شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

المتعدد المقدر بعد خروج زيد ، وخالد مخرج منه بعد خروج زيد وعمرو ؛ وكذا لو كان الأول موجبا ، نحو : جاءني القوم إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا ، ولا يجوز التفريغ والإبدال ههنا ؛ أي جاءني غير زيد من جملة القوم إلا عمرا ، وجاءني غير زيد وعمرو من جملتهم إلا خالدا ، وكل المستثنيات ههنا منفية ؛

وإن كان المستثنى منه أكثر من واحد (١) ، فإن كان في غير الموجب لم يجز في ثاني المستثنيين إلا النصب على الاستثناء ، نحو : ما أكل أحد إلا الخبز إلا زيدا ، لأن النفي قد انتقض بالّا الأولى ، فهو استثناء من موجب ، والمعنى كل أحد أكل الخبز فقط إلا زيدا فإنه لم يأكله فقط ، بل أكل معه شيئا آخر ، أيضا ؛ فإن لم يذكر ما استثنى منه المستثنى الأول كما ذكرنا ، اشتغل العامل به كما رأيت ، وإن ذكرته جاز في المستثنى الأول : الإبدال ، والنصب على الاستثناء ، نحو : ما أكل أحد شيئا إلا الخبز إلا زيدا ؛

وإن كان الكلام موجبا ، فلا بدّ من ذكر المستثنى منهما ، لأن الموجب لا يفرغ ، على ما تقدم ، تقول : أكل القوم جميع الطعام إلا الخبز إلا زيدا ، والنصب واجب في أوّل المستثنيين ، لأنه عن موجب ، وأمّا ثانيهما فالقياس جواز إبداله ، ونصبه على الاستثناء ، لأنه في المعنى عن غير موجب بسبب نقض إلا لمعنى الإيجاب ، والمعنى : ما أكل القوم الخبز إلّا زيد وإلا زيدا ، وإن كان القوم في اللفظ في حيّز الإيجاب ؛

وسادسها : أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بالواو ، إذا تعقّبها الاستثناء الصالح للجميع ، كقوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ..)(٢) الآية ، فما يقتضيه مذهب محققي البصرة ، وهو أن الجملة بكمالها عاملة في المستثنى عمل «عشرون» في الدرهم ، أو أن العامل معنى الفعل فيها : أن (٣) الجملة الأخيرة أولى بالعمل فيه ، فيكون من باب تنازع العاملين فصاعدا ، لمعمول واحد ، ولو كان العامل جميعها ، لزم حصول أثر

__________________

(١) أي من حيث الواقع ، ولا يكون مذكورا في اللفظ ، كما يفهم من بقية حديثه ،

(٢) الآية ٤ من سورة النور ، والاستثناء في الآية التالية لها ، وهي : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ...».

(٣) هذا خبر قوله : فما يقتضيه مذهب محققي البصرة ، وما بينهما اعتراض. بيّن فيه مذهب هؤلاء ؛

١٢١

واحد من مؤثرين مستقلين أو أكثر ، وهذا مما لا يجيزونه ، حملا للعوامل على المؤثرات الحقيقية ، وأمّا إن كانت الجملة الأخيرة مستأنفة ، والواو للابتداء ، فلا كلام في انفرادها به ، كقولك : أكرم بني تميم ؛ والنحاة هم البصريون الّا فلانا ؛

[المستثنى المجرور]

[وبقية أدوات الاستثناء]

[قال ابن الحاجب :]

«ومخفوض بعد غير ، وسوى وسواء ، وبعد حاشا في الأكثر»

«واعراب غير كإعراب المستثنى بالا على التفصيل» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «ومخفوض» ، عطف على قوله : وهو منصوب ، في أول باب الاستثناء ؛ وإنما وجب خفضه بعد هذه الأسماء لكونه مضافا إليه ؛

وفي «سوى» أربع لغات ، كما في حجة القراءة (١) : فتح السين وكسرها مع القصر ، وهما المشهورتان ، وكسر الأول مع المدّ ، وضمه مع القصر ؛

قوله : «وبعد حاشا في الأكثر» ، التزم سيبويه حرفية «حاشا» ، لقولهم : حاشاي ، من دون نون الوقاية ، ولو كان فعلا لم يجز ذلك ، وامتناع وقوعه صلة لما المصدرية مطردا ، كخلا وعدا ، يمنع فعليته ،.

__________________

(١) لأبي علي الفارسي كتاب اسمه : الحجة ، في توجيه القراءات ،

١٢٢

على أنه روى الأخفش قول الشاعر :

٢٢٤ ـ رأيت الناس ما حاشا قريشا

فانا نحن أفضلهم فعالا (١)

وما حكى المازني من قول بعضهم : اللهم اغفر لي ولمن سمع دعائي حاشا الشيطان وابن الأصبغ (٢) ، بفتح (٣) الشيطان ، أي جانب الغفران الشيطان : شاذ (٤) عند سيبويه ، وزعم الفراء أنه فعل لا فاعل له ، والجر بعده بتقدير لام متعلقة به محذوفة لكثرة الاستعمال ؛ وهو بعيد ، لارتكاب محذورين : اثبات فعل بلا فاعل وهو غير موجود ، وجرّ بحرف جر مقدر وهو نادر ؛ وعند المبرد يكون تارة فعلا ، وتارة حرف جر ، وإذا وليته اللام ، نحو : حاشا لزيد ، تعيّن ، عنده ، فعليته ؛

هذا ما قيل ، والأولى أنه مع اللام : اسم ، لمجيئه معها متونا كقراءة أبي السّمال (٥) : «حاشا لله» (٦) ، فنقول : انه مصدر بمعنى : تنزيها لله ، كما قالوا في سبحان الله ، وهو بمعنى حاشا : سبحانا ، قال :

٢٢٥ ـ سبحانه ثم سبحانا نعوذ به

وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (٧)

فيجوز ، على هذا ، أن نرتكب كون «حاشا» في جميع المواضع مصدرا بمعنى تبرئة وتنزيها ، وأمّا حذف التنوين في : حاشا لك ، فلاستنكارهم للتنوين فيما غلب عليه تجريده منه لأجل الاضافة ، وهذا كما قال بعضهم في قوله :

__________________

(١) نسبه العيني في الشواهد الكبرى للأخطل ونقل ذلك عنه شراح الشواهد ، وقال البغدادي في خزانة الأدب إنه فتش ديوان الأخطل مرتين فلم يجده فيه ، قال : ووجدت فيه أبياتا على هذا الوزن في هجاء جرير ، ويروى : فأما الناس .. وبذلك تكون الفاء في قوله فانا في جواب أمّا ،

(٢) بالغين المعجمة ويروى وأبا الأصبغ ،

(٣) أي بنصبه على أنه مفعول حاشا ،

(٤) خبر عن قوله : وما حكى المازني الخ

(٥) أبو السمّال ، بتشديد الميم ولام في آخره ، أحد أصحاب القراءات الشاذة ، واسمه : قعنب الأسدي ، وهو غير ابن السماك بالكاف في آخره ،

(٦) جزء من الآية ٥١ من سورة يوسف وستأتي ،

(٧) الجوديّ والجمد بفتح الجيم والميم جبلان ، والبيت لورقة بن نوفل ، قاله ضمن أبيات حين رأى كفار مكة يعذبون بلالا رضي الله عنه ،

١٢٣

٢٢٦ ـ أقول لما جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر (١)

إنّ ترك تنوينه لا يدلّ على علميّته ، لأنه لأجل إبقائه على صورة المضاف لمّا غلب استعماله مضافا ، كما يجيئ في بيان «سوى» ويجوز أن نقول ان «حاشا» الجارة حرف ، وهي في نحو : حاشا لله ، اسم بني لمشابهته لفظا ومعنى لحاشا الحرقية ؛

واستدل المبرد على فعليته بتصريفه ، نحو : حاشيت زيدا أحاشيه ، قال النابغة :

٢٢٧ ـ ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه

ولا أحاشي من الأقوام من أحد (٢)

وليس بقاطع ، لأنه يجوز أن يكون مشتقا من لفظ «حاشا» حرفا أو اسما ، كقولهم : لو ليت أي قلت لو لا ، ولا ليت ، أي قلت : لا ، لا ؛ وسبّحت ، أي قلت سبحان الله ، ولبّيت أي قلت لبّيك ، وهذا هو الظاهر ؛ لأن المشتق الذي هذا حاله ، بمعنى قول تلك اللفظة التي اشتق منها ، فالتسبيح : قول سبحان الله ، والتسليم : قول سلام عليك ، والبسملة : قول بسم الله ، وكذا غيره ؛ ومعنى حاشيت زيدا ، قلت : حاشا زيد ، واستدلاله على فعليته بالتصرف فيه ، والحذف نحو : (حاش الله)(٣)  ليس بقويّ ، لأن الحرف الكثير الاستعمال قد يحذف منه ، نحو : سو أفعل ، في : سوف أفعل ؛

وكثر فيها : حاش ، وقلّ : حشا ، لأن الحذف في الأطراف أكثر ، وإذا استعمل «حاشا» في الاستثناء وفي غيره ، فمعناه تنزيه الاسم الذي بعده من سوء ذكر في غيره أو فيه ، فلا يستثنى به إلا في هذا المعنى ؛ وربّما أرادوا تنزيه شخص من سوء ، فيبتدئون بتنزيه الله سبحانه وتعالى من السوء ، ثم يبرّئون من أرادوا تبرئته ، على معنى أن الله تعالى

__________________

(١) من قصيدة الأعشى في تفضيل عامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة ، الصحابي ، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن روايتها لما تضمنته من هجاء مقذع لعلقمة ، قال البغدادي بعد أن روى الحديث وأورد أبياتا من القصيدة : ولهذا لم أذكرها كلها ،

(٢) من قصيدته التي تعد إحدى المعلقات ، والتي أولها :

يا دارمية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

والمقصود من قوله يشبهه : النعمان بن المنذر ، وهو يعتذر إليه في هذه القصيدة ؛

(٣) الآية السابقة من سورة يوسف وستأتي

١٢٤

منزّه عن ألّا يطهّر ذلك الشخص مما يصمه (١) ، فيكون آكد وأبلغ ، قال الله تعالى : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)(٢) ،

وقد جاء في كلامهم «إلّا» قبل «ما خلا وما عدا» لا قبل غيرهما ، فيكون تكريرا معنويا لكلمة الاستثناء ؛

وجوّز الكسائي دخول «إلّا» على «حاشا» الجارة ؛

[استعمال غير]

[والتبادل بينها وبين إلّا]

[قال ابن الحاجب :]

«وغير ، صفة ، حملت على الّا في الاستثناء ، كما حملت»

«هي عليها في الصفة ، إذا كانت تابعة لجمع منكور غير»

«محصور ، لتعذر الاستثناء ، مثل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٣)» ؛

[قال الرضي :]

قوله : غير ، مبتدأ ، وصفة : خبره ؛

اعلم أن أصل «غير» : الصفة المفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها ، إمّا بالذات ، نحو : مررت برجل غير زيد ، وإمّا بالصفات ، نحو : دخلت بوجه غير الوجه الذي خرجت

__________________

(١) أي مما يعيبه ويشينه ،

(٢) الآية ٥١ من سورة يوسف ، وبالواو قبل قلن جزء من الآية ٣١ من السورة نفسها

(٣) الآية ٢٢ من سورة الأنبياء ؛

١٢٥

به ، والأصل هو الأوّل ، والثاني مجاز ؛ فإن الوجه الذي تبيّن فيه أثر الغضب كأنّه غير الوجه الذي لا يكون فيه ذلك بالذات ؛ وماهية المستثنى ، كما ذكرنا في حده : هو المغاير لما قبل أداة الاستثناء نفيا وإثباتا ، فلما اجتمع ما بعد «غير» وما بعد أداة الاستثناء في معنى المغايرة لما قبلها ، حملت أمّ أدوات الاستثناء أي «إلّا» في بعض المواضع على «غير» في الصفة ، وحملت «غير» على «الّا» في الاستثناء في بعض المواضع ، ومعنى الحمل : أنه صار ما بعد «الا» مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة كما بعد «غير» ولا تعتبر مغايرته له نفيا وإثباتا ؛ كما كان في أصلها ؛ وصار ما بعد «غير» مغايرا لما قبلها نفيا وإثباتا ، كما بعد «الا» ، ولا تعتبر مغايرته له ذاتا ، أو صفة ، كما كانت في الأصل ؛ إلا أنّ حمل «غير» على «إلّا» أكثر من العكس ، لأن «غيرا» اسم ، والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف ، فوقع «غير» في جميع مواقع «إلّا» (١) ، في المفرغ وغيره ، والمنقطع وغيره ، مؤخرا عن المستثنى ومقدما عليه ، وبالجملة ، في جميع محالّه ، إلا أنه لا يدخل على الجملة كإلّا ، لتعذّر الاضافة إليها ؛ ولم يحمل «الا» على «غير» إلا بالشرائط التي نذكرها ؛

فإذا دخل (٢) «إلا» على غير ، وإلّا ، في الأصل حرف ، لا يتحمّل الاعراب ، روعي أصلها ، فجعل اعرابها الذي كانت تستحقه لو لا المانع المذكور على ما بعدها عاريّة ، وإذا دخل «غير» على «إلّا» ، وأصل «غير» من حيث كونه اسما جواز تحمل الاعراب ، وما بعده ، الذي صار مستثنى بتطفل «غير» على «إلا» مشغول بالجر لكونه مضافا إليه في الأصل ، جعل اعرابه الذي كان يستحقه لو لا المانع المذكور ، أي اشتغاله بالجر ، على نفس «غير» عاريّة ؛

فعلى هذا التقدير ، لا حاجة إلى أن يعتذر ، لانتصاب «غير» في الاستثناء بما قال بعضهم ، لمّا رأى انتصابه من دون واسطة ، كما كان في المستثنى بالّا ؛ وهو (٣) أنه إنما انتصب بلا واسطة حرف لمشابهته الظروف المبهمة بابهامه ؛

__________________

(١) أي استعمل ، غير ، استعمال الا ، في جميع أحوالها ؛

(٢) أي استعمل استعمالها

(٣) أي ما قاله بعضهم في تعليل انتصاب غير ، والذي قال انه لا حاجة إلى الاعتذار به ؛

١٢٦

وإنما لم يحتج إلى هذا العذر المذكور ، لما بيّنا أن حركة «غير» لما بعدها على الحقيقة ، وهي عليها عاريّة ، فكأنّ «غير» هي الواسطة لانتصاب ما بعدها في الحقيقة ، والدليل على أن الحركة لما بعدها حقيقة : جواز العطف على محله ، نحو : ما جاءني غير زيد وعمّرو ، بالرفع عطفا على محل زيد ، لأن المعنى : ما جاءني إلا زيد ؛

قال الفراء : يجوز أن يبنى «غير» في الاستثناء مطلقا ، سواء أضيف إلى معرب أو مبنيّ ؛ لكونه بمعنى الحرف ، يعني «إلّا» ،

ومنعه البصريون ، لأن ذلك فيه عارض غير لازم فلا اعتبار به ، وأمّا إذا أضيف إلى «أن» ، فلا خلاف في جواز بنائه على الفتح كما في قوله :

٢٢٨ ـ لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال (١)

كما يجيئ في باب الإضافة ، ويجوز أن يكون نحو قوله :

٢٢٩ ـ غير أني قد أستعين على الهم

مّ إذا خفّ بالثوي النجاء (٢)

من هذا الباب ، أي مبنيا على الفتح ، لاضافته إلى «أنّ» ، كما في قوله تعالى : (مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)(٣) ، ويجوز أن يكون منصوبا لكونه استثناء منقطعا ؛

وقولهم بيد ، مثل غير ، ولا تجيئ إلا في المنطقع مضافة إلى «أنّ» وصلتها ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : «أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش» (٤) ، ويجوز أن يقال ببنائها لاضافتها إلى «أنّ» وأن يقال هي منصوبة لكونها في الاستثناء المنقطع ؛

__________________

(١) من قصيدة لأبي قيس بن الأسلت ، وهو في وصف الناقة ، والضمير في قوله منها يعود إلى الناقة حيث يقول قبل ذلك :

ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا

فيها ، فصرت إلى وجناء شملال

والأوقال في بيت الشاهد. جمع وقل ، وهو شجر الدوم أو ثمره ؛

(٢) هذا أحد أبيات معلقة الحارث بن حلّزة اليشكري ، ويرتبط به قوله بعده :

بزقوف كأنها هقلة أم

م رئال دويّة سقفاء

(٣) الآية ٢٣ سورة الذاريات ،

(٤) قال ابن هشام في مغني اللبيب في الكلام على «بيد» ، إنها تكون بمعنى من أجل ، واستشهد بالحديث ، ويتغير المعنى على الوجهين ؛

١٢٧

قوله : «كما حملت هي عليها في الصفة» أي كما حملت «الّا» على غير ، في الصفة ؛ قوله : لجمع ، أي : ما يدل على الجمعية ، جمعا كان كرجال ، أو ، لا ، كقوم ورهط ، وإنما شرط هذا الشرط ليوافق حالها صفة حالها أداة استثناء ، وذلك لأنه لا بدّ لها في الاستثناء من مستثنى منه متعدد ، لفظا كان أو تقديرا ، فلا تقول في الصفة : جاءني رجل إلا زيد ، ولا يجوز تقدير الموصوف قبل إلّا ، وصفا ، كما جاز في غير ، وذلك ليكون أظهر في كونها صفة ؛ وشرط كون الجمع منكرا ، لأنه إذا كان معرّفا ، نحو : جاءني الرجال ، أو القوم إلا زيد ، احتمل أن يراد به استغراق الجنس فيصح الاستثناء ، واحتمل أن يشار به إلى جماعة يعرف المخاطب أن فيهم زيدا ، فلا يتعذّر ، أيضا ، الاستثناء الذي هو الأصل في «الّا» ، فالسامع يحمل «الا» على أصلها من الاستثناء ، فاختير كونه منكرا غير محصور ، لئلا يتحقق دخول ما بعد «الّا» فيه فيضطر السامع على حمل «الّا» على غير الاستثناء ؛

واشترط أن يكون المنكور غير محصور ، والمحصور شيئان : إمّا الجنس المستغرق ، نحو : ما جاءني رجل أو رجال ، وإمّا بعض منه معلوم العدد ، نحو : له عليّ عشرة دراهم أو عشرون ، لأنه (١) إن كان محصورا على أحد الوجهين وجب دخول ما بعد إلا فيه فلا يتعذر الاستثناء فلا يعدل عنه ، وذلك نحو : كل رجل إلا زيدا جاءني ، وله عليّ عشرة إلا درهما ، وربّما كان المنكر محصورا وتجوز الصفة (٢) ، لعدم دخوله قطعا (٣) فيه ، كقولك عندي عشرة رجال إلا زيد ، ففيه الصفة لا غير ، وكذا في المحصور الآخر نحو : ما جاءني رجلان إلا زيد ، وما جاءني رجال إلا عمرو ، فإن معنى ما جاءني رجلان : ما جاءني اثنان من هذا الجنس ، وزيد ليس اثنين منه ، فلا يدخل فيه ، وكذلك : معنى ما جاءني رجال : ما جاءني جماعة من هذا الجنس ، وعمرو ليس جماعة ، فلا يدخل ؛ فليس في مثله ، إذن ، إلا الصفة ، أو الاستثناء المنقطع ؛

__________________

(١) علة اشتراط كونه غير محصور

(٢) أي جعل إلا صفة ،

(٣) المراد القطع بعدم دخوله ؛

١٢٨

هذا كله مبني على أن المستثنى واجب الدخول في المستثنى منه ، كما هو مذهب جمهور النحاة ، وأمّا على مذهب المبرد فيجوز الاستثناء مع هذه الشروط ، أيضا ، لأنه يكتفي لصحة الاستثناء ، بصحة الدخول ؛

وقال الأندلسيّ والمالكيّ (١) : لا بدّ لالّا ، إذا كانت صفة من منبوع ظاهر كما ذكر المصنف ، جمع أو شبهه ، منكر أو معرّف باللام الجنسية ، قال :

٢٣٠ ـ أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلا بغامها (٢)

ويجوز في البيت أن تكون «الّا» للاستثناء ، وما بعدها بدل من الأصوات ، لأن في «قليل» معنى النفي ، كما ذكرنا ؛

ومذهب سيبويه (٣) : جواز وقوع «الا» صفة مع صحة الاستثناء ، قال : يجوز في قولك : ما أتاني أحد إلا زيد ، أن تكون «إلا زيد» بدلا ، وصفة ، وعليه أكثر المتأخرين تمسكا بقوله :

٢٣١ ـ وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان (٤)

وقوله عليه الصلاة والسّلام : «الناس كلهم هالكون إلا العالمون ، والعالمون كلهم

__________________

(١) الرأي الذي أورده الرضي هنا منسوبا للأندلسي والمالكي ، هو مما عرفت نسبته لابن مالك أيضا ، وهذا مما يقوي انه يريد بالمالكي : ابن مالك والله أعلم ،

(٢) من قصيدة لذي الرمة ، وهو من حديثه عن الناقة في أول القصيدة :

ألا خيّلت ميّ وقد نام صحبتي

فما نفرّ التهويم إلا سلامها

طروقا ، وجلب الرحل مشدودة به

سفينة برّ تحت خدي زمامها

وقوله طروقا ، مصدر طرق ، إذا جاء ليلا ، وهو متصل بقوله خيّلت أي زار خيالها ليلا ، ويروى الشطر الثاني : فما أرّق النيّام إلا كلامها ؛ وسفينة البر ، من أحسن ما وصفت به الناقة ، وبلدة ، الأولى : صدر الناقة ، والثانية الأرض ، والبغام صوت الظبية أطلقه على صوت الناقة ؛

(٣) سيبويه ج ١ ص ٣٧١ وأشرت فيما سبق إلى أن معظم ما في هذا الباب بلفظه أو معناه منقول عن سيبويه في باب الاستثناء ؛

(٤) الفرقدان : نجمان متلازمان منذ وجدا وقد أورد البغدادي أوجها أخرى في توجيه البيت غير ما قاله الشارح والبيت منسوب لعمرو بن معد يكرب ، ولحضرميّ بن عامر الأسدي ؛

١٢٩

هالكون إلا العاملون ، والعاملون كلهم هالكون إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم» ؛

وقال الكسائي : تقدير البيت : إلا أن يكون الفرقدان ؛ وهو مردود ، لأن الحرف الموصول لا يحذف إلا بعد الحروف التي تذكر في نواصب المضارع ؛

وقال المصنف : في البيت شذوذان : وصف كل ، دون المضاف إليه ، والمشهور وصف المضاف إليه ، إذ هو المقصود ، و «كل» لإفادة الشمول فقط ، وهذا الوصف ضرورة للشاعر ، إذ لو جاز له وصف المضاف إليه ، وهو أن يقول : إلا الفرقدين ، لم يجعل إلا صفة ، بل كان يجعله استثناء ؛ والشذوذ الثاني : الفصل بالخبر بين الصفة والموصوف وهو قليل ؛

وقوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(١) ، قال سيبويه : لا يجوز ههنا إلا الوصف ، لأنك لو قلت : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، لم يجز ، يعني أن البدل لا يجوز إلا في غير الموجب ؛ وليس الشرط ، وإن لم يكن موجبا صرفا ، من غير الموجب الذي يجوز معه الإبدال ،

قال المصنف : ولا يجري النفي المعنوي كاللفظي ، إلا في : قلّما ، وقلّ رجل ، وأبى ومتصرّفاته ، كما مضى ، قال : وأيضا ، البدل لا يجوز ، إلا حيث يجوز الاستثناء ، ولا يجوز الاستثناء ههنا ، لأن «الله» غير واجب الدخول في «آلهة» ، المنكّر ، لأنه غير عام ولا محصور ؛

ولو وقع ، أيضا ، الجمع المنكر في سياق النفي ، وقصد به الاستغراق لم يجز استثناء المفرد منه ، كما تقدم ، من أنه لا يقال : ما جاءني رجال إلا زيدا ، على أنه استثناء متصل ؛

وأجاز المبرد رفع «الله» على البدل ، لأنّ في «لو» معنى النفي ، إذ هو لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فكأنّه قيل : ما فيهما آلهة إلا الله ؛ وهذا كما أجرى الزجاج التحضيض

__________________

(١) الآية ٢٢ سورة الأنبياء ؛

١٣٠

في قوله تعالى : (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ ...) (١) الآية ، مجرى النفي فأجاز البدل في «قوم يونس» ؛ والأولى منع إجراء الشرط والتحضيض في جواز الإبدال والتفريغ معهما ، مجرى النفي ، إذ لم يثبت ؛

وأمّا عدم وجوب دخول «الله» في «آلهة» فلا بضر المبرد ، لأنه يكتفي في جواز الاستثناء بصحة الدخول كما تقدم ؛

قوله : «وهو في غيره ضعيف» ، يعني جعل «الا» صفة في غير الموضع الجامع للشروط المذكورة ، كما في قوله :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان (٢) ـ ٢٣١

ضعيف (٣) ؛ هذا عند المصنف ، ولا يضعف عند سيبويه وأتباعه كما تقدم ؛

[سوى وسواء]

[معناهما ، واستعمالاتهما]

[قال ابن الحاجب :]

«واعراب سوى وسواء : النصب على الظرف ، على الأصح» ؛

[قال الرضي :]

إنما انتصب «سوى» ، لأنه في الأصل صفة ظرف مكان وهو «مكانا» ، قال الله

__________________

(١) الآية ٩٨ من سورة يونس وتكرر ذكرها في هذا الباب

(٢) البيت المتقدم قبل قليل ؛

(٣) خبر عن قوله في شرح عبارة المتن : يعني جعل الا صفة ؛

١٣١

تعالى : (مَكاناً سُوىً)(١) ؛ أي مستويا ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه مع قطع النظر عن معنى الوصف ، أي معنى الاستواء الذي كان في «سوى» فصار «سوى» بمعنى : «مكانا» فقط ، ثم استعمل «سوى» استعمال لفظ مكان ، لمّا قام مقامه في افادة معنى البدل ، تقول أنت لي مكان عمرو ، أي بدله ، لأن البدل سادّ مسدّ المبدل منه وكائن مكانه ، ثم استعمل بمعنى البدل في الاستثناء ، لأنك إذا قلت جاءني القوم بدل زيد ، أفاد أن زيدا لم يأت ، فجّرد عن معنى البدلية أيضا ، لمطلق معنى الاستثناء ؛

فسوى ، في الأصل : مكان مستو ، ثم صار بمعنى مكان ، ثم بمعنى بدل ، ثم بمعنى الاستثناء ، ولا يجوز في «سوى» القطع عن المضاف إليه كما يجوز في «غير» على ما يجيئ ، والتزم بعضهم وجوب اضافته إلى المعارف ، فلا يجيز : جاءني القوم سوى رجل منهم طويل ، وهو الظاهر من كلامهم ؛ وعند البصريين ، هو لازم النصب على الظرفية لأنه ، في الأصل ، صفة ظرف ، والأولى في صفات الظروف إذا حذفت موصوفاتها : النصب ، فنصبه على كونه ظرفا في الأصل ، وإلّا فليس الآن فيه معنى الظرفية ؛ والدليل على ظرفيته في الأصل : وقوعة صلة ، بخلاف «غير» ، نحو : جاءني الذي سوى زيد ؛

وعند الكوفيين يجوز خروجها عن الظرفية ، والتصرف فيها رفعا ونصبا وجرّا ، كغير ، وذلك لخروجها عن معنى الظرفية إلى معنى الاستثناء ، قال :

٢٣٢ ـ ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا (٢)

__________________

(١) من الآية ٥٨ سورة طه ،

(٢) من أبيات للفند الزمّاني ، مما قيل في حرب البسوس ، يقول فيها :

صفحنا عن بني ذهل

وقلنا : القوم إخوان

إلى أن يقول :

فلما صرّح الشرّ

فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوان .. البيت ؛

١٣٢

وقال :

٢٣٣ ـ تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا (١)

ومثله عند البصريين شاذ ، لا يجيئ إلا في ضرورة الشعر ؛

وزعم الأخفش أن «سواء» إذا أخرجوه عن الظرفية ، أيضا ، نصبوه ، استنكارا لرفعه فيقولون جاءني سواءك وفي الدار سواءك ؛ ومثل هذا في استنكار الرفع فيما غلب انتصابه على الظرفية قوله تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ) (٢) ، و: (قَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (٣) ؛ وتقول :

لي فوق السداسيّ ودون السباعيّ ؛ (٤)

[حذف المستثنى](٥)

[استعمال ليس غير وليس إلا]

واعلم أن المستثنى قد يحذف من «الا» و «غير» الكائنين بعد «ليس» فقط ، كما يحذف ما أضيف إليه «غير» الكائن بعد «لا» ، تقول : جاءني زيد ليس إلّا ، وليس غير ، بالضم ، تشبيها لغير بالغايات حين حذف المضاف إليه ، كما يجيئ في الظروف المبنية ، و «غير» خبر ليس ، أي : ليس الجائي غيره ، وقال الأخفش : يجوز أن يكون اسمه وقد حذف المضاف إليه ، وأبقي المضاف على حاله ، كقوله :

__________________

(١) من قصيدة للأعشى في مدح هوذة بن عليّ الحنفي ، ويروي : عن جلّ اليمامة أي عن معظم أهلها وقبله :

إلى هوذة الوهّاب أعملت مدحتي

أرجّي نوالا فاضلا من عطائكا

واستجاد البغدادي هذه القصيدة ، وقال إنها تشبه اشعار المحدثين لسهولة ألفاظها ؛

(٢) الآية ١١ من سورة الجن ،

(٣) من الآية ٩٤ سورة الأنعام ،

(٤) الثوب السداسي أو الأزار السداسي : ما كان طوله ست أذرع. والسباعي ما كان طوله سبع أذرع ؛

(٥) من استطرادات الرضي ،

١٣٣

٢٣٤ ـ خالط من سلمى خياشيم وفا (١)

وهو ضعيف من وجهين : أحدهما أن حذف خبر «ليس» قليل ، والثاني أن حذف المضاف إليه وإبقاء المضاف على حاله قليل ؛

وقد يقال (٢) : ليس غير ، بالنصب ، على إبقاء المضاف على حاله بعد حذف المضاف إليه ؛ وقد ينوّن «غير» ، على ما حكاه الأخفش في الحالين ، نحو : ليس غير ، وليس غيرا ، كما ينوّن كل ، وبعض عوضا عن المضاف إليه ؛

وحكى الأخفش ليس غيره وليس غيره ، وهذا ممّا يقوّي من مذهبه ، من كون : ليس غير بالضم : على حذف الخبر ؛

ويجوز أن يقال : حسن حذف خبر ليس ههنا وإن كان قليلا في غير هذا الموضع ، لكثرة استعماله في الاستثناء ؛ والنصب على إضمار اسم ليس أي : ليس الجائي غيره ، وإذا أضيف «غير» ظاهرا (٣) ، جاز عند الأخفش أن يأتي بعد «لم يكن» ، نحو : جاءني زيد لم يكن غيره ، وغيره بالرفع والنصب ، على التفسيرين المذكورين ، قال : وتقول جئتني ليس غيرك وغيرك ، ولم يكن غيرك وغيرك ؛

[لا سيّما](٤)

وأمّا «لا سيّما» ، فليس من كلمات الاستثناء حقيقة ، بل المذكور بعده منبّه على أولويّته بالحكم المتقدم ، وإنما عدّ من كلماته ، لأن ما بعده مخرج عمّا قبله من حيث أولويّته بالحكم ؛

__________________

(١) في تأويل هذا الشاهد أوجه وتأويلات أفاض فيها البغدادي وهو من أرجوزة للعجاج ؛

(٢) مع ضعفه كما ضعف رأي الأخفش

(٣) أي إضافة ظاهرة ، وإلا فهو لا يستعمل إلا مضافا ولو تقديرا ؛

(٤) وهذا أيضا من استطرادات الرضي ،

١٣٤

فإن جرّ ما بعده ، فباضافة «سيّ» إليه ، و «ما» زائدة ، ويحتمل أن تكون نكرة غير موصوفة ، والاسم بعدها بدل منها ،

وإن رفع ، وهو أقل من الجرّ ، فخبر مبتدأ محذوف ، و «ما» بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة بجملة اسمية ، وإنما كان أقلّ ، لأن حذف أحد جزأي الاسمية التي هي صلة كقراءة (١) من قرأ : (تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ) (٢) ، أو صفة ، قليل (٣) ؛

وليس نصب الاسم بعد «لا سيّما» بقياس ، لكن روي بيت امرئ القيس :

٢٣٥ ـ ألا ربّ يوم صالح لك منهما

ولا سيّما يوم بدارة جلجل (٤)

بنصب «يوما» ، فتكلّفوا لنصبه وجوها ، قال بعضهم : «ما» نكرة غير موصوفة ، ونصب يوما بإضمار فعل ، أي : أعني يوما ؛

قال الأندلسيّ (٥) : لا ينتصب بعد «لا سيّما» إلا النكرة ، ولا وجه لنصب المعرفة ، وهذا القول منه مؤذن

بجواز نصبه قياسا على أنه تمييز ، لأن «ما» بتقدير التنوين ، كما في : كم رجلا ، إذ لو كان باضمار فعل لاستوى المعرفة والنكرة ،

قال الأخفش في قولهم : إن فلانا كريم ولا سيّما إن أتيته قاعدا : «ما» ههنا ، زائدة ، عوضا عن المضاف إليه ، أي : ولا مثله إن أتيته قاعدا ؛

واعلم أن الواو التي تدخل على : لا سيّما في بعض المواضع كقوله :

ولا سيّما يوم بدارة جلجل

__________________

(١) هي قراءة يحيى بن يعمر ، وعبد الله بن أبي اسحاق الحضرميّ وهي شاذة ،

(٢) من الآية ١٥٤ سورة الأنعام.

(٣) خبر عن قوله لأن حذف أحد جزأي الاسمية ... ،

(٤) من معلقة امرىء القيس التي تكررت الشواهد منها في هذا الشرح والضمير في منهما يعود على امرأتين تحدث عنهما قبل ذلك وذكر قصة جرت بينه وبينهما في مكان اسمه دارة جلجل ؛

(٥) الأندلسي تقدم ذكره في هذا الجزء وفي الجزء الأول وسيتكرر ذكره ؛

١٣٥

اعتراضية (١) ، كما في قوله :

٢٣٦ ـ فأنت طلاق ، والطلاق عزيمة

ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم (٢)

إذ هي مع ما بعدها بتقدير جملة مستقلة ؛

والسيّ ، بمعنى المثل ، فمعنى جاءني القوم ولا سيما زيد ، أي : ولا مثل زيد موجود بين القوم الذين جاءوني ، أي : هو كان أخصّ بي ، وأشدّ إخلاصا في المجيئ ، وخبر «لا» محذوف ؛

وتصرّف في هذه اللفظة تصرّفات كثيرة ، لكثرة استعمالها ، فقيل : سيّما ، بحذف «لا» ، و: لا سيما بتخفيف الياء ، مع وجود «لا» وحذفها ، (٣)

وقد يحذف ، ما بعد (٤) «لا سيما» على جعله (٥) بمعنى : خصوصا ، فيكون منصوب المحل ، على أنه مفعول مطلق ، وذلك كما مرّ في باب الاختصاصي (٦) من نقل نحو : ... أيها الرجل من باب النداء ، إلى باب الاختصاص ، لجامع بينهما معنوي ، فصار في نحو :

__________________

(١) الجملة الاعتراضية لا تنحصر في الواقعة بين شيئين متلازمين ، وذلك عند أهل البيان ، وقد شنّع ابن هشام في مغنى اللبيب على من حصرها في الواقعة بين شيئين ؛

(٢) هذا أحد أبيات ثلاثة ، تناقلها النحاة والفقهاء ولم ينسبها أحد منهم ، إلا أنهم قالوا إن الكسائي أرسل بها إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة يسأله الجواب عنها ، وهي :

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن

وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطلاق عزيمة

ثلاثا ، ومن يخرق أعق وأظلم

فبيني بها ، أن كنت غير رفيقة

وما لامرئ بعد الثلاث مقدّم

وفي رواية البيت الذي أورده الشارح روايات كثيرة يختلف الحكم على كل منها وقد بسط البغدادي الكلام على هذه الروايات ، وبيّن ما يستفاد من كل منها من الحكم الشرعي ، وكيفية استخراج هذا الحكم ؛

(٣) قال ابن هشام في مغنى اللبيب نقلا عن ثعلب : من استعمل لا سيما على غير ما جاء في قوله : ولا سيما يوم .. فهو مخطئ ، ثم نقل عن غير ثعلب بعض ما قاله الرضي من التصرفات ،

(٤) يقصد الاسم الذي يقع بعد لا سيما ، ويكون أولى من غيره بالحكم ،

(٥) أي جعل لا سيما ، وكذلك في قوله بعد : فيكون منصوب المحل ،

(٦) ص ٤٣١ من الجزء الأول ،

١٣٦

أنا أفعل كذا أيها الرجل ، .. منصوب المحل على الحال ، مع بقاء ظاهره على الحالة التي كان عليها في النداء من ضم «أي» ، ورفع الرجل ؛ كذلك ، «لا سيّما» ههنا ، يكون باقيا على نصبه الذي كان له ؛ في الأصل حين كان اسم «لا» التبرئة (١) ، مع كونه منصوب المحل على المصدر لقيامه مقام «خصوصا» ،

فإذا قلت : أحبّ زيدا ولا سيّما راكبا ، أو على الفرس ، فهو بمعنى : وخصوصا راكبا ، وكذلك في نحو : أحبّه ولا سيّما وهو راكب ، وكذا : أحبّه ولا سيّما ان ركب ، أي وخصوصا إن ركب ، فجواب الشرط مدلول خصوصا ، أي : إن ركب أخصّه بزيادة المحبة ؛

ويجوز أن يجعل بمعنى المصدر اللازم ، أي اختصاصا ، فيكون معنى وخصوصا راكبا ، أي : ويختص بفضل محبّتي راكبا ، وعلى هذا ينبغي أن نؤوّل ما ذكره الأخفش أعني قوله : ان فلانا كريم ولا سيّما إن أتيته قاعدا ، أي يختص بزيادة الكرم اختصاصا في حال قعوده (٢) ؛ ويجوز مجيئ الواو قبل «لا سيّما» إذا جعلته بمعنى المصدر وعدم مجيئها ، إلا أن مجيئها أكثر ، وهي اعتراضية ، كما ذكرنا ، ويجوز أن تكون عطفا ، والأوّل أولى وأعذب ؛ (٣)

وقد يقال : لا سواء ما ، مقام : لا سيّما ؛

__________________

(١) تكرر وجه تسميتها بذلك ، وهو أنها برّأت الاسم من الاتصاف بالخبر ،

(٢) هذا بيان للمعنى وليس المراد منه أن جملة إن أتيته .. جملة حالية ؛

(٣) في بعض النسخ أولى وأعرب بالراء ، أي أقرب إلى قواعد الإعراب ؛

١٣٧

[الجملة الفعلية]

[بعد إلا]

واعلم أن أصل «الّا» ، أن تدخل على الاسم ، وقد يليها في المفرّغ فعل مضارع ، إمّا خبر لمبتدأ ، كقولك : ما الناس الا يعبرون ، وما زيد إلا يقوم ؛ أو حال ، نحو : ما جاءني زيد إلا يضحك ؛ أو صفة ، نحو : ما جاءني منهم رجل إلّا يقوم ويقعد ؛ ويجوز أن يكون هذا حالا لعموم ذي الحال (١) ؛

وإنما شرط التفريغ ، لتكون «الّا» ملغاة عن العمل على قول (٢) ، أو عن التوصل بها إلى العمل على قول آخر ، فيسهل دفعها عما تقتضيه من الإسم ، لانكسار شوكتها بالإلغاء ، وشرط كونه مضارعا لمشابهته للاسم ؛ وأمّا الماضي ، فجوّزوا أن يليها في المفرغ بأحد قيدين ، وذلك إمّا باقترانه بقد ، نحو : ما الناس إلا قد عبروا ، وذلك لتقريبها له من الحال (٣) ، المشبه للاسم ؛ وإمّا تقدم ماض منفي ، نحو : قولهم : ما أنعمت عليه إلا شكر ، وما أتيته إلا أتاني ، وعنه عليه الصلاة والسّلام : «ما أيس الشيطان من بني آدم إلا أتاهم من قبل النساء» ، وذلك إذا قصد لزوم تعقّب مضمون ما بعد «إلا» ، لمضمون ما قبلها ؛

وإنما جاز أن يليها الماضي مع هذا القصد ، لأنّ هذا المعنى هو معنى الشرط والجزاء ، في الأغلب ، نحو : إن جئتني أكرمتك ، وإنما قلت في الأغلب لأنه قد لا يكون (٤) مضمون الجزاء متعقبا لمضمون الشرط ، بل يكون مقارنا له في الزمان ، نحو : إن كان هناك نار كان احتراق ، وإن كان هناك احتراق فهناك نار ، وإن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق ، لكن التعقب المذكور هو الأغلب ؛

__________________

(١) من استطرادات الرضي أيضا ،

(٢) أي لأنه نكرة في سياق النفي ،

(٣) أي على القول بأنها هي العاملة ، أو على القول بأنها واسطة في العمل ،

(٤) أي المضارع الذي يدل على الحال ؛

(٥) يكثر تعبير الرضي بمثل هذا ، أي دخول قد على الفعل المنفي ، وقد أشرت في أكثر من موضع إلى هذا وقلت أنه غير موافق للقواعد ،

١٣٨

فلما كان تعقب مضمون ما بعد «الا» لمضمون ما قبلها هو المراد ، وكان معنى حرف النفي مع «إلا» يفيد معنى الشرط والجزاء ، أعني لزوم الثاني للأول ، جاز أن يعتبر معنى الشرط والجزاء مع حرف النفي وإلا ، فيصاغ ما قبل إلا ، وما بعدها صوغ الشرط والجزاء ، وذلك إمّا بكونهما ماضيين ، نحو : ما زرتني إلا أكرمتك ، أو مضارعين نحو : ما أزوره إلا يزورني ، ومثل هذا هو الغالب في الشرط والجزاء ، أعني كونهما ماضيين أو مضارعين ، فجاز كون الماضي الذي بعد «إلا» ههنا مجردا عن «قد» والواو ، مع أنه حال ، كما ذكرنا في باب الحال ؛ (١) وذلك لكونه متضمنا معنى الجزاء ، فيكون ما بعد «إلا» ، على هذا المعنى إمّا ماضيا مجرّدا (٢) ، أو مضارعا مجرّدا ، كما رأيت ، وجاز ، أيضا ، أن ينظر إلى كون مثل هذا الفعل حالا في الحقيقة وإن كان فيه معنى الجزاء ، فيؤتى به ماضيا أو مضارعا مع الواو ، نحو : ما زرته إلا وأكرمني ، ولا أزوره إلا ويكرمني ، وإنما اطرد الواو مع هذا النظر لكون هذا الحال غير مقترن مضمونه بمضمون عامله كما هو الغالب في الحال ، نحو : جاءني زيد راكبا ؛ ولفظه ، أيضا ، منفصل عن العامل بالّا ، فجاز أن يستظهر (٣) مطردا ، في ربط مثل هذه الحال بعاملها لفظا ، بحرف الربط أي الواو ، فمن ثمّ ، اطرد نحو : ما أزوره إلا ويكرمني ، وندر : قمت وأصك عينه ، كما مرّ في باب الحال ؛

ويجيئ في الماضي مع الواو «قد» أيضا ، نحو : ما زرته إلا وقد زارني ، ولا يجوز الاقتصار على «قد» ، فلا يقال : ما زرته إلا قد زارني لأنك إن نظرت إلى معنى الجزاء الذي يستفاد من مثل هذه الحال ، فالجزاء لا يتجرد عن الفاء إذا كان مع «قد» ، كما يجيئ في بابه ، وإن نظرت إلى الحال الذي هو أصله فليس فيه حرف الربط المذكور ،

وإنما قلنا إن الأغلب في الحال مقارنة مضمونه لمضمون عامله ، لأنه قد يجيئ بخلاف

__________________

(١) في أول هذا الجزء.

(٢) أي مجردا من قد والواو ، ومضارعا مجردا أي من الواو ،

(٣) أي جاز أن يستعان في الربط مع هذه المبررات بالواو ، التي هي حرف الربط في باب الحال إلى جانب الضمير ؛

١٣٩

ذلك كقولهم : خرج الأمير معه صقر صائدا به غدا ، أي عازما على الصيد ؛ (١) وكذلك معنى الخبر (٢) ، أي : ما أيس الشيطان من بني آدم من جهة غير النساء ، إلا عازما على اتيانهم من قبلهنّ ؛ جعلوا المعزوم عليه ، المجزوم به ، كالواقع الحاصل ؛

[قسم السؤال (٣)]

[واستعمال لمّا في الاستثناء]

وقد تدخل «الّا» و «لمّا» بمعناها على الماضي ، إذا تقدمهما قسم السؤال نحو : نشدتك بالله الّا فعلت ، وقول عمر (٤) رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى : «عزمت عليك لمّا ضربت كاتبك سوطا» ، كتبه إليه لمّا لحن كاتبه في كتابه إلى عمر ، وكتب : من أبو موسى ،

وقولهم : نشدتك الله ، من قولهم : نشدته كذا فنشده ، أي ذكرته فتذكر (٥) ، فنشد المتعدي إلى واحد ، مطاوع للأول المتعدي إلى اثنين ؛ والمعنى : ذكّرتك الله بأن أقسمت عليه به وقلت لك بالله لتفعلنّ ، أو يكون نشدت بمعنى طلبت ، أي نشدت لك الله ، كقوله تعالى : (.. أَبْغِيكُمْ إِلهاً) ، (٦) أي أبغي لكم ، أي طلبت لك الله من بين جميع ما يقسم به الناس ، لأقسم به تعالى عليك ؛ ومعنى إلا فعلت : إلا فعلك ، وإلا ، لنقض معنى النفي الذي تضمنه القسم ، لأنك إذا حلّفت غيرك بالله قسم الطلب فقد ضيّقت عليه الأمر في

__________________

(١) ويسميها النحاة : الحال المقدرة أو المنتظرة ،

(٢) أي الحديث المتقدم ،

(٣) استطراد أيضا من الرضي ،

(٤) أي عمر بن الخطاب ، وأبو موسى الأشعري ، رضي الله عنهما ،

(٥) المناسب لتفسيره أن يقول : ذكرته إيّاه فتذكره ؛

(٦) من الآية ١٤٠ سورة الأعراف ؛

١٤٠