شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

وقيل : إنما لم يبن مع الفصل ، لأنهما لما مزجا ، تعدّى البناء من «لا» إلى المنفى بسبب التركيب ، فإذا انتفى التركيب ، انتفى تعدّي البناء إليه ،

ثم نقول : ويجوز ، لما ذكرنا من ضعف عملها ، أن تلغيها مع كون المنفي نكرة غير مفصولة ؛

ويجب في المواضع الثلاثة التي ألغيت فيها «لا» ، إمّا وجوبا ، كما في المعرفة والمفصول ، وإمّا جوازا ، كما في النكرة المتصلة ، تكرير (١) «لا» ، ولا يجب ذلك إذا أعملتها ، أو بنيت اسمها ، وذلك لأن المقصود قيام القرينة على كونها لنفي الجنس ، وعملها عمل «إنّ» أو بناء اسمها كاف في هذا الغرض ، إذ لا يكونان إلا مع «لا» التبرئة ، أما إذا ألغيت ، فإنه جعل تكريرها منبّها على كونها لنفي الجنس في النكرات ، لأن نفي الجنس هو تكرير النفي في الحقيقة ؛ وأمّا في المعارف ، فالتكرير جبران لما فاتها من نفي الجنس الذي لا يمكن أن يحصل في المعرفة ؛

وأجاز أبو العباس (٢) ، وابن كيسان (٣) ، عدم تكرير «لا» في المواضع الثلاثة ، أمّا مع المعرفة فنحو : لا زيد في الدار ، وقولهم : لا نولك أن تفعل كذا ، وأمّا مع المفصول فنحو : لا فيها رجل ، قال :

٢٤٦ ـ بكت جزعا واسترجعت ثم آذنت

كتائبها أن لا إلينا رجوعها (٤)

وأمّا مع المنكر المتصل ، فنحو : لا رجل في الدار ، قال :

٢٤٧ ـ وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا

حياتك لا نفع وموتك فاجع (٥)

__________________

(١) فاعل قوله : ويجب في المواضع الثلاثة ،

(٢) أي المبرد ، وهذه كنيته وتقدم ذكره ،

(٣) وكذلك ابن كيان تقدم ذكره في هذا الجزء والذي قبله ؛

(٤) قال البغدادي إنه من أبيات سيبويه التي لم يعرف لها قائل ، والبيت في سيبويه ج ١ ص ٣٥٥ ؛

(٥) نقل البغدادي عن شراح شواهد سيبويه ، أن هذا البيت لرجل من بني سلول ، لم يذكروا اسمه ثم نقل عن الحصري وغيره نسبته إلى الضحاك بن هشام ، ثم قال : وزاد الحصري بعده بيتين ، أحدهما قوله :

وفيك خصال صالحات يشينها

لديك جفاء عنده الود ضائع

١٦١

ومثله قولهم : لا سواء ، وقوله :

من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح (١) ـ ٨٠

وقوله :

٢٤٨ ـ تركتني حين لا مال أعيش به

وحين جنّ زمان الناس أو كلبا (٢)

وأجيب بأن قولهم : لا نولك أن تفعل كذا ، بمعنى : لا ينبغي لك أن تفعل فهي في المعنى ، هي الداخلة على المضارع ، وتلك لا يلزم تكريرها ، والنول ، مصدر بمعنى التناؤل ، وهو ههنا بمعنى المفعول ، أي : ليس متناولك ومأخوذك هذا الفعل ، أي لا ينبغي لك أن تأخذه وتتناوله ؛

وبشذوذ (٣) قوله : أن لا إلينا جوعها ، ولا نفع ، ولا براح ، ولا مستصرخ (٤) ، ولا مال ، وقولهم : لا سواء ،

أو بكون «لا» في : لا سواء عوضا من المبتدأ المحذوف ، إذ لا يقال : هما لا سواء ، على ما ذهب إليه سيبويه ، (٥) وأما وجوب حذف المبتدأ فلكثرة الاستعمال ؛

أو بأنّ : لا براح ، ولا مستصرخ ، ولا مال ، بمعنى : ليس ؛ وقد ذكرنا في المرفوعات أنه لم يثبت اعمال «لا» عمل ليس (٦) ؛

والأولى حمل ذلك كله على الضرورة والشذود ، وإلّا فهو تحكم ؛

__________________

(١) من الأبيات التي قالها سعد بن مالك من بني قيس يعرض فيها بالحارث بن عباد الذي قعد عن المشاركة في الحرب ، وقد أشرنا إليها عند الشاهد رقم ٢١٢ في هذا الجزء ،

(٢) من أبيات لأبي الطفيل ، عامر بن وائلة الصحابي ، في رثاء ابنه ، الطفيل ، يقول فيها :

فإن سلكت سبيلا كنت سالكها

ولا محالة أن يأتي الذي كتبا

فما لفظتك من ريّ ولا شبع

ولا ظللت لباقي العيش مرتقبا

(٣) معطوف على قوله : وأجيب بأن قولهم ... وكذلك ما يأتي بعده ؛

(٤) هذا في سيبويه ج ١ ص ٣٥٧ ؛ وليس من الأمثلة التي ذكرها الرضي ، ولعله في بعض النسخ

(٥) عبارة سيبويه : ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء .. ج ١ ص ٣٥٧ ؛

(٦) في هذا الموضع اضطراب في النسخ أمكن بتوفيق الله اصلاحه إلى ما أثبتناه ؛

١٦٢

فعلى هذا نقول : يجب في الاختيار ، تكرير «لا» المهملة الداخلة على غير لفظ الفعل ، إلا في موضعين ، أحدهما أن تكون داخلة على الفعل تقديرا ، وذلك إذا دخلت على منصوب بفعل مقدر ، نحو : لا مرحبا ، أي : لا لقيت مرحبا ، أو لا رحب موضعك ؛ ولا أهلا ، أي : لا أتيت أهلا ؛ ولا سهلا ، أي : لا وطئت سهلا ؛ ولا نعمة ، أي : لا نعمت عينك نعمة ؛ وكذا ، لا مسرّة ، ولا كرامة ؛

أو إذا دخلت على اسمية بمعنى الدعاء ، نحو لا سلام عليك ، ولا بك السوء ، لأن الدعاء بالفعل أولى وأكثر ، لأنه في الأصل أمر أو نهى ، فكأنه قيل ، لا سلمت سلاما ، كما ذكرناه في أول المبتدأ ؛ ولا أصابك السوء (١) ؛ أو إذا دخلت على «نولك» نحو : لا نولك أن تفعل كذا ، أي لا ينبغي كما مرّ ؛

وإنما لم تكرر «لا» في هذه المواضع ، لأنها إذا دخلت على الفعل ، لم يجب تكريرها ، إلا إذا كان الفعل ماضيا غير دعاء ، نحو قوله تعالى : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ) (٢) ،

وثانيهما (٣) : أن تكون «لا» بمعنى «غير» مع أحد ثلاثة شروط : أحدها أن تدخل على لفظ «شيء» ، سواء انجرّ بالاضافة ، نحو : هو ابن لا شيء ؛ أو بحرف الجر ، أيّ حرف حرف كان ، نحو : كنت بلا شيء ، وغضبت من لا شيء ، وما أنت إلا كلا شيء ، وخلقت من لا شيء ؛ أو انتصب نحو : انك ولا شيئا سواء ؛ أو ارتفع ، نحو أنت لا شيء ؛ وثانيها أن ينجرّ ما بعد «لا» بباء الجرّ قبلها ، نحو : كنت بلا مال ، ولا ينجرّ ، إذا لم يكن لفظ شيء ، إلّا بها من بين حروف الجر ؛ ولم يثبت انجراره بالاضافة ؛

وأمّا قول جرير :

٢٤٩ ـ ما بال جهلك بعد الحلم والدين

وقد علاك مشيب حين لا حين (٤)

__________________

(١) هو تفسير للمثال الذي ذكره ، بمعناه ، وإلا فالمناسب أن يكون تقديره مثلا : لا لحق بك السوء ،

(٢) الآية ٣١ سورة القيامة ،

(٣) أي ثاني الموضعين اللذين لا يجب فيها تكرار «لا» ؛

(٤) هذا مطلع قصيدة لجرير ، وهي في هجاء الفرزدق ، وبعد المطلع : ـ ـ

للغانيات وصال لست قاطعه

على مواعيد من خلف وتلوين

وقد كتب البغدادي على الشاهد الذي بعده قبل أن يكتب عليه ، وذلك راجع إلى ما أشرنا إليه كثيرا من اختلاف نسخ هذا الشرح ، فكأن الرضي ذكر في بعض النسخ ، الشاهد الآتي ، قبل أن يذكر هذا الشاهد ؛ وإن كان سياق الكلام يرجح هذا الترتيب للشاهدين المذكورين ؛

١٦٣

فالأولى أن «لا» زائدة ، كما في قوله :

٢٥٠ ـ في بئر لا حور سرى وما شعر (١)

أي : علاك الشيب في وقت : وقت الشيب ، أي لم تشب قبل أوانه ، أي في وقت يكون في أثنائه وقت الشيب ، والأوّل ، أي الوقت الأول (٢) : من الثلاثين إلى ما فوقها ، مثلا ؛ فأضاف الأول إلى الثاني لاشتماله عليه ؛

وقال أبو علي : «لا» غير زائدة ، على تأويل : وقت لا وقت اللهو ؛ كما فوق الثلاثين ، وأمّا قول الشاعر :

٢٥١ ـ حنّت قلوصي حين لا حين محنّ (٣)

فحين ، الأول ، مضاف إلى الجملة ، أي : حين لا حنين حاصل ،

وثالثها (٤) : أن يعطف ما بعد «لا» على المجرور بغير ، كقوله تعالى : (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (٥) ؛ وقولك : زيد غير الفارس ولا الشجاع ، ولا يجوز : أنت غير زيد ولا عمرو ، قالوا : لأنهم (٦) راعوا صورة «لا» غير مجعولة بمعنى «غير» فإنها يلزم تكريرها مع العلم ؛

__________________

(١) هذا من أرجوزة طويلة للعجاج في مدح عمر بن عبيد الله ، وكان قد وجهه عبد الملك بن مروان لقتال بعض المتمردين من الخوارج ، أولها : قد جبر الدين الاله فجبر ؛ والفعل : جبر ، الثاني ، لازم ، مطاوع للأول المتعدي ، أي جبره فانجبر ، والحور : المهلكة التي يهلك فيها السائر ؛

(٢) قصده : الأول من لفظي الوقت المذكورين في تفسيره لمعنى البيت ؛

(٣) المحنّ مصدر ميمي بمعنى الحنين ، أي حين لا وقت حنين ، قال البغدادي : هو من شواهد سيبويه التي لم يعرف لها قائل ، وهو في سيبويه ج ١ ص ٣٥٨

(٤) أي ثالث الشروط التي يجب أن يتحقق أحدها لعدم تكرير «لا» ؛

(٥) آخر سورة الفاتحة ؛

(٦) هذا تعليل لعدم جواز المثال : أنت غير زيد ولا عمرو ؛

١٦٤

وأمّا المعرّف باللام فإن التعريف فيه غير مقصود قصده ، فهو في حكم المنكر ، ويجوز عدم تكريرها مع المنكر قبل جعلها بمعنى «غير» ، نحو : لا رجل ولا غلام رجل بخلاف العلم ؛

وأمّا المعرّف باللام مع «لاء» التبرئة ، فلا بدّ معه من تكريرها في نحو : لا الرجل في الدار ولا المرأة ؛ استضعف هذا التعريف بعد خروج «لا» إلى معنى «غير» ، ولضعفها أيضا بهذا الخروج ، فجوّز عدم تكريرها ، نحو : أنت غير الفارس ولا الشجاع ، وألزمت التكرير قبل خروجها لقوتها ؛

هذا ، وإن كانت «لا» بمعنى «غير» ، مجرّدة عن هذه الشروط ، لزم تكرارها ، أيضا ، نحو قوله تعالى : (...إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ، لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) (١) ، وقولك : زيد لا راكب ولا ماش ، وجاءني زيد لا راكبا ولا ماشيا ؛

وأمّا قول العوامّ : أنا لا راكب ، واللا إنسان أعم من اللاحيوان فغير مستند إلى حجة ؛

وجواز ترك التكرير مع الشرط الأول ، معلّل بكثرة استعمال «لا» مع شيء ، وهو (٢) مع الشرط الثاني معلّل ببعد «لا» عن أصلها أعني كونها للتبرئة ، وذلك بتعذر تقدير «من» الاستفراقية بعد «لا» ، لتعذر دخول حرف الجر على حرف الجر ، فلذا جاز : جئت بلا زيد ، من غير تكرير مع العلم ، وهو مع الشرط الثالث معلّل بكونها كالمكررة ، لأن «غير» بمعناها ؛

ونعني بكون «لا» بمعنى «غير» ، كونها لنفي الاسم الذي بعدها ، كغير ، فلا يكون لها صدر الكلام ، وبكونها للتبرئة : أنها لنفي مضمون الجملة فيلزمها التصدّر ؛

واعلم أنه قد يؤوّل العلم المشتهر ببعض الخلال ، بنكرة (٣) ، فينتصب بلاء (٤) التبرئة ،

__________________

(١) الآيتان ٣٠ ، ٣١ سورة المرسلات ؛

(٢) أي ترك التكرير ، أو جواز ترك التكرير ، وكذا فيما بعده ،

(٣) متعلق بقوله : قد يؤوّل العلم ،

(٤) تقع كلمة «لا» في كلام الرضي كثيرا بهمزة في آخرها ، ووجهه أنه قصد لفظها وأعربها ، فزيدت في ـ ـ آخرها ألف للتضعيف وقلبت همزة ، كما هو حكم كل ثنائي الوضع إذا انتقل إلى الاسمية وقصد اعرابه ،

١٦٥

وينزع منه لام التعريف إن كانت فيه ، نحو : لا حسن ، في : الحسن البصريّ ، وكذا : لا صعق ، في الصّعق (١) ؛ أو ممّا أضيف إليه (٢) ، نحو : لا امرأ قيس ، ولا امرأ قيس ، ولا ابن زبير ؛ ولا تجوز هذه المعاملة في لفظتي : عبد الله ، وعبد الرحمن ، إذ «الله» و «الرحمن» ، لا يطلقان على غيره تعالى حتى يقدّر تنكيرهما ؛ قال :

٢٥٢ ـ لا هيثم الليلة للمطيّ (٣)

وقال :

٢٥٣ ـ أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن ولا أميّة في البلاد (٤)

ولتأويله بالمنكّر وجهان : إمّا أن يقدّر مضاف هو «مثل» فلا يتعرّف بالاضافة لتوغله في الإبهام ، وإنما يجعل في صورة المنكّر ينزع اللام ، وإن كان المنفي في الحقيقة هو المضاف المذكور الذي لا يتعرف بالإضافة إلى أي معرّف كان ، لرعاية اللفظ وإصلاحه ؛ ومن ثمّ قال الأخفش : على هذا التأويل يمتنع وصفه ؛ لأنه في صورة النكرة ، فيمتنع وصفه بمعرفة ، وهو معرفة في الحقيقة ، فلا يوصف بنكرة ؛

وإمّا أن يجعل العلم (٥) لاشتهاره بتلك الخلّة ، كأنه اسم جنس موضوع لإفادة ذلك المعنى ؛ لأن معنى قضيته ولا أبا حسن لها : لا فيصل لها ، إذ هو ، كرّم الله وجهه ، كان فيصلا في الحكومات ، على ما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : «أقضاكم علي» ، فصار

__________________

(١) الصّعيق : هو خويلد بن نفيل من بني كلاب كان قد أصيب بضربة في رأسه جعلته يصعق كلما سمع صوتا قويا ، وقيل في سبب تسميته غير ذلك ،

(٢) أي أو ينزع اللام مما أضيف إليه

(٣) شطر من الرجز نسبه الفراء إلى رجل من بني دبير ، وهيثم : اسم رجل كان مشهورا بحسن حداء الإبل وحسن رعايتها ، ورووا بعده : ولا فتى مثل ابن خيبريّ ، وقالوا : المراد بابن خيبريّ : جميل بثينة ؛

(٤) أبو خبيب بصيغة المصغر ، هو عبد الله بن الزبير بن العوّام وقائل الشعر هو عبد الله بن الزبير ، بفتح الزاي ، الأسدي ، وقد على ابن العوام قاصدا عونه فلم يستجب له فخرج من عنده يقول شعرا منه هذا البيت ،

(٥) الوجه الثاني من وجهي التأويل.

١٦٦

اسمه ، رضي الله عنه ، كالجنس المفيد لمعنى الفصل والقطع ، كلفظ الفيصل ، وعلى هذا يمكن وصفه بالمنكر ، وهذا كما قالوا : لكل فرعون موسى ، أي : لكل جبّار قهّار ، فيصرف فرعون ، وموسى ، لتنكيرهما بالمعنى المذكور ؛

وجوّز القرّاء إجراء المعرفة مجرى النكرة بأحد التأويلين ، في الضمير واسم الإشارة أيضا ، نحو : لا إيّاه هنا ، أو : لا هذا ، وهو بعيد غير مسموع ؛

[تكرار لا]

[وأوجه الاعراب فيها]

[قال ابن الحاجب :]

«وفي مثل : لا حول ولا قوة إلا بالله ، خمسة أوجه :»

«فتحهما : ونصب الثاني ، ورفعه ، ورفعهما ، ورفع الأول»

«على ضعف ويكون لا ، بمعنى ليس ، وفتح الثاني» ؛

[قال الرضي :]

يعني إذا كررت «لا» ، مع أن عقيب كل منهما (١) بلا فصل : نكرة ، جاز في المجموع خمسة أوجه :

الأول : فتحهما ، ووجهه أن تجعل «لا» في الموضعين للتبرئة ، فتبني اسميها ، كما لو انفردت كل منهما عن صاحبتها ، ويجوز ، على مذهب سيبويه (٢) ، أن تقدر بعدهما

__________________

(١) تثنية الضمير في منهما باعتبار أن التكرار معناه ذكر الشيء مرتين ، أو أكثر ؛

(٢) انظر سيبويه ج ١ ص ٣٤٩ ؛

١٦٧

خبرا لهما معا ، أي : لا حول ولا قوة لنا ، أي موجودان لنا ، لأن مذهبه أن «لا» المفتوح اسمها ، لا تعمل عمل «إنّ» في الخبر ، فهما في موضع الرفع ، فلا قوة ، معطوف على مبتدأ ، والمقدر مرفوع بأنه خبر المبتدأ ، لا خبر «لا» ، فيكون الكلام جملة واحدة ، نحو : زيد وعمرو ضاربان ، ويجوز ، أيضا ، عنده ، أن تقدّر لكل واحد منهما خبرا ، أي لا حول موجود لنا ، ولا قوة موجودة لنا ، فيكون الكلام جملتين ؛

وأمّا على مذهب غيره ، وهو أن «لا» المفتوح اسمها عاملة في الخبر عمل «إنّ» فيه ، كما عملت «لا» المنصوب اسمها فيه ، فيجوز ، أيضا ، أن تقدر لهما خبرا واحدا ، وذلك الخبر يكون مرفوعا بلا ، الأولى ، والثانية معا ، وهما ، وإن كانا عاملين ، إلا أنهما متماثلان ، فيجوز أن تعملا في اسم واحد عملا واحدا ، كما في : إن زيدا وإن عمرا قائمان ، كأنهما شيء واحد ، وإنما الممتنع أن يعمل عاملان مختلفان في حالة واحدة ، عملا واحدا في معمول واحد ، قياسا على امتناع حصول أثر واحد من مؤثرين ؛

ويجوز ، أيضا ، عندهم أن تقدّر لكل واحد منهما خبرا على حياله.

والثاني : فتح الأول ونصب الثاني ، على أن تكون «لا» الثانية زائدة لتأكيد نفي الأولى ، كما في قولك : ما جاءني زيد ولا عمرو ، فكأنك قلت : لا حول وقوة ، كقوله :

٢٥٤ ـ فلا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا (١)

على ما يجيئ ، فلا يجوز ، عند سيبويه : أن تقدر لهما خبرا واحدا بعدهما لأن خبر : لا حول ، مرفوع عنده بالابتداء ، وخبر : قوة ، مرفوع بلا ، لأن الناصبة لاسمها عاملة عنده في الخبر ، وفاقا لغيره ، فيرتفع الخبر بعاملين مختلفين ولا يجوز ؛ فيجب أن تقدّر لكل منهما خبرا على حياله ؛ وعند غيره يجوز تقدير خبر واحد لهما ، لأن العامل فيه عندهم ، إذن ، «لا» وحدها ، ويجوز أن تقدر عندهم لكلّ خبرا ؛

__________________

(١) المراد : مروان بن الحكم وابنه عبد الملك ، والبيت غير منسوب لأحد ، غير ما نقله البغدادي عن ابن هشام أنه لرجل من بني عبد مناة ؛ وعدّه بعضهم من أبيات سيبويه التي لا يعرف قائلها ، وهو في سيبويه ، ج ١ ص ٣٤٩ ؛

١٦٨

والثالث : فتح الأول ورفع الثاني ، على أن «لا» زائدة ، كما في الوجه الثاني ، إلا أن العطف ههنا على المحل ، كما يجيئ في : لا أب وابن ؛

فعند سيبويه : يجوز أن تقدر لهما معا خبرا واحدا ، أي : لا حول وقوة موجودان ، لكونه خبر المبتدأ ، وعند غيره ، لا بد لكل واحد من خبر منفرد ، لئلا يجتمع الابتداء ولفظ «لا» في رفع الخبر ، ويجوز أن تجعل «لا» غير زائدة ، بل لنفي الجنس ، لكن تلغيها عن العمل ، لما ذكرنا قبل من جواز الغائها مع كونه اسمها نكرة غير مفصولة ، لضعف «لا» في العمل ، وقد حصل ههنا شرط الإلغاء ، كما تقدم ، وهو تكرير «لا» ، لأن التكرير حاصل سواء ألغيت الأولى والثانية معا ، كما في : لا حول ولا قوة ، أو ألغيت الأولى دون الثانية ، كما في : لا حول ولا قوة ، على ما يجيئ بعيد ، أو ألغيت الثانية دون الأولى ، كما في مسألتنا ، وهي : لا حول ولا قوة ؛

وتقدير الخبر مع جعل الثانية «لا» التبرئة ، مثله مع جعلها زائدة ، سواء ؛ ولا نقول إن «لا» الثانية ههنا تعمل عمل «ليس» ، كما قال بعضهم ، لما قدمنا : أنه لم يثبت في كلامهم عمل «لا» عمل «ليس» ، بل لم يرووا : الّا كون الاسم بعدها مرفوعا والخبر محذوف ، نحو : لا براح ، ولا مستصرخ فظنوا أنها عاملة عمل ليس ، والحق أنها «لا» التبرئة ، ملغاة ، لم تكرر للضرورة ؛ (١)

والرابع : رفعهما على ما ذكرنا أنه يجوز الغاء «لا» التبرئة لضعف عملها ، ويلزمها التكرار ، كما تقدم ، فيكون الاسمان مرفوعين بالابتداء و «لا» الثانية إمّا زائدة ، كما في الوجه الثاني وإمّا ملغاة غير زائدة ، كلا ، الأولى ، ومذهب سيبويه وغيره في تقدير الخبر ، في هذا الوجه ، واحد ، إذ لا عامل ههنا إلّا الابتداء فقط ، فإمّا أن تقدّر لكل واحد منهما خبرا ، والكلام جملتان ، أو تقدّر لهما معا خبرا واحدا ، والكلام جملة واحدة ؛

والخامس : رفع الأول وفتح الثاني ، على أن «لا» الأولى للتبرئة لكنها ملغاة ، لما

__________________

(١) تقدم هذا مستوفى في الجزء الأول في باب اسم ما ولا ، وأعاده في هذا الجزء قبل قليل ،

١٦٩

ذكرنا من جواز ذلك ، لضعفها ، وقد حصل شرط الإلغاء ، وهو التكرير ، ولا يلزم من تكرير «لا» أن يتوافق الاسمان بعدهما (١) في الإعراب ، إذ التكرير هو الشرط فقط ، وقد حصل ، كما ذكرنا ؛

فإذا تقرر هذا ، فلا حاجة بنا إلى ما ذكر المصنف من قوله : ورفع الأول ، على ضعف لكونها بمعنى ليس ؛ فانّا لا نضعف هذا الوجه ، بل هو مثل الوجه الثالث والرابع سواء ، في حصول التكرير ؛ وتطابق الاسمين إعرابا ، ليس بشرط ؛ و «لا» في الجميع للتبرئة ، ألغيت ، فلم يبق فيها النصوصيّة (٢) ، على الاستفراق ، وتقدير الخبر في هذا الوجه ، كما في الثالث ، سواء ؛ على المذهبين ؛

[دخول الهمزة على لا]

[وأثر ذلك]

[قال ابن الحاجب :]

«وإذا دخلت الهمزة لم تغيّر العمل ، ومعناها : الاستفهام»

«والعرض ، والتمنيّ» ؛

[قال الرضي :]

قال الأندلسيّ : لا أعرف أحدا يقول : تلحق ألف الاستفهام أداة النفي فتكون لمجرّد الاستفهام ، بل ، لا بدّ أن تكون إمّا زائدة للإنكار ، أو للتوبيخ ، أو للتمني أو للعرض ؛

__________________

(١) أي بعد الأداتين المكررتين ، كما تقدم مثله في أول هذا البحث ؛

(٢) أي الدلالة القاطعة على الاستغراق ، وهي كلمة مولّدة ومعناها كون الشيء دالّا على معنى لا يحتمل التأويل ، وهي من قبيل المصادر الصناعية ؛

١٧٠

وهذا الذي قاله مخالف لظاهر قول سيبويه ، لأنه قال (١) : اعلم أن «لا» في الاستفهام أو العرض ، تعمل فيما بعدها ، كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر ؛

فمن ذلك قول حسّان :

٢٥٥ ـ ألا طعان ألا فرسان عادية

الّا تجشّؤكم حول التنانير (٢)

وفي مثل : ألا قماص بالعير (٣) ، يضرب لمن ذلّ بعد عزّة ، فمعنى الاستفهام فيما ذكر من الشعر والمثل ظاهر ، ولم يذكر سيبويه أن حال «الا» في العرض كحاله قبل الهمزة ، بل ذكره السيرافي ، وتبعه الجزولي والمصنف ، وردّ ذلك الأندلسي وقال : هذا خطأ ، لأنها إذا كانت عرضا ، كانت من حروف الأفعال كإن ولو ، وحرف التحضيض ، فيجب انتصاب الاسم بعدها في نحو : ألا زيدا تكرمه ؛

وأمّا إذا كان «ألا» بمعنى التمني ، كقوله :

٢٥٦ ـ ألا سبيل إلى خمر فأشربها

ألا سبيل إلى نصر بن حجّاج (٤)

فالمازني والمبّرد ، قالا : حكمها حكم المجرّدة ، فيجوز عندهما ، العطف والوصف على الموضع ، نحو : ألا مال كثير ، أنفقه ، و: ألا ماء وخمرا أشربهما ، وخبرها عندهما إمّا ظاهر أو مقدّر ، كما في المجرّدة ؛

__________________

(١) عبارة سيبويه في ج ١ ص ٣٥٨ ، ليس فيها ذكر العرض ، والشارح نفسه سينبه على ذلك ؛

(٢) من أبيات لحسان بن ثابت الأنصاري في هجاء بني الحارث بن كعب يقول فيها :

حار بن كعب ألا أحلام تزجركم

عني وأنتم من الجوف الجماخير

لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ

جسم البغال وأحلام العصافير

(٣) المعروف في المثل : لا قماص بالعير ، والقماص بضم القاف وبكسرها ما يبديه الحيوان من حركات تدل على نشاطه وقوته ، فمعنى المثل : اخبار بأنه أصبح لا يستطيع ذلك ؛

(٤) لهذا البيت وما يتصل به قصة حدثت في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وامتلأت بها كتب الأدب ، وصاحبة الشعر امرأة سمعها عمر ، وهو يمر ليلا ، وهي تتغنى بهذا الشعر وقد أطلقوا على هذه المرأة اسم : المتمنية ، واستدعى عمر ، نصر بن حجاج فوجده جميل الصورة فنفاه ، وقد أورد البغدادي هذه القصة بروايات مختلفة ، وذكر ما لقيه نصر بن حجاج بسبب جماله من نفي وتشريد ،

١٧١

واختار المصنف والجزولي مذهبهما ؛ وقال سيبويه : لا يجوز حمل التابع على الموضع ، ولا خبر لها ، إذ التمني يغنيها عن الخبر ، ويصير معنى اسمها معنى المفعول ، فمعنى ألا غلام : أتمنّى غلاما ، فلا تحتاج إلى خبر ، لا ظاهر ولا مقدر ، فهو كقولهم : اللهمّ غلاما ، أي : هب لي غلاما ؛

وأمّا ما يلي «لا» أي اسمها فلا خلاف بينهم أن لفظه على ما كان عليه قبل الهمزة ، من النصب في المضاف والمضارع له ، والبناء في المفرد المنكر ؛ وأمّا قوله :

ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدلّ على محصّلة بليت ـ ١٥٨

والبيت مضمّن (١) ، فقال يونس : نوّنه ضرورة ، وقال الخليل : ألا ، حرف تحضيض ، كهلّا ، وسيذكر في قسم الحروف ، والفعل محذوف ، أي : هلّا ترونني رجلا ؛

وروي الإلغاء في «ألا» التي للتمني ، نحو : ألا رجل جزاه الله خيرا ، وروي : ألا رجل بالجر ، أي : ألا من رجل ؛

[النعت والعطف]

[بعد اسم لا]

[قال ابن الحاجب :]

«ونعت المبني الأول ، مفردا يليه : مبني ؛ ومعرب رفعا ونصبا»

__________________

(١) تقدم هذا البيت في الجزء الأول من هذا الشرح في باب المنصوب على شريطة التفسير ، وهو لأعرابي أراد أراد أن يتزوج فقال أبياتا ، هذا أولها وبعده :

ترجّل لمتي وتقمّ بيتي

وأعطيها الاتاوة إن رضيت

 (٢) أي أن معناه مرتبط بالبيت الذي بعده ، وتبيّن مما سبق أن البيت التالي له يتضمن خبر قوله تبيت ، والتضمين من عيوب الشعر ؛

١٧٢

«نحو : لا رجل ظريف ، وظريفا وظريف ، والّا فالاعراب ،»

«والعطف على اللفظ وعلى المحل جائز ، مثل : لا أب وابنا» ؛

[قال الرضي :]

قوله : نعت ، مبتدأ ، و: الأوّل ، صفته ، و: مبني : خبره ، وقوله : مفردا ، يليه ، حالان من الضمير في «مبني» ، والعامل : مبني ، أي : يبني النعت إذا ولى مبنيّ «لا» وكان مفردا ؛

وإنما جاز بناء النعت المذكور ، مع انفصاله عن «لا» ، التي هي سبب البناء ، إذ بها يقوم معنى الاستفراق الموجب لتضمن «من» ؛ لاجتماع (١) ثلاثة أشياء فيه : أحدها كونه في المعنى هو المبني الذي وليها ، أعني اسم «لا» ، وفي اللفظ متصلا به ؛ والثاني كون النفي في المعنى داخلا فيه ، لأن المنفي في قولك : لا رجل ظريف ، هو الظرافة لا الرجل ؛ فكأن «لا» دخلت عليه ، فكأنك قلت : لا ظريف ، فلذا ، لم تبن صفة المنادى في نحو : يا زيد الظريف ، لأن النداء متعلق بالموصوف ؛ والثالث قربه من «لا» التي هي سبب البناء ، إذ الفاصل بينهما ليس إلا واحدا هو هو (٢) ؛

فلبناء النعت أربع شرائط : أن يكون نعت المبني بلا ، لا نعت المعرب ، احترازا عن نحو : لا غلام رجل ظريفا ؛ وأن يكون النعت الأوّل ، لا الثاني وما بعده ، فلا يبنى «كريم» في نحو : لا رجل ظريف كريم ؛ وأن يلي النعت المبنيّ ، فلا يفصل بينهما ، فلا يبنى الوصف في نحو : لا رجل حسن الوجه (٣) ؛

وإنما لم يبن نعت المعرب ، لانتفاء الوجه الأول والثالث فيه ، من الأوجه الثلاثة

__________________

(١) علة جواز البناء في النعت ،

(٢) أي هو اسم لا في المعنى لأنهما شيء واحد ،

(٣) هكذا ورد المثال في المطبوعة ، وكأنه محرّف عن : لا رجل في الدار حسن الوجه مثلا حتى يتحقق فيه ما قال من أنه لا يبنى المفصول ،

١٧٣

المذكورة ؛ (١) إذ ليس هو المبني بلا ، وأيضا ، بعد منها ، ولم يبن النعت الثاني وما بعده لانتفاء الأول (٢) والثالث ، ولانتفائهما لم يبن النعت المفصول من المبني بغير النعت أيضا ؛

وإنما لم يبن النعت المضاف ، والمضارع له ، لأنهما لا يبنيان إذا وليا «لا» اسمين لها فكيف يبنيان بجريهما مجرى اسمها؟

ولا نقول في هذا النعت المبني إنه مركب مع المنعوت كخمسة عشر ، لأنه يحتاج ، إذن ، في دفع الاعتراض الوارد في جعل ثلاث كلمات ، كلمة واحدة إلى تكلفات مستهجنة ؛

وقال ابن برهان ، والسيرافي ، تفصّيا (٣) من هذا ، ليست «لا» في هذا الموضع خاصة ، مركبة مع المنفي ، بل هي داخلة على الموصوف المركب مع صفته ، تعمل في محلهما ، كما تعمل في خمسة عشر ، إذا قلت : لا خمسة عشر ؛

ولنا مندوحة ، على ما ذكرنا ، من ارتكاب تركب «لا» مع المنفي في هذا الموضع وفي غيره ، وعن تركب المنفي ههنا مع نعته ؛

قوله : «ومعرب رفعا ونصبا» ، سواء كانت الصفة مفردة أو مضافة أو مضارعة لها ؛

وقال يحيى بن معط (٤) : صفة المبني المضافة ، منصوبة لا غير ، نحو : لا عبد كريم الحسب ؛ ولعلّه قاسها على صفة المنادى المبني المضموم مضافة ؛ ولفارق أن يفرق ، بأن «يا» لو باشرت المضاف ، لم يكن فيه إلا النصب فلزمه النصب لمّا وقع صفة ما باشرته ، ويجوز في المضاف الذي باشرته «لا» رفعه ، وذلك إذا كررت «لا» ، نحو : لا غلام

__________________

(١) أي الشروط المذكورة ؛

(٢) المراد : الأول في كلام ابن الحاجب وهو كونه النعت الأول ، وهو الثاني في كلام الرضي ؛

(٣) أي تخلصا مما أشار إليه الشارح من التكلف المستهجن في دفع الاعتراض الوارد على تركيب ثلاثة أشياء ؛

(٤) هو زين الدين يحيى بن معط من علماء النحو البارزين وهو الذي أشار إليه ابن مالك في مقدمة ألفيّته ، وأحد من شرحوا كتاب سيبويه وقال السيوطي في بغية الوعاة أنه بدأ في نظم صحاح الجوهري ولم يكمله ، توفي سنة ٦٢٨ ه

١٧٤

رجل في الدار ولا غلام امرأة ؛ فلم يلزمه النصب لمّا وقع صفة ما باشرته ؛ وأيضا ، الضم في المنادى بنائي ، فكان حمل وصفه ، المضاف ، الذي يجب نصبه لو وقع منادى ، على النصب الذي هو حركته الإعرابية ، واجبا ، بخلاف المنفي بلا ، فإن الفتح فيه بنائي على قول ، واعرابيّ ضعيف على آخر ، والرفع اعرابي فكان حمل وصفه المضاف ، الذي لا يمتنع رفعه لو وقع منفيا ، على الرفع الذي هو حركته الإعرابية جائزا ؛

وذهب ابن برهان إلى أن اسم «لا» إذا انتصب بكونه مضافا أو مضارعا له ، لم يجز رفع وصفه ، بل الواجب نصبه كالموصوف ، وإلى هذا ذهب المصنف ، كما مرّ في خبر «لا» التبرئة ؛ (١)

ومذهب ابن برهان ، أيضا ، أن رفع وصف مبنى «لا» في : لا غلام ظريف ، دليل على أن «لا» غير عاملة في محل الاسم ولا في الخبر ، بل هي ملغاة ، والخبر المقدر مرفوع بكونه خبر المبتدأ ، إذ لو عملت النصب في المبتدأ ، وهي مغيّرة معنى الكلام لكانت كليت ، ولعلّ ، وكأنّ ونحوها فلم يجز رفع وصف اسمها ، كما لم يجز رفع أوصاف أسماء تلك ، لانتفاء معنى الابتداء معها كلها ؛

ولقائل أن يفرق بين «لا» وبين ليت ولعلّ ونحوها ، بضعف عمل «لا» ، ألا ترى أنه يبطل بالفصل ، وبدخولها على المعرفة ، وبجواز الإلغاء مع التكرير ، ومن دونه أيضا ، على رأي المبرد ، فهي عامل ضعيف ، تعمل لمشابهتها بالمشبّهة ، أعني «إنّ» ، مشابهة ضعيفة ، فلا جرم ، يجوز اعتبار اسمها الأصلي (٢) ، أعني الرفع ، فعلى هذا يجوز : لا غلام أو : لا غلام رجل ظريف أو حسن الوجه ، فيرفع وصف المنفي ، مضافا كان المنفي أو مفردا ، ومضافا كان الوصف أو مفردا ؛

هذا ، والإعراب في النعت المذكور أكثر من البناء ؛

وإنما جاز الرفع ، حملا على المحل ، بل كان هو القياس ، لأن التوابع تتبع متبوعاتها

__________________

(١) ص ٢٩٠ من الجزء الأول ،

(٢) أي اعتبار محلّه ،

١٧٥

في الإعراب ، لا في الحركة البنائية ، نحو : جاءني هؤلاء الكرام بالرفع ،

وإنما جاز النصب حملا على الحركة البنائية لمشابهتها الإعرابية بعروضها مع عروض «لا» ، وزوالها بزوالها ، فكأنها عاملة محدثة لها ، كما مرّ في نحو : يا زيد الظريف ؛ ويجوز أن نقول : إن النصب في الصفة ، حملا على محل اسمها المنصوب ، لأنها تعمل عمل «انّ» فمحل اسمها المبني : رفع ونصب ،

قوله : «والعطف على اللفظ وعلى المحل جائز» ، لما قلنا في الصفة ، سواء ، هذا إذا لم يكن المعطوف معرفة ، فإن كان معرفة فرفعه واجب ، نحو : لا غلام لك والعباس ، وكذا في سائر توابع المنفي المبني ؛

ومن قال : ربّ شاة وسخلتها (١) ، لم يمنع نحو : لا غلام لك وأخاه ، لأن مثل هذا المضاف نكرة ، كما يجيئ في باب المعرفة ؛

ولا يجوز البناء في المعطوف ، كما جاز في الوصف ، لانتفاء مصحّح البناء ، وهو ما ذكرنا من اجتماع الأمور الثلاثة ، فلا يجوز : لا أب وابن ، كما قلت في النداء : يا زيد وعمرو ، وذلك لضعف «لا» عن التأثير إلّا فيما يليها ، أو كان في حكم ما يليها ، أي النعت المذكور ؛

على أنه قد نقل نحو : لا رجل وامرأة بالفتح في المعطوف ؛

وقياس قول من جعل العامل في خبر المبني نفس «لا» لا المبتدأ ، أنه لا يجيز رفع المعطوف حملا على المحل ، إلّا بعد الخبر ، كما في «إن» ؛

وقال الأندلسيّ : الذي بقي من التوابع بعد الوصف والعطف ، من البدل وعطف البيان والتوكيد اللفظي ، فلا نصّ لهم فيها ، لكن ينبغي أن يكون حكمها (٢) مع اسم «لا» النكرة :

__________________

(١) أي بعطف الاسم المشتمل على ضمير النكرة ، على تلك النكرة ،

(٢) أي التوابع الباقية ،

١٧٦

حكمها مع المنادى المضموم ، ففي البدل يجوز البناء إن كان مفردا نكرة ، نحو : لا رجل صاحب لي ،

وقال ابن مالك : البدل إن كان نكرة ، كان مرفوعا أو منصوبا ، وإن كان معرفة وجب رفعها ؛

وقول الأندلسيّ أقرب ، إذا لم يفصل البدل المفرد المنكّر عن المنفي لأنه لا يقصر عن النعت الذي يبنى جوازا ، إذا جمع الشرائط ، بل يربى (١) عليه من حيث كونه هو المقصود بالنسبة ؛

ولعلّ ابن مالك فرق بين البدل والوصف بأن الوصف متركب كالموصوف فتركيب «لا» مع الموصوف كثركيبها مع الوصف ، وأمّا البدل فيجعل المبدل منه في حكم الساقط ، فلا يبقى البدل مركبا مع المبدل منه لكونه في حكم الساقط ، ولا مع «لا» لأنها داخلة على البدل في التقدير ، والتركيب أمر لفظي لا تقديري ،

أقول : قد تقدّم أنه لم يقم دليل على التركيب بين «لا» واسمها ولا بين الوصف والموصوف ؛

وأمّا عطف البيان فهو البدل ، كما يجيئ في بابه ؛ ونذكر في باب البدل ، أنه يجوز اعتبار البدل تارة مستقلا ، وأخرى غير مستقل في باب «لا» التبرئة ، وباب النداء ، كما تقول : لا مثله أحد ، ولا كزيد رجل ، ولا كعمرو أحد ؛ قال امرؤ القيس :

٢٥٧ ـ ويلمّها في هواء الجوّ طالبة

ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (٢)

وهذا يدل على أنه يجوز رفع صفة المضاف ، حملا على المحل ، إذ لا فرق بين عطف البيان والوصف ، وإذا حملت على اللفظ قلت : لا مثله أحدا ولا كزيد رجلا ، ويجوز

__________________

(١) اي يزيد عليه ؛

(٢) من قصيدة له بدأها بوصف الخيل ومدحها. ثم أخذ يصف الفرس فشبهه بعقاب في الجو ، لاح لها ذئب ، فأخذت تطارده ، وقد عظم من شأن الذئب وشأن العقاب معا ، ليكون ذلك أقوى في تشبيه الفرس بالعقاب ، وقوله ويلمّها أصله : ويل أمها ، أو ويل لأمها ، وتقدم الكلام عليه في التمييز ؛

١٧٧

أن يحمل انتصاب مثل هذا على التمييز ، كما في قولك : لي مثله رجلا ، وملؤه عسلا ؛

وأمّا قول جرير :

٢٥٨ ـ يا صاحبيّ دنا الرواح فسيرا

لا كالعشية زائرا ومزورا (١)

فقيل : انتصاب «زائرا» بتقدير فعل ، أي : لا أرى كعشية اليوم ، أي كزائر عشية اليوم زائرا ، كما تقول : ما رأيت كاليوم رجلا ، وذلك أن العشية ليست بالزائر حتى يكون عطف بيان لها ؛

وأقول : مع تقدير : كزائر عشية اليوم زائرا ، صار الآخر هو الأصل الأول ، كما في قولك : لا كالعشية عشية وعشية ، فيجوز أن يكون «زائرا» تابعا على اللفظ ؛

وأمّا التأكيد فلا يجوز تأكيد المنفي المبني تأكيدا معنويا ، لأن المنكّر لا يؤكد ذلك التأكيد ، كما يجيئ في باب التأكيد ؛ وإن كان لفظيا فالأولى ، كما ذكرناه في المنادى : كونه على لفظ المؤكّد مجردا عن التنوين ، وجاز الرفع والنصب ، كما ذكرناه هناك ؛

وإن كرّرت مبنى «لا» بلا فصل بين الاسم وذلك المكرر ، ثم وصفت الثاني ، نحو : لا ماء ماء باردا ، فإن شئت بنيت الثاني ، نظرا إلى كونه تكريرا لفظيا ، وإن شئت أعربته رفعا ونصبا ، وذلك لأنك لمّا وصفته صار مع وصفه ، كأنه وصف للأول ، كالحال الموطئة في نحو قوله تعالى : (إنا أنزلناه قرآناً عربياً) (٢) ، فالإعراب في المكرر الموصوف أولى ، نظرا إلى كونه كالصفة ، من (٣) الإعراب في المكرر غير الموصوف ، وأمّا وصف المكرر ، أعني «باردا» فليس فيه إلّا الإعراب ؛

__________________

(١) من قصيدة لجرير يهجو الأخطل ، مطلعها :

صرم الخليل تباينا وبكورا

وحسبت بينهم عليك يسيرا

وفيها بيت من شواهد سيبويه ج ١ ص ٨١ وهو :

مشق الهواجر لحمهنّ مع الشرى

حتى ذهبن كلا كلا وصدورا

(٢) الآية الثانية من سورة يوسف

(٣) متعلق بقوله : أولى ،

١٧٨

[استعمال]

[لا أبا له ، وأمثالها]

[قال ابن الحاجب :]

«ومثل : لا أبا له ، ولا غلامي له ، جائز لشبهه بالمضاف»

«لمشاركته له في أصل معناه ، ومن ثمّ لم يجز : لا أبا فيها ،»

«وليس بمضاف لفساد المعنى ، خلافا لسيبويه» ؛

[قال الرضي :]

يعني أن الكثير أن يقال : لا أب له ، ولا غلامين له ، فيكونان مبنيّين ، على ما ذكرنا ، وجاز ، أيضا ، على قلّة ، لكن لا إلى حد الشذوذ ، في المثنى وجمع المذكر السالم ، وفي الأب والأخ من بين الأسماء الستة ، إذا وليها لام الجر : أن (١) تعطي حكم الإضافة بحذف نوني التثنية والجمع وإثبات الألف في الأب والأخ ، فيقال : لا غلامي لك ، ولا مسلمي لك ، ولا أبا له ، ولا أخا له ، فتكون معربة اتفاقا ؛

وأجاز سيبويه (٢) أن يكون : لا غلام لك ، مثله ، أعني أن يكون مضافا واللام زائدة فيكون معربا ؛

ثم اعلم أن مذهب الخليل وسيبويه ، وجمهور النحاة ، أن هذا المذكور مضاف حقيقة باعتبار المعنى ؛ فقيل لهم : اللام لا تظهر بين المضاف والمضاف إليه ، بل تقدر ؛ أجابوا بأن اللام ههنا ، أيضا مقدّرة ، وهذه الظاهرة تأكيد لتلك المقدّرة ، كتيم ، الثاني في : يا تيم تيم عديّ (٣) ، على مذهب من قال إن «تيم» الأول مضاف إلى «عديّ» الظاهر ،

__________________

(١) فاعل جاز في قوله : جاز أيضا على قلة ،

(٢) هذا مما جاء في سيبويه في الموضع الذي أشرنا إليه في أول هذا الباب

(٣) إشارة إلى الشاهد المتقدم في باب المنادي ، ص ٣٨٥ من الجزء الأول ،

١٧٩

فيكون الفصل بين المضاف والمضاف إليه كلا فصل ؛ فقيل لهم : ما الذي حملهم في هذه لإضافة على الفصل بين المضاف والمضاف إليه باللام المقحمة توكيدا دون سائر الإضافات المقدرة باللام ، أجابوا بأنهم قصدوا نصب هذا المضاف المعرّف ، بلا ، من غير تكريرها تخفيفا ، وحق المعارف المنفية بلا : الرفع مع تكرير «لا» ، ففصلوا بين المتضايفين لفظا ، حتى يصير المضاف بهذا الفصل ، كأنه ليس بمضاف ، فلا يستنكر نصبه وعدم تكرير «لا» ؛ والدليل على قصدهم (١) لهذا الغرض ، أنهم لا يعاملون هذه المعاملة : المنفيّ المضاف إلى النكرة ، فلا يقولون : لا أبا لرجل حاله كذا ، ولا غلامي لشخص نعته كذا ، والدليل على أنه مضاف ، قوله :

٢٥٩ ـ وقد مات شماخ ومات مزرّد

وأيّ كريم لا أباك يخلّد (٢)

فصرّح بالاضافة ، وهو شاذ ، لا يقاس عليه ، فلا يقال : لا أخاك ، و: لا يديك ، وقد جاء الفصل باللام المقحمة بين المضافين لهذا الغرض ، في المنادى ، وهو شاذ ، كقوله :

يا بؤس للجهل ضرارا بأقوام (٣) ـ ١٠١

قال المصنف : لا يجوز أن يكون مضافا حقيقة ، إذ لو كان كذا ، لكان معرفة ، فوجب رفعه وتكرير «لا» ؛ والجواب : لم يرفع ولم يكرر لكونه في صورة النكرة ، والغرض من الفصل باللام : ألّا يرفع ولا يكرّر (٤) ، فكيف يرفع ويكرر مع الفصل باللام ؛

وقال أيضا : لا أبا لك ، ولا أب لك ، سواء في المعنى اتفاقا ، و: لا أب لك ،

__________________

(١) أي قصد المتكلمين بهذا الكلام ،

(٢) المراد : شماخ بن ضرار الشاعر ، ومزرّد : أخوه ، وقوله يخلّد ، صوّب البغدادي أنه : يمتع من المتعة بالتاء أو يمنع من المنعة بالنون ، قال : لأن البيت من قصيدة لمسكين الدارمي ، ذكر فيها كثيرا ممّن ماتوا قبله وذكر أسماءهم وفيها مواعظ وحكم ، يقول فيها :

ولست بأحيا من رجال رأيتهم

لكل امرئ منهم حمام ومصرع

وقوله بأحيا ، أي بأطول حياة ؛

(٣) هذا شطر بيت للنابغة الذبياني وتقدم ذكره كاملا في الجزء الأول من هذا الشرح ص ٣٤٧

(٤) على البيان الذي نقله عن النحاة قريبا ؛

١٨٠