شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

٢٠٤ ـ لله درّ أنوشروان من رجل

ما كان أعرفه بالدون والسّفل (١)

وويل زيد رجلا ؛ ومثله قولهم : قال الله عزّ من قائل ، ولقيت زيدا قاتله الله شاعرا ، أو من شاعر ، .. التمييز في جميع هذا : ظاهره ومضمره ، كما (٢) في قولهم : كفى بزيد رجلا ، وحسبك به ناصرا ، وحسبك بزيد شجاعا ، أعني أن التمييز عن النسبة ، والتمييز نفس المنسوب إليه ، لا متعلقه ، فمعنى لله درّ زيد رجلا : لله درّ رجل هو زيد ، و: ويلم أيام الشباب معيشة : ويلم معيشة هي أيام الشباب ؛ كما أن معنى كفى بزيد رجلا : كفى رجل هو زيد ؛

وأمّا قولهم طاب زيد علما ، ودارا ، فالتمييز فيه ، متعلّق المنسوب إليه ، لا نفسه ، لأن المعنى : طاب علم زيد ، ودار زيد ، وقد يجيئ لهذا مزيد شرح في التمييز عن النسبة (٣) ؛

وثانيهما (٤) : اسم الاشارة ، كقوله تعالى : (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً)(٥) فيمن (٦) قال : إنه تمييز ، لا حال ، وكذا قولك : حبّذا زيد رجلا ؛

والعامل في التمييز في القسمين : هو الضمير ، واسم الإشارة ، لتمامهما ومشابهتهما للفعل التام بفاعله ؛ فلا تظنّنّ أن الناصب للتمييز في : نعم رجلا ، وبئس رجلا ، وساء مثلا ، وحبذا رجلا : هو الفعل ، بل هو الضمير ، كما في : ربّه رجلا ؛

قوله : «فيفرد إن كان جنسا ، الا أن يقصد الأنواع ويجمع في غيره» ، ليس بتقسيم حسن ؛ والحقّ أن يقال : ان التمييز عن الذات المذكورة إمّا أن يكون عن عدد ، أو غيره ، والأوّل إمّا أن يكون جنسا أو ، لا ، والجنس إمّا أن يقصد به الأنواع أو ، لا ، وعلى كلا

__________________

(١) المراد : كسرى أنوشروان ملك الفرس ، والسّفل بكسر السين جمع سفلة وهم أراذل الناس ولم ينسب هذا البيت لأحد معيّن ، وانفرد الرضي بذكره من بين كثير من كتب النحو ،

(٢) هذا خبر عن قوله : التمييز في جميع هذا ،

(٣) في الفصل التالي لهذا ؛

(٤) أي ثاني النوعين اللذين يكون فيهما الاسم تاما بنفسه ،

(٥) من الآية ٢٦ سورة البقرة ،

(٦) أي في رأي من أعرب مثلا تمييزا ؛

٦١

الوجهين يجب إفراد التمييز ؛ والأول يجب خلوّه عن تاء الوحدة ، نحو : عشرون ضربا أو تمرا ، والثاني يجب كونه مع تاء الوحدة نحو : عشرون ضربة أو تمرة ، فالأوّل لبيان عدد الأنواع ، والثاني لبيان عدد الآحاد ؛ ولا يجوز أن تقصد الأمرين أي البيانين ، فتقول : عشرون ضربين أي أن كل عشرة نوع ، أو تقول : عشرون ضروبا بمعنى اختلاف أنواع آحاده ، لأن الأعداد لا يثنى مميزها المنصوب ولا يجمع ، كما يجيئ في بابها ؛

وإن كان عن عدد ليس بجنس ، وجب إفراده ، نحو : عشرون رجلا أو درهما ؛

والذي عن غير العدد ، إن كان جنسا وقصدت الأنواع ، فثنّ إن أردت المثنّى ، واجمع إن قصدت الجمع ، وإلّا فافرد ، نحو : عندي مثله تمرا ، أو تمرين أو تمورا ؛ وإن كان جنسا ولم تقصد الأنواع فالإفراد واجب ، نحو : مثله تمرا ؛

وإن لم يكن جنسا طابقت به ما تقصد ، مفردا كان ، أو مثنى ، أو مجموعا ، كقولك : مثله رجلا أو رجلين أو رجالا ؛

فقوله (١) : «ويجمع في غيره» ، ليس بصحيح ؛

ويعني بالجنس ههنا : ما يقع لفظ الواحد المجرد عن تاء الوحدة منه ، على القليل والكثير ، فتمر ، وضرب : جنس ، بخلاف : رجل ، وفرس ؛

قوله : «ثم (٢) ان كان بالتنوين أو نون التثنية جازت الاضافة» ، إنما جازت ، إيثارا للتخفيف ، وذلك نحو : رطل زيت ، ومنوا سمن ؛ وكان عليه أن يقيّد التنوين بالظاهر ، فان ما فيه تنوين مقدّر ، وهو في بابين : كم ، الاستفهامية ، والجزء الثاني من أحد عشر وأخواته : لا يضاف في الأغلب ، إلى التمييز ، كما يجيئ في بابيهما ؛

قوله : «وإلّا فلا» ، وذلك إذا كان مع نون الجمع ، والاضافة ، أمّا نون الجمع فلما ذكرنا من أنها ليست بنون الجمع حقيقة بل هي مشبهة لها ؛

__________________

(١) هذا نتيجة لما شرح به قوله : ليس بتقسيم حسن ؛

(٢) التعبير بثمّ هو نص عبارة ابن الحاجب في المتن ، وفي الشرح المطبوع : فإن كان ؛

٦٢

وأمّا قولهم في حسنون وجها ، حسنو وجه ، فليس من هذا الصنف ، لأن التمييز فيه عن نسبة ، وكلامنا في التمييز عن المفرد ، وكذا قولهم ممتلئ ماء ، وممتلئان ماء ، وملآن ماء ، و: «أنا أكثر منك مالا» ، ليس (١) مما انتصب فيه التمييز عن التنوين الظاهر أو المقدّر وعن نون التثنية ، كما ظنّ بعضهم ، بل التمييز فيه عن النسبة ، كما في : امتلأ الاناء ماء ، فهو ، إذن ، عن شبه تمام الكلام ؛

وأمّا الاضافة ، فإنما امتنعت الاضافة معها ، لأن الإضافة مع وجود المضاف إليه محال ، إذ لا يضاف اسم إلى اسمين بلا حرف عطف ، فإن أضفت مع حذف المضاف إليه ، كما تقول في : عندي مثل زيد رجلا : مثل رجل ، فسد المعنى ، لأنك تريد : عندي رجل ، ولا تريد : عندي شيء مثل رجل ، وكذا لو قلت في : عندي ملؤه عسلا ، : ملء عسل ، لأن الملء هو قدر ما يملأ ، ولا معنى لقولك : قدر ما يملأ العسل ؛

قوله : «وعن غير مقدار» ، قد ذكرنا ، لم كان الجرّ فيه أكثر ؛

[تمييز النسبة]

[قال ابن الحاجب :]

«والثاني عن نسبة في جملة ، أو ما ضاهاها ، نحو : طاب»

«زيد نفسا وزيد طيّب أبا وأبوّة ، ودارا ، وعلما ؛ أو في»

«اضافة ، مثل يعجبني طيبه أبا وأبوة ، ودارا وعلما ، ولله درّه»

«فارسا» ؛

__________________

(١) توضيح لما فهم من قوله : وكذا قولهم ممتلىء ماء .. الخ ،

٦٣

[قال الرضى :]

يعني بالثاني : ما يرفع الابهام عن ذات مقدّرة ؛

قوله : «عن نسبة في جملة» ، أي نسبة حاصلة في جملة أو شبه جملة ، وشبه الجملة : إمّا اسم الفاعل مع مرفوعه ، نحو : زيد متفقّى شحما ، والبيت مشتعل نارا ؛ أو اسم المفعول معه (١) ، نحو : الأرض مفجّرة عينا ، أو أفعل التفضيل معه (٢) ، نحو : (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا)(٢) ، و: (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا)(٤) أو الصفة المشبهة معه ، نحو : زيد طيّب أبا ، أو المصدر نحو : أعجبني طيبه أبا ، وكذا كل ما فيه معنى الفعل نحو : حسبك بزيد رجلا ، وويلمّ زيد رجلا ، ويا لزيد فارسا ؛

قوله : «أو في اضافة» ، عطف على قوله : في جملة ، أي نسبة في اضافة نحو : أعجبني طيبه نفسا ، وقد ذكرنا أنه داخل في شبه الجملة (٥) ، أعني : ما ضاهاها ؛ وأمّا قوله : لله دره فارسا ، فقد ذكرنا (٦) انه يكون عن نسبة ان كان الضمير معلوما ، أو كان «درّ» مضافا إلى ظاهر ، وأمّا إن كان «درّ» مضافا إلى ضمير مجهول ، فالتمييز عن مفرد ؛

والحق ، أن التمييز في نحو : لله در زيد فارسا ، و: ويلمّ لذات الشباب معيشة (٧) ، عن نسبة في شبه جملة ، أيضا ، لأن فيه معنى الفعل ، أي : عجبا من زيد فارسا ، وعجبا من لذات الشباب معيشة ؛

قوله : «أبا ، وأبوّة ، ودارا ، وعلما» ، تفصيل للتمييز الكائن عن نسبة ، وذلك أن يقال : إمّا أن يكون (٨) نفس ما انتصب عنه لا غير ، نحو : كفى زيد رجلا ، ولله

__________________

(١) أي مع مرفوعه ، وكذلك في قوله : أو أفعل التفضيل ، أو الصفة المشبهة ؛

(١) أي مع مرفوعه ، وكذلك في قوله : أو أفعل التفضيل ، أو الصفة المشبهة ؛

(٢) الآية ٣٤ من سورة الكهف ، وقد تقدمت مع بعض أمثلة أخرى ؛

(٣) من الآية ٢٤ سورة الفرقان ؛

(٤) لأن المصدر مضاف إلى المرفوع به معنى ،

(٥) في البحث الذي قبل هذا ،

(٦) إشارة إلى الشاهد المتقدم قريبا ، والرواية هناك : ويلم أيام الشباب ؛

(٧) أي التمييز ،

٦٤

درّ زيد رجلا ، فرجل ، هو زيد ، لا غير ، ونعني بما انتصب عنه التمييز : الاسم الذي أقيم مقام التمييز ، حتى بقي التمييز بسبب قيام ذلك الاسم مقامه فضلة ، كزيد ، في : طاب زيد نفسا ، فإن الأصل : طاب نفس زيد ، وكالأرض في قوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً)(١) ، فان أصله : فجرنا عيون الأرض ، وكذا كفى زيد رجلا ، كان في الأصل : كفى رجل هو زيد ؛

وإمّا أن يصلح أن يكون نفسه ، ومتعلّقه ، نحو : طاب زيد أبا ، يجوز أن تريد ب «أبا» ، نفس زيد (٢) ، وأن تريد به : أباه ؛

وإمّا ألّا يصلح أن يكون نفسه ، بل يكون صفة نفسه لا غير ، نحو : طاب زيد علما ، وإمّا أن يصلح أن يكون صفة نفسه وصفة متعلقه ، نحو : طاب زيد أبوّة ، يجوز أن يكون المعنى : طاب أبوّته لغيره ، أو طاب أبوّة أبيه ، وإمّا ألّا يصلح أن يكون نفسه ، ولا صفة نفسه ، بل يكون متعلّقا له لا غير نحو : طاب زيد دارا ؛

والقسمة الحاصرة ههنا أن تقول : إمّا أن يصلح أن يكون نفس ما انتصب عنه أو ، لا ، والأول إمّا أن يصلح أن يكون نفس متعلقه أيضا ، كطاب زيد أبا ، أو لا يصلح ، نحو : كفى زيد رجلا ،

والثاني : امّا أن يصلح أن يكون صفة نفسه أو ، لا ، والأول (٣) ، امّا أن يصلح أن يكون صفة متعلقه أيضا ، كطاب زيد أبوّة أو ، لا ، نحو : طاب زيد علما ، والثاني نحو : طاب زيد دارا ؛

وإذا قصدنا أن نصرّح بالذات المقدرة ههنا (٤) ، قلنا في كفى زيد رجلا : كفى شيء زيد رجلا ، وفي طاب زيد نفسا : طاب شيء زيد نفسا أو علما أو دارا ، فالذات المقدرة

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة القمر ، وستتكرر

(٢) أي بأن يراد أنه أب لغيره ،

(٣) أي من النوعين اللذين تفرع إليهما الثاني ؛

(٤) كأنّ الرضي رحمه الله ، يريد هنا إظهار براعته في التطبيق بإعادة التراكيب إلى وضعها الأصلي ؛

٦٥

هي الشيء المنسوب إليه «كفى» و «طاب» ، فإذا أظهرته صار «زيد» في كفى زيد رجلا ، بدلا منه ، وفي طاب زيد نفسا ، مضافا إليه «شيء» ، ورجلا تمييز لشيء ، المقدّر ، وكذا «نفسا» ، ودارا ، وعلما ، فان قصدنا أن نردّ التمييز في هذه الأمثلة كلها إلى أصله حين كان منسوبا إليه الفعل أو شبهه ، ونردّ الاسم الذي انتصب عنه التمييز إلى مركزه الأصلي ، جعلنا ما انتصب عنه التمييز ، ان كان التمييز نفسه : بدلا من التمييز ، أو عطف بيان له ، فنقول : كفى رجل زيد ، وطاب أب زيد ؛ وإن كان التمييز متعلقا لما انتصب عنه ، امّا وصفا له أو غير وصف ، أضفنا التمييز إلى ما انتصب عنه ، نحو : طاب أبوّة زيد ، وأبو زيد ، وعلم زيد ، ودار زيد ، ونفس زيد ؛ جعلنا النفس كالمتعلّق له حتى صحّ اضافتها إليه ؛

[مطابقة التمييز]

[لما هو له]

[قال ابن الحاجب :]

«ثم إن كان اسما يصح جعله لما انتصب عنه ، جاز أن يكون»

«له ولمتعلقه ، والّا فهو لمتعلقه ، فيطابق فيهما ما قصد ، إلا أن»

«يكون جنسا ، إلّا أن يقصد الأنواع ؛ وإن كان صفة ، كانت»

«له وطبقه ، واحتملت الحال» ؛

[قال الرضى :]

يعني أن التمييز عن النسبة امّا أن يكون اسما أو صفة ، والاسم إمّا أن يصلح جعله لما انتصب عنه ؛ يعني ان صحّ أن يكون نفسه ، كأبا ، أو صفة نفسه كأبوّة ، جاز أن يكون له ، ولمتعلقه ، يعني : جاز أن يكون ما صحّ أن يكون نفسه ، نفس متعلقه أيضا ، كأبا في : طاب زيد أبا ، فانه يصح أن يكون زيدا ، وأن يكون أبا زيد ، وكذا ، جاز أن يكون

٦٦

ما صحّ أن يكون صفة نفسه ، صفة لمتعلقه أيضا ، كأبوّة في : طاب زيد أبوّة ، فانه يصح أن يراد بها أبوة زيد نفسه لأولاده ، وأن يراد أبوّه أبيه له ؛

وما كان ينبغي له هذا الاطلاق (١) ، فان «رجلا» في : كفى زيد رجلا صحّ أن يكون لما انتصب عنه ولا يجوز أن يكون لمتعلقه ، وكذا «علما» ، صحّ أن يكون صفة لما انتصب عنه ، ولم يصح أن يكون صفة لمتعلقه ،

قوله : «فيطابق فيهما» ، يعني بالمطابقة : الافراد ، إن قصد المفرد ، والتثنية ان قصدت التثنية ، والجمع إن قصد الجمع ؛

قوله فيهما ، أي في التمييز الذي جعلته لما انتصب عنه ، والتمييز الذي جعلته لمتعلقه ، وقوله ما قصد ، أي المفرد والمثنى والمجموع ؛

تقول فيما جعلته لما انتصب عنه : طاب زيد أبا ، والزيدان أبوين ، والزيدون آباء ، طابقت بالتمييز ما قصدت إليه ، وهو ما انتصب عنه أي زيد ، فثنيته ان ثنيت زيدا ، وجمعته ان جمعته ؛

وإذا جعلته لمتعلّقه ، فإن قصدت أباه وحده ، أفردت أبا ، لأن المقصود به مفرد ، وإن قصدت أبوي زيد ، ثنيت «أبا» فقلت : طاب زيد أبوين ، لأن المقصود به مثنى ، وإن قصدت آباءه ، جمعته ، فقلت : طاب زيد آباء ، لأن المقصود به مجموع ؛

وقد يلتبس الأمر في نحو : طاب زيد أبا ، وطاب الزيدان أبوين ، وطاب الزيدون آباء ، هل التمييز لما انتصب عنه أو لمتعلقه ، فليرجع إلى القرائن ، إن كانت ؛

فأمّا إن اختلف التمييز وما انتصب عنه ، افرادا وتثنية وجمعا ، ولم يكن التمييز جنسا ، نحو : طاب زيد أبوين أو آباء ، وطاب الزيدان أبا أو آباء ، وطاب الزيدون أبا أو أبوين ، فلا لبس في أن التمييز ليس لما انتصب عنه ، بل هو لمتعلقه ، وإلّا طابق ما انتصب عنه ؛

__________________

(١) هذا تعقيب من الرضي على كلام ابن الحاجب بعد أن شرحه وبيّن ما يستفاد منه ؛

٦٧

وأمّا إن اختلفا وكان التمييز جنسا ، نحو : طاب الزيدان ، أو الزيدون أبوّة ، فاللبس حاصل ، إذ يصح أن يكون لما انتصب عنه ، ولمتعلقه ، ولم يطابقه لكونه جنسا ؛

وكذا تطابق به ما تقصده فيما لا يصلح إلّا لمتعلقه ، نحو : طاب زيد دارا ودارين ودورا ؛ هذا ما قاله المصنف ؛

والأولى أن يقال فيما ليس بجنس ، سواء جعلته لما انتصب عنه ، أو لمتعلقه : انه ان لم يلبس ، فالأولى الافراد وعدم المطابقة ، نحو : هم حسنون وجها وطيّبون عرضا ، ويجوز : وجوها وأعراضا ، قال الله تعالى : (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً)(١)  ، وقال علي رضي الله عنه : «فطيبوا عن أنفسكم نفسا (٢)» ،

وأمّا إذا ألبس ، فالمطابقة لا غير ، فلا يجوز : زيد طيب أبا وأنت تريد آباء أو أبوين ، وكذا لا تقول : طاب زيد دارا وأنت تريد دارين ، قال الله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا)(٣) ، وأما قول الحطيئة :

٢٠٥ ـ سيرى أمام فإن الأكثرين حصى

والطيّبون إذا ما ينسبون أبا (٤)

فانما وحّد الأب فيه ، لأنهم كانوا أبناء أب واحد ؛

ويجوز جمع المثنى إذا لم يلبس ، نحو : قرّ زيد عيونا ، قال أبو طالب يخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم :

٢٠٦ ـ فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقرّ منه عيونا (٥)

__________________

(١) من الآية ٤ سورة النساء

(٢) مما جاء في نهج البلاغة ص ٧٧ طبع دار الشعب بالقاهرة

(٣) الآية ١٢ من سورة القمر وتقدمت ،

(٤) من قصيدة للحطيئة ، وخبر «إن» في قوله فإن الأكثرين ، هو قوله بعد ذلك :

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا

وهذا البيت هو الذي رفع من شأن بني أنف الناقة وكانوا يعيّرون بلقبهم هذا ويأنفون منه ، وأمام : ترخيم أمامة ، اسم امرأة ،

(٥) وقرّ منه أي من هذا الأمر ، ويروي : وقرّ منك ، وهو كما قال الشارح مما نسب لأبي طالب بن عبد المطلب ، ـ ـ وكان معروفا بوقوفه إلى جنب ابن أخيه : النبي صلّى الله عليه وسلّم ومناصرته له ضدّ قريش ،

٦٨

قوله : «إلا أن يكون جنسا» ، قد ذكرنا مرادهم بالجنس ههنا ، تقول : طاب زيد أبوة ، سواء أردت أبوة نفسه ، أو أبوّة أبيه فقط ، أو أبوّة أبويه ، أو أبوّة آبائه ؛ وكذا تقول : طاب الزيدان أو الزيدون أبوّة ، وتريد الأبوّات المذكورة ، وكذا تقول : طاب زيد علما ، مع كثرة علومه ، إلا أن تقصد الأنواع ، فتقول : طاب زيد علوما أو علمين ، على حسب ما تقصد ، قال الله تعالى (.. بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً)(١) ،

قوله : «وإن كان صفة» ، قسيم قوله : إن كان اسما ، يعني أن الصفة لم تجئ صالحة لما انتصب عنه ولمتعلّقه كما جاء الاسم ، بل لم تجئ إلّا لما انتصب عنه فقط ، فيجب ، إذن ، أن تطابقه ، إذ ليس في الصفات ما يقع على القليل والكثير بلفظ المفرد حتى يكون جنسا ، وذلك نحو : لله درّك ، أو درّ زيد فارسا ، وكفى زيد شجاعا ؛

قوله : «واحتملت الحال» ، قال الأكثرون هي تمييز ، وقال بعضهم هي حال ، أي : ما أعجبه في حال فروسيّته ، ورجحّ المصنف الأوّل ، قال : لأن المعنى : مدحه مطلقا بالفروسيّة ، فإذا جعل حالا ، اختصّ المدح وتقيّد بحال فروسيّته ؛ وأنا لا أرى بينهما فرقا ، لأن معنى التمييز عنده : ما أحسن فروسيّته ، فلا يمدحه في غير حال الفروسيّة إلا بها وهذا المعنى هو المستفاد من : ما أحسنه في حال فروسيته ، وتصريحهم بمن في : لله درك من فارس ، دليل على أنه تمييز ؛ وكذا قولهم : عزّ من قائل (٢) ، والتمييز عن المفرد ، وكذا إن كان عن نسبة وكان التمييز نفس ما انتصب عنه بدليل تصريحهم بها في نحو : يا لك من ليل (٣) ، وعزّ من قائل ، وقاتله الله من شاعر ، ومررت برجل هدّك (٤) من رجل ، وحسبك من رجل ، أي هدك هو ، وحسبك هو ، فالضمير هو ما انتصب عنه التمييز في هذه المواضع ؛

__________________

(١) من الآية ١٠٣ سورة الكهف ؛

(٢) أي في مثل قولنا : قال الله عز من قائل ، وتقدم ذلك في الشرح ؛

(٣) إشارة إلى بيت امرىء القيس المتقدم في هذا الباب

(٤) سيشرح الرضي هذا المثال ونحوه في قسم الإضافة اللفظية من باب الإضافة في هذا الجزء ،

٦٩

وقد تكلّف بعضهم تقدير «من» في جميع التمييز عن النسبة ، نحو : طاب زيد دارا وعلما ؛ وليس بوجه ؛

وأمّا معنى قولهم : لله درّك ، فالدرّ في الأصل : ما يدرّ أي ما ينزل من الضرع من اللبن ، ومن الغيم من المطر ، وهو ، ههنا ، كناية عن فعل الممدوح الصادر عنه ، وإنما نسب فعله (١) إليه تعالى ، قصدا للتعجب منه لأن الله تعالى منشئ العجائب ، فكل شيء عظيم يريدون التعجب منه ينسبونه إليه تعالى ويضيفونه إليه تعالى ، نحو قولهم : لله أنت ، ولله أبوك ، فمعنى لله دره : ما أعجب فعله ؛

[تقدم التمييز]

[قال ابن الحاجب :]

«ولا يتقدم التمييز ، والأصح أنه لا يتقدم على الفعل ، خلافا»

«للمازني والمبرد» ؛

[قال الرضى :]

أي لا يتقدم التمييز على عامله ، إذا كان عن تمام الاسم اتفاقا ، وكذا ، لا يفصل بين عامله وبينه ، وقوله :

٢٠٧ ـ على أنني بعد ما قد مضى

ثلاثون للهجر حولا كميلا (٢)

ضرورة ؛

__________________

(١) أي فعل الممدوح

(٢) كميلا ، أي كاملا وينسب للعباس بن مرداس وبعضهم عدّه من الأبيات المجهولة القائل ، وهو مرتبط ببيت بعده وهو :

يذكرنيك حنين العجول

ونوح الحمامة تدعو هديلا

٧٠

وإنما لم يتقدم ، لأن عامله اسم جامد ، ضعيف العمل ، مشابه للفعل مشابهة ضعيفة ، كما ذكرنا ، وهي كونه تامّا ، كما أن الفعل يتمّ بفاعله ؛

أمّا إذا كان عن النسبة ، فإن كان عن الصفة المشبهة ، أو أفعل التفضيل ، أو المصدر ، أو ما فيه معنى الفعل مما ليس من الأسماء المتصلة به نحو : لله دره فارسا أو : درّ زيد فارسا ، وويلمّ زيد شجاعا ، وويح زيد رجلا ، فلا يتقدم على عامله ، لضعف الصفة والأفعل (١) ، وما فيه معنى الفعل ، وكون المصدر بتقدير الحرف الموصول ؛ وليس العامل في نحو : نعم رجلا زيد ، وحبذا رجلا عمرو ، هو الفعل غير المتصرف ، بل الضمير واسم الاشارة كما تقدم (٢) ، فلا يتفرع عليه أنه لا يتقدم على الفعل غير المتصرف ، كما قال بعضهم ؛

وأمّا إن كان العامل الفعل الصريح ، نحو : طاب زيد أبا ، أو اسم الفاعل أو اسم المفعول ، فجوّزه المازني والكسائي والمبرد ، نظرا إلى قوة العامل ، ومنعه الباقون ؛ قيل : لأنه في الأصل فاعل الفعل المذكور ، كما في طاب زيد أبا ، أو فاعل الفعل المذكور إذا جعلته لازما نحو : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) ، أي تفجّرت عيونها ، أو فاعل ذلك الفعل إذا جعلته متعدّيا ، نحو : امتلأ الإناء ماء ، أي ملأه الماء ؛ والفاعل لا يتقدم على الفعل ، فكذا ما هو بمعنى الفاعل ؛

وليست العلة بمرضية ، إذ ربّما يخرج الشيء عن أصله ، ولا يراعي ذلك الأصل ، كمفعول ما لم يسمّ فاعله ، كان له ، لما كان منصوبا ، أن يتقدم على الفعل ، فلما قام مقام الفاعل لزمه الرفع وكونه بعد الفعل ، فأيّ مانع أن يكون للفاعل أيضا ، إذا صار على صورة المفعول : حكم المفعول من جواز التقديم ؛

وقيل : ان الأصل في التمييزات (٣) أن تكون موصوفات بما انتصبت عنه ، سواء كانت عن مفرد ، أو عن نسبة ، وكأنّ الأصل : عندي خلّ راقود ، ورجل مثله وسمن منوان ،

__________________

(١) أي أفعل التفضيل ،

(٢) في هذا الباب

(٣) أي أنواع التمييز المختلفة ؛

٧١

وكذا كان الأصل في طاب زيد نفسا : لزيد نفس طابت ؛

وإنما خولف بها (١) لغرض الابهام أوّلا ، ليكون أوقع في النفس ، لأنه تتشوق النفس إلى معرفة ما أبهم عليها ، وأيضا ، إذا فسّرته بعد الابهام فقد ذكرته إجمالا وتفصيلا ، وتقديمه ممّا يخلّ بهذا المعنى ، فلما كان تقديمه يتضمّن إبطال الغرض من جعله تمييزا ، لم يستقم ؛

[أصل التمييز التنكير](٢)

وأصل التمييز : التنكير ، لمثل ما قلنا في الحال وهو أن المقصود رفع الإبهام وهو يحصل بالنكرة ، وهي أصل ، فلو عرّف ، وقع التعريف ضائعا ؛ وأجاز الكوفيون كونه معرفة ، نحو : (سفِه نفسَه) (٣) وغبن رأيه ، وبطر عيشه (٤) ، وألم بطنه ، ووفق أمره ، ورشد أمره ، وزيد الحسن الوجه ،

وعند البصريين ، معنى سفه نفسه : سفهها أو سفه في نفسه ، وألم بطنه متضمّن معنى «شكا» ، ووفق أمره ، ورشد أمره ، وبطر عيشه ، بمعنى : في أمره وفي عيشه ؛ والحسن الوجه ، مشبّه بالضارب الرجل كما يجيئ في باب الاضافة ؛

[ما بعد اسم التفضيل]

[والفرق بين نصبه وجرّه]

واعلم أنه لو قيل (٥) : إن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى شيء ، فالذي يجري عليه أفعل التفضيل بعض المضاف إليه ، نحو : هذا الثوب أحسن ثوب ؛ وإن نصب ما بعده على

__________________

(١) أي غيرت عن الصورة الأصلية لها ،

(٢) استطراد من الرضي في هذا الموضع والذي يليه لاستكمال أحكام التمييز ،

(٣) من الآية ١٣٠ سورة البقرة ،

(٤) ورد مثله في قوله تعالى «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها :) القصص ـ ٥٨

(٥) جوابه قوله الآتي : أقول وليس هذا بمطرد ؛

٧٢

التمييز ، فالمنصوب سبب لمن جرى عليه أفعل ، ومتعلقه نحو : زيد أحسن منك ثوبا ، ففي قولك : زيد أفره عبد : زيد هو العبد ، وفي قولك زيد أفره منك عبدا ، زيد هو مولى العبد ؛

اقول : ليس هذا بمطرد ، ألا ترى أنك تقول : هو أشجع الناس رجلا ، وهما خير الناس اثنين ، على ما أورده سيبويه ، أي : هو أشجع رجل في الناس ، وهما خير اثنين في الناس ، والمنصوب على التمييز ، هو من جرى عليه أفعل ، لا سببه ، والدليل على أنه تمييز : قولك هو أشجع الناس من رجل ، وهما خير الناس من اثنين ، كما تقول : حسبك بزيد رجلا ومن رجل ، قال الله تعالى : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً)(١) ، انتصب حافظا على التمييز ، أي خير من حافظ ، فهو والجر سواء ، نحو خير حافظ وخير حافظا ، فهو حافظ في الوجهين ؛ وقول الأعشى ؛

٢٠٨ ـ تقول ابنتي حين جدّ الرحيل

أبرحت ربّا وأبرحت جارا (٢)

أبرحت ، أي جئت بالبرح أو صرت ذا برح ، والبرح : الشدة ، فمعنى أبرحت صرت ذا شدة وكمال ، أي بلغت وكملت ربّا ، فهو نحو كفى زيد رجلا ، أي أبرح جار هو أنت ، وكذا قوله :

٢٠٩ ـ بانت لتحزننا عفارة

يا جارتا ما أنت جاره (٣)

لأن «ما» الاستفهامية تفيد التفخيم ، كما في قوله تعالى : (القارعه ، القارعه) (٤) ، أي كملت جارة فمعنى ما أنت : كملت ،

__________________

(١) الآية ٦٤ سورة يوسف.

(٢) من قصيدة للأعشى في مدح قيس بن معد يكرب الكندي ، ويروى البيت : أقول لها حين .. يقصد راحلته ثم يقول بعده :

فلا تشتكنّ إليّ السّفار

وطول العنا واجعليه اصطبارا

(٣) وهذا أيضا مطلع قصيدة للأعشى ، وقوله بانت بالنون من البين أو باتت بالتاء من قولهم بات يفعل كذا ؛

(٤) الآيتان الأولى والثانية من سورة القارعة

٧٣

فالمنصوب في عبارات النحاة في نحو (١) قولهم : شر أهرّ ذا ناب : إن «شرّ» مبتدأ لفظا ، فاعل معنى ، المنصوب (٢) في مثله ، تمييز عن النسبة تقديرا ، أي : كائن مبتدأ لفظا بمعنى : كائن لفظه مبتدأ ، وكائن معناه فاعلا ؛ ومثله كثير في كلامهم ؛

__________________

(١) أي في شرح هذا الكلام ،

(٢) أعاده توكيدا لقوله : المنصوب ، في أول الكلام

٧٤

[المستثنى]

* * *

[تقسيم المستثنى وتعريف كل قسم]

[قال ابن الحاجب :]

«المستثنى متصل ومنقطع ، فالمتصل هو المخرج من متعدد لفظا»

«أو تقديرا ، بإلّا وأخواتها ؛ والمنقطع : المذكور بعدها غير»

«مخرج» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أنه قسم المستثنى قسمين ، وحدّ كل واحد منهما بحدّ منفرد من حيث المعنى ، قال (١) : وذلك لأن ماهيتيهما مختلفتان ، ولا يمكن جمع شيئين مختلفي الماهية في حدّ واحد ، وذلك لأن الحدّ مبيّن للماهية ، بذكر جميع أجزائها مطابقة وتضمّنا ، والمختلفان في الماهية لا يتساويان في جميع أجزائها حتى يجتمعا في حدّ واحد ؛ والدليل على اختلاف حقيقتيهما أن أحدهما مخرج ، والآخر غير مخرج ، بلى يمكن جمعهما في حد واحد باعتبار اللفظ ، لأن مختلفي الماهية لا يمتنع اشتراكهما في اللفظ ، فيقال المستثنى هو المذكور بعد «إلّا» وأخواتها ؛ هذا آخر كلامه ؛

__________________

(١) أي ابن الحاجب في شرحه للتعريف ،

٧٥

ولقائل أن يمنع اختلافهما في الماهية ؛ قوله (١) : «لأن أحدهما مخرج من متعدد والآخر غير مخرج» ، قلنا : لا نسلم أن كون المتصل مخرجا : من أجزاء ماهيته ، بل حقيقة المستثنى ، متصلا كان أو منقطعا : هو المذكور بعد «إلّا» وأخواتها مخالفا لما قبلها نفيا واثباتا ؛

ثم نقول : كون المتصل داخلا في متعدد لفظا أو تقديرا : من شرطه لا من تمام ماهيته ، فعلى هذا : المنقطع داخل في هذا الحد ، كما في : جاءني القوم الا حمارا ، لمخالفة الحمار القوم في المجيئ ؛

قوله : «من متعدد» ، أي من شيء ذي عدد ؛ قوله : «لفظا أو تقديرا» ، تفصيل للمتعدد ، فإنه قد يكون ملفوظا به نحو : جاءني القوم إلا زيدا ، وقد يكون مقدرا نحو : ما جاءني إلا زيد ، أي : ما جاءني أحد إلا زيد ؛

قوله : «بإلّا وأخواتها» ، ليخرج نحو : جاءني القوم لا زيد ، وما جاءني القوم لكن زيد ، وجاءني القوم ولم يجيئ زيد ؛

فالمستثنى الذي لم يكن داخلا في المتعدد الأوّل قبل الاستثناء : منقطع سواء كان من جنس المتعدد كقولك : جاءني القوم إلا زيدا ، مشيرا إلى جماعة خالية من زيد ؛ أو لم يكن ، نحو : جاءني القوم إلا حمارا ؛ فقد تبيّن أن المتصل ليس هو المستثنى من الجنس ، كما ظنّ بعضهم ؛

ثم إن الاستثناء مشكل باعتبار معقوليته (٢) ، لأن زيدا في قولك جاءني القوم إلا زيدا ، او قلنا انه غير داخل في القوم ، فهو خلاف الإجماع ، لأنهم أطبقوا على أن الاستثناء المتصل مخرج ، ولا إخراج إلا بعد الدخول ، فإن جاز الشك في مثله (٣) ، لم يصح في نحو

__________________

(١) هذا بيان لمنعه اختلاف الماهيتين ،

(٢) أي باعتبار كونه معقولا أي كيفية تصور العقل له ،

(٣) أي في مثل جاء القوم إلا زيدا ؛

٧٦

قوله : له عليّ دينار إلا دانقا ، للعلم بأن «دانقا» مخرج من الدينار ، والباقي بعده هو المقرّبه ، وإن قلنا انه داخل في القوم ، و «إلّا» لإخراجه منهم بعد الدخول ، كان المعنى : جاء زيد مع القوم ، ولم يجيئ زيد ، وهذا تناقض ظاهر ينبغي أن يجنّب كلام العقلاء عن مثله ، وقد ورد في الكتاب العزيز من الاستثناء شيء كثير ، كقوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً)(١) ، فيكون المعنى : لبث الخمسين في جملة الألف ، ولم يلبث تلك الخمسين ؛ تعالى الله عن مثله علوّا كبيرا ؛

فقال (٢) بعضهم : نختار أنه غير داخل ، بل القوم في قولك. جاء القوم ، عام مخصوص ، أي أن المتكلم أراد بالقوم جماعة ليس فيهم زيد ، وقوله الا زيدا ، قرينة تدل السامع على مراد المتكلم ، وانه أراد بالقوم غير زيد ؛

وليس بشيء ، لإجماع أهل اللغة على أن الاستثناء مخرج ، ولا اخراج إلا مع الدخول ، وأيضا ، يتعذّر دعوى عدم الدخول في قصد المتكلم في نحو : له عليّ عشرة إلا واحدا ، لأن «واحدا» داخل في العشرة بقصده ، ثم أخرج ، وإلا كان مريدا بلفظ العشرة : تسعة ، وهو محال ؛

وقال القاضي عبد الجبار (٣) ، أيضا ، هو غير داخل ، لكنه قال : المستثنى ، والمستثنى منه ، وآلة الاستثناء ، بمنزلة اسم واحد ، فقولك : له عليّ عشرة إلا واحدا ، بمعنى : له علىّ تسعة ، لا فرق بينهما من وجه ، فلا دخول هناك ، ولا إخراج ؛

وهذا ، أيضا ، غير مستقيم ، لقطعنا بأن عشرة ، في كلامك هذا ، دالة على المعنى الموضوعة هي له مفردة (٤) ، بلا استثناء ، وهو الخمستان ، و «الا» ، مفيدة للاستثناء ، و «واحدا» هو المخرج ؛ و «تسعة» لا تدل على شيء من هذه المعاني الثلاثة ، وأيضا ،

__________________

(١) الآية ١٤ سورة العنكبوت ،

(٢) تفصيل الآراء النحاة في حل هذا الإشكال ،

(٣) أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد من علماء القرن الخامس وله كتاب : متشابه القرآن ،

(٤) أي مذكورة في الكلام على غير وجه الاستثناء ،

٧٧

اجماعهم على أن الاستثناء مخرج ، يبطله ؛

هذا ، ويلزم مثل ما فرّوا منه في بدل البعض ، وبدل الاشتمال ، كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (١) ، لأن الناس جنس يعمّ المستطيعين وغيرهم ، فيكون كأنه قال : ولله على جميع الناس : مستطيعهم وغير مستطيعهم ، بل لله على مستطيعهم وحده ؛

وقال آخرون ، وهو الصحيح المندفع عنه الإشكالات كلها : ما فرّوا منه ، وما لزمهم : ان المستثنى داخل في المستثنى منه ، والباقي بعد بدل البعض داخل في المبدل منه ، والتناقض بمجيئ زيد وانتفاء مجيئه في : جاءني القوم إلا زيدا : غير لازم ، وإنما يلزم ذلك ، لو كان المجيئ منسوبا إلى القوم فقط (٢) وليس كذلك ، بل هو منسوب إلى القوم مع قولك «إلا زيدا» ، كما أن نسبة الفعل في نحو : جاءني غلام زيد ، ورأيت غلاما ظريفا : إلى الجزأين ، لكنه جرت العادة بأنه إذا كان الفعل منسوبا إلى شيء ذي جزأين أو أجزاء ، قابل كل واحد منهما للاعراب : أعرب الجزء الأول منهما بما يستحقه المفرد إذا وقع منسوبا إليه في مثل ذلك الموقع ، وما بقي من أجزاء المنسوب إليه ، يجرّ إن استحق الجر ، كالمضاف إليه ، ويتبع إن استحق التبعيّة ، كما في التوابع الخمسة ، وإن لم يستحق شيئا من ذلك ، نصب ، كالمستثنى تشبيها بالمفعول ، في مجيئه بعد المرفوع وإن كان جزء العمدة في بعض المواضع ، نحو : ما جاءني القوم إلا زيدا ، لأن المجموع هو المسند إليه ؛

فزبدة الكلام : أن دخول المستثنى في جنس المستثنى منه ثم إخراجه بالّا وأخواتها : إنما كان قبل إسناد الفعل أو شبهه إليه ، فلا يلزم التناقض في نحو : جاءني القوم إلا زيدا ، لأنه بمنزلة قولك : القوم المخرج منهم زيد ، جاءوني ، ولا (٣) في نحو : له عليّ عشرة إلا درهما ، لأنه بمنزلة قولك : العشرة المخرج منها واحد ، له عليّ ، وذلك لأن المنسوب إليه

__________________

(١) الآية ٩٧ سورة آل عمران ،

(٢) أي منظورا فيه إلى عمومه وشموله لزيد

(٣) أي ولا يلزم التناقض في هذا أيضا ،

٧٨

الفعل ، وإن تأخر عنه لفظا ، لكنه لا بدّ له من التقدم وجودا على النسبة التي يدل عليها الفعل ، إذ المنسوب إليه ، والمنسوب سابقان على النسبة بينهما ضرورة ؛ ففي الاستثناء ، لما كان المنسوب إليه هو المستثنى منه فلا بدّ ، إذن ، من حصول الدخول والإخراج قبل النسبة ، فلا تناقض ؛

[أحكام المستثنى]

[وتفصيل الكلام على العامل]

[قال ابن الحاجب :]

«وهو منصوب ، إذا كان بعد الّا ، غير الصفة ، في كلام»

«موجب أو مقدما على المستثنى منه ، أو منقطعا في الأكثر ،»

«أو كان بعد خلا وعدا ، في الأكثر ، وما خلا ، وما عدا ،»

«وليس ، ولا يكون» ؛

[قال الرضى :]

شرع يبيّن اعراب المستثنى ، فبدأ بما يجب نصبه ، إذ هو (١) في باب المنصوبات وهو (٢) في مواضع ؛

الأول : ما اجتمع فيه شرطان : وقوعه بعد «الّا» ، وكون الاستثناء في كلام موجب ، ولم يحتج (٣) إلى قوله «غير الصفة» ، لأنه في نصب المستثنى ، وما كان بعد «الا» التي للوصف : ليس بمستثنى ؛

__________________

(١) أي المصنف ، أي كلامه ،

(٢) أي ما يجب نصبه ، لقوله : الأول ما اجتمع فيه ..

(٣) أي أنه لم يكن بحاجة إلى ذكر هذا القيد ،

٧٩

وإنما اشترط كون الاستثناء في كلام موجب ، لأن غير الموجب لا يجب نصب مستثناه ، كما يجيئ ؛

واختلف في عامل النصب في المستثنى ، فقال البصريون : العامل فيه : الفعل المتقدم ، أو معنى الفعل ، بتوسّط «الا» ، لأنه شيء يتعلق بالفعل معنى ، إذ هو جزء مما نسب إليه الفعل ، وقد جاء بعد تمام الكلام فشابه المفعول ؛

وقال المبرد ، والزجاج : العامل فيه «الّا» ، لقيام معنى الاستثناء بها ، والعامل ما به يتقوّم المعنى المقتضى (١) ، ولكونها نائبة عن «أستثني» ، كما أن حرف النداء نائب عن «أنادي» ؛

وقال الكسائي : هو منصوب ، إذا انتصب ، بأنّ مقدّرة بعد «إلّا» ، محذوفة الخبر ، فتقدير قام القوم الّا زيدا : قام القوم الّا أنّ زيدا لم يقم ؛

وليس بشيء ، إذ يبقى الاشكال عليه بحاله في انتصاب «أنّ» مع اسمها وخبرها ، لأنها في تقدير المفرد ؛

وأمّا الاعتراض (٢) بأنه يعمل الحرف الموصول مقدّرا ، والموصول لا يقدّر ، فلا يرد عليه ، لأن الكوفيين يجوّزون تقدير الاسم الموصول ، كما يجيئ ، وأمّا تقدير الحرف الموصول ، فله أسوة (٣) بالبصريّين في تقديرهم «أن» الناصبة للفعل ، لكون الحروف التي قبلها كالنائب عنها ، فإلّا ، عنده ، تكون كالنائب عن «أنّ» المقدّرة ؛

وقال الفراء : «الّا» مركبة من : «إنّ» و «لا» العاطفة ، حذفت النون الثانية من «إن» ، وأدغمت الأولى في لام «لا» فإذا انتصب الاسم ، بعدها ، فبإنّ ، وإذا أتبع ما قبلها في الاعراب ، فبلا العاطفة ، فكأن أصل قام القوم إلا زيدا : قام القوم ، إنّ زيدا

__________________

(١) المعنى العام للعامل هو ما به يتقوم المقتضي وتقدم ذلك في أول الكتاب ص ٧٢ ج ١ ؛

(٢) أي الاعتراض على الكسائي ،

(٣) جواب قوله : وأما تقدير الحرف الموصول ؛

٨٠