

إذ هو صريح في التكرير لفظا ومعنى ، فهو تأكيد لا بدل ، وهذا مثل قوله في باب المنادى : إن الثاني في : يا زيد زيد : بدل ، وجميع ذلك تأكيد لفظي ، بلى يمكن في بدل البعض وبدل الاشتمال : إبدال الضمير المنصوب من المنصوب ، نحو : ثلث الرغيفين أكلتهما إياه ، وعلم الزيدين استحسنتهما إياه ، كما يجيء في باب البدل ، ولا يجوز ، إذن ، تخالف البدل والمبدل منه فلا يقال : أكلتهما هو ، كما جاز ذلك في التأكيد ، لأن المقصود في البدل هو الثاني ، فكأنه باشره الناصب ، فلا يجيء مرفوعا ، ألا ترى أنك تقول في باب النداء : يا زيد أخ ، فتجعله كالنداء المستقل ؛

هذا كله في غير المستقل ؛ وأمّا المستقل فتكرره بلا فصل ، نحو جاءني زيد زيد ، قال :

٣٤٩ ـ فأين إلى أين النجاء ببغلتي

أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس (١)

وقال في الحرف المستقل :

٣٥٠ ـ لا لا أبوح بحب بثنة انها

أخذت عليّ مواثقا وعهودا (٢)

أو مع فصل (٣) ، كقوله :

٣٥١ ـ تراكها من إبل تراكها (٤)

وقال تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٥) ؛

ويحسن التكرير ، إذا ذكرت ما يطلب شيئين ، أولهما له ذيل ، فيكرر المقتضى

__________________

(١) قائل هذا البيت مجهول ، والاستشهاد به كثير في كتب النحو ، ولم ينسبه أحد ممن استشهدوا به ؛

(٢) من كلام جميل بن معمر ، الذي اشتهر بجميل بثينة ، وبثنة في البيت هو اسمها ، وتصغيره بثينة ؛

(٣) مقابل لقوله : فتكرره بلا فصل ؛

(٤) تراك اسم فعل بمعنى اترك ، وقيل إن هذا الرجز لطفيل بن يزيد الحارثي وكان قد أغير على إبل له فلحق بالمغيرين وهو ينشد هذا الرجز ، وفي البيت روايات وحكايات كثيرة أوردها البغدادي في الخزانة ،

(٥) من الآية ٣٧ سورة يوسف ، وهي أيضا جزء من الآية ٧ سورة فصلت ؛

٣٦٦

بعد تمام ذيل الأول ، نحو قوله تعالى : «لا تَحْسَبَنَّ» بالتاء (١) ، (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بالتاء أيضا ، (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)(٢) ؛ فإنه طال المفعول الأول بصلته ؛

ثم ، التأكيد اللفظي على ضربين ، لأنك إمّا أن تعيد لفظ الأول بعينه نحو : جاءني زيد زيد ، وجاءني جاءني زيد ؛ أو تقويه بموازنه مع اتفاقهما في الحرف الأخير (٣) ، ويسمّى اتباعا ، وهو على ثلاثة أضرب : لأنه إمّا أن يكون للثاني معنى ظاهر ، نحو : هنيئا مريئا ، وهو سر بر ، أو لا يكون له معنى أصلا ، بل ضمّ إلى الأول لتزيين الكلام لفظا وتقويته معنى ، وإن لم يكن له في حال الإفراد (٤) معنى ، نحو قولك : حسن بسن فسن (٥) ، أو يكون له معنى متكلّف غير ظاهر نحو : خبيث نبيث ؛ من نبثت الشيء ؛ أي استخرجته ؛

وقولهم : أجمعون ؛ أكتعون أبتعون أبصعون ، قيل من القسم الثاني أي لا معنى لها مفردة ؛ وقيل من الثالث ، مشتقة من : حول كتيع أي تامّ ، ومن تبصّع العرق إذا سال أو من بصع أي روي ومن البتع وهو طول العنق مع شدة مغرزه ؛

وعلى الوجهين يمكن أن يحمل ما قال ابن برهان (٦) : إن هذه الألفاظ تأكيد لأجمعون ،

__________________

(١) هكذا جاء تمثيل الرضي ، وأراد بذلك أن يحدّد القراءة التي استشهد بالآية على أساسها ومن أجل هذا فصل بين أجزاء الآية ؛

(٢) الآية ١٨٨ سورة آل عمران ؛

(٣) وهو بذلك يكون من حيث اللفظ ، نوعا من الجناس ، ويكون الاتفاق في غير الحرف الأخير أيضا كما يتضح من الأمثلة ؛

(٤) أي حال استعماله وحده ،

(٥) هكذا جاء هذا المثال بذكر الكلمة الثالثة ، ولم أجدها في لسان العرب ولا في القاموس وشرحه مع أنهم ذكروا بسن على أنه اتباع لحسن ،

(٦) تقدم ذكره ،

٣٦٧

لا للمؤكد الأول ، فكأنه جعلها إمّا من القسم الثاني أو من الثالث ، لأنها بالنسبة لأجمعون ، كحسن بسن أو : خبيث نبيث ؛

وباب الاتباع بعضه مبنيّ ، كحيص بيص ؛ وحيث بيث ، كما يجيء في المركب ، ويجب أن يراعى تجانس اللفظين في باب الاتباع بما يمكن فلهذا قلبوا واو «بوص» ياء ، ، وأصله : حيص بوص ؛

وقد يكون مع التأكيد اللفظي عاطف نحو : والله ثم والله ، وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ)(١) بعد قوله : لا تحسبنّ ، بخلاف التأكيد المعنوي فإنه لا يعطف بعض ألفاظه على بعض ، ولا يقطع ، كما جاز العطف والقطع في الوصف ، فلا يقال : جاءني القوم كلهم وأجمعون ولا جاءني القوم كلّهم أجمعين ، لأنه إنما جاز العطف في الوصف لكون الوصف المعطوف مستقلا بنفسه مستغنيا عما تقدم عليه ، وجاز القطع فيه تنبيها على المدح أو الذم أو الترحم ، الذي فيه ؛ وألفاظ التوكيد ليست مستقلة مستغنية عما تقدم عليها فيعطف بعضها على بعض ، ولا فيها معنى المدح والذم والترحم فتقطع ، فلو عطفت أو قطعت ، لكان كعطف الشيء على نفسه ، وقطع الشيء عن نفسه ؛

وقد يفيد بعض الابدال معنى ألفاظ الشمول فيجري مجرى التأكيد ، وذلك قولهم : ضرب زيد ظهره وبطنه ، أو : يده ورجله ، وهو بدل البعض من الكل في الأصل ، ثم يستفاد من المعطوف والمعطوف عليه معا معنى «كلّه» ، فيجوز أن يكون ارتفاعهما على البدل ، وعلى التأكيد ،

وكذا قولهم : مطرنا سهلنا وجبلنا ، ومطرنا زرعنا وضرعنا ، والمراد بالضرع : المواشي (٢) ومطر قومك ليلهم ونهارهم ، هذه الثلاثة في الأصل بدل الاشتمال فجرت مجرى التأكيد ، لأن المعنى : مطرت أماكننا كلها ، ومطرت أموالنا كلها ، ومطرت أوقاتهم كلها ،

__________________

(١) الآية ١٨٨ من سورة آل عمران ،

(٢) لأنها إذا شبعت امتلأت ضروعها باللبن ،

٣٦٨

على حذف المضاف من متبوعاتها ؛ فيجوز أن يكون ارتفاعها على التأكيد ؛ ولجريها مجرى «أجمعون» جاز حذف الضمير منها ؛ ولا يطرد ذلك في بدل البعض وبدل الاشتمال ، فقيل (١) : ضرب زيد الظهر والبطن ، وضرب عمرو : اليد والرجل ، ومطرنا السهل والجبل ، ومطرنا الزرع والضرع ومطر قومك الليل والنهار ؛ وقولنا مطرت أوقاتهم ، كقولهم : صيد عليه يومان ، على إسناد الفعل المبني للمجهول إلى الزمان ؛

وقد جاء بعض هذه الخمسة منصوبا ، نحو : ضرب زيد ظهره وبطنه ، إمّا على أنه مفعول ثان (٢) ، أي على ظهره وبطنه ، كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ)(٣) ، أي من قومه ، أو على الظرف ، أي : في ظهره وبطنه ، نحو : دخلت البيت ، ومشيت الشام ؛ وعلى الوجهين ، لا يقاس عليه (٤) ، فلا يقال : ضرب زيد اليد والرجل ؛

وتقول : مطرتهم السماء ظهرا وبطنا (٥) ، نصب على الظرف أو المفعول الثاني ، أو البدل ، وكذا تقول : مطرنا السهل والجبل بالنصب على الظرف شاذا ، قال الخليل : يقال أيضا : مطرنا الزرع والضرع وانتصابه على أنه ظرف أو مفعول ثان ، وتقول : مطر قومك الليل والنهار ، على الظرف ؛

وهذا جميع ألفاظ التوكيد ؛

قوله : «فالأوّلان» ، يعني نفسه وعينه ، قوله : «يعمّان» أي يقعان على الواحد والمثنى والمجموع ، في المذكر والمؤنث ، فللواحد المؤنث تغير الضمير فقط ، تقول في نفسه وعينه : نفسها وعينها ، وتغيّر الصيغ مع الضمير في مثنى المذكر والمؤنث ومجموعهما ، نحو : الرجلان أو المرأتان أنفسهما وأعينهما ، وقد يقال : نفساهما وعيناهما ؛ على ما حكى

__________________

(١) مرتبط بقوله : جاز حذف الضمير منها ،

(٢) أي مفعول ثان بواسطة الحرف ،

(٣) من الآية ١٥٥ سورة الأعراف ،

(٤) يعني في حالة النصب ،

(٥) هكذا في الأصل ويمكن أن يكون معناه : ما ظهر من أماكنهم وما بطن فيكون مثل : سهلنا وجبلنا ،

٣٦٩

ابن كيسان (١) عن بعض العرب ؛ والأول أولى ، لأن نحو : قلوبكما ، أولى من : قلبا كما كما يجيء في باب المثنى ؛ وتقول : الرجال أنفسهم وأعينهم ، والنسوة أنفسهن وأعينهن ؛

قوله : «والثاني» ، يعني «كلا» لمثنى المذكر ، و «كلتا» لمثنى المؤنث ، تقول كلانا ، وكلتاهما وكلتاكما ؛

قوله : «والباقي» ، أي : كله ، وأجمع ، إلى : أبصع ، لغير المثنى أي : للمفردين ، والجمعين باختلاف الضمير فقط في «كله» و «كلها» و «كلهم» و «كلهن» ، وكذا : «جميعهم» ، وإن لم يذكره المصنف ؛ وباختلاف الصيغ في البواقي ، يعني في : أجمع وما بعده ؛ تقول للواحد المذكر : أجمع أكتع أبتع أبصع ، وللواحدة : جمعاء كتعاء بتعاء بصعاء ، ولجمع المذكر العاقل : أجمعون أكتعون أبتعون أبصعون ، ولجمع المؤنث : جمع كتع بتع بصع ، عاقلا كان أو غيره ؛

ويجوز لك إجراء ما للواحدة : أعني جمعاء وأخواتها على كل جمع إلّا جمع سلامة المذكر ، لأنه لا يؤنث كما يجيء ، فتقول : بالرجال أو بالنسوة أو بالقصور أو بالزينبات أو بالدّور ، كلها جمعاء كتعاء بتعاء بصعاء ، لتأويلك لها كلها بالجماعة ؛

ويجوز لك ، أيضا ، إجراء جميع الجموع ، إلا جمع المذكر السالم ، مجرى جمع المؤنث نحو : بالقصور أو بالدور كلهنّ جمع كتع بتع بصع ، كما تقول : بالنسوة وبالزينبات كلهن جمع كتع بتع بصع ؛

وجوّز الأندلسي (٢) في جمع المذكر العاقل إذا كان مكسّرا أن تقول : بالرجال كلهنّ جمع كتع ... على تأويل الجماعات مستشهدا بقول جرير :

٣٥٢ ـ أقبلن من ثهلان أو وادي خيم

على قلاص مثل خيطان السّلم (٣)

__________________

(١) ابن كيسان : أبو الحسن محمد بن أحمد ممن تقدم ذكرهم في هذا الجزء والذي قبله ؛

(٢) القاسم بن أحمد الأندلسي تقدم ذكره في هذا الجزء والذي قبله ،

(٣) من أرجوزة لجرير ، في مدح الحكم بن أيوب الثقفي ، ابن عم الحجاج وبعده :

حتى أنخناها إلى باب الحكم

خليفة الحجاج غير المتهم ؛

 ـ والاستشهاد بهذا البيت ضعيف وغير واضح لأنه يمكن أن يقال ان نون النسوة في أقبلن باعتبار الجماعات ؛

٣٧٠

ومنه قولهم. الخوارج ، جمع خارجة ، أي فرقة خارجة ، وقوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا)(١) ، أي الطوائف الصافات ؛

وليس بشيء (٢) ، لأن ذلك إنما جاز في نحو : الخوارج والصافات ، لكون واحدها مؤنث اللفظ ، كما ذكرنا ؛

وقد أجاز الكوفيون والأخفش : لمثنى المذكر ، أجمعان أكتعان أبتعان أبصعان ، ولمثنى المؤنث : جمعاوان كتعاوان بتعاوان بصعاوان وهو غير مسموع ؛

[التأكيد بكلّ]

[وشرطه]

[قال ابن الحاجب :]

«ولا يؤكد بكل وأجمع ، إلا ذو أجزاء يصح افتراقها حسّا»

«أو حكما ، نحو : أكرمت القوم كلهم ، واشتريت العبد»

«كله ، بخلاف : جاء زيد كله» ؛

[قال الرضى :]

يعني بالذي يصح افتراق أجزائه حسا ، نحو : القوم ، والرجال ، فان له أفرادا يتميز في الحس بعضها من بعض ؛ وبالذي يصح افتراق أجزائه حكما ؛ مفردا متصل الأجزاء ، كالعبد والدار وزيد ، فإنه تفترق أجزاؤه حكما بالنسبة إلى بعض الأفعال ، كالشراء والبيع ، فيجوز توكيده ، إذن ، بالكلّ نحو : اشتريت العبد كله ، فانه يصح شراء بعضه دون الباقي ، ولا تفترق (٣) أجزاؤه حكما بالنسبة إلى بعضها ، كالمجيء والذهاب فلا تقول :

__________________

(١) أول سورة الصافات

(٢) رد من الرضي على رأي الأندلسيّ ؛

(٣) معطوف على قوله : فإنه تفترق أجزاؤه حكما ؛

٣٧١

جاءني العبد كله ، وذهب زيد كله ، فإن أجزاء العبد لا تفترق بالنسبة إلى المجيء ، بأن يجيء بعضه ولا يجيء الباقي ؛

فعلى هذا القياس : لا يقال : اختصم الزيدان كلاهما ، لأن الزيدين لا يصح افتراقهما بالنسبة إلى الاختصام ، إذ هو لا يكون إلّا بين اثنين أو أكثر ؛ فلا يصح أن يقال : اختصم زيد وحده ، وأجاز الأخفش ، اختصم الزيدان كلاهما ، وهو مردود بما ذكرنا ، وبعدم السماع ؛

وقد كان يحتمل نحو : اشتريت العبدين واشتريت العبيد ، من افتراق الأجزاء حكما ، ما احتمل المفرد ، أعني نحو : اشتريت العبد كله ، لكنه لم يمكن رفع ذلك الاحتمال بالتأكيد ، إذ لو قلت : اشتريت العبيد كلهم لرفع احتمال افتراق الأجزاء حكما ، لاشتبه برفع احتمال افتراق الأجزاء حسّا ، والاحتمال الثاني أظهر ، لكون الافتراق الثاني أشهر فيسبق الفهم إليه ، فلا يحصل المقصود ، فإذا أردت رفع أول الاحتمالين قلت اشتريت جميع أجزاء العبدين وجميع أجزاء العبيد ؛

وإذا كان الاسم نكرة ، لم يؤكد ، إذ التأكيد ، كما ذكرنا لرفع احتمال عن أصل نسبه الفعل إلى المتبوع ، أو عن عموم نسبته لأفراد المتبوع ، ورفع الاحتمال عن ذات المنكر وأنه أي شيء هو ، أولى به من رفع الاحتمال الذي يحصل بعد معرفة ذاته ، أي الاحتمال في النسبة ، فوصف النكرة لتمييزها عن غيرها أولى من تأكيدها ؛

ويستثنى من الحكم المذكور ، أعني منع تأكيد النكرات ، شيء واحد ، وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكما لا محكوما عليه ، كقوله عليه الصلاة والسّلام : «فنكاحها باطل باطل باطل» (١) ومثله قوله تعالى : (دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)(٢) ، فهو مثل : ضرب ضرب زيد ، وأمّا تكرير المنكّر في نحو قولك : قرأت الكتاب سورة سورة ، وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(٣) ، فليس في الحقيقة تأكيدا ، إذ ليس

__________________

(١) تقدم ذكره بتمامه في أول الباب ،

(٢) الآية ٢١ سورة الفجر ،

(٣) الآية ٢٢ سورة الفجر ؛

٣٧٢

الثاني لتقرير ما سبق ، بل هو لتكرير المعنى ، لأن الثاني غير الأول معنى ، والمعنى : جميع السّور ، وصفوفا مختلفة ؛

وقد أجاز الكوفيون تأكيد المنكّر إذا كان معلوم المقدار أو مؤقتا ، كدرهم ودينار ، ويوم وليلة وشهر ، بكلّ وأخواته لا بالنفس والعين. وليس ما ذهبوا إليه ببعيد ، لاحتمال تعلق الفعل ببعض ذلك المؤقت فعلى هذا ، لا يشترط تطابق التأكيد والمؤكد تعريفا وتنكيرا عندهم ؛ خلافا للبصريين ، وأمّا نحو رجال ودراهم مما ليس بمعلوم المقدار فلا خلاف في امتناع تأكيده ؛

واستشهد الكوفيّة لجواز ذلك بقوله :

٣٥٣ ـ يا ليتني كنت صبيا مرضعا

تحملني الذلفاء حولا أكتعا (١)

وقول الآخر :

قد صرّت البكرة يوما أجمعا (٢) ـ ٢٥

وأمّا قوله :

٣٥٤ ـ أولاك بنو خير وشر كليهما

جميعا ومعروف ألمّ ومنكر (٣)

فحمل «كليهما» على البدل ، عند أهل المصرين (٤) ، أولى ، لأن : خير ، وشر ، ليسا بمؤقتين ؛

__________________

(١) قال البغدادي نقلا عن العقد الفريد : نظر أعرابي إلى امرأة جميلة تحمل طفلا كلما بكى قبلته فقال :

يا ليتني كنت صبيا ..

الخ وبعد هذين الشطرين :

إذن ظللت الدهر أبكي أجمعا ؛

ولم يذكر أحد نسبته لأحد ، والذلفاء مؤنث أذلف ، والذلف استقامة الأنف وهو من علامات الجمال ،

(٢) تقدم الاستشهاد بهذا البيت في الجزء الأول ص ١٢٠

(٣) هذا آخر أبيات أربعة لمسافع بن حذيفة العبسي أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة ، والشاعر يرثي بها قومه ، وأول هذه الأبيات :

أبعد بني عمرو أسرّ بمقبل

من العيش أو آسى على إثر مدبر

(٤) يعني البصريين والكوفيين ،

٣٧٣

ويجوز مجيء «كليهما» غير تأكيد ، إذا كان تابعا لما ليس بتأكيد كقوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما)(١) ، فإنه عطف على «أحدهما» وليس لفظ «أحدهما» تأكيدا ، والمعطوف في حكم المعطوف عليه ، وفي قراءة (٢) : «إمّا يبلغان» ، هو بدل ، لأنه معطوف على البدل ؛

وقد يحذف المؤكّد ، وأكثر ذلك في الصلة كقولك : جاءني الذي ضربت نفسه ، أي : ضربته نفسه ، وبعدها الصفة نحو : جاءني قوم ضربت كلهم ، أجمعين ، وبعدها خبر المبتدأ نحو : القبيلة أعطيت كلّهم أجمعين ، وذلك لما عرفت في باب المبتدأ من كون حذف الضمير من الصلة ، أولى منه في الصفة ، وكونه في الصفة أولى منه في خبر المبتدأ (٣) ، وبعضهم منع من حذف المؤكّد ، لأن الحذف للاختصار والتأكيد للتطويل ، فتنافيا ؛

وقال هشام (٤) : إذا عطفت على شيء لم تحتج إلى تأكيده ، ولعلّه نظر إلى أن العطف عليه دال على أنك لم تغلط فيه ؛ والأولى الجواز ، نحو : ضرب زيد زيد وعمرو ، لأنك ربّما تجوّزت (٥) في نسبة الضرب إلى زيد ، أو ربّما غلطت في ذكر زيد وأردت : ضرب بكر ، وعطفت بناء على أن المذكور بكر ؛

[تأكيد الضمير]

[المتصل المرفوع]

[قال ابن الحاجب :]

«وإذا أكّد المضمر المرفوع المتصل بالنفس والعين أكّد بمنفصل»

__________________

(١) من الآية ٢٣ سورة الإسراء ،

(٢) هي قراءة حمزة والكسائي ، من الكوفيين وبقية القراء السبعة على قراءة : إمّا يبلغنّ ؛

(٣) ص ٢٤٠ من الجزء الأول ،

(٤) هشام بن معاوية من زعماء الكوفيين ؛

(٥) أي في ظن السامع ، كما تقدم في بيان الغرض من التأكيد ،

٣٧٤

«نحو : ضربت أنت نفسك» ؛

[قال الرضى :]

قد مضى شرحه في باب العطف (١) ،

[ترتيب ألفاظ التأكيد]

[إذا اجتمعت]

[قال ابن الحاجب :]

«وأكتع وأخواته : اتباع لأجمع ، فلا تتقدم ، وذكرها دونه»

«ضعيف» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أنك لو أردت الجمع بين ألفاظ التوكيد المعنوي ، قدمت النفس ثم العين ، ثم الكلّ ثم أجمعين ، ثم أخواته من أكتعين إلى أبصعين ؛

أمّا تقديم النفس والعين على الكل ، فلأن الإحاطة صفة للنفس ومعنى فيها ، فتقديم النفس على صفتها أولى ، وأمّا تقديم النفس على العين فلأن النفس ، لفظ موضوع لماهيتها حقيقة ، ولفظ العين مستعار لها مجازا من الجارحة المخصوصة ، كالوجه في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٢) أي ذاته ؛

وأمّا تقديم الكل على أجمع فلكونه جامدا واتباع المشتق للجامد أولى ، ولا سيّما إذا كان المشتق على وزن الصفة ، وهو أفعل ، وأيضا ، ان «كلّا» قد يقع مبتدأ دون أجمع فانه لا يقع إلا تأكيدا ؛

__________________

(١) انظر في هذا الجزء ، ص ٣٣٣ ،

(٢) من الآية ٨٨ سورة القصص ؛

٣٧٥

وأمّا تقديم أجمع على أخواته فلكونه أدلّ على معنى الجمعية المرادة من جميعها (١) ، وأمّا تقديم أكتع ، في الصحيح ، على أخويه ، فلكونه أظهر في إفادة معنى الجمع منهما ، لأنه من قولهم : حول كتيع أي تام وهذا المعنى خاف فيهما ؛

وإن لم تقصد الجمع بين هذه الألفاظ فلك الاقتصار على أيها شئت ؛ ومن «النفس» إلى «أجمع» لا يلزم أن يكون الأخير تابعا للمقدّم بل لك أن تذكر العين من دون النفس ، وأجمع ومتصرّفاته وأخواته ، من دون كل ؛

وأمّا أكتع وأخواه ، فالبصريون ، على ما حكى عنهم الأندلسي ، جعلوا النهاية : أبصع ومتصرّفاته ، ولم يذكروا أبتع ومتصرفاته ، قال : وهذا يدل على قلّته ؛ والبغداديّة جعلوا النهاية أبتع وأخواته (٢) ، فقالوا أجمع أكتع أبصع أبتع ، وكذا ذكر الجزولي (٣) ؛

والزمخشري (٤) قدّم أبتع ، على أبصع ، وتبعه المصنف ، ولا أدري ما صحته ؛ والمشهور : أبصع بالصاد المهملة ، وقيل : بالضاد المعجمة ؛

والمشهور أنك إذا ذكرت أخوات أجمع ، وجب الابتداء بأجمع ثم تجيء بأخواته على هذا الترتيب : أجمع ، أكتع أبصع أبتع ، ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير أجمع عن إحدى أخواته ؛

وقال ابن كيسان : تبدأ بأيها شئت بعد أجمع ؛ والقول الثالث أنه يجوز حذف أجمع مع وجوب رعاية الترتيب المذكور في الثلاثة الباقية ؛ والقول الرابع : جواز حذف أجمع ، مع جواز تقديم بعض الثلاثة الباقية على بعض ؛

وسمع : جاءني القوم أكتعون ، وسمع أيضا : أجمع أبصع ، وجمع بصع ، وأيضا :

__________________

(١) أي بقية الألفاظ التوابع لأجمع ،

(٢) المراد وتصرفاته من تثنية وجمع وتأنيث ،

(٣) تقدم ذكره في هذا الجزء وفي الذي قبله ،

(٤) انظر شرح ابن يعيش على المفصل ج ٣ ص ٤٦ ، وقوله وتبعه المصنف أي ابن الحاجب ،

٣٧٦

جمع بتع ، وأيضا : جمع بتع بصع ؛

ولا خلاف أنك إذا أردت ذكر النفس والعين والكل وأجمع معا ، وجب الترتيب المذكور ؛

قال ابن برهان (١) ، إذا قلت : جاءني القوم كلهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون ، فكلهم تأكيد للقوم وأجمعون تأكيد لكلّهم ، وكذا البواقي : كل واحد منها تأكيد لما قبله ؛

وقال غيره : الصحيح أنّ كلّها (٢) تأكيد للمؤكّد الأول ، كالصفات المتتالية ؛

وقال المبرد ، والزجاج في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٣) : ان «كلهم» دال على الاحاطة ، وأجمعون : على أن السجود منهم في حالة واحدة ؛ وليس بشيء لأنك إذا قلت : جاءني القوم أجمعون فمعناه الشمول والإحاطة اتفاقا منهم ، لا اجتماعهم في وقت واحد ، فكذا يكون مع تقدم لفظ «كلهم» ، وكأنهما كرها (٤) ترادف لفظين لمعنى واحد ؛ وأيّ محذور في ذلك مع قصد المبالغة ؛

__________________

(١) تكرر ذكره ،

(٢) قال الرضي في هذا الباب ان لفظ «كلهم» لا يقع تاليا للعوامل اللفظية ، وهو يستعمله كذلك كثيرا ، ونبهنا على ذلك ؛

(٣) الآية ٣٠ سورة الحجر ، وهي أيضا الآية ٧٣ سورة ص ؛

(٤) محاولة لتبرير رأي المبرد والزجاج ردّ عليها بعد ذلك بقوله : وأي محذور في ذلك ،

٣٧٧
٣٧٨

[البدل]

[تعريفه وصلته بعطف البيان]

[قال ابن الحاجب :]

البدل تابع مقصود بما نسب إلى المتبوع دونه» ،

[قال الرضى :]

قوله : «مقصود بما نسب إلى المتبوع» يخرج التأكيد والوصف ، وعطف البيان ، كما قال (١) ،

قوله : «دونه» يخرج عطف النسق ، لأن المقصود هناك : التابع والمتبوع معا ، والمقصود بالنسبة من البدل والمبدل منه : الثاني دون الأول ؛ هذا قوله ، ولا يطرد ما قاله في نحو : جاءني زيد بل عمرو ، فإن المقصود هو الثاني دون الأول مع أنه عطف نسق ؛

أقول : وأنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جليّ بين بدل الكل من الكل وبين عطف البيان ، بل لا أرى عطف البيان إلّا البدل ، كما هو ظاهر كلام سيبويه ، فانه لم يذكر عطف البيان ، بل قال (٢) : أمّا بدل المعرفة من النكرة فنحو : مررت برجل عبد الله ، كأنه قيل : بمن مررت؟ أو ظنّ (٣) أنه يقال له ذلك ، فأبدل مكانه ما هو أعرف منه ؛

__________________

(١) أي ابن الحاجب في شرحه لهذا التعريف ؛

(٢) سيبويه ج ١ ص ٢٢٤ وما بعدها ، ونقل عنه المصنف إلى آخر البيتين الآتيين ،

(٣) أي المتكلم ،

٣٧٩

ومثله قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ)(١) ، ومن البدل ، أيضا ، قولك : مررت بقوم : عبد الله وزيد وخالد ؛ والرفع جيّد ، أي : هم عبد الله وزيد وخالد؟ قال :

٣٥٥ ـ يا ميّ إن تفقدي قوما ولدتهم

أو تخلسيهم فإن الدهر خلّاس (٢)

عمرو وعبد مناف والذي عهدت

ببطن عرعر آبي الضيم عباس

قالوا : (٣) الفرق بينهما أن البدل هو المقصود بالنسبة دون متبوعه بخلاف عطف البيان فانه بيان ، والبيان فرع المبيّن فيكون المقصود هو الأول ؛

والجواب : أنا لا نسلم أن المقصود بالنسبة في بدل الكل هو الثاني فقط ، ولا في سائر الأبدال ، إلا الغلط ، فإن كون الثاني فيه هو المقصود دون الأول ظاهر ؛

وإنما قلنا ذلك ، لأن الأوّل في الأبدال الثلاثة منسوب إليه في الظاهر ولا بدّ أن يكون في ذكره فائدة لم تحصل لو لم يذكر ؛ كما يذكر في الأبدال الثلاثة (٤) ، صونا لكلام الفصحاء عن اللغو ، ولا سيّما كلامه تعالى وكلام نبيه صلّى الله عليه وسلّم ، فادعاء كونه غير مقصود بالنسبة ، مع كونه منسوبا إليه في الظاهر ، واشتماله على فائدة يصح أن ينسب إليه لأجلها : دعوى خلاف الظاهر ؛ ثم تقول في بدل الكل : إن الفائدة في ذكرهما معا : أحد ثلاثة أشياء بالاستقراء : إمّا كون الأول أشهر والثاني متصفا بصفة ، نحو : بزيد رجل صالح ، أو كون أولهما متصفا بصفة والثاني أشهر ، نحو : بالعالم زيد ، وبرجل صالح زيد ، وقد يكون (٥) الثاني لمجرّد التفسير بعد الإبهام ، مع أنه ليس في الأول فائدة

__________________

(١) الآيتان ٥٢ ، ٥٣ سورة الشورى ؛

(٢) اختلف في نسبة هذا البيت والأرجح أنه لأبي ذؤيب الهذلي ولكنه نسب إلى شاعرين آخرين ، وانظر خزانة الأدب للبغدادي ،

(٣) أي النحاة وهذا تمهيد لمناقشتهم في عطف البيان وأنه هو والبدل شيء واحد ؛

(٤) أي أنه سيبين في الأبدال الثلاثة الفائدة من ذكر المبدل منه ؛

(٥) هذا هو الشيء الثالث من الأمور التي ذكر أنها فوائد ذكر البدل والمبدل منه بالاستقراء ؛

٣٨٠