محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
لا قام ، أي لم يقم ، فلا ، لنفي حكم ما قبل «الّا» ونقضه ، نفيا كان ذلك الحكم ، أو اثباتا ، فهو كقولك : كأن زيدا أسد ، الأصل عند بعضهم : إن زيدا كالأسد ، فقدموا الكاف وركبوها مع «أن» ؛
وفيما قال نظر من وجوه : لأن «لا» على المعنى الذي أوردناه (١) ، غير عاطفة (٢) ، ومع التسليم ، فإن «لا» العاطفة ، لا تأتي إلا بعد الاثبات ، نحو : جاءني زيد لا عمرو ، وأنت تقول : ما جاءني القوم إلا زيد ، ولأن فيما قال ، عزلا (٣) لإنّ ، مرة ، وللا ، أخرى عن مقتضييهما ، وذلك لأنه ينصب بها مرة ، ويتبع ما بعدها لما قبلها أخرى ، ولا يجتمع الحكمان معا في موضع ، ولأن المعطوف عليه قليلا ما يحذف ، والمتعدد الذي هو المعطوف عليه ، عنده ، مطرد الحذف نحو : ما قام إلا زيد ؛
وقال بعضهم : هو منصوب بأستثني ، كما أن المنادى منصوب بأنادي ، و «الّا» ، وحرف النداء ، دليلان على الفعلين المقدّرين ، فالمستثنى على هذا القول : مفعول به ، وقد اعترض عليه بأنه يلزم منه جواز الرفع بتقدير : امتنع ؛ ولا يلزم (٤) ذلك ، لأننا نعلل ما ثبت وورد ، من كلام العرب ، ولو ورد الرفع لكنّا نقدر «امتنع» ونحوه ؛ ولو ورد الرفع في نحو : أنت والأسد ، لكنا نقدّر : ابعد أنت والأسد ونحوه ؛
وقال المصنف في شرح المفصل (٥) : العامل فيه : المستثنى منه بواسطة «الا» ، قال : لأنه ربّما لا يكون هناك فعل ولا معناه فيعمل ، نحو : القوم إلا زيدا إخوتك ؛ وهذا لا يرد إلا على مذهب البصريين ؛ ولهم أن يقولوا : ان في «إخوتك» معنى الفعل وإن كان
__________________
(١) يعني في شرح مذهب الفراء ،
(٢) لأنها لم تسبق بمعطوف عليه
(٣) أي إبعادا لكل من الحرفين عما يقتضيه من العمل ،
(٤) أي لا يلزم الاعتراض الذي أوردوه
(٥) لابن الحاجب شرح على مفصل الزمخشري اسمه : الإيضاح ، ينقل الرضي عنه كثيرا ويناقش ابن الحاجب فيما ينقله عنه كثيرا كما ينقل عنه في شرحه على الكافية هذه ؛
من أخوّة النسب أي ينتسبون إليك بالأخوّة ، وكذا في أمثاله ، فجاز أن يعمل العامل الضعيف فيما تقدّم عليه (١) ، لتقوّيه بالّا ، ولا يلزم مثله في المفعول معه ، فانه لا يتقدم على عامله وإن كان فعلا صريحا ، لأن أصل الواو للعطف ، فروعي ذلك الأصل ؛
ولو لم يكن في الجملة ، أيضا ، معنى الفعل ، لجاز أن ينتصب المستثنى ، إذ الجملة ليست بأنقص مشابهة للفعل التام كلاما بفاعله ، من المفرد التي يتمّ بالنون والتنوين فينصب التمييز ، ولا سيّما مع تقوّيها بآلة الاستثناء ؛ وإلى مثله يشير كلام سيبويه في مواضع (٢) ؛ فنقول : عمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم ؛ (٣) هذا كله في المستثنى المتصل ؛
وأمّا المنقطع ، فمذهب سيبويه ، أنه ، أيضا ، ينتصب بما قبل «إلّا» ، من الكلام ، كما انتصب المتصل به ، وذلك قوله في الكتاب : «فحمل على معنى «لكن» وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم (٤)» ؛ وما بعد «الا» عنده ، مفرد ، سواء كان متصلا أو منقطعا ، فهي ، وإن لم تكن حرف عطف ، إلا أنها ك «لكن» العاطفة للمفرد على المفرد ، في وقوع المفرد بعدها ، فلهذا وجب فتح «أن» الواقعة بعدها في نحو قولك : زيد غنيّ ، إلا أنه شقيّ ؛ والمتأخرون ، لمّا رأوها بمعنى «لكنّ» ، قالوا : انها الناصبة بنفسها ، نصب «لكنّ» للأسماء ، وخبرها محذوف ، نحو : قولك : جاءني القوم إلا حمارا ، أي : لكن حمارا لم يجيئ ، قالوا وقد يجيئ خبرها ظاهرا ، نحو قوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ)(٥) ؛
__________________
(١) أي في المثال المذكور في كلام المصنف ؛
(٢) منها قوله : هذا باب لا يكون المستثنى فيه إلا نصبا ، لأنه مخرج مما أدخلت فيه غيره فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم ؛ ثم قال : وهذا قول الخليل ، ج ١ ص ٣٦٩
(٣) في بعض النسخ بعد قوله هذا : (فمذهبه على هذا أن الجملة عاملة في المستثنى لتمامها ، لا لمعنى الفعل فيها سواء كان معنى الفعل فيه أولا ، وهو المختار عندي ؛) ،
(٤) سيبويه ج ١ ص ٣٦٣ ؛
(٥) الآية ٩٨ سورة يونس
وقال الكوفيون : «إلّا» في الاستثناء المنقطع ، بمعنى «سوى» وانتصاب المستثنى بعدها كانتصابه في المتصل ؛
وتأويل البصريين أولى ، لأن المستثنى المنقطع ، يلزم مخالفته لما قبله نفيا واثباتا ، كما في «لكن» ، وفي «سوى» لا يلزم ذلك ، لأنك تقول : لي عليك ديناران ، سوى الدينار الفلانيّ ، وذلك إذا كان صفة ؛ (١) وأيضا معنى «لكن» الاستدراك ، والمراد بالاستدراك فيها رفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها ، مع أنه ليس بداخل فيه ، وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه ؛
وإنما وجب النصب في المستثنى من الموجب ، لأن التفريغ لا يجوز فيه ، كما يجيئ ، والابدال أيضا لا يجوز في نحو : جاء القوم إلا زيدا ، لأنك لو أبدلت ، كان المبدل منه في حكم الساقط ، فيؤدّي إلى التفريغ في الإيجاب فلم يبق إلا النصب ؛
قوله : «أو مقدّما على المستثنى منه» ، يعني إذا كان بعد «الّا» وتقدم على المستثنى منه ، وجب النصب ، لأنه إن كان في الموجب فقد تقدم وجوب النصب ، وإن كان في غير الموجب ، فقد بطل البدل ، لأن البدل لا يتقدم على المبدل منه ، لأنه من التوابع ، فلم يبق إلا النصب على الاستثناء ؛ على أنه قد حكى يونس (٢) : ان بعض العرب يقول : ما لي إلا أبوك أحد ، فجعل المستثنى منه ، المؤخر ، بدلا من المستثنى ، كما قيل : ما مررت بمثله أحد ، و «أحد» بدل من «مثله» ، ويجوز أن تقول : ما لي إلا أبوك صديقا ، على أن «أبوك» مبتدأ ، و «لي» خبره وصديقا ، حال ؛ وتقول : من لي إلّا أبوك صديقا ، فمن ، مبتدأ ، و «لي» خبره ، و «أبوك» بدل من «من» ، كأنك قلت : ألي أحد إلا أبوك ، وصديقا ، حال ؛ وتقول : ما لي إلا زيدا صديق وعمرا ، وعمرو ، فتنصب عمرا على العطف على «زيدا» ، وترفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : وعمرو كذلك ؛
__________________
(١) أي إذا كان لفظ سوى صفة ؛
(٢) يونس بن حبيب ، احد المتقدمين من أئمة النحو وواضعي قواعده وهو شيخ سيبويه وغيره من معاصريه ، وينقل عنه سيبويه كثيرا في كتابه ؛
واعلم أنه إذا تقدّم المستثنى على المستثنى منه ، وجب أن يتأخر عما نسب إلى المستثنى منه ، نحو : ما جاءني إلا زيدا أحد ، وإن تقدم على المنسوب وجب تأخيره عن المستثنى منه ، نحو : القوم إلا زيدا ضربت ، ولا يجوز ، عند البصريين ، تقدمه عليهما معا في الاختيار ، نحو قولك : إلا زيدا قام القوم ؛ وقوله :
٢١٠ ـ وبلدة ليس بها طوريّ ، |
|
ولا ، خلا الجنّ ، بها انسيّ (١) |
شاذ عندهم للضرورة ، وقيل : تقديره : ليس بها طوريّ ، ولا بها انسيّ ، خلا الجن ، فأضمر الحكم ، والمستثنى منه ، و: بها انسيّ ، الظاهر تفسير له ،
فإذا قام المستثنى مع آلة الاستثناء مقام المستثنى منه ، وذلك في الاستثناء المفرغ ، التزم عندهم ، تأخير المستثنى عن عامله ، فلا يجوز : إلا زيدا لم أضرب ، و: زيد إلا راكبا لم يأتني ؛
وجوّز الكوفيون في السّعة ، تقدم المستثنى على المستثنى منه ، والحكم ، معا ، نحو : إلّا زيدا ضربني القوم ، وكذا جوّزوا تقديم المستثنى في المفرغ على الحكم نحو : إلّا زيدا لم أضرب ؛
والأولى مذهب البصريين ، لعدم سماع مثل هذا ، ويمنعه القياس أيضا ، وذلك لأن المستثنى ، أخرج من المستثنى منه في الحقيقة أولا ثم نسب الحكم إلى المجموع ، وهو في الظاهر مخرج من الحكم أيضا ، لأن الظاهر أنك أخرجت زيدا من المجيئ في قولك : جاءني القوم إلا زيدا ، وإن لم يكن في الحقيقة مخرجا منه ، ومرتبة المخرج أن يكون بعد المخرج منه ، فكان حقه أن يجيئ بعد الحكم والمستثنى منه معا ، لكنه جوّز ، لكثرة استعماله ، تقدمه على أحدهما ، نحو : جاءني إلا زيدا القوم ، والقوم إلا زيدا اخوتك ، ولم يجز تقدمه عليهما معا ،
__________________
(١) من أرجوزة للعجاج ، وطوريّ من الكلمات الملازمة للنفي ، بمعنى أحد ، وصوّب البغدادي أن الرواية :
وخفقة ، أي مفازة ، قال لأن في الأرجوزة قبل ذلك :
وبلدة نياطها بطيّ |
|
للريح في أقرابها هويّ ، |
والقصد من هذا التصويب : ألّا تتكرر كلمة «بلدة» في الأرجوزة ،
وفي المفرغ الذي ليس فيه إلا الحكم ، لم يجز تقدمه عليه ؛
واعلم ، أيضا أنه لا يلزم أن يكون العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه ، بل قد يختلفان ، كما في قولك : القوم إلا زيدا اخوتك ، وهذا عند من جعل العامل في المبتدأ الابتداء ، لا الخبر ،
قوله : «أو منقطعا في الأكثر» أي منقطعا بعد «الّا» نحو : ما في الدار أحد إلا حمارا ؛ أهل الحجاز يوجبون نصبه مطلقا ، لأنّ بدل الغلط غير موجود في الفصيح من كلام العرب ؛
وبنو تميم قسموا المنقطع قسمين : أحدهما ما يكون قبله اسم متعدد أو غير متعدد يصح حذفه ، نحو : ما جاءني القوم إلّا حمارا وما جاءني زيد إلا عمرا ، فههنا يجوّزون البدل ، ثم ان ذلك الاسم الذي يجوز حذفه ، إمّا أن يكون مما يصح دخول المستثنى فيه مجازا ، أو ، لا ، فالأول نحو قولك : ما في الدار أحد إلا حمارا ، يصح أن يجعل الحمار إنسان الدار ، كما قال أبو ذؤيب :
٢١١ ـ فإن تمس في دار برهوة ثاويا |
|
أنيسك أصداء القبور تصيح (١) |
ومثله : ما لي عتاب إلا السيف ؛ فلسيبويه في مثل هذا وجهان إذا أبدلت ؛ أحدهما جعل المنقطع كالمتصل ، لصحة دخول المبدل في المبدل منه ، والثاني أن الأصل في نحو : لا أحد فيها إلا حمارا أن يقال : ما فيها إلا حمار ، أي ما فيها شيء إلا حمار ، لكنه خصص بالذكر من جملة المستثنى منه المحذوف ، المتعدد ، ما ظنّ استبعاد المخاطب شمول المتعدد المقدر له ، كأنك تظن أن المخاطب يستبعد خلوّها من الآدميّ ، فقلت لا أحد فيها ، تأكيدا لنفي كون الآدمي بها ، فلما ذكرت ذلك المستبعد ، أبقيت ذلك المستثنى على ما كان عليه في الأصل ، من الاعراب ، تنبيها على الأصل وجعلته بدلا من ذلك المذكور ، فعلى هذا ، لا يكون هذا من قبيل الاستثناء المتصل كما كان في الوجه الأول ؛
__________________
(١) من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي في رثاء قريب له ، وهي في ديوان الهذليين ، والبيت من شواهد سيبويه وكثير مما قاله الشارح من كلام سيبويه بلفظه أو بمعناه انظر ج ١ ص ٣٦٤ من كتاب سيبويه ؛ وما بعدها ،
وذهب المازني إلى أنه من باب تغليب العاقل على غيره ، كما تقول : الزيدان والحمار جاءوا ؛ وهذا لا يطرد له في جميع الباب ، نحو قوله تعالى : (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ)(١) ، وقولهم : ليس له سلطان إلا التكلف ، ونحو ذلك ؛
والثاني : أي الذي لا يدخل فيه المستثنى في ذلك الاسم مجازا ، ليس فيه إلا الوجه الثاني من قولي سيبويه ، وذلك نحو : ما جاءني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه ، قال :
٢١٢ ـ والحرب لا يبقى لجا |
|
حمها التخيّل والمراح (٢) |
إلا الفتى الصّبار في ال |
|
نجدات والفرس الوقاح |
وقال :
٢١٣ ـ عشيّة لا تغني الرماح مكانها |
|
ولا النبل إلا المشرفيّ المصمّم (٣) |
والثاني من القسمين : ما لا يكون قبله اسم يصح حذفه ؛ فبنو تميم ههنا يوافقون الحجازيين في إيجاب نصبه ، كقوله تعالى : (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(٤) ، أي : من رحمه الله تعالى ، وقال بعضهم : لا عاصم ، أي لا معصوم ، فالاستثناء متصل ؛
وقال السيرافي : المراد بمن رحم : الراحم ، أي الله تعالى ، لا المرحوم فيكون أيضا
__________________
(١) الآية ١٥٧ من سورة النساء ؛
(٢) هذا من أبيات قالها سعد بن مالك ، من بني قيس ، تعريضا بالحارث بن عبّاد الذي كان قد قعد عن حرب البسوس بين بكر وتغلب ؛ والبيتان من شواهد سيبويه ج ١ ص ٣٦٦ ، ومن هذه الأبيات قوله :
من صدّ عن نيرانها |
|
فأنا ابن قيس لا براح |
وتقدم في الجزء الأول ، وسيأتي أيضا في هذا الجزء ؛
(٣) الاستثناء فيه منقطع لأن المشرفيّ وهو السيف ليس من جنس النبل والرماح ، وقد ورد هذا البيت بروايتين في قصيدتين احداهما هذه ، وهي لضرار بن الأزور الصحابي ، والثانية بتنكير مصمم ونصبه على الحال وهو بهذه الرواية من قصيدة للحصين بن الحمام الّمري ، وهي إحدى المفضليات ؛
(٤) الآية ٤٣ سورة هود
متصلا ؛ وأمّا قوله تعالى : (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا) (١) ، وقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) ، (٢) فلا يجوز الإبدال في الآيتين ، لأن التحضيض كالأمر والشرط ، ولا يجوز : ليقم القوم إلا زيد ، و: ان قام أحد إلا زيد ؛
وكان الزجاج يجيز البدل في «قوم يونس» ، لأن معنى لو لا كانت قرية آمنت ، ما آمنت قرية ، لأن اللوم على ما فات دلالة على انتفائه ؛ ومنه قولهم : لا تكوننّ من فلان إلا سلاما بسلام ، أي متاركة ووداعا (٣) ، من قوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) ، (٤) ومعنى : بسلام أي مع سلام ، أي متاركة متتابعة ، ويجوز أن تكون الباء للبدل ، أي تسلم عليه وتردّ سلاما بدل سلامه ، ولا تخالطه بأكثر من هذا ، ومنه قولهم : ما ضرّ إلا ما نفع ، وما زاد إلا ما نقص ، و «ما» فيها مصدرية ؛
وأبو سعيد (٥) ، ومبرمان (٦) ، يقدّران الخبر ، أي : ولكن النقصان أمره (٧) ، ولكن النفع أمره ؛
ومذهب سيبويه : أن ما بعد «إلّا» في المنقطع مفرد ، كما مرّ ،
وأما نحو قوله : (٨)
__________________
(١) الآية ١١٦ سورة هود
(٢) الآية ٩٨ سورة يونس وتقدم جزء منها ؛
(٣) مصدر وادع موادعة ،
(٤) الآية ٦٣ سورة الفرقان
(٥) أي السيرافي ، وتقدم ذكره ؛
(٦) مبرمان : محمد بن علي بن إسماعيل من علماء القرن الرابع ، أخذ عن المبرد والزجاج ، وأخذ عنه أبو علي الفارسي ، وهو أحد من شرحوا كتاب سيبويه ، وفي النسخة المطبوعة : ابن مبرمان ، ولا وجه لكلمة ابن ؛
(٧) أي شأنه وصفته ؛
(٨) الاستشهاد بالبيتين الآتيين استطراد وإن كان الاستثناء فيهما بغير ، والمناسبة أن غير مثل إلا كما سيأتي ؛
٢١٤ ـ ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم |
|
بهنّ فلول من قراع الكتائب (١) |
وقوله :
٢١٥ ـ فتى كملت أخلاقه غير أنه |
|
جواد فما يبقي من المال باقيا (٢) |
فظاهر فيه أول وجهي سيبويه المذكورين ، وذلك أن الشاعر قصد جعله من المتصل مبالغة في المدح ، أي إن كان لا بدّ من العيب ، ففيهم عيب واحد ، فحسب ، وهو فلول سيوفهم من القراع ؛ وفي أخلاقه نقص واحد ، وهو جوده الكامل الممزّق لماله ؛ يعدّون ما في ظاهره أدنى شائبة من النقص وإن كان في التحقيق غاية في الكمال : من جملة (٣) العيوب ، غلوّا في الثناء ، كما قال بديع الزمان (٤) : عيبه أنه لا عيب فيه ، فنفي عين الكمال عن معاليه (٥) ؛
قوله : «أو كان بعد خلا وعدا في الأكثر» ، قال السيرافي : لم أر أحدا ذكر الجرّ بعد «عدا» إلا الأخفش ، فإنه قرنها في بعض ما ذكر ، بخلا ، في جواز الجّر بها ، وقال ،
__________________
(١) من قصيدة للنابغة الذبياني في مدح عمرو بن الحارث الغساني مطلعها :
كليني لهم يا أميمة ناصب |
|
وليل أقاسيه بطيئ الكواكب |
وهي من جيد شعر النابغة ،
(٢) قائله النابغة الجعدي في رثاء أخ له ، من أبيات أوردها أبو تمام في الحماسة في باب المرائي ، وقبل بيت الشاهد قوله :
ألم تعلمي أني رزئت محاربا |
|
فما لك منه اليوم شيء ولا ليا |
وبعده فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه |
|
على أن فيه ما يسوء الأعاديا |
(٣) متعلق بقوله : يعدون ما في ظاهره
(٤) بديع الزمان هو أبو الفضل أحمد بن حسين ، الكاتب الشاعر ، اشتهر بمقاماته ورسائله البليغة ، وكان ذا حظوة عند الصاحب بن عباد وكانت حياته أثناء القرن الرابع الهجري ،
(٥) المعنى : أن من يقول عن إنسان إنه لا عيب فيه إلا الكرم مثلا ، ينفي بقوله هذا عين الكمال ، أي عين الحاسد التي تتجه إلى الشيء الكامل ؛ بإثباته عيبا للمدوح ولو ظاهرا ، وذلك المعنى أجمله الشاعر الذي يقول :
ما كان أحوج ذا الكمال إلى |
|
عيب يوقّيه من العين |
ويقول شاعر آخر :
شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ |
|
من شرّ أعينهم بعيب واحد |
أي السيرافي : ما أعلم خلافا في جواز الجر بخلا ، إلّا أن النصب بها أكثر ، كما ذكر سيبويه (١) ، وأمّا «خلا» ، فهو في الأصل لازم يتعدّى إلى المفعول بمن ، نحو : خلت الدار من الأنيس ، وقد يضمّن معنى «جاوز» فيتعدّى بنفسه كقولهم : افعل هذا وخلاك ذم ، وألزموها (٢) هذا التضمين في باب الاستثناء ، ليكون ما بعدها في صورة المستثنى بالّا ، التي هي أمّ الباب ، ولهذا الغرض ، التزموا اضمار فاعله وفاعل «عدا» ، ولم يظهر معهما «قد» مع أنهما في محل النصب على الحال (٣) ، ولهذا أوجبوا اضمارا اسمي ليس ولا يكون ، وأمّا «عدا» فمتعدّ في غير الاستثناء ، أيضا ؛
وفاعل خلا ، وعدا ، عند النحاة ، «بعضهم» (٤) ؛ وفيه نظر ، لأن المقصود في جاءني القوم خلا زيدا وعدا زيدا : أن زيدا لم يكن معهم أصلا ، ولا يلزم من مجاوزة بعض القوم إيّاه وخلو بعضهم منه ، مجاوزة الكل وخلوّ الكل ؛ فالأولى أن نضمر فيهما ضميرا راجعا إلى مصدر الفعل المتقدم ، أي : جاءني القوم خلا مجيئهم زيدا ، كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٥) ، فيكون مفسّر الضمير سياق القول ،
والنصب في قولهم : ما النساء وذكرهنّ (٦) ، بعدا ، مضمرة ، وقال بعضهم «ما» مؤوّل بالّا ، ولم يثبت ؛
قوله : «وما خلا وما عدا» ، إنما لزم النصب بعدهما ، لأن «ما» مصدرية ، وهي تدخل على الفعلية غالبا ، كما يجيئ في قسم الحروف ، وفي الاسمية قليلا ، وليس بعدها
__________________
(١) سيبويه ج ١ ص ٣٧٧
(٢) أي ألزموا خلا ،
(٣) مع كونهما جملتين ماضيتين ، فحقهما الاقتران بقد ، على ما تقدم في باب الحال ؛
(٤) أي كلمة بعض مضافة إلى ضمير المستثنى منه ،
(٥) الآية ٨ سورة المائدة
(٦) في لسان العرب مادة «مهه» : تقول العرب : كل شيء مهه أو مهاه أو مهاهة ما النساء وذكرهن ، وفسّره بأن معنى الكلمات : مهه ومهاه ومهاهة : الشيء السهل الذي يمكن احتماله ، وقيل المعنى : كل شيء باطل إلا النساء وذكرهن ،
اسمية (١) ، فتتعيّن الفعلية ، فتتعيّن كونهما فعلين ، فوجب النصب ، والمضاف محذوف ، أي : وقت ما خلا مجيئهم زيدا ، أي وقت خلوّ مجيئهم زيدا ، وذلك أن الحين (٢) كثيرا ما يحذف مع «ما» المصدرية نحو : ما ذرّ شارق ؛
وجوّز الجرمي (٣) ، الجرّ بعد ما خلا ، وما عدا ، ولم يثبت ، على (٤) أن «ما» زائدة ؛
قوله : «وليس ، ولا يكون» ، هما أيضا في محل النصب على الحال إذا ضمّنا معنى الاستثناء ، ولا يستعمل موضع «لا يكون» غيره. نحو : ما كان ، ولم يكن ، ونحو ذلك ، وفاعلهما واجب الاضمار ، وهو ضمير راجع إلى «بعض» (٥) مضافا إلى ضمير المستثنى منه ، أي ليس بعضهم زيدا ، وذلك لمثل ما قلنا في وجوب اضمار فاعل خلا ، وعدا ، إلا أن الإضمار ههنا ، كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٦) ، وقوله تعالى : (حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ)(٧) بخلاف ذلك ،
وأجاز الخليل أن يوصف بليس ، ولا يكون ، منكر ، أو معرّف باللام الجنسية ، نحو : ما جاءني الرجال ليسوا ولا يكونون زيدا ، وسمع من العرب : ما أتتني امرأة لا تكون فلانة وليست فلانة ، فيلحقهما ، إذن ، ما يلحق الأفعال الموصوف بها من ضمير وعلامة تأنيث ، تقول : ما رأيت رجالا لا يكونون زيدا وليسوا زيدا ، ولم يجيئ مثل ذلك في خلا وعدا ؛
ولم تستعمل هذه الأفعال في الاستثناء المفرّغ ، على أنه قال الأحوص :
__________________
(١) أي في حال استعمالها في مثل ما خلا زيدا ،
(٢) أي اللفظ الدال على الزمان ولذلك يسمونها المصدرية الظرفية ،
(٣) الجرمي نسبة إلى جرم بفتح الجيم ، قبيلة باليمن ، قيل إنه كان مولى لها ، وقيل إنه أقام بها زمنا فنسب إليها ، وهو أبو عمر ، صالح بن إسحاق من علماء البصرة ، أدرك سيبويه ولم يلقه توفي سنة ٢٢٥ ه
(٤) توجيه لما ذهب إليه الجرميّ ؛
(٥) أي لفظ بعض ،
(٦) أول سورة القدر ،
(٧) الآية ٣٢ من سورة ص ،
٢١٦ ـ فما ترك الصّنع الذي قد صنعته |
|
ولا الغيظ مني ليس جلدا وأعظما (١) |
أي إلا جلدا ... ولا تستعمل هذه الكلمة إلا في الاستثناء المتصل ، بخلاف «غير» فإنها تستعمل في المنقطع ، أيضا ، كقوله :
٢١٧ ـ وكلّ أبيّ باسل غير أنني |
|
إذا عرضت أولى الطرائد أبسل (٢) |
[ترجح الإبدال]
[وجواز النصب]
[قال ابن الحاجب :]
«ويجوز فيه النصب ، ويختار البدل ، فيما بعد «الّا» في»
«كلام غير موجب ذكر فيه المستثنى منه نحو : ما فعلوه إلا»
«قليل وإلا قليلا» ؛
[قال الرضى :]
اعلم أنّ لاختيار البدل شروطا : أحدها (٣) ، أن يكون بعد «الا» ومتصلا ، ومؤخرا
__________________
(١) الصنع ، بفتح الصاد ، مصدر صنع والمراد : الأمر الذي صنعته والخطاب فيه لعمر بن عبد العزيز ، الخليفة الأموي ، كان ، بعد أن تولى الخلافة اصطفى يزيد بن أسلم ، وجفا الأحوص الأنصاري فقال الأحوص :
ألست أبا حفص هديت مخبّري |
|
أفي الحق أن أقصى وتدني ابن اسلما |
وهذا ما يريده بقوله : الصنع الذي قد صنعته ،
(٢) هذا البيت من القصيدة المسماة بلامية العرب للشنفري ، التي يقول فيها مخاطبا قومه وعشيرته :
ولي دونكم آهلون سيد عملّس |
|
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل |
هم الأهل لا مستودع السّر ذائع |
|
لديهم ولا الجاني بما جرّ يخذل |
وقوله وكلّ أبيّ : أي وكل واحد منهم يريد هؤلاء الأهل ؛
(٣) لم يقل بعد ذلك ثانيها وثالثها ، فكان الأولى حذف «أحدها» هذه ؛
عن المستثنى منه المشتمل عليه استفهام أو نهي أو نفي صريح أو مؤول به غير مردود به كلام تضمّن الاستثناء ؛ وألّا يتراخى المستثنى عن المستثنى منه ؛
فقولنا المشتمل عليه استفهام أو نهي أو نفي ، يدخل فيه الضمير الراجع قبل الاستثناء بإلا ، على اسم صالح لأن يبدل منه ، معمول للابتداء أو أحد نواسخه ، نحو قولك : ما أحد ضربته إلا زيدا ، يجوز لك الإبدال من هاء ضربته ، لأن المعنى : ما ضربت أحدا إلا زيدا فقد اشتمل النفي على هذا الضمير من حيث المعنى ؛ وكذلك إذا كان الضمير في صفة المبتدأ ، نحو : ما أحد لقيته كريم إلا زيدا ؛
ومثال دخول النواسخ : ما ظننت أحدا يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع بدلا من ضمير «يقول» لأن المعنى : ما يقول ذلك في ظنّي إلا زيد ؛
والإبدال من صاحب الضمير أولى ، لأنه الأصل ، ولا يحتاج إلى تأويل ، لكونه في غير الموجب ؛
ولو لم يرجع الضمير إلى المبتدأ في الأصل أو في الحال ، لم يجز الإبدال منه على ما قيل ، فلا تقول : ما ضربت أحدا بقول ذلك إلا زيد بالرفع بدلا من ضمير يقول ، لأن القول ليس بمنفي ، بل المنفي الضرب ؛
قال سيبويه (١) : إذا قلت : ما رأيت أحدا يقول ذلك إلا زيدا ، ورأيت بمعنى أبصرت ، وجب نصب المستثنى ، لأنه ليس من نواسخ الابتداء ،
هذا قوله ، وأنا لا أرى بأسا ، في غير نواسخ الابتداء ، أيضا ، في الإبدال من ضمير راجع إلى ما يصلح للإبدال منه ، إذا شمل النفي عامل ذلك الضمير ، نحو : ما كلمت أحدا ينصفني إلا زيد ، لأن المعنى : ما أنصفني أحد كلّمته إلا زيد ، ومنه قول عدي بن زيد :
__________________
(١) منقول بمعناه من سيبويه ، ج ١ ص ٣٦١
٢١٨ ـ في ليلة لا نرى بها أحدا |
|
يحكي علينا إلا كواكبها (١) |
و «نرى» من روية العين ، وفي جعله من رؤية القلب ، كما ذهب إليه سيبويه ، نظر ، لكونه مخالفا لظاهر معنى البيت ، فالإنصاف (٢) والحكاية منفيان معنى ؛ بلى ، لو قلت : لا أوذي أحدا يوحّد الله تعالى إلا زيدا ، لم يجز الإبدال من ضمير «يوحّد» ، لأن التوحيد ليس بمنفي ، بل الأذى (٣) فقط ؛
وكذا يجوز الإبدال من المضاف ، والمضاف إليه المتعدد ، إذا كان المضاف معمولا لغير الموجب ، نحو : ما جاءني أخو أحد إلا زيد ، وفي حكمه : ما في وصف معمول غير الموجب ، نحو : ما أتاني غلام لأحد إلا زيد ،.
قولنا : أو مووّل به ، يدخل نحو : قلّما رجل يقول ذلك إلا زيد ، وفي : قلّ رجل ، وقلما رجل وأقل رجل : معنى النفي ؛
قال أبو علي : قلّما ، يكون بمعنى النفي الصّرف ، نحو : قلّما سرت حتى أدخلها بالنصب لا غير ، ولو كان للإثبات لجاز الرفع ، كما يجيئ في نواصب الفعل ، قال : ويجيئ بمعنى إثبات الشيء القليل كقوله :
٢١٩ ـ قلّما عرّس حتى هجته |
|
بالتباشير من الصبح الأول (٤) |
والأغلب الأوّل ،
ولكون «أقل رجل» مؤولا بالنفي ، لا يدخله نواسخ الابتداء ، كما لا تدخل على
__________________
(١) هذا من أبيات لأحيحة بن الجلاح الأنصاري يقول فيها قبل هذا البيت :
يا ليتني ليلة إذا هجع النا |
|
س ونام الكلاب صاحبها |
وقال البغدادي بعد أن أورد الأبيات أنه تصفح ديوان عدي بن زيد فلم يجد فيه هذا الشعر ،
(٢) المستفاد من قوله ينصفني في المثال ، والحكاية المستفادة من قول الشاعر : يحكي علينا ،
(٣) المناسب أن يقول : الإيذاء ، ليتناسب مع «أوذي» ،
(٤) التعريس : النزول آخر الليل للنوم أو الراحة ، وهجته : أيقظته ، أو أفزعته ، بالتباشير ، أي بظهور التباشير من الصبح ، والأول جمع أولى صفة للتباشير وهو من شعر لبيد بن ربيعة ،
«ما» النافية ، ومن ثمّ كان وصف المضاف إليه «أقلّ» في الأشهر ، فعلا أو ظرفا ، لأن أصل النفي دخوله على الفعل ، فلو قلت : أقل رجل ذي جمّة ؛ لم يحسن ، على ما قال الأخفش ، قال أبو علي : ووصفه بنحو : صالح ، أيضا ، لا يجوز في القياس ، قال : ومن جوّز ، فلإعطائه معنى الفعل. ألا ترى أن سيبويه (١) أجاز حكاية نحو : «لبيبة عاقلة» إذا سمّي به ، كالجملة ، (٢)
وفاعل «قلّ» و «قلّما» لا يكون إلا نكرة ، وكذا ما أضيف إليه «أقلّ» لكونه كالمجرور بربّ ، قال أبو علي : أقلّ مبتدأ ، حذف خبره وجوبا ، استغناء بوصف المضاف إليه ، كما حذف خبر ما بعد لولا (٣) ،
وفيما قال نظر ، لأنه لا معنى لقولك : أقل رجل يقول ذلك إلا زيد موجود كما لا معنى لقولك : أقائم الزيدان موجود ؛
قال (٤) : أو نقول : هو مبتدأ لا خبر له ، لأن فيه معنى الفعل ، كما في : أقائم الزيدان ؛
وقال بعضهم : نحو «يقول ذلك» في : أقلّ رجل يقول ذلك إلا زيد : خبر المبتدأ ، و «إلا زيد» بدل من ضمير «يقول» ، وكذا في : أقل رجلين يقولان ذلك إلا الزيدان ، وأقلّ رجال يقولون ذلك إلا الزيدون ، قال (٥) : وإنما ثنّي ضمير يقولان ، وجمع ضمير يقولون لأن أفعل التفضيل ، كما يجيئ في بابه ، إذا أضيف إلى نكرة ، فإن كانت مفردة فهو مفرد ، وإن كانت مثناة ، أو مجموعة ، فهو مثنى أو مجموع ، بخلاف ما إذا أضيف إلى المعرفة ، نحو : أفضل الرجلين ، وأفضل الرجال ؛
__________________
(١) الموجود في سيبويه ج ٢ ص ٦٦ التسمية بعاقلة لبيبة بدون واو ، ولذلك حذفتها وهي موجودة في المطبوعة الأولى.
(٢) أي كما تحكي الجملة ،
(٣) للاستغناء عنه بجواب لو لا
(٤) أي الفارسيّ ،
(٥) أي ذلك البعض صاحب هذا الرأي ،
والحقّ من هذه المذاهب ، ثاني قولي أبي علي ، لأنك تقول أقلّ من يقول ذلك إلا زيد ، وقلّ من يقول ذلك إلا زيد ، و «من» نكرة ، لا بدّ لها من وصف ، وأقلّ رجل يقول ، بمعنى : أقلّ من يقول ، فالجملة ، إذن ، وصف للنكرة ، كما كانت وصفا لمن ؛
ولا يجوز إبدال زيد من لفظ المضاف إليه في : أقل رجل .. ، لأن «أقلّ» يكون ، إذن ، في التقدير مضافا إلى ذلك البدل الذي هو مثبت (١) ، وهو لا يضاف إلا إلى ما نفي الحكم عنه ؛
ولا يجوز ، أيضا ، إبداله من لفظ «أقل» ، إذ لو أبدلت منه طرحته من التفسير فيبقى قولك : يقول ذلك إلا زيد ، ولا يصح (٢) ؛ فالمرفوع بعد «إلا» في هذا المقام ، معرفة كان أو نكرة ، بدل من المضاف إليه أقلّ على المعنى المؤوّل به الكلام ، إذ التقدير : ما رجل يقول ذلك إلا زيد ، أي : ما يقول ذلك إلا زيد ؛
وينبغي أن يكون تأويل النفي ظاهرا ، ومن ثمّ ردّ على الزجاج في تجويز الرفع في «قوم يونس» في قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) الآية (٣) ، فجعل التحضيض كالنفي ؛
وقد تجري لفظة «أبى» وما تصرف منها مجرى النفي ، قال تعالى : (فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)(٤) ، و: (يَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ)(٥) ، والمفرغ لا يجيئ في الموجب إلا نادرا ، فعلى هذا ، يجوز نحو : أبى القوم أن يأتوني إلا زيد ، إذ حيث يجوز المفرغ يجوز الإبدال ؛
وتأويل النفي في غير الألفاظ المذكورة نادر ، كما جاء في الشواذ : «فشربوا منه إلا قليل منهم (٦)» ، أي لم يطيعوه إلا قليل منهم ؛ ولا يجوز : مات الناس إلا زيد ، أي لم
__________________
(١) لأن النفي أبطل بالّا ،
(٢) لأن ذلك يؤدي إلى التفريغ في الإيجاب ؛
(٣) الآية ٩٨ من سورة يونس وتكررت
(٤) الآية ٨٩ سورة الاسراء
(٥) الآية ٣٢ سورة التوبة ،
(٦) الآية ٢٤٩ من سورة البقرة ، وهي قراءة الأعمش ، وأبيّ بن كعب ؛
يعش الناس إلا زيد ، وكذا لا يجوز في الأمر والشرط ، الإبدال والتفريغ ، نحو ليقم القوم إلا زيد ، وإن قام أحد إلا زيد قمت ،
وكان الزجاج يجيز البدل في قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) لتأويله التحضيض بالنفي ، لأن المعنى : ما آمنت قرية ، إذ اللوم على ما فات دلالة على انتفائه ، وقد ردّه النحاة ؛ (١)
وأمّا قوله تعالى : (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا)(٢) ، فبالنصب لا غير ،
وقولنا (٣) غير مردود به كلام تضمّن الاستثناء ، احتراز عن نحو : ما قام القوم إلا زيدا ، ردّا على من قال : قام القوم إلا زيدا ، إذ النصب ههنا أولى ، لقصد التطابق بين الكلامين ،
وقولنا : وألّا يتراخى المستثنى عن المستثنى منه ، احتراز عن نحو : ما جاءني أحد حين كنت جالسا ههنا ، إلا زيدا ، فإن الإبدال ليس بأولى ههنا من النصب ، إذ كونه مختارا لقصد التطابق بينه وبين المستثنى منه ، ومع تراخي ما بينهما ، لا يتبيّن ذلك ؛
فاذا تقرّر هذا ، فاعلم أن هذا الاتباع ، إبدال عند البصريّة ، لأن عبرته (٤) بجواز حذف المتبوع ، وهو ههنا جائز ؛
وقال الكسائي ، والفراء : «إلّا» حرف عطف بهذه الشروط ، ولا خلاف بينهم في معنى «إلا» وأنه للاستثناء ، وإنما جعلاه عطفا ، لأن البدل والمبدل منه في كلام واحد ، والمستثنى من حيث المعنى في كلام ، والمستثنى منه في آخر ، لأن معنى ما قام القوم إلا زيد :
__________________
(١) تقدمت هذه العبارة في هذا الباب ولكل موضع مناسبته ،
(٢) الآية ١١٦ سورة هود وتقدمت في أول الباب ،
(٣) عودة إلى تفسير ما ذكر من الشروط لترجيح الإبدال ،
(٤) أي اعتباره ووجه معرفته ،
ما قام القوم ، وقام زيد ، والجواب : أنهما في اللفظ كلام ، والإبدال معاملة لفظية ؛
قال بعضهم : لو كان بدل البعض ، وجب الضمير ، وليس من بدل الكل ، ولا الاشتمال ، فهو شبيه بالغلط ، وبدل الغلط لا يكون في فصيح الكلام ؛
والجواب : أنه بدل البعض ، ولم يحتج إلى الضمير لقرينة الاستثناء المتصل لإفادته أن المستثنى بعض المستثنى منه ؛
قال ثعلب (١) : كيف يكون بدلا ، والأول مخالف للثاني في النفي والإيجاب؟ والجواب : أنه لا منع منه مع الحرف المقتضي لذلك ، كما جاز في الصفة ، نحو : مررت برجل لا ظريف ولا كريم ، جعلت حرف النفي مع الاسم الذي بعده ، صفة لرجل ، والإعراب على الاسم ، كذلك يجعل في نحو : ما جاء القوم إلا زيد ، قولنا (٢) إلا زيد ، بدلا ، والإعراب على الاسم ؛ ولو كان عطفا ، لم يكن معنى الكلام مع حذف المتبوع ، كمعناه مع ثبوته ، إذ ذلك من أحكام البدل لا من أحكام العطف ؛
والفراء يمنع النصب على الاستثناء ، إذا كان المستثنى منه منكرا ، فيوجب البدل (٣) ، في نحو : ما جاءني أحد إلا زيد ، ويجيز النصب والإبدال في : ما جاءني القوم إلا زيد ، وإلا زيدا ، ولعلّه قاس ذلك على الموجب ، فانه لا ينتصب المستثنى فيه ، إلا والمستثنى منه معرّف باللام ، فلا يجوز : جاءني قوم إلا زيدا ، لأن دخول «زيد» في «قوم» المنكر غير قطعي حتى يخرج بالاستثناء ؛
وليس بشيء ، لأن امتناع ذلك في الموجب لعدم القطع بالدخول ، وفي غير الموجب : المستثنى داخل في المستثنى منه المنكر ، ولهذا إذا علم في الموجب دخول المستثنى في المستثنى منه المنكر ، جاز الاستثناء اتفاقا ، نحو : له عليّ عشرة إلا واحدا ؛
__________________
(١) هو الإمام أحمد بن يحيى من زعماء الكوفيين ، وقد تقدم ذكره باسمه ،
(٢) نائب فاعل لقوله : يجعل ،
(٣) هذا تسامح ، لأن الإتباع عند الفراء على جعله عطف نسق كما تقدم ، وكذلك في قوله بعد : ويجيز النصب والإبدال ،
وذهب بعض القدماء إلى أنه يجب النصب على الاستثناء ، ولا يجوز الإبدال ، إذا صلح الكلام للإيجاب بحذف حرف النفي ، نحو : ما جاءني القوم إلا زيدا ، فإنه يجوز : جاءني القوم إلا زيدا ، فكما لا يجوز الإبدال في الموجب ، لا يجيزه (١) في غير الموجب قياسا عليه ؛ وهو باطل بقوله تعالى : (... وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ)(٢) بالإبدال ، وبقوله تعالى : (مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ)(٣) ، فإن الفعل يصلح للإيجاب مع أن البدل هو المختار (٤) ، وأمّا إذا لم يصلح الفعل للإيجاب ، نحو : ما جاءني أحد إلا زيد ، وما جاءني رجل إلا عمرو ، فإنه يجيز البدل والنصب ، إذ لا يجوز : جاءني أحد إلا زيدا حتى يقاس عليه غير الموجب في وجوب النصب ؛
ومن جعل للفراء (٥) ، ولهذا القائل قياس غير الموجب على الموجب ، ومن أين لهما ذلك؟
هذا ، ولمّا تقرّر أن الاتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة ، وكان أكثر القراء على النصب في قوله تعالى : (وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ)(٦) ، تكلّف (٧) جار الله (٨) ، لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار ، فقال : «امرأتك» بالرفع ، بدل من «أحد» وبالنصب مستثنى من قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ)(٩) لا من قوله «وَلا يَلْتَفِتْ
__________________
(١) أي هذا القائل الذي عبّر عنه ببعض القدماء
(٢) الآية ٦ من سورة النور
(٣) الآية ٦٦ سورة النساء
(٤) علته أن القراء السبعة قرأوا به ،
(٥) جمع في رده على هذا بين الفراء وهذا القائل لاشتراك الرأيين في قياس غير الموجب على الموجب ؛
(٦) الآية ٨١ سورة هود ،
(٧) جواب قوله : ولمّا تقرر
(٨) أي الزمخشري ، ورأيه هذا في متن المفصل ، وانظر شرح ابن يعيش عليه ج ٢ ص ٨١ وما بعدها ، وفيه إجابة مفصلة وشرح واف لهذه المسألة ؛
(٩) من الآية السابقة في سورة هود ،
مِنْكُمْ أَحَدٌ» ، فاعترض عليه المصنف (١) ، بلزوم تناقض القراءتين ، إذن ، ولا يجوز تناقض القراءات ، لأنها كلها قرآن ، ولا تناقض في القرآن ، قال ، وبيان التناقض أن الاستثناء من «أسر» يقتضي كونها غير مسرى بها ، والاستثناء من (لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) ، يقتضي كونها مسرى بها ،
والجواب أن الإسراء ، وإن كان مطلقا في الظاهر ، إلا أنه في المعنى مقيّد بعدم الالتفات إذ المراد : أسر بأهلك اسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات ، فاستثن على هذا ، إن شئت من «أسر» ، أو ، من (لا يَلْتَفِتْ) ، ، ولا تناقض ، وهذا كما تقول : امش ولا تتبختر ، أي امش مشيا لا تبختر فيه ؛
وإذا كان المستثنى بعد المستثنى منه ، قبل صفته (٢) ، نحو : ما جاءني رجل إلا عمرو خير من زيد ، فعند سيبويه (٣) : اتباعه أولى من النصب ، لأن المبدل منه وهو الموصوف متقدم ، وحكي أن سيبويه يختار النصب على الاستثناء ، والمازني يختار ذلك على الإبدال نظرا إلى أن الصفة كجزء الموصوف ، فكأنه لم يتقدم عليه جميع المستثنى منه ، وأيضا فإن الإبدال من شيء علامة الاستغناء عنه ، ووصفه بعد ذلك علامة الاعتداد به ، والاعتداد بالشيء بعد الاستغناء عنه ، بعيد ،
[الاستثناء المفرغ]
[حكمه ، ومتى يجوز]
[قال ابن الحاجب :]
«ويعرب على حسب العوامل ، إذا كان المستثنى منه غير»
«مذكور ، وهو في غير الموجب ، ليفيد ، مثل : ما ضربني»
__________________
(١) أي ابن الحاجب في شرحه على المفصل ،
(٢) أي قبل صفة المستثنى منه ؛
(٣) تفصيل ذلك في سيبويه ج ١ ص ٣٧١ وما بعدها ، وفيه كثير من الشرح غير ما ذكره المصنف ؛
«إلا زيد ، إلا أن يستقيم المعنى ، نحو : قرأت إلا يوم كذا ،»
«ومن ثمّ لم يجز : ما زال زيد إلّا عالما» ؛
[قال الرضى :]
هذا الذي يسميّه النحاة : الاستثناء المفرّغ ، والمفرغ في الحقيقة هو الفعل قبل «إلّا» ، لأنه لم يشتغل بمستثنى منه ، فعمل في المستثنى ؛
واعلم أن المنسوب إليه الفعل أو شبهه ، كما تكرر ذكره ، هو المستثنى منه مع المستثنى ، وإنما أعرب المستثنى منه بما يقتضيه المنسوب ، دون المستثنى لأنه الجزء الأول ، والمستثنى بعده صار في حيّز الفضلات فأعرب بالنصب ، ثم إن أمكن إتباع المستثنى للمستثنى منه في الإعراب فهو أولى ، كما في : ما قام القوم إلا زيد ، إيذانا بكونه من تمام المنسوب إليه ، وعبرة (١) إمكان اتباعه إياه ، بتجويز حذف المستثنى منه ، وقيام المستثنى مقامه على البدل ، وذلك في غير الموجب ، وإن لم يجز حذفه ، كما في الموجب ، لم يجز اتباع المستثنى إيّاه ، بل وجب نصبه ، لكونه في حيّز الفضلات كما ذكرنا ؛
وأمّا علة امتناع حذف المستثنى منه في الموجب ، وجوازه في غير الموجب ، فلأن المستثنى المتصل الذي كلامنا فيه ، يجب دخوله تحت المستثنى منه عند جميع النحاة ، إلا المبرّد ، وعند أكثر الأصوليين ، أمّا المبرد وبعض الأصوليين فإنهم يكتفون ، لصحة الاستثناء ، بصحة دخوله تحته ، حتى أجاز بعضهم جاءني رجل إلا زيدا ؛ والأوّل هو الوجه ، لأن الاستثناء اخراج اتفاقا وهو لا يكون إلا بعد تحقق الدخول ؛
ثم إن المخرج منه ، إنما يصح حذفه إذا قام عليه دليل ، والدليل المستمر دلالته على المخرج منه هو المستثنى ، لأنه يعرف به أنّ المقدر متعدد من جنسه ، يعمّه وغيره ، وذلك المتعدد المقدر ، لا يمكن أن يكون بعضا من الجنس غير معيّن ، لأنه لا يتحقق ؛ إذن ،
__________________
(١) أي طريقة اعتبار ذلك ، وكيفية معرفته ؛