شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

دخول المستثنى فيه ، ولا أن يكون بعضا معيّنا يدخل فيه المستثنى قطعا لعدم قيام قرينة ، في الأغلب ، على مثل ذلك البعض ، فلم يبق إلا جميع الجنس ، ليتحقق دخول المستثنى فيه ، وتقدير جميع الجنس جائز في غير الموجب ، نحو : ما قام إلا زيد ، لأن اشتراك جميع أفراد الجنس في انتفاء وقوع الفعل منها ، أو عليها ، ومخالفة واحد إياها في ذلك ، مما يكثر ويغلب ، وأمّا اشتراكها في وقوع الفعل منها أو عليها ومخالفة واحد إياها في ذلك ، فممّا يقلّ نحو : كل حيوان يحرك فكّه الأسفل في الأكل إلا التمساح ، ويعلم الله تعالى الّا قدم العالم أو حدوث ذاته ، ويستطيع تعالى إلا المستحيلات ، وقرأت إلا يوم كذا ، وضربته إلا بالسوط ، قال تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ)(١) ؛

ويمكن أن يقوم في بعض المواضع على بعض معيّن من الجنس معلوم دخول المستثنى فيه ، دليل (٢) ، كما إذا قيل لك : ما لقيت صنّاع البلد ، فتقول : لقيت إلّا فلانا ؛ لكن الأغلب ، عدم التفريغ في الموجب ، ويجوز التفريغ في موجب مؤوّل بالنفي ، كما في قوله تعالى : (فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)(٣) ،

فإذا تقرر هذا قلنا : إن المستثنى منه لمّا حذف لقيام القرينة ، والمنسوب إليه كان هو المستثنى منه ، مع المستثنى وآلة الاستثناء (٤) وكان المستثنى منه ، كما تقدم ، أولى بأن يعرب بما يقتضيه العامل ، لكونه جزءا أوّل ، صار المستثنى متعّينا لقبول ما اقتضاه العامل من الاعراب ، إذ لم يبق من أجزاء المنسوب إليه القابلة للإعراب غيره ؛

فعلى هذا ، سقط الاعتراض بأنه كيف يسند الفعل المنفي في : ما قام إلا زيد ، إلى الفاعل المراد وقوع الفعل منه؟ ؛ لأنه ليس تمام المسند إليه في الحقيقة ، في نحو : ما قام إلا زيد ، كما لم يكن القوم ، تمام المسند إليه في : ما قام القوم إلا زيدا ، بل كل واحد

__________________

(١) الآية ١٦ سورة الأنفال

(٢) فاعل يقوم في قوله ويمكن أن يقوم.

(٣) الآية ٨٩ سورة الإسراء

(٤) إشارة إلى ما اختاره في أول باب المستثنى عند حل الإشكال الوارد على معنى الاستثناء ،

١٠١

منهما جزء المسند إليه حقيقة ، وإن كان كالمسند إليه لفظا؟

والاستثناء المفرغ يجيئ في جميع معمولات الفعل ، وفي المبتدأ والخبر ، أمّا الفاعل والملحق به (١) فنحو : ما ضرب إلا زيد ، وما ضرب إلا زيد ، وليس منطلقا إلا زيد ، والمفاعيل ، نحو : ما ضربت إلا زيدا ، وما مررت إلا بزيد ، و: (إن نظنُّ إلا ظنًّا) (٢) ، وما رأيته إلا يوم الجمعة ، وإلّا قدّامك ، وما ضربته إلا تأديبا ؛ وأمّا المفعول معه ، فلا يجيئ بعد «إلّا» لا يقال : لا تمش إلا وزيدا ، ولعلّ ذلك لأن ما بعد «الا» ، كأنه منفصل من حيث المعنى عما قبله ، لمخالفته له نفيا وإثباتا ، فإلّا ، مؤذنة من حيث المعنى بنوع من الانفصال ، وكذا الواو ، فاستهجن عمل الفعل مع حرفين مؤذنين بالفصل ، ولهذا لم يقع من التوابع بعد «الّا» : عطف النسق ، فلا يقال : ما قام زيد إلا وعمرو ، كما تقع الصفة ، وأمّا وقوع واو الحال (٣) بعدها نحو : ما جاء زيد إلا وغلامه راكب ، فلعدم ظهور (٤) عمل الفعل لفظا فيما بعد الواو ، بل هو مقدر ؛

ويقع بعد «إلا» من الملحقات بالمفعول : الحال ، نحو : ما جاء زيد إلا راكبا ، والتمييز نحو : ما امتلأ الإناء إلا ماء ؛

ونحو قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)(٥) ، الواو فيه للحال ، لأن صاحب الحال عامّ ، وقيل : الجملة صفة للنكرة ، وأتوا بالواو لحصول الفصل بين الموصوف وصفته التي هي جملة بالّا ، فحصل للصفة ، انفصال من الموصوف بوجهين : بكونها جملة ، وبإلّا ، فجيء بالواو رابطة ؛

ونحو ذلك قولهم في خبر ليس و «ما» : ليس أحد إلا وهو خير منك ، وما رجل

__________________

(١) أراد به نائب الفاعل ؛

(٢) الآية ٣٢ من سورة الجاثية ؛

(٣) يريد أن يفرق بين وقوع الواو في المفعول معه بعد إلا ، ووقوعها بعدها في الحال

(٤) لأن الحال جملة ،

(٥) الآية ٤ من سورة الحجر ،

١٠٢

إلا وأنت خير منه ، وكذلك في قولك : ما كان أحد إلا وأنت خير منه ، وكذلك المفعول الثاني في باب علمت ، نحو : ما وجدت زيدا إلا وهو فاضل ؛

وربّما جاء الواو في خبر كان بغير الّا ، كقول علي رضي الله عنه : «قد كنت وما أهدّد بالحرب» ، (١) تشبيها بالحاليّة ؛

وأمّا التفريغ في المبتدأ والخبر وفروعهما ، فنحو : ما زيد إلا قائم ، وما قائم إلا زيد ، ولا غلام رجل إلا ظريف ، ولم يكن زيد إلا عالما ، وما ظننتك إلا بخيلا ، ولم أعلم أن فيها إلا زيدا ، فزيدا : اسم «أن» ، ولو قلت : لم أعلم أنّ إلا زيدا فيها ، وزيد إلا راكبا ، لم يأتني ، لم يجز ، لما تقدم ، من أن «إلا» لا تتقدم في المفرغ على الحكم ، وفي غير المفرغ ، لا تتقدم على الحكم والمستثنى منه معا ، فيجوز : كيف إلا زيدا إخوتك ، وأين إلا زيدا اخوتك ، لأن العامل ، أي الحكم : أين ، وكيف ، والمستثنى منه : إمّا الضمير فيهما ، وإمّا : اخوتك ؛

وكذا تقول : من إلا زيدا إخوتك؟ و «من» مستثنى منه ، وتقول : هل عندك إلّا زيدا أحد ، وما عندك إلا زيدا أحد ؛ ولا يجوز : ما إلا زيدا عندك أحد ، ولا : هل إلا زيدا عندك أحد ، لتقدم الاستثناء عليهما ،

وفي المفعول المطلق إذا كان للتأكيد ، ووقع بعد إلّا ، اشكال ، كقوله تعالى : (ان نظن إلا ظنا) (٢) ، وذلك أن المستثنى المفرّغ ، يجب أن يستثنى من متعدد مقدّر ، معرب باعراب المستثنى ، مستغرق لذلك الجنس كما تقدم ، حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ، ثم يخرج بالاستثناء ، وليس مصدر «نظن» محتملا مع الظن غيره حتى يخرج الظن من بينه ؛

__________________

(١) هذا مما جاء في نهج البلاغة ، وهو من خطبة له رضي الله عنه في شأن طلحة بن عبد الله بن عثمان وكان من المطالبين بدم عثمان ، ص ٢٠٠ طبع دار الشعب بالقاهرة ،

(٢) الآية ٣٢ سورة الجاثية ، وتقدمت قريبا ،

١٠٣

وحلّه أن يقال : انه محتمل من حيث توهم المخاطب ، إذ ربّما تقول : ضربت ، مثلا ، وقد فعلت غير الضرب مما يجري مجراه ، كالتهديد والشروع في مقدّمات الضرب ، فتقول : ضربت ضربا لرفع ذلك التوهم ، كما أنك إذا قلت : جاءني زيد ، جاز أن يتوهمّ أنه جاءك من يجري مجراه ، فقلت جاءني زيد زيد ، لرفع هذا التوهم ، فلما كان قولك ضربت ، محتملا للضرب وغيره من حيث التوهم ، صار المستثنى منه في : ما ضربت إلا ضربا ، كالمتعدد الشامل للضرب وغيره من حيث التوهم ، فكأنك قلت : ما فعلت شيئا إلا الضرب ، قال :

٢٢٠ ـ أحلّ له الشيب أثقاله

وما اغترّه الشيب إلا اغترارا (١)

قال ابن يعيش (٢) : هذا الكلام محمول على التقديم والتأخير ، أي : إن نحن إلا نظن ظنا ، وما اغترّه إلا الشيب اغترارا ؛ وهو تكلف ؛

وأمّا الاستثناء في التوابع ، ففي البدل نحو : ما جاءني أحد إلا زيد ، لكنه غير مفرّغ ، وكلامنا في المفرغ ، ولا منع من كون سائر أنواع البدل مفرغة نحو : ما سلب زيد إلّا ثوبه ، في بدل الاشتمال ، وما ضرب زيد إلا رأسه في بدل البعض ، أي : ما سلب زيد شيء منه إلا ثوبه ، ولا ضرب زيد عضو منه إلا رأسه ؛ وعطف النسق لم يجيئ فيه لما تقدم (٣) ، وكذا عطف البيان والتأكيد ، وذلك لأن عطف البيان لو جاء ، لكان مستثنى من مقدّر متعدد ، هو أيضا عطف بيان ، وكونه متعدّدا مخالف لكونه عطف بيان ، لأنه إمّا علم ، أو مختصّ مثله ، وكذا التأكيد ، لأنه لم توضع ألفاظ عامة شاملة لألفاظ التوكيد نحو عينه ونفسه ، وكلّه ، وكلاهما ؛ ولغيرها حتى نقدرها ونخرج ألفاظ التوكيد منها ؛

__________________

(١) هذا من قصيدة الأعشى التي منها قوله :

تقول ابنتي حين جدّ الرحيل

أبرحت ربّا وأبرحت جارا

وهو الشاهد المتقدم في باب التمييز ،

(٢) الإمام موفق الدين ، يعيش بن علي بن يعيش شارح المفصل للزمخشري ، وهو من أبرز علماء القرن السابع ، قريب العهد بالرضي ، ونقل عنه كثيرا ، كما نقل عن بعض معاصريه مثل ابن مالك ، وغيره ،

(٣) إشارة إلى ما ذكره قبل قليل في عدم التفريغ في المفعول معه ؛

١٠٤

والوصف ، نحو : ما جاءني أحد إلا ظريف ، وما لقيت أحدا إلّا أنت خير منه ، وفيه وفي خبر المبتدأ نحو : ما زيد إلا قائم ، وفي الحال نحو : ما جاءني زيد إلا راكبا : إشكال ، لأن المعنى يكون ، إذن ، ما جاءني أحد متصف بصفة إلا بصفة الظرافة ، وما زيد متصف إلا بصفة القيام ، وما جاءني زيد على حال من الأحوال إلا على حال الركوب ، وهذا محال ، لأنه لا بدّ للمتصف بصفة الظرافة من الاتصاف بغيرها ، ولو لم يكن إلا التحيّز (١) ونحوه ، وكذا في الخبر والحال ؛

وذكر المصنف في حلّه وجهين : أحدهما : أن القصد بالحصر المبالغة في إثبات الوصف المذكور حتى كأنّ ما دونه في حكم العدم ؛ وثانيهما أنه نفي لما يمكن انتفاؤه من الوصف المضادّ للوصف المثبت ، لأنه معلوم أن جميع الصفات يستحيل انتفاؤها ؛

وقال المالكيّ (٢) في الصفة : انها صفة بدل محذوف ، أي : ما جاءني أحد إلا رجل ظريف ؛ ويمكن أن يقال مثله في الحال وخبر المبتدأ ، ولكن فيه نظر ، لأنه يلزمه أن يجوز النصب على الاستثناء ، كما لو ظهر موصوفه فتقول ما جاءني أحد إلا طويلا على الاستثناء ، ولم يسمع ؛

والفراء يجيز النصب على الاستثناء في المفرّغ نظرا إلى المقدر ، استدلالا بقوله :

٢٢١ ـ يطالبني عمّي ثمانين ناقة

وما لي يا عفراء إلا ثمانيا (٣)

ويجوز أن يريد : إلا ثمانية جمال ، فرخّم في غير النداء ضرورة ؛

__________________

(١) التحيز شغل الذات قدرا من الفراغ وهو أمر يشترك فيه كل جسم ؛

(٢) أشرت عند ذكر الرضي للمالكي أول مرة ، أن من الأمور التي جعلتني أرجح أنه يريد الأمام ابن مالك ، اشتهار الآراء التي ينسبها إلى «المالكي» وأنها معروفة عن ابن مالك ، وذكرت لذلك أمثلة ، ونبّهت على كل مثال في موضعه الذي يرد فيه ، وهذا أحد المواضع التي تقوّي ما ذهبت إليه ، فإن الرأي بأن مثل هذا مؤول بأنه صفة بدل محذوف ، مما هو معروف أنه رأى ابن مالك ، نقله عنه الدماميني ، كما نقله عن الأخفش وأبي عليّ الفارسي ، وانظر حاشية الصبان على الأشموني في باب الاستثناء ؛

(٣) قد ذكر الشارح وجها لتأويل البيت وإخراجه عن الاستشهاد به ، وفي خزانة الأدب للبغدادي ، قال عند الكلام على هذا البيت ، إنه قد تحرّف على من استشهد به ، لأنه من قصيدة نونية معروفة لعروة بن حزام ـ ـ العذري ، وعفراء محبوبته وصوابه : ومالي يا عفراء غير ثمان ، ثم أورد البغدادي القصيدة بروايات مختلفة كلها تشهد بصحة ما قال من التحريف ، وعلى ذلك يكون البيت جاريا على المعروف من القواعد ويخرج عن الاستدلال به ؛

١٠٥

وما أجازه مردود ، لوجوب قيام المستثنى مقام المقدر في الاعراب ، ولا سيّما في الفاعل ، إذ لا يجوز حذفه إلا مع قائم مقامه ، وهو يجيز ما قام إلا زيدا ؛

قوله : «وهو في غير الموجب ليفيد» ، يعني بغير الموجب : النهي والاستفهام والنفي الصريح أو المؤوّل ، كما ذكرنا ؛

قوله : «ليفيد» ، قد تقدم أنك لو قلت : قام إلا زيد ، لكان المعنى : قام جميع الناس إلا زيدا ، وهو بعيد ، وقرينة تخصيص جماعة من الناس من بينهم زيد ، منتفية في الأغلب ، فامتنع الاستثناء المفرغ في الموجب ؛

قوله : «إلا أن يستقيم المعنى» ، أي يستقيم في الإيجاب معنى الاستثناء المفرغ الذي يفيد عموم المستثنى منه ، نحو : قرأت إلا يوم كذا ، إذ لا يبعد أن تقرأ في جميع الأيام إلا اليوم المعيّن ، وأغلبه أن يكون من الفضلات ، كالظرف ، والجار والمجرور والحال ، كما تقدم ؛

قوله : «ومن ثمّ» ، أي : ومن جهة أن المفرّغ إنما يجيئ في غير الموجب ، امتنع : ما زال زيد إلا عالما ، لأن «ما زال» موجب ، إذ النفي إذا دخل على النفي أفاد الإيجاب الدائم ، كما يجيئ في الأفعال الناقصة ، فيكون المعنى : دام زيد على جميع الصفات إلا على صفة العلم ، وهو محال ؛

ولقائل أن يقول : احمل الصفات المثبتة على ما يمكن أن يحمل مثله عليها ، مما لا يتناقض ، واستثن من جملتها العلم ، كما قيل في : ما زيد إلا عالم ، في الصفات المنفية ، أو احمل ذلك على المبالغة في نفي صفة العلم ، كأنك قلت : أمكن أن يجتمع فيه جميع الصفات إلا صفة العلم ، كما حملت هناك على المبالغة في إثبات الوصف ؛

١٠٦

قال المصنف : ووجه آخر ههنا في منع نحو : ما زال زيد إلا عالما ، وذلك أنّ «ما زال» لإثبات خبره ، و «إلا» للنفي بعد ذلك الإثبات ، فيكون خبره مثبتا منفيّا ؛ ولقائل أن يقول : ما زال ، لإثبات خبره ، إن لم يعرض ما يقلبه إلى النفي ، لا مطلقا ، كما أن «ليس» لنفي خبره ، إلّا إذا عرض ما يقتضي اثباته نحو : ليس زيد إلا فاضلا ؛

[تعذّر البدل]

[على اللفظ]

[قال ابن الحاجب :]

«وإذا تعذّر البدل على اللفظ ، أبدل على الموضع ، مثل : ما»

«جاءني من أحد إلا زيد ، ولا أحد فيها إلا عمرو ، وما زيد»

«شيئا إلا شيء ... ، لأن من ، لا تزاد بعد الإثبات وما ،»

«ولا ، لا تقدّران عاملتين بعد الإثبات ، لأنهما عملتا للنفي ،»

«وقد انتقض النفي بالّا ، بخلاف : ليس زيد شيئا إلا شيئا ..»

«لأنها عملت للفعلية ، فلا أثر لنقض معنى النفي لبقاء الأمر»

«العاملة هي لأجله ، ومن ثمّ جاز : ليس زيد إلا قائما ،»

«وامتنع : ما زيد إلا قائما» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أنه يتعذّر البدل على اللفظ في أربعة مواضع : في المجرور بمن الاستغراقية. والمجرور بالباء الزائدة لتأكيد غير الموجب ، نحو : ما زيد أو ليس زيد ، أو هل زيد

١٠٧

بشيء (١) ، وفي اسم «لا» التبرئة (٢) ، إذا كان منصوبا ، أو مفتوحا (٣) ، نحو : لا رجل ، ولا غلام رجل ، وفي الخبر المنصوب بما الحجازية ؛

وإنما تعذر الإبدال من لفظ المجرور بمن المذكورة ، لأنها وضعت لتفيد أن عدم الإيجاب شامل لجميع أفراد المجرور بها ، سواء باشرت المجرور ، كما في : ما جاءني من رجل ، أو كان (٤) تابعا لمباشرها نحو : ما جاءني من رجل ولا امرأة ، و «إلّا» الآتية بعد غير الموجب ناقضة لعدم الإيجاب ، ومع بطلان عدم الإيجاب ، كيف يشمل أفراد ما بعدها ؛

وكذا تعذّر الإبدال من لفظ المجرور بالباء المذكورة ، لأنها وضعت لتدل على تأكيد عدم إيجاب مضمون المجرور بها ، سواء كان مجرورها مباشرا لها ، نحو : ما زيد بقائم ، أي قيامه غير ثابت قطعا ، أو تابعا لمباشرها (٥) ، نحو : ما زيد بقائم ولا قاعد ؛ و «الا» الآتية بعدها مبطلة لعدم الإيجاب ، ومع بطلانه كيف يبقى مؤكدا ؛

وكذا يتعذّر الإبدال من اسم «لا» ، وخبر «ما» المذكورتين ، لأن عمل الحرفين إنما كان لأجل نفيهما ، كما ذكرنا قبل ، و «إلا» تبطل النفي الذي عملا له ، فكيف يعملان مع عدم سبب العمل ؛

ولا يجوز ، على مذهب الأخفش ، أيضا ، الإبدال من لفظ المجرور بمن المذكورة ، وإن كان مذهبه تجويز زيادة «من» في الموجب ، نحو : قد كان من مطر ، و: (يَغْفِرْ لَكُمْ من ذُنُوبَكُمْ)(٦) ، لأن كلامنا في «من» الاستغراقية ، ولا يمكنه أن يرتكب جواز

__________________

(١) قوله بشيء ، راجع إلى الأمثلة الثلاثة قبله ،

(٢) اطلقوا على لا ، النافية للجنس اسم لا التبرئة من حيث إنها برأت الاسم عن الاتصاف بالخبر ،

(٣) أي مبنيا ،

(٤) أي المجرور بها ، وهو في المثال معطوف على المجرور بها ،

(٥) هو كالذي قبله في الكلام على «من» أي أن الثاني مجرور بها أيضا لأنه معطوف ،

(٦) الآية الثالثة من سورة نوح ،

١٠٨

زيادتها في الموجب ، والتي يجوز زيادتها في الموجب ليست هذه ؛

وكذا الباء المزيدة في نحو : ألقى بيده ، وكفى بالله ، وبحسبك ، غير هذه التي نحن فيها ، أي التي لتأكيد غير الإيجاب ؛

وقد أجاز الكوفيون إعمال «من» والباء المذكورتين ، أي المختصتين بغير الإيجاب فيما بعد «الّا» إذا كان منكّرا نحو : ما جاءني من أحد إلا رجل فاضل ، وما زيد بشيء إلا شيء حقير ، وأما إذا كان معرفة فلا ؛ (١)

ولعلهم نظروا إلى أن عدم الإيجاب ، وإن زال بإلّا ، إلّا أن «من» الاستغراقية لمّا لزمت المنكّر وضعا ، والباء المذكورة أصلها أن تدخل على النكرة لأن موضعها الخبر ، وأصله التنكير ، فجاز أن تعملا في المنكر ، لمشابهته ما ينبغي أن تدخلا فيه ، وإن كان في حيّز الإيجاب ، وسهّل ذلك عدم مباشرة الحرفين للمجرورين ؛

والأولى المنع من ذلك ، لأن العلة المذكورة قبل ، في امتناع جرّهما لما بعد «الا» ، تعمّ المعرّف والمنكّر ، وما ذكروه ، كان يمكن أن يعتذر به ، لو ثبت في النقل جرّ المنكر بعد «إلا» بهما ؛

وقال أبو علي (٢) : إنما لم يجز جرّ البدل في : ما جاءني من أحد إلا زيد ، ونصبه في : لا رجل إلا زيد ، لامتناع دخول «من» الاستفراقية على المعرفة وعمل «لا» التبرئة فيها ؛

ولا يطرد هذا التعليل في نحو : ما جاءني من أحد إلا رجل صالح ، ولا يجوز جره اتفاقا من البصريين ، ولا في نحو : لا رجل في الدار إلا رجل فاضل فإنه لا يجوز إبداله على اللفظ إجماعا ؛

ولنا أن نقول : إنما لم يجز الإبدال على لفظ اسم «لا» ، وخبر «ما» ، المذكورتين ، لأن إعمالهما فيما بعد «إلّا» ، يقتضي بقاء نفيهما بعدها ، إذ لا يعملان إلا للنفي ، ومجيئ

__________________

(١) ومثاله : ما زيد بشيء إلا الشيء التافه أو الحقير ،

(٢) أي الفارسيّ ،

١٠٩

«الا» يقتضي زوال نفيهما بعدها فيلزم التناقض ،

فإن قيل : يلزم مثله في «ليس» ، ويجوز اتفاقا : ليس زيد شيئا إلا شيئا لا يعبا به ، لأن معنى ليس ، وما ، سواء إجماعا منهم ؛

قلت : سلمنا تساوي معنييهما ، ولا يلزم التناقض ، لأن اعمال «ليس» فيما بعد «إلّا» لا يقتضي بقاء نفيها بعدها ، إذ عملها ليس للنفي ، بل لكونها فعلا ، وفعلتيها لا تزول بإلّا ، كما يزول نفيها ؛

فإن قيل : فقد أثبتّ لها معنيين : أحدهما يزول بإلّا ، وهو النفي ، والآخر لا يزول به ، وهو الفعلية ، و «ما» مثلها في المعنى ، اتفاقا ، فيلزم أن يكون في «ما» أيضا معنى الفعلية ؛

قلت : كان معنى «ليس» في الأصل : ما كان ، وإنما حكمنا بذلك ، للحوق علامات الأفعال إياها نحو : ليست ، ولست ، ثم سلبت الدلالة على الزمان الماضي ، فبقيت مفيدة لنفي كون مضمون خبرها مطلقا ، أو في الحال ، كما يجيئ ، ومعنى نفي كون مضمون الخبر ، وهو معنى «ليس» ونفي مضمون الخبر وهو معنى «ما» شيء واحد في الحقيقة والمغزى ، وإن كان في نفي الكون معنى الفعلية ؛ وليس في إيجاد معنى النفي في لفظ آخر ، ذلك (١) ، وهو معنى «ما» ، فمن ثمّ قيل انهما بمعنى واحد في الحقيقة والمغزى وربّ شيئين معناهما الوضعيّ مختلف ، ومؤدّاهما شيء واحد ،

فإذا ثبت هذا ، قلنا : إن «إلّا» نقضت معنى النفي في «ليس» وبقي معنى الكون ، وهو الناصب للخبر ، دون النفي بحاله ، كما كان في : ما كان زيد منطلقا ؛

وأمّا أن «ليس» ، أيضا تفيد إيجاد معنى نفي الكون في لفظ آخر ، وهو الجملة بعدها ، فينبغي أن تكون حرفا ولا يكون فيها معنى الفعلية ؛

__________________

(١) أي معنى الفعلية ليس موجودا في إيجاد الخ.

١١٠

فالجواب أن ذلك فيها عارض ، وكان أصلها أن تكون بمعنى : ما ثبت ، وما حصل فتفيد معنى في نفسها كسائر الأفعال التامة ، فإفادتها للكون المنفي في غيرها وإفادة لفظ كان للكون المثبت في غيرها ، عارضة ، كتجرد عسى ، وبئس ، عن الزمان ، كما سبق في أول الكتاب (١) ؛

فإن قلت (٢) : فإذا لم يجز الجرّ ، ولا النصب فيما بعد «إلا» ، في نحو : ما زيد بشيء إلا شيء لا يعبأ به ، ولم يجز النصب في نحو : ما زيد شيئا إلا شيء لا يعبأ به ، فما وجه الرفع؟ ،

قلت : المبتدأ والخبر يترافعان ، كما سبق في حدّ الإعراب ، إلا أن النواسخ إذا دخلت على المبتدأ والخبر ، غلبتهما (٣) ، لكن يبقى عملهما تقديرا ، إذا كان العامل حرفا ، لضعفه ، فمن ثمّ ، إذا كان العامل حرفا لا يغيّر معنى ، جاز اعتبار ذلك المقدّر ، بلا ضرورة ، نحو : انّ زيدا قائم وعمرو ؛ وإن غيّر المعنى فلا يعتبر ذلك المقدّر ، إلا إذا اضطرّ إليه ، كما نحن فيه ، فإنه لم يبق طريق إلا اعتبار ذلك المقدر ، وسهّل ذلك الاعتبار : ضعف «ما» الحجازية في العمل ، لعدم لزومها أحد القبيلين ، كسائر العوامل ، ولذا لم يعملها بنو تميم ، وهو القياس ؛ ولضعفها في العمل ، تلغى بتقدم الخبر ، وبتوسط «إن» بينها وبين المعمول ، لكن إذا وجدت مندوحة ، لم نحمل على هذا الاعراب المحليّ ، فلا يقال : ما زيد رجلا ظريف ، ولا : ما هو رجلا وامرأة بالرفع ، لأن الحمل على الاعراب المحليّ القوي ، إذا وجد إعراب ظاهر : مرجوح غير كثير ، كما في : أعجبني ضرب زيد وعمرا ، حتى قال بعضهم لا يجوز ، فكيف بالمحلّي الضعيف (٤)؟ فأمّا إذا اضطر إلى الحمل عليه ، كما في نحو : ما زيد بشيء إلا شيء ، وفي نحو : ما زيد بقائم أو قائما ؛

__________________

(١) ص ٣٩ في الجزء الأول ،

(٢) رجوع إلى موضوع البحث ،

(٣) أي صار العمل لها في الظاهر ،

(٤) يعني إذا كان الحمل على الإعراب المحلي القوي مرجوحا مع وجود الإعراب الظاهر فكيف لا يكون مرجوحا مع الإعراب المحليّ الضعيف ؛

١١١

بل قاعد ، أو لكن قاعد ، كما مرّ في خبر «ما» ، فالواجب الحمل عليه ، اجابة لداعي الضرورة ؛

هذا ، وفي رفع ما بعد «الّا» ، في نحو : لا أحد فيها إلا زيد ، وجهان : الإبدال من محلّ «لا أحد» ، والإبدال من الضمير المستكن في قولك «فيها» ، كما قلنا في نحو : ما رأيت أحدا يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع ، ولا يمتنع النصب على الاستثناء ، لكنه ههنا أقلّ من النصب في نحو : ما جاءني أحد إلا زيدا ، لأن النصب على الاستثناء مطلقا ، أقلّ من البدل ، على ما تقدم ، وهو ، مع قلّته ، ملتبس بما لا يجوز من البدل على اللفظ في نحو : لا رجل فيها إلا زيد ، ولا يلتبس بالبدل غير الجائز في نحو : ما جاءني أحد إلا زيدا ؛ وأمّا في : ما رأيت أحدا إلا زيدا ، فإنه يلتبس ببدل جائز ؛ فعلى هذا ، لا يكاد يجيئ النصب في نحو : لا أحد فيها إلا زيدا ، إلّا في القليل ، قال الشاعر :

٢٢٢ ـ مهامها وخروقا لا أنيس بها

إلا الضوابح والأصداء والبوما (١)

وقال :

٢٢٣ ـ أمرتكم أمري بمنعرج اللوى

ولا أمر للمعصيّ إلا مضيعا (٢)

وقال الخليل : مضيّعا ، حال ، وجاز تنكير ذي الحال لكونه عامّا ، كأنه قال للمعصيّ أمر مضيّعا ؛

وأما نحو قولك : لا إله إلا الله ، ولا فتى إلا علي (٣) ، ولا سيف إلا ذو الفقار (٤) ،

__________________

(١) أحد أبيات قصيدة من المفضليات للأسود بن يعفر ، والبيت في وصف الناقة والأرض التي قطعتها وقبله : ـ والبيتان هما آخر القصيدة ؛

وسمحة المشي شملال قطعت بها

أرضا يحاربها الهادون ديموما

الهادون الأدلّاء الذين يرشدون السائرين لخبرتهم بالطرق ، والديموم الأرض القفرة.

(٢) للكلحبة العرنيّ ، من بني يربوع واسمه هبيرة بن عبد مناف ، وهو من أبيات سيبويه ج ١ ص ٣٧٢ ، وفي هذا الموضع عبارة الخليل التي نسبها إليه الشارح ؛

(٣) المراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(٤) ذو الفقار : سيف غنمه المسلمون في إحدى المعارك فصار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم صار من بعده إلى علي كرّم الله وجهه ،

١١٢

فالنصب على الاستثناء فيه ، أضعف منه في نحو : لا أحد فيها إلا زيدا ، لأن العامل فيه ، وهو خبر لا ، محذوف إما قبل الاستثناء وإمّا بعده ، وفي نحو : لا أحد فيها إلا زيدا ، ظاهر ، وهو خبر لا ؛

وممّا يقرب مما مرّ ، من جهة الحمل على المعنى ، قولهم ، وإن كان ضعيفا خبيثا ، على ما قال سيبويه (١) ، : إن أحدا لا يقول ذلك إلا زيد ، فتبدل زيدا من الضمير في يقول ، فترفعه ، أو من «أحدا» فتنصبه ، وإنما ضعف ، لأن لفظ أحد ، لا يستعمل في الموجب ، وإنما نفيت بعد أن أوجبت ، وإنما اغتفر ذلك مع ضعفه ، حملا على المعنى ، لأن المعنى : لا يقول ذلك أحد إلا زيدا ، كما جاز أن تقول : علمت زيد ، أبو من هو ، برفع زيد ، لمّا كان المعنى : علمت : أبو من زيد ، على ما يجيئ في أفعال القلوب ، فلما أجريته (٢) مجرى الواقع في حيّز المنفي جاز أن يكون «إلا زيدا» بدلا من لفظ «أحدا» ، كما جاز أن يكون نصبا على الاستثناء ، وإنما جاز ذلك ، لاختصاص «أحد» بغير الموجب ، فكأنه واقع في حيّز غير الموجب ؛ فلا يجوز أن تقول قياسا عليه : أما القوم فما رأيتهم إلا زيد ، بالرفع ، بدلا من القوم ، وإن كان القوم في المعنى ، في حيز النفي أيضا ، إذ المعنى ، ما رأيت القوم إلا زيدا ؛

__________________

(١) جاء ذلك في سيبويه ج ١ ص ٣٦٣ ، وقال بعد ذكر المثال : وهو ضعيف خبيث وعلل ذلك بما قاله الرضي ، ثم إن كثيرا من مسائل هذا الباب منقول بلفظه أو بمعناه عن سيبويه في باب الاستثناء في الجزء الأول ص ٣٥٩ وما بعدها ؛

(٢) أي الكلام المتقدم

١١٣

[تكملة](١)

[في ذكر أمور أهملها المصنف]

ولا بأس بأن نذكر بعض ما أهمله المصنف من أحكام الاستثناء وهي أنواع ؛

أحدها : أنّ ما بعد «الا» لا يعمل فيما قبلها مطلقا ، لمثل ما قلناه في فاء السببية وواو العطف وأخواتهما ، في المنصوب على شريطة التفسير (٢) ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعد المستثنى إلا أن يكون مستثنى منه ، أو تابعا للمستثنى على ما مرّ في باب الفاعل (٣) ،

وثانيها : أنه لا يستثنى بأداة واحدة شيئان بلا عطف ، خلافا لقوم ، فلا يقال : ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا ، على أن كلا الاسمين مستثنى بالّا المذكورة ، بل يقال ذلك على أن الاسم الثاني معمول لمضمر (٤) ، أي : ضرب عمرا ؛ وقد ذكرنا ما فيه في باب الفاعل (٥) ،

وثالثها : أنه لا يمتنع استثناء النصف ، خلافا لبعض البصريّة ، يقال : له عليّ عشرة إلا خمسة ، وكذا لا يمتنع استثناء الأكثر ، نحو : له عليّ عشرة الا سبعة ، أو ثمانية ، وفاقا للكوفيين ؛

ولعل المانعين في الصورتين ، توهموا أن المتكلم متجوز في ذكر المستثنى منه ، إذ يذكر لفظ الكل ويريد به البعض ، ثم يعود إلى التحقيق (٦) فيخرج ما يتوهم المخاطب دخوله

__________________

(١) هذا استطراد من الرضي كعادته ، وقد عجّل بهذه التكملة قبل الفراغ من باب الاستثناء لأنها متصلة بأحكام «الا» وقد فرغ منها ،

(٢) ج ١ ص ٤٤٥

(٣) ج ١ ص ١٩١ وقد أفاض هناك في هذه الأحكام ،

(٤) أي مقدّر ،

(٥) ج ١ ص ١٩٣

(٦) أي إلى ذكر الحقيقة ؛

١١٤

في لفظ ذلك الكل ، كما يسمّي التسعة مثلا : عشرة ، ثم يرجع إلى التحقيق فيخرج الواحد ، إزالة لوهم السامع ، ولا يجوز أن يطلق لفظ الكل إلا على ما يقرب من الكلية والتمام بأن يكون الناقص منه أقلّ من النصف ، وبعيد أن يطلق اسم الكل على نصفه ، وأبعد منه أن يطلق على أقل من نصفه ؛ وهذا الذي توهّموه ، مثل القول المذكور في تحقيق معنى الاستثناء ، وقد أبطلناه ، فليرجع إليه ، (١) ثم نقول (٢) : الغرض من ذكر المستثنى منه ، والمستثنى : بيان حكمين بأخصر لفظ ، كقولك : جاءني القوم إلا زيدا ، لو قلت : جاءني غير زيد لم يكن نصاّ على أنه لم يجئك غير زيد ، ولو قلت : لم يجئني زيد ، لم يدلّ على أنه جاءك غيره ، وأفدت بجاءني القوم إلا زيدا : الفائدتين ، وكذا في قولهم : لم يجئني القوم إلا زيدا ، على العكس ، وكذا تقول في العدد ، لو قال شخص : لي عليك عشرة ، فقلت : لك عليّ عشرة إلا درهمين ، كان نصّا في أنه ليس عليك زائد على الثمانية ، ولو قلت مكانه : لك عليّ ثمانية لم يكن نصا فيه ؛

فإذا كان في الاستثناء هذا الغرض ، وهو متصوّر في استثناء النصف والأكثر ، فلا منع منهما ؛ ونقول ، مع هذا كله ، انك لو قلت ابتداء بلا داع إلى تعيين العشرة : لك عليّ عشرة إلا خمسة ، أو إلا ستة لاستهجن بلا ريب ، أمّا لو كان جواب من قال : لي عليك عشرة ، أو حصل هناك داع آخر إلى تخصيص العشرة ، لم (٣) يستهجن وإن بقي واحد نحو قولك : عليّ عشرة إلّا تسعة ؛

ورابعها : (٤) أنه إذا اجتمع شيئان فصاعدا ، يصلحان لأن يستثنى منهما ، فإمّا أن يتغايرا معنى أو ، لا ؛ فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في ذلك الاستثناء بلا بعد ، اشتركا فيه ، نحو : ما برّ أب وابن إلا زيدا ، أي : زيد أب بار ، وابن بار ، وإن لم يمكن الاشتراك ، نحو : ما فضل ابن أبا إلا زيدا ، أو كان بعيدا نحو : ما ضرب أحد أحدا

__________________

(١) في أول باب المستثنى

(٢) تمهيد للوصول إلى جواز استثناء النصف ،

(٣) هذا جواب قوله : أمّا لو كان ، فحقه أن يقرن بالفاء ،

(٤) أي رابع الأمور التي في التكملة ،

١١٥

إلا زيدا ، فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول ، نظرت ، فإن تعيّن دخول المستثنى في أحدهما ، دون الآخر فهو استثناء منه ، وليه أو ، لا ، نحو : ما فدى وصيّ نبيا إلا عليا ؛ (١)

وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما ، فإن تأخر عنهما المستثنى ، فهو من الأخير ، نحو : ما فضل ابن أبا إلا زيدا ، وكذا : ما فضل أبا ابن إلا زيدا ، لأن اختصاصه بالأقرب أولى لمّا تعذّر رجوعه إليهما معا ، وإن تقدمهما معا ، فإن كان أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى فالاستثناء منه ، لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده ، وذلك نحو : ما فضل إلا زيدا أبا ابن ، أو من ابن ، وإن لم يكن أحدهما مرفوعا فالأوّل أولى به لقربه ، نحو : ما فضّلت إلا زيدا أحدا على أحد ، ويقدّر للأخير عامل على ما تقدم في باب الفاعل ، وإن توسطهما ، فالمتقدم أحقّ به ، لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه ، وذلك نحو : ما فضل أبا إلا زيدا ابن ؛ ويقدر أيضا للأخير عامل ؛

وإن لم يتغايرا معنى ، اشتركا فيه وإن اختلف العاملان فيهما ، نحو : ما ضرب أحد وما قتل إلا خالدا ، لأن فاعل «قتل» ضمير «أحد» ، ومثله قوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا)(٢) ، كما يجيئ ؛

وخامسها : أنك إذا كرّرت الّا ، فإمّا أن تكررها للتأكيد ، أو ، لا ، فإن كررتها للتأكيد ، فإمّا أن يكون ما بعدها عطف النسق ، ولا بدّ من حرف العطف قبل «إلّا» (٣) ، نحو : ما جاءني إلا زيد وإلا عمرو ، وإمّا أن يكون بدلا ، وهو إمّا بدل الكل ، نحو : ما جاءني إلا زيد إلا أخوك ، إذا كان الأخ زيدا ، أو بدل البعض نحو : ما ضربت إلا زيدا إلا رأسه ، أو بدل الاشتمال نحو : ما أعجبني إلا زيد إلا علمه ، أو بدل الغلط نحو :

__________________

(١) المراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو إشارة إلى ما كان منه ليلة الهجرة حيث نام في فراش النبي صلّى الله عليه وسلّم ؛ وفيه لمحة من التشيّع ، وكان الرضي شيعيا ؛ وقد جاءت أمثلة هذا البحث كلها بنصب المستثنى ،

(٢) الآية ٤ من سورة النور وستأتي ،

(٣) المراد «الا» الثانية كما في المثال ،

١١٦

ما جاءني إلا زيد إلا عمرو ؛ وإمّا أن يكون عطف بيان ، نحو : ما أتاني إلا أخوك إلا زيد ، إذا كان زيد هو الأخ ؛ (١)

وإن كررتها لغير التأكيد ، فإمّا أن يمكن استثناء كل تال من متلوّه ، أو ، لا ، فإن أمكن ، فإمّا أن يكون في العدد أو في غيره ، فالذي في غير العدد نحو : جاءني المكيّون إلا قريشا إلا هاشما إلا عقيلا ، في الموجب ، فلا يجوز في كل وتر إلا النصب على الاستثناء ، لأنه عن موجب ، والقياس أن يجوز في كل شفع : الإبدال والنصب على الاستثناء ، لأنه عن غير موجب والمستثنى منه مذكور ؛

ونعني بالوتر : الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر ، وعلى هذا ؛ وبالشفع : الثاني والرابع والسادس ، ونحوها ، فكل وتر : منفيّ خارج ، وكل شفع : مثبت داخل ، فيكون في مسألتنا قد جاءك من المكيّين غير قريش مع جميع بني هاشم إلا عقيلا ،

وتقول في غير الموجب. ما جاءني المكيّون إلا قريش إلا هاشما إلا عقيلا ، فالقياس أن يجوز لك في كل وتر : النصب على الاستثناء والبدل ، لأنه غير موجب والمستثنى منه مذكور ، ولا يجوز في الشفع إلا النصب على الاستثناء ، لأنه عن موجب فكل وتر : مثبت داخل ، وكل شفع ، منفيّ خارج ، فيكون في مسألتنا قد جاءك من المكيّين مع عقيل : جميع قريش إلا هاشما ،

والذي في العدد ، نحو : له عليّ عشرة ، إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدا ، في الموجب ، فكل وتر : منفيّ خارج ، وكل شفع : موجب داخل ، كما كان في غير العدد ، فيلزمك بالإقرار خمسة ، لأنا إذا أخرجنا التسعة من العشرة بقي واحد ، أدخلنا معه ثمانية صارت تسعة ، أخرجنا منها سبعة ، بقي

__________________

(١) الرضي لا يرى فرقا بين عطف البيان : وبدل الكل من الكل ، وهو هنا يجري على اصطلاح النحاة في إثبات النوعين ؛

١١٧

اثنان ، أدخلنا معها ستة صارت ثمانية ، أخرجنا منها خمسة بقي ثلاثة ، أدخلنا معها أربعة صارت سبعة أخرجنا منها ثلاثة بقي أربعة أدخلنا معها اثنين صارت ستة أخرجنا منها واحدا بقي خمسة ؛ (١) والاعراب في الشفع والوتر ، كما مضى في موجب غير العدد ؛

وتقول في غير الموجب من العدد : ما له عليّ عشرة إلا تسعة ، إلا ثمانية ... إلى آخرها ، فالقياس أن يكون كل وتر داخلا وكل شفع خارجا ، فتكون التسعة مثبتة داخلة ، تسقط منها الثمانية يبقى واحد ، تضم إليها سبعة تصير ثمانية تسقط منها ستة يبقى اثنان ، تضم إليها خمسة تصير سبعة ، تسقط منها أربعة يبقى ثلاثة ، تضم إليها ثلاثة تصير ستة تسقط منها اثنين يبقى أربعة تضم إليها واحدا تصير خمسة ، فيلزمه خمسة ؛ والإعراب في الشفع والوتر ، كما في غير العدد الذي هو في غير الموجب ؛

هذا هو القياس ، إلا أن الفقهاء قالوا : إذا قلت : ما له عليّ عشرة إلا تسعة بالنصب ، لم تكن مقرّا بشيء ، لأن المعنى : ما له عليّ عشرة مستثنى منها تسعة ، أي : ما له عليّ واحد ، وإذا قلت ؛ إلا تسعة بالرفع على البدل ، يلزمك تسعة ، لأن المعنى : ما له عليّ إلا تسعة ؛

وفي الفرق نظر ، لأن البدل والنصب على الاستثناء ، كلاهما استثناء ولا فرق بينهما اتفاقا في نحو : ما جاءني القوم إلا زيد ، أو زيدا ؛

وإن بنوا ذلك على مذهب أبي حنيفة ، رحمه الله ، على وهنه ، وهو أن الاستثناء من المنفي لا يكون موجبا ، تمسكا بنحو : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ، وأنه لا يلزم أن يثبت مع الفاتحة صلاة ، لجواز اختلال سائر شروطها ، كان عليهم ، ألّا يفرقوا بين البدل والنصب على الاستثناء إذ كلاهما استثناء ؛ وعلى الجملة ، فلا أدري صحة ما قالوا ؛

__________________

(١) قال الرضي قبل قليل : إنك إذا قلت ابتداء بلا داع : له عليّ عشرة إلا خمسة لاستهجن ، وفسّر الداعي بأن يكون الكلام ردّا على من يدعي أن له عشرة ، وفي هذه الصور التي عرض لها لا شك أن الاستهجان يبلغ أقصى درجاته ، مهما يكن الداعي لمثل هذا الكلام ، وكذلك في الصورة التي بعد هذه ، ولكنها البراعة والمقدرة العلمية التي يحرص الرضي على إبرازها في كثير من الحالات ، رحمه الله ؛

١١٨

وإن لم يمكن (١) استثناء تال من متلّوه ، فإن كان في العدد ، نحو له عليّ عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة (٢) ، فمذهب الفراء ههنا ، أيضا ، أن الوتر أي الثلاثة (٣) منفي خارج ، والشفع أي الأربعة ، موجب داخل ، فيكون معنى عشرة إلا ثلاثة : سبعة بإخراج ثلاثة من عشرة ، وقولك بعد ذلك إلا أربعة ، تدخل به الأربعة ، وتزيدها على السبعة فتكون أحد عشر ؛

وفيه نظر ، لأن الاستثناء بعد المنفي إنما يكون موجبا إذا كان من ذلك المنفي ، وقولك إلا أربعة ، لا يمكن أن يكون من الثلاثة ، فهو إمّا من العشرة ، كما أن : إلا ثلاثة منها ، أو من السبعة الباقية بعد الاستثناء الأوّل ، وكلتاهما مثبتتان (٤) ، فتكون الأربعة على التقديرين منفية ، فيكون الإقرار بثلاثة على الوجهين ؛

ومذهب غيره أن الاستثناءين من المستثنى الأول ، فيكون الإقرار بثلاثة ، كما بيّنّا ؛ وإن كان المستثنى الأول أكثر من المستثنى منه ، أو مساويا له ، بطل الاستثناء قولا واحدا ، نحو : له عليّ خمسة إلا ستة ، وكذا إذا قلت : له عليّ عشرة ، إلا خمسة إلا ستة ، فالاستثناء الثاني لغو عند غير الفراء ، لأنه لا يمكن استثناء الخمسة والستة من العشرة ، وعند الفراء ، لا يلغو (٥) ، ويلزمه أحد عشر ؛

وإن كان في غير العدد ، فإمّا أن يكون المستثنى منه واحدا ، أو ، لا ؛ فإن كان واحدا ، ولم يكن الاستثناء مفرّعا ، فإن تقدّمت المكرّرات على المستثنى منه ، فالجميع منصوب على الاستثناء ، نحو : ما جاءني إلا زيدا ، إلا عمرا ، إلا خالدا أحد ، إذ لا يمكن إبدال أحدها من المستثنى منه ؛

__________________

(١) مقابل قوله في التكرار لغير التأكيد : فإن أمكن .. الخ ؛

(٢) المقصود في المثال أن الأربعة لا يمكن دخولها في الثلاثة ،

(٣) واضح أن المراد من الوتر هنا : اللفظ الواقع في مرتبة الوتر سواء كان مثل الثلاثة والخمسة أو مثل الأربعة والستة ، وأن الشفع هو اللفظ في المرتبة الزوجية بالنسبة لكلام المتكلم ؛

(٤) يجوز في خبر كلا وكلتا مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى ، فيفرد أو يثنى ؛ والرضي يستعمل الوجهين ؛

(٥) أي لا يعتبر لغوا ،

١١٩

وإن تأخرت عن المستثنى منه ، فلأحد المستثنيات ، سواء كان الذي ولي المستثنى منه أو غيره : النصب على الاستثناء ، أو الإبدال ، والباقي واجب النصب بعد الإبدال ، لأن المبدل منه مرة ، لا يبدل منه أخرى ، إذ صار بالإبدال منه أوّلا ، كالساقط ، ومثاله : ما جاءني أحد إلا زيد ، أو ، إلّا زيدا ، إلا عمرا إلا بكرا إلا خالدا ؛

وإن توسطها المستثنى منه ، فلما تقدم (١) عليه ، النصب على الاستثناء ، وواحد من المتأخرات جائز الإبدال ، والنصب على الاستثناء ، وباقيها واجب النصب بعد الإبدال ، نحو : ما جاءني إلا زيدا إلا عمرا أحد إلا بكر أو إلا بكرا إلا خالدا ؛

وإن كان الاستثناء مفرغا شغل العامل ببعضها ، أيّها كان ، ونصب ما سواه على الاستثناء ، لامتناع شغل العامل بأكثر من واحد ، وامتناع الإبدال ، أيضا (٢) ، فلم يبق إلا النصب على الاستثناء ، نحو : ما جاءني إلا زيد إلا عمرا إلا بكرا إلا خالدا ؛

ونقل عن الأخفش ، تجويز إضمار حرف العطف في مثله ، فيعطفه على ما اشتغل به الفعل ؛ وليس (٣) إضمار حرف العطف بالشيء المشهور ؛

واعلم أن (٤) في جميع هذه الأقسام ، من المفرغ وغيره ، مستثنياتها مخرجة ، من متعدد واحد ، ظاهر في غير المفرغ ، مقدر في المفرغ ، ففي قولك : ما جاءني أحد إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا ، زيد مخرج من أحد ، وعمرو مخرج مما بقي من أحد بعد إخراج زيد ، أي ما جاءني غير زيد إلا عمرا ؛ وخالد مخرج مما بقي من أحد بعد إخراج زيد وعمرو ، أي ما جاءني غير زيد وعمرو ، إلا خالدا ، فالكل مستثنى من المنفي الأول ، فيكون الكل مثبتا ؛

وكذا في المفرّغ ، نحو : ما جاءني إلا زيد إلا عمرا إلا خالدا ، عمرو ، مخرج من

__________________

(١) أي للمتقدّم على المستثنى منه : النصب.

(٢) لعدم وجود مبدل منه لأن الغرض أن الاستثناء مفرغ ؛

(٣) هذا ردّ على ما نقل عن الأخفش ،

(٤) اسم أن في مثل هذا التركيب ، ضمير شأن محذوف حتى يستقيم الكلام ، وما سوى ذلك يكون تكلفا ؛

١٢٠