شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

قوله : «فالاسمية بالواو والضمير» ، إنما ربطوا الجملة الحالية بالواو ، دون الجملة التي هي خبر المبتدأ ، فإنه اكتفي فيها بالضمير ؛ لأن الحال يجيئ فضلة بعد تمام الكلام. فاحتيج في الأكثر إلى فضل ربط ، فصدّرت الجملة التي أصلها الاستقلال بما هو موضوع للربط ، أعني الواو التي أصلها الجمع ، لتؤذن من أول الأمر بأن الجملة لم تبق على الاستقلال ؛

وأمّا خبر المبتدأ ، والصلة ، والصفة ، فانها لا تجيىء بالواو ، لأنّ (١) بالخبر يتم الكلام ، وبالصلة يتم جزء الكلام ، والصفة لتبعيّتها للموصوف لفظا ، وكونها لمعنى فيه معنى (٢) : كأنها من تمامه ، فاكتفي في ثلاثتها بالضمير ، بلى ، قد تصدّر الصفة والخبر بالواو ، إذا حصل لهما أدنى انفصال ، وذلك بوقوعهما بعد «إلّا» نحو : ما حسبتك إلا وأنت بخيل ، وما جاءني رجل إلا وهو فقير ، وأمّا الصلة فلا يعرض لها مثل هذه الحال ، فلا ترى ، أبدا ، مصدّرة بالواو ؛

قوله : «أو بالواو ، أو بالضمير» ، اجتماع الواو والضمير في الاسمية ، وانفراد الواو : متقاربان في الكثرة ، لكن اجتماعهما أولى ، احتياطا في الربط ؛

وأمّا انفراد الضمير ، فقال الأندلسي (٣) : ان كان المبتدأ (٤) ضمير صاحب الحال ، وجب الواو أيضا ، نحو : جاءني زيد وهو راكب ؛ ولعلّ ذلك لكون مثل هذه الجملة ، في معنى المفرد ، سواء ، إذ المعنى : جاءني زيد راكبا ، فصدّرت بالواو إيذانا من أول الأمر بكون الحال جملة ، وإن أدّت معنى المفرد ؛

وإن لم يكن المبتدأ ضمير صاحب الحال ، نظر ، فإن كان الضمير فيما صدّر به الجملة ، سواء كان مبتدأ ، نحو : جاءني زيد يده على رأسه ، وكلمته فوه إلى فيّ ؛ أو خبرا نحو قوله :

__________________

(١) أي لأنه بالخبر ، فاسمها ضمير الشأن حتى يستقيم المعنى ،

(٢) أي من جهة المعنى ،

(٣) القاسم بن أحمد الأندلسي من علماء المغرب وهو قريب العهد بالرضي ، ويتكرر النقل عنه في هذا الشرح ،

(٤) أي في الجملة الواقعة حالا ،

٤١

١٩٢ ـ إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها

خرجت مع البازي عليّ سواد (١)

فلا يحكم بضعفه مجردا من الواو ، وذلك لكون الرابط في أول الجملة وان لم يكن مصدّرا ؛ بل نقول : هو أقل من اجتماع الواو والضمير ، وانفراد الواو ؛

وإن كان الضمير في آخر الجملة ، كقوله :

١٩٣ ـ نصف النهار : الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري (٢)

فلا شك في ضعفه وقلّته ؛

وقال جار الله (٣) : بناء على أن انفراد الضمير في الاسمية ضعيف مطلقا على ما ذهب إليه المصنف : إن قولهم (٤) : جاءني زيد عليه جبّة وشي ، بمعنى مستقرة عليه جبّة وشي ؛ يريد أنه ليس بجملة ، بل هو مفرد تقديرا ، فلذا خلا من الواو ، وذلك لأن الظرف إذا اعتمد على المبتدأ جاز أن يرفع الظاهر ، كما مرّ في باب المبتدأ (٥) ؛

فإن أراد (٦) أنه وجب أن يكون في تقدير المفرد ، ففيه نظر ، لقوله :

١٩٤ ـ فألحقه بالهاديات ودونه

جواحرها في صرّة لم تزيّل (٧)

وقوله :

١٩٥ ـ وان امرءا أسرى إليك ودونه

من الأرض موماة وبيداء سملق (٨)

__________________

(١) من أبيات لبشار بن برد ، وهو من المحدثين ، في رأي القدماء فلا يستشهد بشعره ، والقول فيه كالقول في الاستشهاد بشعر المتني ،

(٢) الأرجح أن هذا البيت من قصيدة للمسيّب بن علس ، خال الأعشى ، وليست للأعشى كما قال بعضهم ، وهو في وصف غواص نزل إلى البحر يبحث عن درة ، ولقي في البحث عنها أهوالا شديدة حتى إنه بقي في البحر زمنا ، لا يدري رفيقه الذي يعاونه عنه شيئا ، إلى آخر ما جاء في هذا الجزء من القصيدة ؛

(٣) أي الزمخشري ،

(٤) هذا ما قاله الزمخشري ، انظر شرح ابن يعيش ج ٢ ص ٦٥

(٥) ج ١ ص ٢٤٣

(٦) أي الزمخشري ، وهذه مناقشة من الرضي له ؛

(٧) من معلقة امرئ القيس ، وهو من الجزء الذي يصف فيه فرسه بالسرعة ، والهاديات : أوائل الوحوش ، والجواحر ما تأخر منها ، والصّرّة : الضجيج ، وقوله : لم تزيّل أصله تتزيّل فحذفت إحدى التاءين ،

(٨) البيتان من قصيدة الأعشى التي مدح بها المحلق ، وهي التي كانت سببا في إقبال الفتيان على الزواج من بنات ـ ـ المحلق ، والموماة : الغلاة الواسعة ، والسّملق : المستوية ؛

٤٢

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أن المعان موفق

ولو كان مفردا لم تجز الواو ، وأيضا ، تقول : لقيته وإن عليه جبّة وشي ، ولو لم يكن جملة لم تدخل عليها «إنّ» ؛

وان أراد أنه لا يمتنع أن يقدّر بمفرد ، فمسلّم ؛

وحكم الجملة المصدّرة بليس ، وان كانت فعلية ، حكم الاسمية ، في أن اجتماع الواو والضمير ، أو انفراد الواو ، أكثر من انفراد الضمير ، وذلك لأن «ليس» لمجرد النفي على الأصح ، ولا تدل على الزمان ، فهي كحرف نفي داخل على الاسمية ، فالاسمية معها كأنها باقية على اسميتها ، بخلاف : لا يكون ، و: ما كان ، ونحوهما ؛

وقد تخلو (١) من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو قولك : خرجت ، زيد على الباب ، وهو قليل ؛

قوله : «والمضارع المثبت بالضمير وحده» ، وذلك لأن المضارع على وزن اسم الفاعل لفظا ، وبتقديره معنى ، فجاءني زيد يركب ، بمعنى : جاءني زيد راكبا ، ولا سيّما وهو يصلح للحال وضعا ، وبين الحالين تناسب ، وان كانا في الحقيقة مختلفين ، كما يجيئ ؛ (٢) وقد سمع : قمت وأصكّ عينه ، وذلك إمّا لأنها جملة وان شابهت المفرد ، وإمّا لأنها بتقدير : وأنا أصك ، فتكون اسمية تقديرا ؛

ويشترط في المضارع الواقع حالا : خلوّه من حرف الاستقبال ، كالسين ولن ، ونحوهما ؛ وذلك أن الحال الذي نحن في بابه ، والحال الذي يدل عليه المضارع ، وان تباينا حقيقة لأنّ في قولك اضرب زيدا غدا يركب : لفظ يركب ، حال بأحد المعنيين ، غير حال بالآخر ، لأنه ليس في زمان التكلم ؛ لكنهم التزموا تجريد صدر هذه الجملة ، أي المصدّرة بالمضارع عن علم الاستقبال لتناقض الحال والاستقبال في الظاهر ، وإن لم

__________________

(١) أي الجملة الاسمية الواقعة حالا ، وهي موضوع الحديث ؛

(٢) يأتي بعد قليل توضيح هذا المعنى الذي أشار إليه الرضي ؛

٤٣

يكن التناقض ههنا حقيقيا ، ولمثله التزموا «قد» إمّا ظاهرة أو مقدرة في الماضي إذا كان حالا ، مع أن حاليّته بالنظر إلى عامله ، ولفظة «قد» تقرّب الماضي من حال التكلم فقط ، وذلك لأنه كان يستبشع في الظاهر لفظ الماضي والحاليّة ، فقالوا : جاء زيد العام الأوّل (١) وقد ركب ، فالمجيى بلفظ «قد» ههنا ، لظاهر الحاليّة ، كما أن التجريد عن حرف الاستقبال في المضارع لذلك ؛

قوله : «وما سواهما» ، أي : وما سوى الاسمية ، والمضارع المثبت ، وهو (٢) ثلاثة أقسام : المضارع المنفي ، والماضي المثبت ، والماضي المنفي ، يجوز في كل واحدة منها ، على ما ذكر ، ثلاثة أوجه : اجتماع الواو والضمير ، والاكتفاء بأحدهما ، صارت تسعة ، وهذه أمثلتها :

جاءني زيد وما ركب غلامه ، وما ركب عمرو ، ما ركب غلامه ؛

جاءني زيد ولا يركب غلامه ، ولا يركب عمرو لا يركب غلامه ؛

جاءني زيد وقد ركب غلامه ، وقد ركب عمرو ، قد ركب غلامه ؛

هذا ما قاله المصنف ؛

وقال الأندلسي (٣) ، المضارع المنفي بلم ، لا بدّ فيه من الواو (٤) ، كان مع الضمير ، أو ، لا ؛ ولعلّ ذلك لأن نحو لم يضرب : ماض معنى ، كضرب ، فكما أن ضرب ، لمناقضته للحال ظاهرا ، احتاج إلى «قد» المقرّبة له من الحال ، لفظا أو تقديرا ، كذلك ، لم يضرب ، يحتاج إلى الواو التي هي علامة الحالية ، لمّا لم يصلح معه «قد» ، لأن (٥) «قد» لتحقيق الحصول ، و «لم» للنفي ؛

__________________

(١) قوله العام الأول ، القصد به توكيد معنى المضيّ في الجملة السابقة على الحال ؛

(٢) أي ما سوى الاسمية والمضارع المثبت ،

(٣) تقدم ذكره قريبا.

(٤) علّق السيد الجرجاني على هذا بأنه جاء مجردا عن الواو في قوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) ، آل عمران / ١٧٤ ، وهو نظر وارد ،

(٥) تعليل لعدم صلاحية المضارع المنفي لدخول قد ؛

٤٤

وإذا انتفى المضارع بلفظ «ما» لم تدخله الواو ، لأن المضارع المجرد (١) يصلح للحال ، فكيف لا (٢) ، إذا انضم معه ما يدل بظاهره على الحال وهو «ما» ، فعلى هذا ينبغي أن يلزمه الضمير ؛

وإذا انتفى المضارع بلا ، لزمه الضمير ، كما يلزم المضارع المثبت ، على ما ذهب اليه النحاة ، والأغلب تجرده عن الواو كالمثبت ، لأن معنى جاءني زيد لا يركب ، أي : غير راكب ، فهو واقع موقع المفرد ، ودخول «لا» لا يغيّر الكلام في الأغلب عما كان عليه ، لكثرة استعمالها ، فلهذا جاز : إن تزرني لا أزرك ، أو : فلا أزورك ، كما تقول : ان تزرني أزرك ، أو : فأزورك ، وكذا تقول : كنت بلا مال ؛ لكن مصاحبة المضارع المصدّر بلا ، للواو ، أكثر من مصاحبة المضارع المجرّد لها ، إذ ليس الحال في الحقيقة ، في نحو : لا يركب ، مشابها للمفرد لفظا ومعنى ، كما شابهه في نحو : يركب ، لأن الحال في الأول : انتفاء الصفة ، ف «لا» مع الجملة ، هو الحال ؛ ولا ينتفي المضارع حالا بلن ، لما ذكرنا قبل (٣) ؛

قوله : «ولا بدّ في الماضي المثبت من قد ، ظاهرة أو مقدّرة» ، قد تقدم علة ذلك ، والأخفش ، والكوفيون غير الفراء ، لم يوجبوا «قد» في الماضي المثبت ظاهرة أو مقدّرة ، استدلالا بنحو قوله :

١٩٦ ـ واني لتعروني لذكراك هزة

كما انتفض العصفور بلّله القطر (٤)

وقوله تعالى : (أوجاءوكم حصِرت صدورهم) (٥) ، وغيرهم أوجبوه ، لما مضى (٦). والأول قريب ؛ وقيل ان الماضي في نحو قولهم : اضربه قام أو قعد : حال ، ويجب تجرده عن

__________________

(١) أي المجرد من «ما» ،

(٢) أي فكيف لا يصلح إذا كان معه «ما»

(٣) وهو وجوب تجريده من علامة الاستقبال ؛

(٤) من قصيدة لصخر الفيّ الهذلي ، أوردها البغدادي كلها ، نقلا عن أمالي القالي ، وشرحها وهي جيدة المعنى ، وكلها في الغزل ؛

(٥) الآية ١٩٠ سورة النساء ،

(٦) لأنها تقربه من حال التكلم فيتناسب مع معنى الحال ؛

٤٥

«قد» ظاهرة أو مقدرة ؛ والأولى أنه شرط لا حال ، أي : ان قام أو قعد ، كما يجيئ في حروف العطف ، ولو كان حالا لسمع معه «قد» أو الواو ، كما في غيره من الماضي الواقع حالا ؛

وإذا كان الماضي بعد «إلّا» ، فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو ، وقد : أكثر ، نحو : ما لقيته الّا أكرمني ، لأن دخول «الّا» في الأغلب الأكثر على الأسماء ، فهو بتأويل : الّا مكرما لي ، فصار كالمضارع المثبت ، وقد يجيئ مع الواو ، وقد ، نحو قولك : ما لقيته إلا وقد أكرمني ، ومع الواو وحدها نحو : ما لقيته إلا وأكرمني ؛ لأن الواو مع «الّا» تدخل في حيّز المبتدأ فكيف الحال؟ ، كما تقدم ؛ ومثاله : ما رجل إلا وله نفس أمّارة ؛ ولم يسمع فيه «قد» من دون الواو ، نحو : ما لقيته إلا قد أكرمني ؛

وفي غير هذا الموضع (١) ينظر ، فإن كان مع الماضي المثبت ضمير ، فثبوت «قد» معه ، أكثر من تركها ، وقد جاء ذلك أيضا نحو قوله تعالى : (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (٢) ، قالوا ان «قد» فيه مقدرة ؛ واجتماع الواو وقد ، حينئذ ، أكثر من انفراد أحدهما ، وانفراد «قد» أكثر من انفراد الواو ؛ فنحو : جاءني زيد وقد خرج أبوه ، أكثر ، ثمّ : قد خرج أبوه ، ثم : وخرج أبوه ، فان لم يكن معه ضمير ، فالواو مع «قد» لا بدّ منهما ، كقوله :

يقول وقد ترّ الوظيف وساقها

ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد (٣) ـ ١٧٦

ولا يقال : جاءني زيد ، قد خرج عمرو ، ولا جاءني زيد (٤) وخرج عمرو ،

وأجاز الأندلسيّ على ضعف ، دخول «قد» في الماضي المنفي بما ، نحو : ما قد ضرب أبوه ، وليس بوجه ، لعدم السماع ، والقياس ، أيضا لكون «قد» لتحقق الوقوع ، و «ما» لنفيه ؛

__________________

(١) أي إذا لم يكن بعد إلا ،

(٢) الآية المتقدمة قبل قليل ؛

(٣) تقدم ذكره في أول الحديث عن الحال ؛

(٤) أي لا يقال ذلك على جعل الجملة الثانية حالا ، وإن كان جائزا على أن تكون الثانية من عطف الجمل ، وهذا بالنسبة للمثال الثاني ، أما الأول فهو موضع نظر ؛

٤٦

[حذف عامل الحال]

[وجوبه في المؤكدة ، معنى المؤكدة]

[قال ابن الحاجب :]

«ويجوز حذف العامل ، كقولك للمسافر : راشدا مهديا ،»

«ويجب في المؤكدة ، نحو : زيد أبوك عطوفا ، أي أحقه ،»

«وشرطها أن تكون مقرّرة لمضمون جملة اسمية» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أن عامل الحال قد يحذف جوازا ، ووجوبا أيضا ، في مواضع قياسيّة ، ولا بدّ من قرينة مع الحذف ، جائزا كان أو واجبا ، فقرينة ما حذف جائزا : حضور معناه ، كقولك للمسافر : راشدا مهديّا ، أي سر راشدا .. أو تقدم ذكره ، إمّا في الاستفهام ، كقولك ، قائما ، في جواب من قال : كيف خلّفت زيدا ، أو في غير الاستفهام كقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ) ، (١) أي بلى نجمعها قادرين ؛

ومن المواضع التي يحذف فيها قياسا على الوجوب : أن تبيّن الحال ازدياد ثمن أو غيره شيئا فشيئا ، مقرونة بالفاء أو ثم ، تقول في الثمن : بعته بدرهم فصاعدا ، أو : ثم زائدا ، أي ذهب الثمن صاعدا أو زائدا ، أي آخذا في الازدياد ، يقال هذا في ذي أجزاء بيع بعضها بدرهم والبواقي بأكثر ، وتقول في غير الثمن : قرأت كل يوم جزءا من القرآن ،

__________________

(١) الآيتان ٣ ، ٤ من سورة القيامة ؛

٤٧

فصاعدا ، أو : ثم زائدا ، أي : ذهبت القراءة زائدة ، أي كانت كل يوم في الزيادة ؛

ومنها ما وقع الحال فيه نائبا عن خبر ، نحو ضربي زيدا قائما ، وقد تقدم (١) ،

ومنها أسماء جامدة ، متضمنة توبيخا على ما لا ينبغي من التقلب في الحال (٢) ، مع همزة الاستفهام ، وبدونها أيضا ، كقولهم : أتميميّا مرّة ، وقيسيّا أخرى ، وقوله :

١٩٧ ـ أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أشباه النساء العوارك (٣)

أي : أتتحول تميميا ، و: أتنتقلون أعيارا وأشباه النساء ، وكذا قوله :

١٩٨ ـ أفي الولائم أولادا لواحدة

وفي العيادة أولادا لعلّات (٤)

وتقول في غير الهمزة : تميميا قد علم الله مرة وقيسيا أخرى ، بلا همزة ؛

هذا الذي ذكرنا : مذهب السيرافي (٥) والزمخشري ، أعني كون هذه الأسماء منصوبة على الحال ؛ ومذهب سيبويه ، وهو الحقّ ، انتصابها على المصدرية (٦) ، قال المصنف (٧) ، انه ليس المراد : أنك تتحول في حال كونك تميميا ، وأنكم تنتقلون في حال كونكم أعيارا ، بل المعنى : تتحوّل هذا التحوّل المخصوص ؛

ومنها ، عند السيرافي ، صفات تضمنت توبيخا على ما لا ينبغي في الحال ، مع الهمزة وبدونها ، نحو قولهم : أقائما وقد قعد الناس ، و: أقاعدا وقد سار الركب ، و: قائما

__________________

(١) تقدم ذلك في باب المبتدأ والخبر عند الكلام على وجوب حذف الخبر ، ج ١ ص ٢٧٦

(٢) المراد بالحال هنا ، ما يكون عليه الإنسان ، وكذلك فيما يأتي عند قوله : صفات تضمنت توبيخا على ما لا ينبغي ،

(٣) الأعيار ، جمع عير بفتح العين وهو الحمار ، وقد غلب في الوحشي منه ، والعوارك جمع عارك وهي المرأة الحائص ، وهو بيت مفرد منسوب لهند بنت عتبة تحرض به المشركين وتعيّرهم بعد عودتهم منهزمين من إحدى المعارك مع المسلمين ،

(٤) هذا البيت غير منسوب لأحد وهو من شواهد سيبويه ج ١ ص ١٧٢ ولم يكتب عليه البغدادي في الخزانة ،

(٥) أبو سعيد السيرافي شارح كتاب سيبويه ، وهو ممن تردد ذكرهم في هذا الشرح ،

(٦) أي بتقدير ما قبلها مؤولا بفعل من معنى التحول مثلا ،

(٧) أي ابن الحاجب تعليلا لمذهب سيبويه ،

٤٨

قد علم الله وقد قعد الناس ، تقديره : أتقوم قائما ، فهو عند السيرافي حال مؤكدة ؛ وأمّا عند سيبويه ، والمبرد ، والزمخشري ، فالصفة قائمة مقام المصدر ، أي : أتقوم قياما ؛ ويجوز رفع هذين القسمين ، على أنهما خبران للمبتدأ ، فتقول : أتميميّ مرة .. ، و: قائم قد علم الله ... ، أي : أأنت تميميّ ، و: هو قائم قد علم الله .. ؛

والعلة في وجوب حذف العامل في جميع ما ذكرنا ، مما هو حال ، كثرة استعماله ؛

قوله : «ويجب في المؤكدة» ، أي يجب حذف العامل في المؤكدة ، هذا على مذهب من قال : ان المؤكدة لا تجيىء إلا بعد الاسمية ، والظاهر أنها تجيىء بعد الفعلية أيضا كقوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (ثم وليَّتم مدبرين) (٢) ، وقولهم : تعال جائيا ، وقم قائما ، قال تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ)(٣) ، على قراءة النصب في الأربعة ؛

وقال تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)(٤) ، وتخالف العامل والحال ، اذن ، أكثر من توافقهما ؛ وللأول (٥) أن يرتكب أن هذه الصفات المنصوبة كلها قائمة مقام المصدر ، على ما هو مذهب سيبويه في نحو : أقاعدا وقد سار الركب ؛

وأمّا المؤكدة فليست بقيد يتقيّد به عاملها كالمنتقلة ، وإذا جاءت بعد الاسمية وجب أن يكون جزآها معرفتين جامدين ؛ وتجيىء إمّا لتقرير مضمون الخبر وتأكيده ، وإمّا للاستدلال على مضمونه ؛

ومضمون الخبر إمّا فخر ، كقوله :

__________________

(١) الآية ٨٥ سورة هود ،

(٢) الآية ٢٥ سورة التوبة ،

(٣) الآية ٥٤ سورة الأعراف ؛

(٤) الآية ٩٢ سورة النحل ،

(٥) يعني من يرى أن المؤكدة لا تجيى بعد الجملة الاسمية ؛

٤٩

١٩٩ ـ أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للناس من عار

وكقولك : أنا حاتم جوادا ، وأنا عمرو شجاعا ، اذ لا يقول مثله الّا من اشتهر بالخصلة التي دلّت عليها الحال ، كاشتهار حاتم بالجود ، وعمرو (١) بالشجاعة ،

وإمّا تعظيم لغيرك نحو : أنت الرجل كاملا ، أو تصاغر لنفسك (٢) ، نحو : أنا عبد الله آكلا كما يأكل العبد ، أو تصغير للغير (٣) ، نحو : هو المسكين مرحوما ، أو تهديد نحو : أنا الحجاج سفاكا للدماء ، أو غير ذلك نحو : زيد أبوك عطوفا ، و: (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً)(٤) ، و: (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)(٥) ؛ فقولك : آكلا ، ومرحوما ومصدقا ، للاستدلال على مضمون الخبر ، وقوله : مشهورا بها نسبي (٦) ، وقولك كاملا ، وسفاكا للدماء ، وآية ، ومعروفا. (٧) لتقرير مضمون الخبر وتأكيده ، وقولك عطوفا ، لكليهما ؛ وإنما سمّي الكل حالا مؤكدة ، وإن لم يكن القسم الأول أي الذي هو للاستدلال على مضمون الخبر مؤكدا إذ ليس (٨) في كونه حقا ، معنى التصديق ، حتى يؤكد بمصدقا ، وكذلك ليس في كونه مسكينا معنى المرحومية ؛ لأن (٩) مضمون الحال لازم في الأغلب لمضمون

__________________

(١) من أبيات امتلأت بالهجاء المقذع ، قالها سالم بن دارة يهجو زميل بن أبير ، أحد بني فزارة ، وكانت بينهما مهاجاة قاسية ، ويروى : مشهورا بها نسبي ؛

(٢) المقصود : عمرو بن معد يكرب الزبيدي وكان مشهورا بالشجاعة ،

(٣) مقابل قوله : امّا فخر ، والمراد هنا التواضع ،

(٤) دخول حرف التعريف على كلمة «غير» لا يقره كثير من النحاة ، والرضي يستعمله كثيرا ، ويحاول بعض الباحثين تبريره بما لا يخلو من تكلف ،

(٥) الآية ٦٤ من سورة هود ، وتقدمت ،

(٦) من الآية ٣١ في سورة فاطر ؛

(٧) جرى في توضيح البيت على ما روى في إنشاده كما أشرنا ، وسيشير إلى الرواية التي أوردها ، وهذا من اختلاف النسخ الذي برز في هذا المكان من الشرح مما جعلنا نوفق بين عبارة المطبوعة وبين ما أشير إليه بالهامش من نسخ أخرى بحيث لم تخرج عن المقصود ، والحمد لله.

(٨) إشارة إلى الرواية التي أوردها في البيت ،

(٩) بيان لكونها غير مؤكدة ،

(١٠) وهذا بيان لوجه التسمية

٥٠

الجملة ، فان التصديق لازم لحقية القرآن ، فصار كأنه هو ، وكذا المرحوميّة في الأغلب لازم للمسكنة ؛

واختلف في العامل في المؤكدة التي بعد الاسمية ، فقال سيبويه (١) : العامل مقدر بعد الجملة ، تقديره : زيد أبوك أحقّه عطوفا ، يقال : حققت الأمر أي تحققته وعرفته ، أي أتحققه وأثبته عطوفا ؛

وفيه نظر ، إذ لا معنى لقولك : تيقّنت الأب وعرفته في حال كونه عطوفا ، وإن أراد (٢) أن المعنى : أعلمه عطوفا ، فهو مفعول ثان لا حال ؛

وقال الزجاج (٣) : العامل هو الخبر ، لكونه مؤوّلا بمسمّى ، نحو : أنا حاتم سخيّا ؛ وليس بشيء ، لأنه لم يكن سخيّا وقت تسميته بحاتم ، ولا يقصد القائل بهذا اللفظ : هذا المعنى ، وأيضا ، لا يطرد ذلك في نحو : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً)(٤) و: (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)(٥) وغير ذلك مما ليس الخبر فيه علما ؛

وقال ابن خروف (٦) : العامل المبتدأ ، لتضمنه معنى التنبيه ، نحو : أنا عمرو شجاعا ، وهو بعيد ، لأن عمل المضمر ، والعلم في نحو : أنا زيد ، وزيد أبوك ، ممّا لم يثبت نظيره في شيء من كلامهم ؛

والأولى عندي : ما ذهب إليه ابن مالك (٧) ، وهو أن العامل معنى الجملة ، كما قلنا في المصدر المؤكد لنفسه ، أو لغيره (٨) ، كأنه قال : يعطف عليك أبوك عطوفا ، ويرحم

__________________

(١) انظر سيبويه : ج ١ ص ١٩٢.

(٢) وإن أراد : أي سيبويه ،

(٣) الزجاج من متقدمي نحاة البصرة ، واسمه إبراهيم بن السري وتكرر دكره في هذا الشرح ،

(٤) الآية المتقدمة قريبا من سورة هود ،

(٥) الآية ٣١ سورة فاطر وتقدمت قريبا

(٦) ابن خروف هو أبو الحسن علي بن محمد الأشبيلي من مشاهير النحاة وتقدم له ذكر في الجزء الأول ،

(٧) الإمام جمال الدين بن مالك صاحب الألفية والتسهيل وغيرهما ، من معاصري الرضي ، ونقل الرضي عنه كثيرا ، وعبر في بعض المواضع بالمالكي ورجحنا أنه يريد ابن مالك بهذا ، والله اعلم ،

(٨) ص ٣٢٣ من الجزء الأول ،

٥١

مرحوما ، وحقّ ذلك مصدقا ؛ وذلك لأن الجملة ، وان كان جزآها جامدين جمودا محضا ، فلا شكّ أنه يحصل من إسناد أحد جزأيها إلى الآخر معنى من معاني الفعل ، ألا ترى أن معنى أنا زيد ، أنا كائن زيدا ؛ فعلى هذا ، لا تتقدم المؤكدة على جزأي الجملة ، ولا على أحدهما ، لضعفها في العمل ، وذلك لخفاء معنى الفعل فيها ؛

هذا ، ويجوز حذف الحال مع القرينة ، كقولك : لقيته ، في جواب من قال : أما لقيت زيدا راكبا ؛ ولا يجوز الحذف إذا نابت عن غيرها كما في : ضربي زيدا قائما ؛ وإذا توقف المراد على ذكرها ، كما تقول في الحصر : لا تأتني إلا راكبا ؛

وقد يلزم بعض الأسماء الحالية ، نحو : كافّة ، وقاطبة ، ولا تضافان ؛ وتقع «كافة» في كلام من لا يوثق بعربيّته (١) ، مضافة غير حال ، وقد خطّئوا فيه ؛

__________________

(١) الجمهور على أن «كافة» مختصة بالنصب على الحالية ولا تستعمل إلا في العقلاء وقد وردت في كلام الزمخشري مجرورة بحرف الجر لغير العاقل إذ يقول في المفصل : مشتملا على كافة الأبواب ـ (مقدمة المفصل) وكأن الرضي يقصده ، وقد صحح بعضهم كلام الزمخشري واستدل لذلك ،

٥٢

[التمييز]

[تعريفه وأنواعه]

[قال ابن الحاجب :]

«التمييز ما يرفع الابهام المستقر عن ذات مذكورة أو مقدرة» ؛

[قال الرضى :]

قوله : «ما يرفع الابهام» ، جنس يدخل فيه التمييز وغيره ، كالحال ، والصفة ، وشبههما ، وقال : عن ذات ، احترازا عن الحال فإنه يرفع الإبهام ولكن لا عن الذات ؛ قلت : سلمنا أن الحال تخرج عنه ، لأنها ترفع الإبهام عن هيئة الذات لا عن نفسها ؛ وكذا القهقرى ، في قولك : رجع زيد القهقرى ، يرفع الإبهام عن هيئة الذات التي هي الرجوع لا عن نفس الرجوع ، لأن ماهيّة الرجوع معلومة غير مبهمة ، وهي الانتقال إلى ما ابتدأت منه الذهاب ، لكن الصفة في نحو : جاءني رجل طويل ، أو ظريف ، تدخل فيه ، لأن «رجل» ذات مبهمة بالوضع ، صالحة لكل فرد من أفراد الرجال ، فبذكر أحد أوصافه ، تميّز عمّا يخالفه ، كما تميّز بطويل ، عن قصير ، فطويل ، إذن ، يرفع الابهام المستقر ، أي الثابت وضعا ، على ما فسّره المصنف (١) ، عن الذات المذكورة ؛ وكذا يدخل فيه عطف البيان ، نحو : جاءني العالم زيد ، وكذا البدل من الضمير الغائب في نحو : مررت به زيد ، لأنه رفع الابهام عن المقصود بالضمير ، كما في نعم رجلا ، وربه رجلا ، سواء (٢) ؛

__________________

(١) سيأتي تفسير المصنف في الفصل التالي لهذا ،

(٢) تقديره هما سواء وتكرر ذلك

٥٣

ويدخل فيه ، أيضا ، المضاف إليه في نحو : خاتم فضة ، كما يدخل فيه إذا انتصب ، لأن معنى النصب والجر فيه سواء ؛ وكذا يدخل فيه المجرور في نحو : مائة رجل وثلاثة رجال ؛

وله (١) أن يعتذر بأن المجرور بالعدد ، داخل في الحدّ ، وهو تمييز ، والتمييز نفسه قد ينجرّ ، إذا كان جره أخفّ من نصبه ، كما في هذا ، كما اعتذر في حدّ المفعول عن الاعتراض بنحو : ضرب ضرب شديد بأنه مفعول مطلق ، لكنه لم ينتصب لغرض قيامه مقام الفاعل ، وكذا في : ضرب زيد ، وسير يوم الجمعة وفرسخان ؛

قوله : «الابهام المستقر» ، قال : (٢) احترزت بالمستقر ، عن الابهام في اللفظ المشترك ، فإن صفة المشترك ترفع الإبهام عن المشترك في نحو : أبصرت عينا جارية ، لكن الإبهام فيه ليس بوضع الواضع ، فإن الذي يثبت منه (٣) بوضع الواضع ، إنما يكون بأن يضع الواضع لفظا لمعنى مبهم صالح لكل نوع ، كالعدد والوزن ، والكيل ؛ لا أن يضع لفظا لمعنى معيّن ، ثم اتفق ، إمّا من ذلك الواضع ، أو من غيره ، أن يضع ذلك اللفظ ، لمعيّن آخر ، فيعرض له الابهام عند المستعمل ، لأجل الاشتراك العارض ؛ فمثل هذا الإبهام غير مستقر في أصل الوضع ، بل عرض بسبب الاشتراك العارض ؛

قلت (٤) : معنى المستقر في اللغة ، هو الثابت ، وربّ عارض ، ثابت لازم ، والابهام في المشترك ثابت لازم مع عدم القرينة بعد اتفاق الاشتراك ، ومع القرينة ، ينتفي الابهام ، في المشترك وفي العدد وسائر المقادير ، فلا فرق بينهما ، أيضا ، من جهة الإبهام ، ولا يدل لفظ المستقر على أنه وضعيّ كما فسّر ، والحدّ لا يتم بالعناية (٥) ، والألفاظ المجملة في الحدّ ممّا يخلّ به ؛

__________________

(١) أي للمصنف أن يعتذر عن دخول العدد ؛

(٢) أي ابن الحاجب في شرحه على الكافية ،

(٣) أي من أنواع الإبهام

(٤) تمهيد من الرضي للاعتراض على ابن الحاجب

(٥) يعني : ببيان المراد من اللفظ ، ويسمونه : تحرير المراد ، ولذا يقولون : تحرير المراد لا يدفع الإيراد ؛

٥٤

قوله : «عن ذات مذكورة أو مقدرة» ، ليشمل النوعين : التمييز عن المفرد ، والتمييز عن النسبة ؛

[تمييز المفرد]

[قال ابن الحاجب :]

«فالأول عن مفرد ، مقدار غالبا ، إمّا في عدد ، نحو :»

«عشرين درهما ، وسيأتي ، وإمّا في غيره ، نحو : رطل زيتا»

«ومنوان سمنا ، وعلى التمرة مثلها زبدا ؛ فيفرد ، إن كان»

«جنسا ، إلا أن يقصد الأنواع ، ويجمع في غيره ، ثم إن كان»

«بتنوين أو بنون التثنية ، جازت الاضافة ، وإلا فلا ، وعن»

«غير مقدار نحو : خاتم حديدا ، والخفض أكثر» ؛

[قال الرضى :]

قوله : فالأول ، يعني الذي يرفع الإبهام عن ذات مذكورة ،

قوله : «عن مفرد» ، لفظة «عن» في مثله تفيد أن ما بعدها مصدر لما قبلها وسبب له ، كما يقال : فعلت هذا عن أمرك وعن تقدّمك (١) ، أي أن أمرك سبب لحصوله ، فالتمييز صادر عن المفرد ، أي : المفرد ، لابهامه ، سبب له ، أو عن نسبة في جملة أو شبهها ، أي : النسبة سبب له ، لأنك تنسب شيئا إلى شيء في الظاهر ، والمنسوب إليه في الحقيقة غيره ، فتلك النسبة ، إذن ، سبب لذلك التمييز ؛

وكذا قوله بعد (٢) : ان كان اسما يصح جعله لما انتصب عنه ، أي للاسم الذي صدر

__________________

(١) أي أنك تقدمت إليّ بطلب فعله ؛

(٢) في الفصل التالي لهذا ؛

٥٥

انتصاب التمييز عنه ، كزيد ، في : طاب زيد نفسا ، لأنه لو لا أنك أسندت «طاب» إليه ، لم يكن ينتصب «نفسا» بل كان يرتفع ، إذ هو في الأصل فاعل ، أي : طاب نفس زيد ، فزيد هو سبب لانتصاب «نفسا» ، وكذا معنى قولهم : ينتصب عن تمام الاسم ، أو عن تمام الكلام ، أي أن تمامها سبب لانتصاب التمييز ، تشبيها بالمفعول الذي يجيئ بعد تمام الكلام بالفاعل ؛ ويجوز أن يقال : إن «عن» في هذه المواضع بمعنى «بعد» ، كما قيل في قوله تعالى : «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» ؛ (١) والأول أولى ؛

قوله : «عن مفرد ، مقدار غالبا» ، نقول : التمييز على ضربين : رافع الإبهام عن ذات مذكورة ، ورافعه عن ذات مقدرة ؛

والأوّل لا يكون إلا عن مفرد ، وذلك المفرد على ضربين : إمّا مقدار ، وهو الغالب ، أو غير مقدار ، والمقدار : ما يقدّر به الشيء ، أي يعرف به قدره ويبيّن ؛ والمقادير إمّا مقاييس (٢) مشهورة موضوعة ليعرف بها قدر الأشياء كالأعداد ، وما يعرف به قدر المكيل ، كالقفيز والاردب والكرّ ، وما يعرف به قدر الموزون ، كصنجات (٣) الوزن ، كالطسّوج والدانق والدينار والمنّ والرطل ، ونحو ذلك ، وما يعرف به قدر المذروع والممسوح ، كالذراع ، وقدر راحة ، وقدر شبر ، ونحو ذلك ،

أو مقاييس غير مشهورة ، ولا موضوعة للتقدير ، كقوله تعالى : (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً)(٤) ، وقولك : عندي مثل زيد رجلا ؛

وأمّا : غيرك إنسانا ، وسواك رجلا ، فمحمول على «مثلك» بالضدية ؛ وقولك :

__________________

(١) الآية ١٩ سورة الإنشقاق

(٢) المراد بالمقاييس هنا : الأشياء التي تعتبر معيارا لغيرها وأما المقيس بالمعنى المتعارف فعبر عنه بالمذروع فيما يأتي ،

(٣) الصنجة ، ثقل من حديد ونحوه يجعل أساسا للوزن وكثير مما أورده الرضي هنا ، منقول من لغات مختلفة ، يرجع في تحديد معناها إلى المعاجم وكتب المعرّب ونحوها ؛

(٤) من الآية ٩١ سورة آل عمران ،

٥٦

بطولك رجلا ، وبعرضك أرضا ، وبغلظه خشبا ، ونحو ذلك : من (١) المقاييس أيضا ؛ فهذه المقادير ، إذا نصبت عنها التمييز ، أردت بها المقدّرات ، لا المقادير ، لأن قولك : عندي عشرون درهما ، وذراع ثوبا ، ورطل زيتا ، المراد بعشرون ، فيه ، هو الدراهم ، لا مجرد العدد ، وبذراع : المذروع ، لا ما يذرع به ، وبرطل : الموزون ، لا ما يوزن به ، وكذلك في غيرهما ؛

وغير المقدار : كل فرع حصل له بالتفريع اسم خاص ، يليه أصله ، ويكون بحيث يصح اطلاق الأصل عليه ، نحو : خاتم حديدا ، وباب ساجا ، وثوب خزّا ، والخفض في هذا ، أكثر منه في المقادير ، وذلك لأن المقدار مبهم محتاج إلى مميّز ، ونصب التمييز ، نصّ على كونه مميّزا ، وهو الأصل في التمييز ، بخلاف الجر ، فانه علم الاضافة ، فهو في غير المقدار أولى لأن ابهامه ليس كإبهام المقدار ، مع أن الخفة مع الجر أكثر. لسقوط التنوين ، والنونين بالاضافة ؛

وإن لم تتغير تسمية البعض بالتبعيض ، نحو : قطعة ذهب ، وقليل فضة ، لم يجز انتصاب الثاني على التمييز ؛ وقد خالفوا القاعدة المذكورة فالتزموا الجرّ في العدد من الثلاثة إلى العشرة ، وفي المائة ، والألف ، وما يتضاعف منهما ، لكثرة استعمال العدد ، فآثروا التخفيف بالاضافة ، مع أنه قد جاء في الشذوذ على الأصل : خمسة أثوابا (٢) ، ومائتين عاما (٣) ؛

وإنما تركوا الجرّ في العدد المركب نحو : أحد عشر ، لأن المضاف إليه مع المضاف كاسم واحد لفظا ، فلو أضيف العدد المركب إلى مميّزة ، والمميز ، من حيث المعنى ، هو المبهم المحتاج إلى التمييز ، لكان جعلا لثلاثة أسماء كاسم واحد ، لفظا ومعنى ؛

__________________

(١) قوله : من المقاييس ، خبر عن «قولك بطولك رجلا» الخ ؛

(٢) انظر سيبويه ج ١ ص ٢٩٣ ،

(٣) ورد هذا في قول الربيع بن ضبع الفزاري :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والفتاء

وهو من شواهد سيبويه ج ١ ص ١٠٦ وسيأتي شاهدا في باب العدد ؛

٥٧

وأمّا نحو : ثلاثة عشرك (١) ، فمخالفة المضاف معنى للمضاف إليه سهّلت الإضافة ، وكذا تركوا الجر في الأغلب ، في العدد الذي في آخره نون الجمع ، كعشرون ، وأخواته ، مع أنه كثير الاستعمال أيضا ، وذلك لأن النون فيها (٢) ليست بنون الجمع حقيقة ، كما ذكرنا في صدر الكتاب (٣) ، بل مشابهة لها ، فلم تحذف في الإضافة (٤) حذف نون الجمع لمباينتها إياها ، ولم تثبت معها ، لمشابهتها لنون الجمع ، فتعذّرت الإضافة ، لتعذّر اثبات النون معها ، وحذفها ؛

وقد جاء نحو : عشرو درهم قليلا ، وأكثر منه اضافته إلى صاحبه ، نحو عشروك ، قال :

٢٠٠ ـ وما أنت ويك ورسم الديار

وستّوك قد كربت تكمل (٥)

اجراء له مجرى : أحد عشرك ؛

قوله : «وإمّا في غيره» ، أي في غير العدد ، وليس مراده بقوله : رطل زيتا. ومنوان سمنا ، ومثلها زبدا ، بيان أنواع المقادير ، بل بيان ما يتمّ به الاسم المفرد ، لأنه يتم بأربعة أشياء : إمّا بنون الجمع ، كعشرين ، وقد ذكرناه قبيل ؛ وإمّا بالتنوين وهو إمّا ظاهر كما في : رطل زيتا ، وإمّا مقدّر كما في : خمسة عشر ، وفي «كم» ؛ وإمّا بنون التثنية كما في : منوان سمنا وإمّا بالاضافة ، كما في مثلها .. ؛

والمبهم المحتاج إلى التمييز في : ملؤها ، ومثله ، هو المضاف ، لا المضاف إليه ، لأنك لو جئت بالظاهر بدل المضمر وقلت : ملء الاناء ، ومثل زيد ، لاحتاج الكلام أيضا

__________________

(١) بإضافة العدد المركب إلى صاحبه وهو ضمير المخاطب في المثال ،

(٢) أي في عشرين وأخواته ،

(٣) ج ١ ص ٩٤

(٤) خلاصة كلامه أن عشرين مثلا إذا أريد إضافته ، فلا يمكن حذف النون لأنها ليست نون جمع حقيقة ، ولا يمكن بقاؤها لمشابهتها لنون الجمع فتعذرت الإضافة ؛

(٥) من قصيدة للكميت في مدح عبد الرحمن بن عقبة بن سعيد بن العاص ، وهو البيت الثاني بعد مطلع القصيدة ، والمراد من قوله : وستوك ، الأعوام الستون التي مضت من عمرك ،

٥٨

إلى التمييز ، لابهام المثل والملء ، أي قدر ما يملأ به الشيء ، فرجلا تفسير مثل ، وزبدا تفسير ملء ؛

ومعنى تمام الاسم : أن يكون على حالة لا يمكن اضافته معها ، والاسم مستحيل الاضافة مع التنوين ونوني التثنية والجمع ، ومع الاضافة لأن المضاف لا يضاف ثانية ؛ فإذا تمّ الاسم بهذه الأشياء ، شابه الفعل إذا تمّ بالفاعل وصار به كلاما تامّا ، فيشابه التمييز الآتي بعده (١) : المفعول ، لوقوعه بعد تمام الاسم ، كما أن المفعول حقه أن يكون بعد تمام الكلام ، فيصير ذلك الاسم التام قبله (٢) ، عاملا ، لمشابهته الفعل التام بفاعله ؛

وهذه الأشياء التي تمّ بها الاسم ، إنما قامت مقام الفاعل الذي به يتمّ الكلام لكونها في آخر الاسم ، كما كان الفاعل عقب الفعل ، ألا ترى أن لام التعريف ، وإن كان يتمّ بها الاسم فلا يضاف معها : لا ينتصب التمييز عنه ، (٣) فلا يقال : الراقود خلّا ؛

وقد يكون الاسم نفسه تامّا ، لا بشيء آخر ، أعني لا تجوز اضافته ، فينتصب عنه التمييز ، وذلك في شيئين :

أحدهما : الضمير ، وهو الأكثر ، وذلك في الأغلب ، فيما فيه معنى المبالغة والتفخيم كمواضع التعجب ، نحو : يا له رجلا ، ويا لها قصة ، ويا لك ليلا ، وويلمّها خطة ، وما أحسنها فعلة ، ولله دره رجلا جاءني ، وويحه رجلا لقيته ، وكذا : ويله ، وكذا : نعم رجلا ، وبئس عبدا ، و: (ساءَ مَثَلاً)(٤) ؛

ومن هذا الباب ، أي الذي فيه التفخيم : ربّه رجلا لقيته ، إذ هو جواب في التقدير ، لمن قال : ما لقيت رجلا ، فكأنه قيل : لقيت رجلا وأيّ رجل ، ردّا عليه ؛

__________________

(١) أي الآتي بعد الاسم المشبه للفعل في التمام بأحد الأشياء المذكورة ؛

(٢) أي قبل التمييز ،

(٣) أي عن المعرف باللام.

(٤) من الآية ١٧٧ سورة الأعراف

٥٩

ولا ريب في أن التمييز في : نعم ، وما بعده : عن المفرد ، وهو الضمير ، وأمّا فيما قبله ، أعني من : يا له ، إلى : ويله ، فينظر ، فان كان الضمير فيها مبهما لا يعرف المقصود منه ، فالتمييز عن المفرد أيضا ، كقوله (١) ، كرّم الله وجهه في نهج البلاغة : «يا له مراما ما أبعده» ؛ وقول امرئ القيس :

٢٠١ ـ فيا لك من ليل كأنّ نجومه

بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل (٢)

وقول ذي الرمة :

٢٠٢ ـ ويلمّها روحة والريح معصفة

والغيث مرتجز والليل مرتقب (٣)

وان عرف المقصود من الضمير ، برجوعه إلى سابق معيّن ، كقولك : جاءني زيد ، فيا له رجلا ، وويلمّه فارسا ، ويا ويحه رجلا ، ولقيت زيدا فلله درّه رجلا ؛ أو بالخطاب لشخص معيّن نحو : قلت لزيد : يا لك من شجاع ، ولله درّك من رجل ونحو ذلك ، فليس التمييز فيه عن المفرد ، لأنه لا ابهام ، إذن ، في الضمير ؛ بل عن النسبة الحاصلة بالاضافة (٤) ، كما يكون كذلك إذا كان المضاف إليه فيها ظاهرا ، نحو : يا لزيد رجلا ، وكقول الشاعر :

٢٠٣ ـ ويلمّ أيام الشباب معيشة

مع الكثر يعطاه الفتى المتلف النّدي (٥)

ولله درّ زيد رجلا ، قال :

__________________

(١) أي الإمام عليّ بن أبي طالب ، وقوله هذا من كلام له في نهج البلاغة طبع دار الشعب بالقاهرة ص ٢٦٦ ،

(٢) من معلقة امرىء القيس ، من الجزء الذي وصف فيه الليل بالطول ، والمغار بضم الميم المحكم القتل الشديد من الحبال ، ويذبل اسم جبل يقول : كأن نجوم هذا الليل قد ربطت إلى يذبل بأقوى الحبال وأشدها فلا تتحرك ؛

(٣) من قصيدة لذي الرمة ، وكلمة ويلمّ أصلها ويل أم فخفف بحذف الهمزة من أمّ ، وقيل في أصله وجوه أخرى ، والرّوحة المرة من الرواح وهو السير آخر النهار ومعنى قوله : والغيث مرتجز ، أنه لتتابعه يحدث صوتا يشبه إنشاء الرجز ؛

(٤) راجع إلى جميع الأمثلة السابقة ومنها المجرور بحرف الجر ، وقد جرى الرضي على أن الجر بالحرف من باب الإضافة ، لأن الحرف يضيف معنى الفعل إلى الاسم ، وسيأتي ذلك في باب الإضافة ،

(٥) نسب هذا البيت لأكثر من شاعر ، ومنهم علقمة الفحل ، وهو من أبيات في حماسة أبي تمام ، وبعده :

وقد يعقل القلّ الفتى دون همّه

وقد كان لو لا القلّ طلّاع أنجد

٦٠