شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

المنفصل الغائب ، فحذفوا حركة الواو والياء من هو ، وهي ، وقلبوا ياء «هي» ألفا ، فصار «ها» ، لأن ضمير المذكر إذا ولي الكسر ، تقلب واوه ياء نحو : بهي ، لما نذكره ، فخافوا التباس المؤنث بالمذكر ؛

وحركة هاء المذكر ضمة ، إلّا أن يكون قبلها ياء أو كسرة ؛ فإن كان قبلها أحدهما فأهل الحجاز يبقون ضمتها ويقولون : بهو ، ولديهو ؛ وغيرهم يكسرونها ؛ وعلّته أن الهاء حرف خفيف فهو ، إذن ، حاجز غير حصين ، فكأن الواو الساكنة وليت الكسرة أو الياء ، فقلبت ياء ، وكسرت الهاء لأجل الياء بعدها ؛

وإن كان الساكن غير الياء ، فضم الهاء متفق عليه ، إلّا ما حكى أبو علي أن ناسا من بكر من وائل يكسرونها في الواحد والمثنى والجمعين نحو : منه ومنهما ومنهم ومنهنّ ، إتباعا للكسر ؛

وهذا هو الكلام في حركة الهاء ؛

وأمّا الكلام في اشباع حركتها وتركه ، فنقول : ننظر في هاء المذكر فإن وليت المتحرك أشبعت كسرتها نحو : بهي ، وبهو ، ولهو ، وضربهو ، وغلامهو ، فيتولّد من الضم واو ، ومن الكسر ياء ؛

وبنو عقيل ، وكلاب ، يجوّزون حذف الوصل ، أي الواو والياء بعد المتحرك اختيارا مع إبقاء ضمة الهاء وكسرتها ، نحو : به وغلامه ويجوّزون تسكين الهاء ، أيضا ، كقوله :

٣٧٢ ـ فبتّ لدى البيت العتيق أريغه

ومطواي مشتاقان له أرقان (١)

__________________

(١) هذا البيت لشاعر من شعراء الصعاليك اسمه يعلى الأحول الأزدي ، كان شريرا يجمع الصعاليك ويغزو بهم ويؤذي الناس فرفع أمره إلى والي مكة من قبل مروان بن عبد الملك ، وهو نافع بن علقمة ، وهو خال مروان فسجنه ، فقال قصيدة في سجنه يتشوق فيها إلى مكة وإلى حياته التي كان يحياها أولها :

أويحكما يا واشي أم معمر

بمن وإلى من جئتما تشيان

ثم تحدث عن برق يجيء من ناحية مكة ويقول إنه ظل يترقبه هو وصديقان كانا معه وقوله أريغه أي أطلبه وقوله مطواي بكسر الميم مثنى مطو وهو الرفيق او النظير ولهذا كله قصة ذكرها البغدادي في خزانة الأدب ؛ وفي بعض الروايات : ومطواي من شوق له أرقان ، ولا شاهد فيه حينئذ ؛

٤٢١

وغيرهم يجوّزونهما ، أي اختلاس الحركة وحذفها لضرورة الشعر ، لا اختيارا ؛

وإن وليت هاء الضمير ساكنا ، حرف لين كان الساكن كعليه أو غيره كمنه ، فالمختار : اختلاس الحركة ، أي ترك الوصل ، لأن الهاء حرف خفي ، كما قلنا ، فكأنه التقى ساكنان.

وابن كثير (١) ، يصل مطلقا ، نحو : عليهي ، ومنهو ، ونحوهما ،

فعلى هذا ، تجيء في هاء المذكر الذي بعد الكسرة أو الياء ، باعتبار ضمها وكسرها ، واختلاسها ووصلها : أربع لغات ، والكسر أشهر وأكثر ؛

الأولى : كسر الهاء من غير وصل بياء ، وهو بعد الياء أكثر منه بعد الكسر لأنه في الأول شبه التقاء الساكنين ؛

والثانية : كسرها مع وصلها بياء نحو : بهي وعليهي ، وهو بعد الكسر أشهر منه بعد الياء ، لما ذكرنا ؛

والثالثة : ضم الهاء بلا واو ، نحو : عليه ، وبه ؛

والرابعة : ضم الهاء مع الواو نحو : عليهو ، وبهو ؛

ويجيء فيها إذا كانت بعد الكسر لغة خامسة ، وهي إشمام كسر الهاء شيئا من الضم ، بلا وصل (٢) ؛

وإن حذف قبل هاء المذكر حرف لين جزما نحو : يرضه وتصله أو وقفا (٣) نحو : فألقه ، وأغزه : جاز اشباع حركة الهاء ، اعتبارا بالمتحرك قبلها في اللفظ ، وجاز اختلاسها ، اعتبارا بالساكن المحذوف قبلها عارضا ، وجاز إسكان الهاء ، إجراء للوصل مجرى الوقف وقد قرئ بها كلها في الكتاب العزيز (٤) ؛

__________________

(١) عبد الله بن كثير المكي أحد القراء السبعة ، وهو من التابعين توفي سنة ١٢٠ ه

(٢) الاشمام في عرف القراء مما لا يدرك إلا بالبصر ، لمن ينظر إلى المتكلم فيرى اشارته إلى الضم بشفتيه ،

(٣) يريد بالوقف البناء المقابل للإعراب

(٤) من ذلك قوله تعالى في سورة النور ، الآية ٥٢ «وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ ـ ـ الفائزون» ؛ حيث قرأ غير حفص بكسر القاف مع اختلاس حركة الهاء ، عند قالون ، واشباعها عند الباقين غير أبي عمرو ، فقد أسكنها ، وأما حفص فقد أسكن القاف مع تحريك الهاء مختلسا حركتها ؛ وجاء بعض هذه الأوجه لبعض القراء غير السبعة ،

٤٢٢

وأمّا الهاء في المثنى والجمعين ، فإن كان قبلها فتحة أو ضمة فهي مضمومة لا غير ، نحو : لهما وغلامهم ، وإن كان ألف أو واو ، أو ساكن صحيح فكذلك ، إلّا ما حكى أبو علي من نحو : منهما واضربهما واضربهم ، على ما مضى ، للاتباع وعدّ الحاجز غير حصين لسكونه ؛

وإن كان قبلها كسرة أو ياء ، فمن قال في الواحد : بهو وعليهو وهم أهل الحجاز ، قال في المثنى والجمعين أيضا بضم الهاء ، نحو : إن غلاميهما وغلاميهم وبغلامهما وبغلامهم.

وحمزة (١) ، يخص بالضم في جمع المذكر : ثلاث كلمات : عليهم ، وإليهم ولديهم ، قيل (٢) : ذلك لكون الياء فيها بدلا من الألف ، فأعطى الياء حكم أصلها ، وقد جاء : علاه ، وإلاه ، ولداه ، على الأصل ؛

وكان يجب ، على هذا التعليل أن يقرأ ، في الواحد والمثنى وجمع المؤنث : عليه وعليهما وعليهن ، ولم يقرأ ، ولعلّ ذلك لاتباع الأثر ؛

وغير أهل الحجاز يكسرون الهاء في المثنى والجمعين مطلقا ، كما في الواحد ، وهو الأشهر ؛

هذا كله في حركة الهاء ؛ وأمّا ميم الجمع التي بعد الهاء المكسورة فلا يخلو من أن تقف عليها ، أو ، لا ؛

فإن وقفت عليها ، فلا بدّ من تسكين الميم بعد حذف صلتها وكذلك جميع الضمائر : تحذف صلاتها في الوقف ، نحو : ضربه ، وبه ، وبكم ، إلّا في الألف في : ضربتها ، وبها ،

__________________

(١) هو حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة وتقدم ذكره ،

(٢) يعني في تعليل ما قرأ به حمزة ، ولم يرتضه الشارح واختار تعليلا غيره بقوله : ولعل ذلك لاتباع الأثر ،

٤٢٣

وإن لم تقف عليها ، فلا يخلو من أن يكون بعدها ، متحرك أو ساكن ، ؛ فإن كان بعدها ساكن ، فكسر الميم لإتباع كسر الهاء ، ولالتقاء الساكنين أقيس ، نحو : (مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ)(١) ، و: (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)(٢) ، على قراءة أبي عمرو (٣) ؛ وباقي القرّاء على ضم الميم ، نظرا إلى الأصل ؛

وإن ، كان بعدها متحرك ، فالإسكان أشهر ، نحو : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(٤) ، وبعضهم يشبع ضمّ الميم نحو : عليهمو غير المغضوب عليهمو ، كقراءة ابن كثير ، واشباع الكسر في مثله أقيس للاتباع ؛

فصار للميم بعد الهاء المكسورة خمسة أحوال : حالتان قبل الساكن ، الكسر والضم ، كلاهما مع اختلاس ، أي ترك الوصل ، وثلاث قبل المتحرك : السكون ، واشباع الضم ، واشباع الكسر ؛

وكذا إن كان الميم بعد الهاء المضمومة في نحو : بهم وعليهم في لغة أهل الحجاز ؛ وفي نحو : غلامهم ، ولهم ، وقفاهم ، على ما هو متفق عليه ؛ وفي نحو منهم على الأشهر ، وكذا في : أنتم ، وضربتم ، وغلامكم ، فلها ، أيضا ، خمسة أحوال : حالتان قبل الساكن : الضم وهو الأقيس والأشهر ، للاتباع والنظر إلى الأصل ، والكسر نظرا إلى الساكنين ؛ وهو في غاية القلة ، ومنعه أبو علي (٥) ، وثلاث قبل المتحرك : الأولى الاسكان وهو الأشهر ، الثانية ضمها ووصلها بواو ، الثالثة ، وهي مختصة بميم قبل هائها كسرة أو ياء : كسر الميم ووصلها بياء ، نحو : عليهمي ، وبهمي ؛ فكسر الميم لمجانسة الياء أو الكسرة قبل الهاء ، وقلب الواو ياء لأجل كسر الميم ، ومنعها ، أيضا ، أبو علي ؛

ثم لما فرغوا من وضع المنصوب المتصل ، أخذوا في وضع المنصوب المنفصل ، فجاءوا

__________________

(١) الآية ٢٣ سورة القصص ،

(٢) من الآية ١١٢ سورة آل عمران ،

(٣) المراد أبو عمرو بن العلاء ، المازني البصري أحد القراء السبعة توفي سنة ١٨ ه‍ من زعماء النحو المتقدمين ،

(٤) الآية الأخيرة من سورة الفاتحة ،

(٥) أي الفارسي ،

٤٢٤

بإيّا ، متلوّا بصيغة ضمير المنصوب المتصل ؛

واختلف النحاة فيه ، ؛ فقال سيبويه ، والخليل ، والأخفش والمازني ، وأبو علي : إن الاسم المضمر هو «إيّا» ، إلّا أن سيبويه قال : ما يتصل به بعده حرف يدل على أحوال المرجوع إليه ، من التكلم والخطاب والغيبة ، لما كان «إيّا» مشتركا ؛ كما هو مذهب البصريين في التاء التي بعد «أن» في : أنت ، وأنت ، وأنتما ، وأنتم ، وأنتنّ ، وقد مضى ؛

وقال الخليل والأخفش والمازني : ما يتصل به أسماء ، أضيف «إيّا» إليها ، لقولهم : «فايّاه وإيّا الشواب» (١) ، وهو ضعيف ، لأن الضمائر لا تضاف ؛

وقال الزجاج والسيرافي : «إيّا» اسم ظاهر مضاف إلى المضمرات كأنّ «إيّاك» بمعنى نفسك ؛

وقال قوم من الكوفيين ؛ إياك ، وإياه ، وإياي : أسماء بكمالها ، وهو ضعيف ، إذ ليس في الأسماء الظاهرة ، ولا المضمرة ما يختلف آخره كافا ، وهاء وياء ؛

وقال بعض الكوفيين ، وابن كيسان (٢) من البصريين : إن الضمائر هي اللاحقة بإيّا ، وإيّا ، دعامة لها ، لتصير بسببها منفصلة ، وليس هذا القول ببعيد من الصواب ، كما قدمناه ، في : أنت ؛

وقد تفتح همزة «إيّا» ، وقد تبدل الهمزة ، مفتوحة ومكسورة ، هاء ؛ ثم حملوا ضمير المجرور على المنصوب ، لأن المجرور مفعول لكن بواسطة ، وحملوه على لفظ المنصوب المتصل ، لوجوب كون المجرور متصلا على ما مضى ؛ فضمير المجرور مثل ضمير المنصوب المتصل ، سواء (٣) ؛

__________________

(١) من كلام العرب : إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياه الشواب جمع شابة وهي المرأة الصغيرة ، وروي فإياه وإيا السوءات : جمع سوأه وهي الخصلة القبيحة ،

(٢) ممن تقدم ذكرهم في هذا الجزء وفي الجزء الأول ؛

(٣) تقديره : هما سواء ؛ وبهذا انتهت قصة الضمائر وما تخيّله الرضي في كيفية وضعها والتدرج فيه خطوة خطوة ، ورحم الله هذا العالم القدير وما أبرعه ؛

٤٢٥

[مواضع استتار الضمير]

[قال ابن الحاجب :]

«فالمرفوع المتصل خاصة ، يستتر في الماضي للغائب والغائبة»

«وفي المضارع للمتكلم مطلقا ، والمخاطب والغائب ، وفي»

«الصفة مطلقا» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أنه لا يستتر من المضمرات إلا المرفوع ، لأن المنصوب والمجرور فضلة لأنهما مفعولان ، والمرفوع فاعل ، وهو كجزء الفعل ، فجوّزوا في باب الضمائر المتصلة التي وضعها للاختصار : استتار الفاعل ، لأن الفاعل ، وخاصة الضمير المتصل ، كجزء الفعل ، فاكتفوا بلفظ الفعل عنه ، كما يحذف في آخر الكلمة المشتهرة شيء ، ويكون فيما بقي دليل على ما ألقي كما مضى في الترخيم ؛

وعلة استتاره فيما يستتر فيه قد مضت (١) ؛ ولا يظهر ، أصلا ، الضمير المتصل في غائب الماضي وغائبته ، وفي المضارع في : أفعل ، ونفعل ، ويفعل وتفعل مخاطبا وغائبة ، وافعل ، وفي جميع الصفات وأسماء الأفعال والظروف ، وفي خمسة منها لا يظهر الفاعل ، لا ظاهرا ولا مضمرا ، وهي : أفعل ، ونفعل ، وتفعل مخاطبا ، وافعل ، أمرا ، واسم فعل الأمر مطلقا ، ، أي في الواحد والمثنى والمجموع ، وما يظهر في نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(٢) ، تأكيد للمستتر ، لا فاعل ، بدليل أنك لا تقول ، : لا أفعل إلا أنا ، ولا تفعل إلا أنت ،

وفي : فعل ، وفعلت ، ويفعل ، ، وتفعل للغائبة ، ، يظهر الفاعل المظهر والضمير المنفصل ، نحو : رب زيد ، وما ضرب إلا هو ، وتضرب هند ، ، وما يضرب إلا هي ، وكذا في

__________________

(١) في أول الكلام على كيفية وضع الضمائر ؛

(٢) من الآية ٣٥ سورة البقرة ،

٤٢٦

الصفة المفردة ، نحو : أقائم الزيدان وما قائم هما ، وكذا في الظرف عند أبي علي ، إذا اعتمد ، نحو : أفي الدار زيد ، وما في الدار إلا هو ، وكذا في اسم الفعل إذا كان خبرا (١) ؛ يظهر الفاعل الظاهر ، نحو : هيهات زيد ، والضمير المنفصل ، نحو : هيهات هما ؛

[لا فصل]

[مع إمكان الوصل]

[قال ابن الحاجب :]

«ولا يسوغ المنفصل إلا لتعذر المتصل ، وذلك بالتقديم على»

«عامله وبالفصل لغرض ، أو بالحذف ، أو بكون العامل»

«معنويا ، أو حرفا والضمير مرفوع ، أو بكونه صفة جرت»

«على غير من هي له ، نحو : إياك ضربت ، وما ضربك إلا»

«أنا ، وإياك والشر ، وأنا وزيد ، وما أنت قائما ، وهند زيد»

«ضاربته هي» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أن أصل الضمائر : المتصل المستتر ، لأنه أخصر ، ثم المتصل البارز عند خوف اللبس بالاستتار ، لكونه أخصر من المنفصل ، ثم المنفصل عند تعذر الاتصال ؛ فلا يقال : ضرب أنا ، لأن «ضربت» مثله معنى وأخصر منه لفظا ؛

أقول : الضمير المرفوع والضمير المنصوب ، يصلحان ، كما مرّ لأن يكونا متصلين ومنفصلين ، دون الضمير المجرور ؛ فلنذكر مواقعهما ، فنقول :

إن الأصل في الضمير المرفوع والمنصوب أن يتصلا بالفعل ، لأن المتصل كما مرّ كالجزء الأخير من الكلمة التي يليها ، وكون الشيء كجزء الكلمة إنما يتم ، إذا كانت

__________________

(١) وهو ما عدا صيغة اسم فعل الأمر ؛ وقوله إذا كان خبرا ، يعني في كلام خبريّ ،

٤٢٧

مقتضية له بالأصالة ، ومن حيث الطبع والذات ، والفعل مقتض للمرفوع كذلك ، ومن ثمّة لا يخلو منه فعل ، فصحّ أن يجعل الضمير المرفوع كالجزء الأخير منه ؛ وأمّا سائر ما يرفع ، فهو إمّا ابتداء ، عند البصريين ، ولا يصح اتصال المرفوع به لأن المتصل كالجزء من الكلمة المتقدمة ، والابتداء معنى وليس بكلمة ؛ وإمّا مبتدأ وخبر ، كما اخترنا في أول الكتاب (١) ، والمتبدأ اسم ، وليس الاسم في اقتضاء المرفوع كالفعل ، إذ ليس كل اسم رافعا ، والخبر إمّا اسم وإمّا جملة ، وليس المرفوع ، أيضا ، من لوازم أحدهما ؛

وأمّا «ما» الحجازية ، فليست ، أيضا ، كالفعل في طلب المرفوع ، إذ هي حرف نفي ، ودخولها على الفعل أولى ، ومن ثمّ كان النصب في : ما زيدا ضربته ، أولى من الرفع ، وأيضا ، عملها للرفع بالمشابهة لا بالأصالة ؛

وأمّا «إنّ» وأخواتها ، فالاسم المرفوع بها لا يجوز اتصاله بها نحو إن زيدا أنت ، لما عرفت (٢) ، فلم يكن الضمير المرفوع بهذه الأشياء ، إذن ، إلا منفصلا ،

وأمّا اسم الفاعل ، أو اسم المفعول ، أو الصفة المشبهة ، أو المصدر ، أو اسم الفعل ، أو الظرف ، أو الجار والمجرور فهي ، أيضا ، لا ترفع بالذات ، بل بالحمل على الفعل ، ويتصل المرفوع ، من هذه الأشياء ، بغير المصدر ، لكن بشرط الاستتار ، كما يجيء ، وكذا نقول : الفعل هو المقتضي للمنصوب بالأصالة ؛ وسائر ما ينصب الضمائر وهو إنّ وأخواتها ، وما الحجازية نحو : ما زيد إياك ، واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر واسم الفعل : إنما تنصب (٣) بمشابهة الفعل والحمل عليه ؛

وكان حق المنصوب ، أيضا ، ألّا يتصل إلا بالفعل ، أو الأسماء المشبهة له ، كالمرفوع (٤) ، لطلب الفعل له بالذات ، والبواقي بالحمل عليه ، لكنه لما جاز في الأصل ، أي الفعل :

__________________

(١) اختار الرضي في الكلام على العوامل ، أن المبتدأ والخبر يترافعان وعزّر هذا الرأي وأجاب عن كل ما يمكن أن يرد عليه ، انظر ص ٦٦ من الجزء الأول ؛

(٢) وهو أن العمل فيها بالحمل لا بالأصالة ؛

(٣) خبر عن قوله : وسائر ما ينصب ،

(٤) أي كما لا يتصل المرفوع بهذه الأشياء ،

٤٢٨

أن يتصل به مع استغنائه عنه لكونه فضلة ، جاز اتصاله بغير الفعل أيضا ، إذا شابهه ، كما يجيء ؛

فإذا تقرر هذا قلنا : الضمير المرفوع والمنصوب ؛ إمّا أن يعمل فيهما الفعل أو غيره ، وفي الأول يجب اتصاله بعامله إلّا في ثلاثة مواضع : الأول : إذا تقدم على عامله ، ولا يكون إلا منصوبا ، نحو : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)(١) ؛

الثاني : إذا كان الفعل محذوفا نحو قولك : إن إيّاه ضربت ، وإن أنت ضربت ، ونحو : إياه ، لمن قال : من أضرب؟ ؛ وقد مرّ في باب التحذير أنّ : إياك والأسد ، من باب تقدّم المفعول على ناصبه ؛

وإنما لزم الانفصال في الموضعين ، لأن الضمير المتصل هو ما يكون كالجزء الأخير من عامله ، فإذا لم يكن قبله عامل ، بل كان (٢) إمّا مؤخرا أو محذوفا فكيف يكون كالجزء الأخير من عامله ؛

الثالث : إذا فصل عن عامله لغرض لا يتم إلّا بالفصل ، وذلك في مواضع ، منها : أن يكون تابعا : إمّا تأكيدا ، نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(٣) ، ولقيتك إيّاك ؛ أو بدلا ، كقولك بعد ذكر لفظة «أخيك» : لقيت زيدا إيّاه ؛ أو عطف نسق نحو : جاءني زيد وأنت ؛ ولا يقع الضمير وصفا كما تقدم ؛

ومنها : أن يقع بعد «إلّا» نحو : ما ضربت إلا إيّاك ، وما ضرب إلّا أنا ؛ وأمّا قوله :

٣٧٣ ـ وما نبالي إذا ما كنت جارتنا

ألّا يجاورنا إلّاك ديّار (٤)

فشاذ لا يقاس عليه ؛

وكذا إذا وقع بعد معنى «إلّا» كقوله :

__________________

(١) من الآية ٥ سورة الفاتحة ،

(٢) بل كان أي العامل في الأمور التي ذكرها ؛

(٣) جزء من الآية ٣٥ من سورة البقرة ، وتكرر ذكرها ؛

(٤) قال البغدادي عن هذا البيت انه مجهول القائل ؛

٤٢٩

٣٧٤ ـ كأنّا يوم قرّى إنّ

ما نقتل إيّانا (١)

ومنها : أن يلي «إمّا» ، نحو : جاءني إمّا أنت أو زيد ، ورأيت إمّا إيّاك أو عمرا ، والغرض منها : (٢) إفادة الشك من أول الأمر ؛

ومنها : أن يكون (٣) ثاني مفعولي «علمت» ، أو «أعطيت» ويورث اتصال الضمير : التباسه بالمفعول الأول ، كما إذا أخبرت (٤) عن المفعول الثاني في : علمت زيدا أباك ، وأعطيت زيدا عمرا ، قلت : الذي علمت زيدا إيّاه : أبوك ، والذي أعطيت زيدا إيّاه : عمرو ، ولا يجوز أن تقول : الذي علمته زيدا ... ولا : الذي أعطيته زيدا ... لأنه يلتبس المفعول الثاني بالأول ؛

فأمّا إذا لم يلتبس ، فالاتصال في باب «أعطيت» أولى ، والانفصال في باب «علمت» (٥) ، كما إذا أخبرت عن المفعول الثاني في : أعطيت زيدا درهما ؛ فقولك : الذي أعطيته زيدا : درهم ، أولى من قولك : الذي أعطيت زيدا إيّاه : درهم ، لأنك تقدر على المتصل بلا مانع من فساد اللفظ والمعنى ؛ ومن جوّز المنفصل (٦) ، فتوطئة لإزالة اللبس في المفعولين اللذين يحصل فيهما اللبس بالاتصال نحو : أعطيت زيدا عمرا ؛

وإذا أخبرت عن الثاني في : علمت زيدا قائما ، فقولك : الذي علمت زيدا إيّاه :

__________________

(١) من شعر لذي الإصبع العدواني يصف موقعة جرت بين قومه وبين أعداء لهم أقوياء : وفيه يقول :

لقينا منهم جمعا

فأوفى الجمع ما كانا

كانا يوم قرى إنما نقتل إيانا

وقرى اسم موضع جرت فيه هذه المعركة ثم يقول :

قتلنا منهم كلّ فتى أبيض حسّانا

(٢) أي من «إمّا» أي من تقديمها ؛

(٣) أي الضمير الذي يجب فصله ،

(٤) المراد الاخبار الذي يعبّرون عنه بالتدريب وهو جعل شيء خبرا عن شيء وليس المراد الإخبار الذي يكون فيه اللفظ خبرا عن مبتدأ بالمعنى الاصطلاحي ، وهو باب مشهور ؛ وسيأتي في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

(٥) أي أولى.

(٦) يعني في حالة عدم اللبس ،

٤٣٠

قائم ، أولى من قولك : الذي علمته زيدا قائم ، وذلك للتوطئة المذكورة ، أو لرعاية أصل المفعول الثاني ، إذ العامل فيه ، في الأصل ، ما يجب انفصاله عنه ، كما في : كنت إيّاه على ما يجيئ ؛

وإن كان الضمير مع غير الفعل ، فإمّا أن يكون مرفوعا أو منصوبا ؛ فالمرفوع لا يكون إلا منفصلا ، إذا كان مبتدأ ، أو خبرا ، أو خبر «انّ» وأخواتها ، أو اسم «ما» لما مرّ ،

وأمّا إذا ارتفع باسم الفاعل أو المفعول ، أو الصفة المشبهة أو اسم الفعل ، أو الظرف ، أو الجار والمجرور ، فإن فصل عن عامله لغرض لا يتمّ إلا بالفصل ، كما ذكرنا في الفعل : وجب انفصاله ، نحو : زيد قائم أخوه وأنت ، وضارب إمّا هو أو أخوك ، وهيهات زيد وأنت ، ومررت برجل في الدار أخوه وأنت ؛

ومثله الضمير البارز بعد الصفة إذا جرت على غير (١) ما هي له ، فإنه تأكيد للضمير المستكن فيها ، لا فاعلها ، كما في : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)(٢) ، وذلك لأنك تقول مطردا نحو : الزيدون ضاربوهم نحن ، والزيدان ، الهندان ضارباهما ، هما ؛ وقد عرفت ضعف نحو : جاءني رجل قاعدون غلمانه (٣) ؛ وقال الزمخشري في أحاجيه (٤) ، بل تقول : ضاربهم نحن ، وضاربهما ، هما ، فإن ثبت ذلك (٥) فهو فاعل ، كما قيل ؛

وكذا يجب انفصال الضمير المرفوع بالصفة والظرف ، إذا كانا مع المرفوعين جملتين ، وذلك إذا اعتمدا على همزة الاستفهام أو حرف النفي نحو : ما قائم أنتما ، و: أقدّامك

__________________

(١) التعبير بما ، ليعم كل الصور كما إذا كانت الصفة الجارية على غير ما هي له لغير عاقل ؛

(٢) تكرر ذكرها وتقدمت قبل قليل ،

(٣) تقدم ذلك في باب النعت

(٤) لجار الله الزمخشري كتاب اسمه : الأحاجي النحوية والأحاجي جمع أحجية وهي ما يشبه اللغز ،

(٥) أي ما رآه الزمخشري ؛ وقد جاء المثال الثاني في النسخة المطبوعة : وضارباهما ، هما وصححناه ليكون متفقا مع ما قاله الزمخشري ؛

٤٣١

هما ، و: أفي الدار أنتما ، عند أبي علي (١) ، وذلك لأنه يعرض لهما ، إذن ، كونهما مع مرفوعيهما جملتين ، فاعتني بالمرفوع لكونه أحد جزأي الجملة ، فأظهر ، إذن ، إلى اللفظ ، فرقا بينه ، كائنا أحد جزأي الجملة ، وبينه إذا لم يكن كذلك ، بخلاف اسم الفعل ، فإن الضمير المرفوع به : أحد جزأي الجملة أبدا ، فلم يحتج إلى الفرق ، فاطراد استكنان الضمير فيه على ما هو حقّ ما شابه الفعل ، كما يجيئ ؛

فإن لم يفصل الضمير عن عامله (٢) ، ولم يرتفع بالصفة والظرف المعتمدين ، على ما مرّ ، وجب اتصال المرفوع بهما ، لكون اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم الفعل ، والظرف وأخيه : سادّة مسدّ الأفعال من غير حاجة إلى ضميمة ، كما احتاج المصدر في تقديره بالفعل إلى «أن» ؛

لكن لا يكون هذا المتصل بهذه الأشياء إلا مستكنّا ، لكونها أضعف من الفعل في اقتضاء المرفوع ، إذ هي فروع عليه في ذلك ، فلم يجعل المرفوع بها كجزء من أجزائها في الظاهر ، كما جعل في الأصل الذي هو الفعل كذلك ؛

وأمّا الضمير المرفوع بالمصدر فلا يكون إلا منفصلا ، وإن وليه بلا فصل ، لأنه لا يقدّر بالفعل إلا مع ضميمة «أن» ، تقول : أعجبني ضرب أنت زيدا ، إذا لم تضف ، والإضافة أكثر ، لأن الكلام بها أخفّ ، وأعجبني الضرب أنت زيدا ؛

هذا كله في الضمير المرفوع مع غير الفعل ؛

وأمّا الضمير المنصوب ، فكان حقه ، أيضا ، ألّا يتصل إلا بالفعل كالمرفوع ، لطلب الفعل له بالذات ، والبواقي بالحمل عليه ، لكنه لما جاز في الأصل الذي هو الفعل : أن يتصل به مع استغنائه عنه لكونه فضلة ، جاز اتصاله بغير الفعل ، أيضا ، إذا شابهه ؛

فإذا كان مع غير الفعل ، فإن كان العامل مما وجب إنفصاله عن المنصوب وضعا ،

__________________

(١) أي الفارسي واشتهرت نسبة هذا الرأي له ،

(٢) الصورة الثانية لارتفاع الضمير بغير الفعل ؛

٤٣٢

كما ، الحجازية ، نحو : ما زيد إيّاك ، أو فصل بينهما لغرض لا يتمّ إلا بالفصل ، وجب انفصاله ، كما ذكرنا في ضمير الفعل ، نحو : ما أنا ضارب إلّا إيّاك ، وأنا ضارب إمّا إيّاك وإمّا زيدا ، وأنا ضاربك إيّاك ؛

وإن لم يكن كذلك ، فلا يخلو من أن يكون الناصب حرفا ، أو اسم فعل ، أو مصدرا ، أو صفة ؛ فالحرف يجب اتصال الضمير به نحو : إنك قائم ، وإنك في الدار ، وليتك قاعد ، ولا تقول : إن في الدار إياك ، وذلك لأن الحرف غير مستقل ، فالاتصال به واجب مع الإمكان ؛

وكذا يجب الاتصال باسم الفعل ، كقوله :

تراكها من إبل تراكها (١) ـ ٣٥١

وتقول : رويده ، وحيهله ، وحكى يونس : عليكني ؛

وإنما وجب الاتصال في القسمين ، لما ذكرنا من أن المنفصل لا يجيء إلا عند تعذر المتصل ؛ وجاز ، أيضا ، الانفصال فيما اتصل به الكاف (٢) من أسماء الأفعال ، نحو : رويدكه ، ورويدك إياه ، وعليكه وعليك إيّاه ، تشبيها بنحو : أعطاك إياه ، كما يجيء ، وإن لم يكن الكاف ذلك الكاف ؛ (٣)

وأما المصدر ، فإن كان منونا : لم يتصل المنصوب به مع التنوين ، للتضادّ بين التنوين الدال على تمام الكلمة ، والضمير المتصل الدال على عدم تمامها ، مع ضعف مشابهة المصدر للفعل ، فيجب أن تقول : أعجبني ضرب إيّاك ، إن لم تضف ، والإضافة أكثر ؛

ولا يمتنع ، على ما هو مذهب الأخفش في نحو ضاربك وضارباك ، وضاربوك ، أن يكون حذف التنوين في : ضربك ، أيضا ، للمعاقبة ، (٤) لا للاضافة ؛ فيكون الضمير

__________________

(١) تقدم هذا الشاهد في هذا الجزء

(٢) المراد : كاف الخطاب التي تتصل باسم الفعل وتتصرف بحسب حال المخاطب ،

(٣) لأن المتصلة باسم الفعل حرف وتلك اسم ،

(٤) يعني أنه يعاقب الإضافة في دلالة أحدهما على تمام الاسم والآخر على عدم التمام ،

٤٣٣

منصوبا ، كما مرّ في باب الإضافة ؛ (١)

وإن كان المصدر ذا لام ، فالأشهر انفصال الضمير بعده نحو : أعجبني الضرب إيّاك ، لمعاقبة الألف واللام للتنوين في تمام الكلمة ؛

وجوّز الأخفش : الضربك ، والضمير منصوب ؛

وأمّا اسما الفاعل والمفعول ، ففي اتصال الضمير بهما ، منوّنين كانا أو ، لا : خلاف ، كما مضى في باب الإضافة (٢) ، واتصاله بهما أولى من اتصاله بالمصدر ، لكون مشابهتهما للفعل أكثر من مشابهة المصدر له ، تقول : ضاربك ، وضارب إياك ، والضاربك والضارب إيّاك ، والمعطى إياك والمعطاك ، ومعطىّ إيّاك ومعطاك ؛

وأمّا الظرف ، والجار والمجرور ، فلكونهما قائمين مقام الفعل اللازم ، لا يجيء بعدهما ضمير منصوب بهما ؛

ولنعد إلى شرح ما يحتاج إلى الشرح من كلام المصنف ،

قوله : «أو بالفصل لغرض» ، احتراز عن نحو : ضرب زيد إيّاك ، فإنه يجوز ذلك مع وجود الفصل ، وذلك لأن الفصل لا غرض فيه ، إذ قولك : ضربك زيد ، بمعناه ؛

فإن قلت : أليس ذكر الفاعل قبل المفعول مفيدا أن ذكر المفعول ليس بأهمّ ، ولو ذكرت المفعول قبل الفاعل أفاد أن ذكر المفعول أهم؟

قلت : تقديم المفعول على الفاعل لا يفيد ذلك ، بل قد يكون لاتساع الكلام ؛ بلى ، قيل إن تقديم المفعول على الفعل يفيد كونه أهمّ ، والأولى أن يقال : إنه يفيد القصر كقوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ)(٣) ، أي : لا تعبد إلّا الله ؛ وكذا تقول في المفعول المطلق : ضربته

__________________

(١) في هذا الجزء ؛ ص ٢٣٣.

(٢) في هذا الجزء ؛ ص ٢٣٣.

(٣) من الآية ٦٦ في سورة الزمر ،

٤٣٤

زيدا ، أي ضربت زيدا ضربا ، ولا تقول : ضربت زيدا إياه ، وكذا تقول : يوم الجمعة لقيت زيدا ، ولا تقول : لقيت زيدا إياه ،

وأما نحو قوله :

٣٧٥ ـ بالباعث الوارث الأموات ، قد ضمنت

إيّاهم الأرض في دهر الدهارير (١)

فضرورة ؛

قوله : «أو بكونه مسندا إليه صفة جرت على غير من هي له» ، قد ذكرنا أنه ليس بمسند إليه الصفة ، بل هو تأكيد للمسند إليه ؛

ثم نقول : إنما برز هذا الضمير : تأكيدا إذا جرت الصفة على غير من هي له ، ونعني بالصفة : اسم الفاعل واسم المفعول ، والصفة المشبهة ؛

ونعني بالجرى أن تكون نعتا ، نحو : مرّت هند برجل ضاربته هي ، أو حالا نحو : جئتماني وجاءني زيد ضاربيه أنتما ؛ أو صلة نحو : الضاربه أنت : زيد ، أو خبرا نحو : زيد هند ضاربها هو ؛

فنقول : إذا اختلف ما جرى عليه متحمّل الضمير المؤكد ، وما هو له في الإفراد وفرعيه ، أعني التثنية والجمع ، وفي التذكير وفرعه أي التأنيث ، فلا لبس ، سواء كان المتحمّل للضمير صفة أو فعلا ، نحو : زيد هند ضاربها هو ، أو : يضربها هو ، فلو لم تأت بالضمير في : ضاربها ، أيضا ، لعلم أن الضارب لزيد ، (٢) لا لهند ؛

__________________

(١) قوله بالباعث ، متعلق بقوله : إني حلفت في بيت قبله وهو :

إني حلفت ولم أحلف على فند

فناء بيت من الساعين معمور

وفناء بيت تقديره في فناء بيت ، يريد به الكعبة ، ودهر الدهارير أي الدهر الطويل القديم ، والمقسم عليه هو قوله بعد ذلك :

لو لم يبشّر به عيسى وبيّنه

كنت النبيّ الذي يدعو إلى النور

وهو من قصيدة للفرزدق في مدح يزيد بن عبد الملك ، وقد بالغ في مدحه إذ يقول انه لو لا أن عيسى عليه السّلام بشر بالنبي محمد لكنت أنت هذا النبي ؛

(٢) يعني أنه يعلم أن المقصود بلفظ الضارب زيد ، لا هند ،

٤٣٥

وإن اتفقا في الإفراد أو فرعيه ، وفي التذكير أو فرعه ، فإن اتفقا في الغيبة أيضا ، فاللبس حاصل ، فعلا كان المتحمل ، أو صفة ، ولا يرتفع ذلك اللبس بالإتيان بالمنفصل ، نحو : زيد عمرو ضاربه هو ، أو ضربه هو ؛ والزيدان العمران ضارباهما هما ، أو يضربانهما هما ، وكذا في المؤنث والجمعين ؛

وإن اختلفا في الغيبة والخطاب والتكلم فاللبس منتف في جميع الأفعال ، نحو : أنا زيد ضربته أو أضربه ، والزيدان نحن ضربانا أو يضرباننا ؛ وهند أنا ضربتني أو تضربني ؛ إلّا في (١) غائبة المضارع مع المخاطب ، وفي غائبتيه مع المخاطبين ، نحو أنت هند تضربها وهند أنت تضربك ، وأنتما الهندان تضربانهما ، والهندان أنتما تضربانكما ، فإن اللبس حاصل ههنا ، ويرتفع بإبراز الضمير (٢) ؛

وأما الصفة فاللبس حاصل في جميعها مع الاختلاف المذكور ، ويرتفع بالتأكيد بالضمير ، نحو : أنا زيد ضاربه أنا ، ونحن الزيدان ضارباهما نحن ، والزيدون نحن ضاربونا هم ؛

وكقول المؤنث : أنا هند ضاربتها أنا ؛ فلما رفع الإتيان بالمنفصل اللبس في هذه الصورة ، طرد الإتيان به عند البصريين في صور الصفة الثلاث ، أعني إذا كان لبس ويرتفع بالضمير ، وإذا كان ولم يرتفع ، وإذا لم يكن ، وأما الكوفيون فأجازوا ترك التأكيد بالمنفصل في الصفة إن أمن اللبس ، نحو : هند زيد ضاربته ؛ قال :

وإن امرءا أسرى إليك ودونه

من الأرض موماة وبيداء سملق ـ ١٩٥

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أن المعان موفق (٣)

وكذا إذا لم يرتفع اللبس بالضمير ، ولا بعد في مذهبهم ؛

وأمّا الفعل فقد اتفقوا كلهم على أنه لا يجب تأكيد ضميره ، ألبس أو لم يلبس ،

__________________

(١) استثناء من قوله في جميع الأفعال ،

(٢) سيأتي بعد قليل أنه لا عبرة بضمير المفعول في مثل هذه الصور وإن كان يرتفع اللبس به ،

(٣) من قصيدة الأعشى في مدح المحلق ، وتقدم ذكرهما في باب الحال من هذا الجزء

٤٣٦

لأن التأكيد فيه لا يرفع اللبس إلا في أربعة مواضع فقط ، كما ذكرنا ، وهي : أنت هند تضربها ، وأنتما الهندان تضربانهما ، وهند أنت تضربك والهندان أنتما تضربانكما ، بخلاف الصفة فإن رفع اللبس بالتأكيد ، حاصل فيها في كل موضع اختلف فيه من جرت عليه ومن هي له غيبة وخطابا وتكلما ؛

فإن قلت : (١) ضمير المفعول مع هذا الاختلاف ، رافع للّبس ، ففي نحو قولك : أنا زيد ضاربه ، بالهاء يعرف أن «ضارب» مسند إلى «أنا» ، إذ لو كان مسندا إلى زيد لقلت : ضاربي ، فلم لم يكتفوا في رفع اللبس بهذا الضمير؟ ،

قلت : لما كان هذا الضمير لم يؤت به لمجرّد رفع اللبس وكان ممّا يجوز حذفه ، خيف الالتباس على تقدير حذفه ، فأتي بضمير لا يجوز حذفه ؛ لمجرد رفع اللبس (٢) ؛

[جواز الفصل والوصل]

[ومواضع كل منهما]

[قال ابن الحاجب :]

«وإذا اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا ، فإن كان»

«أحدهما أعرف وقدّمته ، فلك الخيار في الثاني ، نحو :»

«أعطيتكه وضربيك ، وإلا فهو منفصل مثل أعطيته إياك» «وإياه» ؛

__________________

(١) هذا ما أشرنا من قبل إلى أنه لا يكفي في رفع اللبس ؛

(٢) متعلق بقوله أتي بضمير ،

٤٣٧

[قال الرضى :]

إذا ولي ضميران عاملا ـ خاليا من موانع الاتصال المذكورة (١) ـ فإن كان الثاني تابعا ، فلا بدّ من اتصال الأول وانفصاله (٢) ، نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ)(٣) ، ورأيتك إيّاك ، لأن التابع ليس من مطلوبات الفعل حتى يتصل به ويكون كأحد أجزائه ؛

وإن لم يكن (٤) ، فإن كان أحدهما مرفوعا متصلا ، فالواجب تقدمه على المنصوب ، لما تقرر من كون المتصل المرفوع متوغلا في الاتصال وكائنا كجزء الفعل حتى سكن له لام الفعل ؛

وكل ضمير ولي ذلك المرفوع فلا بدّ من كونه متصلا ، سواء كان أعرف من ذلك المرفوع نحو : ضربتني ، أو ، لا ، نحو : ضربتك ، وقد عرفت أن الأعرف هو المتكلم ثم المخاطب ثم الغائب ؛

وإنما وجب اتصال الثاني لكونه كالمتصل بذلك العامل ، لأن المرفوع المتصل كالجزء من رافعه ، على ما مرّ ؛

وإن ولي ذلك العامل منصوب متصل بلا مرفوع قبله ، نحو : أعطاك زيد ، أو جاء المنصوب المتصل بعد ضمير مرفوع ، نحو : أعطيتك ، فالضمير الذي يلي ذلك المنصوب إمّا أن يكون أنقص مرتبة منه في التعريف ، أو أعرف ، أو مساويا ، فالأول يجب اتصاله عند سيبويه ؛ وغير سيبويه : جوّز الاتصال والانفصال نحو : أعطاكه زيد ، وأعطاك إيّاه زيد ، وأعطيتكه ، وأعطيتك إيّاه ، وكذا خلتكه وخلتك إياه ؛ وجه اتصاله أن المتصل الأول أشرف منه بسبب كونه أعرف ، فلا غضاضة على الثاني بتعلقه بما هو أشرف منه

__________________

(١) قوله خاليا من موانع الاتصال المذكورة ، زيادة أشير إليها في هامش المطبوعة وأنها في بعض النسخ ، وفي إثباتها فائدة ؛

(٢) أي الثاني منهما

(٣) من الآية ٣٥ من سورة البقرة وتكرر ذكرها ؛

(٤) أي وإن لم يكن تابعا ،

٤٣٨

وصيرورته من جملته بالاتصال ؛ ووجه انفصاله أن المتصل الأول فضلة ، ليس اتصاله كاتصال المرفوع ؛

والانفصال في باب «خلت» أولى منه في باب «أعطيت» لأن المفعول الأول في باب «أعطيت» ، فاعل من حيث المعنى ، كما مضى في باب ما لم يسمّ فاعله (١) ، فكأنّ الثاني اتصل بضمير الفاعل ، وفي مفعولي «خلت» ، فإذا بعد (٢) رائحة المبتدأ والخبر اللذين حقهما الانفصال ووجب اتصال أولهما لقربه من الفعل ، فالأولى في الثاني الانفصال رعاية لأصله ؛

والثاني ، أعني الأعرف ، يجب انفصاله عند سيبويه ؛ وحكى سيبويه (٣) عن النحاة تجويز الاتصال أيضا نحو : أعطاهوك وأعطاهاني ، قال : (٤) إنما هو شيء قاسوه ، ولم تتكلم به العرب ، فوضعوا الحروف غير موضعها ؛

واستجاد المبرد مذهب النحاة ؛

وإنما لم يجىء في الثاني الاتصال ههنا سماعا ، لأن الثاني أشرف من الأول بكونه أعرف فيأنف من كونه متعلقا بما هو أدنى منه ، والذي جوّز ذلك قياسا لا سماعا ، نظر إلى مجرّد كون الأول متصلا ؛

وأمّا الثالث ، أعني المساوي للمتصل المنصوب فنقول :

إن كانا غائبين نحو : أعطاهوها ، وأعطاهاه ، قال سيبويه : جاز الاتصال ، وهو عربي ، لكنه ليس بالكثير في كلامهم ، بل الأكثر : انفصال الثاني ؛ وإن لم يكونا غائبين ، فالمبرد يجيز اتصال الثاني ويستحسنه قياسا على الغائبين ، ومنعه سيبويه ، وألزم النحاة القائلين بجواز : أعطاهوك ، وأعطاهاني تجويز : منحتنيني ، أي : منحتني نفسي ، وهذا

__________________

(١) ص ٢٢١ من الجزء الأول

(٢) تعليل لأولوية الانفصال في باب خلت ، فكأنه قال وأما في مفعولي خلت الخ ..

(٣) كلام سيبويه في هذا الموضع منقول بشيء من التصرف وهو في الكتاب ج ١ ص ٣٨٤ وما بعدها ؛

(٤) أي سيبويه ؛

٤٣٩

دليل على أنهم لا يقولون به ،

وإنما كان الانفصال ههنا ، أيضا : المشهور ، لأنه يأنف الثاني من أن يتعلق بما هو مثله ، ويصير من تتمته وذيوله ؛

وإنما جاز ذلك (١) في الغائبين ، لعود كل منهما إلى غير ما عاد إليه الآخر ، بخلاف المخاطبين والمتكلمين ، إذ يستقبح اجتماع المثلين لفظا ومعنى ؛

وإنما لم يجىء في التابع نحو : ضربتهوه (٢) ، كما جاء : أعطاهوه ، لأن طلب الفعل المتعدي للمفعول ضروريّ من حيث المعنى ، بخلاف طلبه للتأكيد ، فلما كان جذبه للمفعول أشدّ ، كان اتصاله به أليق من اتصال التأكيد ؛

هذا. كله في الضميرين بعد الفعل ؛ وأمّا إذا كانا بعد الاسم ، والأول منهما مرفوع متصل ولا يكون إلا مستترا ، كما مرّ ، نحو : زيد ضاربك ، فقد ذكرنا قبل ، جواز اتصال الثاني وانفصاله ، أيضا ، نحو : زيد ضارب إيّاك ؛

وإن كان الأول مجرورا ، فإن كان الثاني منصوبا ، فكما إذا كانا بعد الفعل وكلاهما منصوب ، أي : ينظر إلى الثاني ، هل هو أنقص تعريفا ، أو أزيد ، أو مساو ، وتقول في الأنقص : ضربكها ، وضربك إياها قال :

٣٧٦ ـ فلا تطمع أبيت اللعن فيها

ومنعكها بشيء يستطاع (٣)

وكذا : اسم الفاعل نحو : معطيكها ومعطيك إيّاها ، فهو مثل : أعطيتكه وأعطيتك إياه ؛ إلّا أن الانفصال فيما ولي الضمير المجرور أولى من الانفصال فيما ولي الضمير المنصوب ،

__________________

(١) أن تعلق الثاني بما هو مثله ؛

(٢) أي مع قولنا ضربته ايّاه على أن الثاني من الضميرين تأكيد للأول ؛

(٣) سكاب اسم فرس ، وهو مثل حذام وقطام في أعلام المؤنث ، والبيت أحد أبيات في الحماسة غير منسوبة ، وهي لشاعر كانت له فرس جيدة اسمها سكاب ، وطلبها منه أحد الملوك فرد عليه بهذه الأبيات ، وفي ضمنها مدح للفرس وضن بها أن تباع أو تعار ، وأنه مع من حوله من قومه قادر على منعها منه ؛

٤٤٠