شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

حذفت (١) التاء حملا للفعيل بمعنى الفاعل على الفعيل بمعنى المفعول ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٢) وهو صفة الجمّاء ، أي : الجماعة الكثيرة الساترة ، واللام في الاسمين زائدة ، كما في قوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبّني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني (٣) ـ ٥٦

ويقال ، أيضا ، مررت بهم جمّاء غفيرا.

ومنه قولهم : ادخلوا الأول فالأول ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : «يذهب الصالحون أسلافا : الأول فالأول» ؛ أي مترتبين ، واللام زائدة ، كما في : الجماء الغفير ؛ وقد يتبع ما قبله على البدل ، نحو : دخل القوم : الأول فالأوّل.

وإمّا بالإضافة (٤) ، نحو : جاء الرجال ثلاثتهم ، أو أربعتهم ، أو خمستهم ، إلى العشرة ، وهذه الأسماء الثمانية (٥) ، إذا أضيفت إلى ضمير ما تقدم ، منصوبة عند أهل الحجاز على الحال ، لوقوعها موقع النكرة ، أي مجتمعين في المجيئ ، وبنو تميم يتبعونها ما قبلها في الإعراب ، على أنها توكيد له.

وربّما عومل بالمعاملتين : العدد المركب ، نحو : جاءني الرجال خمسة عشرهم ، وقد يعرب هذا المركب عند الأخفش ، كما يجيئ في باب العدد.

وقد ذكرنا قولهم : كلمته فاه إلى فيّ (٦) ، وقال الكوفيون : هو مفعول به ، أي : جاعلا فاه إلى فيّ ، وقال الأخفش : هو منصوب بتقدير «من» أي : من فيه إلى فيّ ،

__________________

(١) أي من كلمة الغفير لأنها صفة على وزن فعيل بمعنى فاعل كما قال ، فحقها التأنيث بالتاء

(٢) الآية ٥٦ سورة الأعراف ؛

(٣) تكرر الاستشهاد بهذا البيت في هذا الشرح وهو أيضا شائع في كتب النحو ، وقد تقدم ذكره في الجزء الأول من هذا الشرح ،

(٤) هذا هو النوع الثاني من المعرّف غير المصدر ،

(٥) أي ألفاظ العدد ، ما عدا الواحد والاثنين ،

(٦) تقدم الحديث عنه في صدر هذا الباب ،

٢١

ولا يقاس على قولهم فاه إلى فيّ ، فلا يقال : ماشيته يده إلى يدي (١) ، ونحوه خلافا لهشام (٢) ، وأمّا قول بعض أصحاب أمير المؤمنين رضي الله عنه في صفّين :

١٨٤ ـ فما بالنا أمس أسد العرين

وما بالنا اليوم شاء النّجف (٣)

فعلى حذف المضاف ، أي : مثل أسد العرين ، ومثل شاء النجف ؛ ويجوز أن يؤوّلا بشجعانا ، وضعافا ، كما قال سيبويه (٤) ، في : جهدك ونحوه.

[الحال من النكرة]

[قال ابن الحاجب :]

«فإن كان صاحبها نكرة. وجب تقديمها».

[قال الرضى :]

اعلم أنه يجوز تنكير ذي الحال ، إذا اختص بوصف ، كما جاء في الحديث : سابق رسول الله لّى الله عليه وسلّم ، بين الخيل ، فأتى فرس له سابقا ، وكذا تقول : مررت برجل ظريف قائما ؛ أو بالإضافة (٥) ؛ نحو : نظرت إلى جارية رجل مختالة ،

__________________

(١) أي لا يقال بالنصب قياسا على ما تقدم

(٢) هو هشام بن معاوية الضرير ، من متقدمي النحاة في الكوفة ، وتقدم له ذكر في الجزء الأول ،

(٣) هذا مما قيل من الشعر في وقعة صفّين التي كانت بين جيش علي رضي الله عنه وجيش معاوية بن أبي سفيان ، وكان رجال معاوية منعوا عليا وأصحابه من ماء الفرات ، فسمع الناس واحدا من رجال علي ينشد :

أيمنعنا القوم ماء الفرات

وفينا السيوف وفينا الجحف

وفينا عليّ ، له صولة ،

إذا خوّفوه الردى لم يخف

إلى أن قال : فما بالنا أمس .. الخ والقصد منها تحريض المحاربين مع عليّ ، وهي قصة طويلة ، لخصها البغدادي في خزانة الأدب ؛

(٤) حددنا موضعه في كتاب سيبويه قبل ذلك ؛

(٥) معطوف على قوله : إذا اختص بوصف ؛

٢٢

أو سبقه نفي أو شبهه ، نحو قوله :

١٨٥ ـ فما حل سعديّ غريبا ببلدة

فينسب إلا الزبرقان له أب (١)

و: قلّما جاءني رجل راكبا ، أو نهي أو استفهام ، وذلك لأنه يصير المنكّر مع سبق هذه الأشياء مستغرقا فلا يبقى فيه إبهام ، كما ذكرنا في باب المبتدأ ؛ أو كان الوصف به على خلاف الأصل نحو قولهم : جاءني رجال مثنى وثلاث ، لأن المقصود تقسيمهم على هذين العددين في حال المجيئ ، والوصف لا يفيد هذه الفائدة ؛ أو كانت (٢) معرفة مشاركة لتلك النكرة في الحال ، نحو : جاءني رجل وزيد راكبين ؛ أو تقدمه الحال ، نحو : جاءني راكبا رجل ، لأنه يؤمن ـ إذن ـ التباس الحال بالوصف ، إذ الوصف لا يتقدم على الموصوف ، وأمّا إذا تأخر ، نحو : جاءني رجل راكبا ، فقد يشتبه في حال انتصاب ذي الحال ، بالوصف ، نحو : رأيت رجلا راكبا ، فطرد المنع رفعا وجرّا ؛ وأمّا استشهادهم لتقديم الحال على صاحبها المنكر بقوله :

١٨٦ ـ لمّية موحشا طلل قديم

عفاه كلّ أسحم مستديم (٣)

فلا يستقيم ، عند من شرط اتحاد عامل الحال وصاحبها ، إلّا على مذهب الأخفش ، من تجويز ارتفاع «زيد» في نحو : في الدار زيد على أنه فاعل ؛ وأمّا عند سيبويه ، فيلزم كون الضمير في : «لميّة» ذا الحال (٤).

ومن جوّز اختلاف العامل في الحال وصاحبها ، وهو الحق ، إذ لا مانع ، جوّز كون «لميّة» ، عاملا في الحال ، وكون «طلل» ذا حال ، مع ارتفاعه بالابتداء.

__________________

(١) من قصيدة قالها اللعين المنقري ، واسمه منازل ، يمدح الزبرقان بن بدر أحد الصحابة ، وكان سيّدا في قومه يتشرف كل أحد بالانتساب إليه ،

(٢) المعنى : أو كانت في الكلام معرفة مشاركة ، أو نعتبر أن كان تامة ؛

(٣) قال البغدادي : ان بعضهم نسب هذا البيت لذي الرمة ، ونسبه بعضهم لكثّير برواية : لعزة موحشا .. ثم قال : إن المشهور في هذا الموضع الاستشهاد بقول الشاعر : (ولم ينسبه) :

لمية موحشا طلل

يلوح كأنه خلل ،

(٤) بناء على مذهبه من وجوب اتحاد العامل في الحال وصاحبها ؛

٢٣

فإن قيل : هلّا جاز أن يكون معنى الابتداء ، على مذهب سيبويه ، أي أن «طلل» مرتفع بالابتداء ، هو العامل في الحال أيضا ، فيتحد عامل الحال وصاحبها.

قلت : ليس المعنى على أن الابتداء بلفظ «طلل» للإسناد إليه ، مقيّد بكونه موحشا ، فكيف يعمل في الحال ما ليس مقيّدا به؟.

واعلم أنه يجوز حذف ذي الحال ، مع قيام الدليل ، نحو : الذي ضربت مجرّدا : زيد ؛ أي : ضربته (١).

[تقدم الحال]

[على العامل وعلى الصاحب]

[قال ابن الحاجب :]

«ولا يتقدم على العامل المعنوي ، بخلاف الظرف ، ولا على»

«المجرور في الأصح».

[قال الرضى :]

قد عرفت قبل ، العامل المعنوي ، وأنّ الظرف منه ، وكذا الجار والمجرور ، فعلى ما قال المصنف ، ينبغي ألّا يتقدم الحال على الظرف وشبهه ؛ وفي هذا خلاف ؛ فسيبويه ، لا يجيزه أصلا ، نظرا إلى ضعف الظرف ، وأجازه الأخفش بشرط تقدم المبتدأ على الحال ، نحو : زيد قائما في الدار ، وذلك بناء على مذهبه من قوة الظرف ، حتى جاز أن يعمل عنده بلا اعتماد ، في الظاهر (٢) ، في نحو : في الدار زيد ، كما تقدم في المبتدأ ؛ (٣) فأما مع تأخر المبتدأ فإنه وافق سيبويه في المنع ، فلا يجوز : قائما زيد في الدار ، ولا : قائما

__________________

(١) لأن حذف عائد الموصول في مثله قياسي ،

(٢) متعلق بقوله أن يعمل ،

(٣) ص ٢٤٨ من الجزء الأول ؛

٢٤

في الدار زيد. اتفاقا ؛ وذلك لتقدم الحال على عامله الذي فيه ضعف ما ، عند الأخفش أيضا ، لأنه ليس من تركيب الفعل (١) ؛ وعلى صاحبه ، وعلى ما صاحبه نائب عنه ، أي المبتدأ.

أمّا في نحو : زيد قائما في الدار ، فإن جوّزنا كون زيد صاحب الحال ، بناء على جواز اختلاف عاملي الحال وصاحبه ، فالحال متأخر عن صاحبه ، وإن لم نجوّز ذلك (٢) ، وقلنا إن الضمير في الظرف هو صاحب الحال ، بناء على وجوب اتحاد العامل في الحال وصاحبه. فالحال متأخر عمّا صاحبه نائب عنه ، أي زيد.

أمّا نحو : زيد في الدار قائما ، و: في الدار قائما زيد ، و: في الدار زيد قائما ، فجائز اتفاقا.

وأمّا إذا كان الحال ، أيضا ، ظرفا ، أو جارا ومجرورا ، فقد صرّح ابن برهان (٣) ، بجواز تقدمه على عامله الذي هو ظرف أو جار ومجرور ، وذلك لتوسّعهم في الظروف ، حتى جاز أن تقع موقعا لا يقع غيرها فيه ، نحو : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ)(٤) ، قالوا ، ومن ذلك : البرّ ، الكرّ بستين ، أي : الكرّ منه بستين ، و «منه» ، حال ، والعامل فيه : «بستين».

والعامل المعنوي إذا كان غير ظرف ، فلا خلاف في أنه لا يتقدم الحال عليه ، وهو (٥) كل جامد ضمّن معنى المشتق ، كليت ، ولعلّ (٦) ، ونحو : ما شأنك ، وحرف النداء ، وأسماء الإشارة ، وحرف التشبيه ، والتنبيه ، والمنسوب نحو تميميّ ، ونحو : مثلك ،

__________________

(١) أي ليس من لفظه ومادته ؛

(٢) أي جواز كون زيد صاحب الحال ،

(٣) هو أبو القاسم ، عبد الواحد بن علي العكبري من أشهر النحاة ، كان منجما ثم اشتغل بالنحو ، ونبغ فيه ، وكان محبوبا لدينه وورعه ، توفي سنة ٤٥٦ ه

(٤) الآية ٢٦ سورة الغاشية ،

(٥) أي العامل المعنوي غير الظرف ،

(٦) كلامه هنا يفيد عمل ليت ولعل في الحال وقد استظهر من قبل عدم عملهما ، وذلك عند الحديث عن شبه الفعل وعلّل ذلك بأن التمني والترجي ليسا مقيّدين بالحال ،

٢٥

وغيرك ، وأسماء الأفعال ... كل ذلك لضعف مشابهة الفعل ، لعدم موافقتها له في التركيب ، وإذا ضعف نفس الفعل لعدم التصرف ، حتى لا يتقدم عليه معموله ، كما في فعل التعجب فلا يقال : راكبا ما أحسن زيدا. فما ظنك بمثل هذه الجوامد؟.

وكذا الصفة المشبهة ، لا يتقدم معمولها عليها لضعف مشابهتها للفعل (١) ، وظاهر لفظ جار الله (٢) ، في المفصّل ، يؤذن بجواز تقديم الحال عليها (٣).

وأضعف في العمل ، من الصفة المشبهة ؛ أفعل التفضيل ، ألا ترى أنه لا يطرد رفعه للظاهر مثلها ، بل يحتاج إلى شروط ، كما يجيئ في بابه.

وأمّا نحو قولهم : هذا بسرا أطيب منه رطبا ، وزيد قائما خير منه قاعدا ، وكذا نحو : عمرو قاعدا مثله قائما ، فسيجيئ الكلام عليه عن قريب.

وأجاز الزجاجيّ (٤) أن تقول : درهمك موزونا : درهم عبد الله ، والعامل في الحال معنى التشبيه في قولك : درهم عبد الله ، لأن معناه : يشبه درهم عبد الله ، فيكون (٥) حالا من ضمير «درهمك» في الخبر ، أو من : درهم عبد الله.

والأولى المنع ، لضعف العامل ، قال (٦) ، فإن أظهرت الكاف وقلت : كدرهم عبد الله ، لم يجز أن يكون حالا من : درهم عبد الله ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير : درهمك ، في خبر المبتدأ ؛ والأولى المنع مع إظهار الكاف ، أيضا.

__________________

(١) لأن عملها يسبب مشابهتها لاسم الفاعل المشبه للفعل ،

(٢) جار الله : محمود بن عمر الزمخشري صاحب الكشاف والمفصل وغيرهما مما يعرفه كل مشتغل باللغة ،

(٣) في شرح ابن يعيش على المفصل ج ٢ ص ٥٦

(٤) الزجاجيّ ، بياء النسب : هو أبو القاسم ، عبد الرحمن بن إسحاق ، كان من ملازمي الزجاج ، فنسب إليه ، وتقدم له ذكر في الجزء الأول ؛

(٥) أي لفظ موزونا ،

(٦) أي الزجاجيّ المتقدم ذكره ،

٢٦

وكذا إذا كان الحال جملة مصدّرة بالواو ؛ لم يتقدم على عامله (١) ، فلا يقال ؛ والشمس طالعة جئتك ، مراعاة لأصل الواو ، وهو العطف.

ولا يتقدم الحال على عامله أيضا إذا كان العامل مصدرا ، لتقديره بأن الموصولة ، وما في حيّز الصلة ، لا يتقدم على الموصول ؛ وكذا إذا كان العامل صلة للألف واللام ، أو لحرف مصدريّ ، كما ، وأنّ ؛ لأن تقدم الحال ، إذن ، على هذه الموصولات ؛ لا يجوز ، وتقدمها على صلاتها متأخرة عن الموصولات ، أيضا غير جائز ، لما يجيئ في الموصولات من امتناع الفصل بين الحرف المصدري واللام الموصول ، وبين صلتيهما ، فلا تقول : أعجبني مجرّدة الضارب هندا ، ولا : مجردة أن ضرب زيد هندا ، ولا : ما مجردة ضرب زيد هندا ؛ وأمّا في سائر الموصولات ، نحو : الذي راكبا جاء : زيد ، فإنه يجوز الفصل اتفاقا.

وإذا كان العامل مصدرا بلام الابتداء ، أو لام القسم ، جاز تقديم الحال (٢) عليه ، بأن تؤخره عن اللامين ، نحو : إن زيدا لراكبا سائر ، و: والله لراكبا أسير ، كقوله تعالى : (.. لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(٣) ، وتقديمه على اللامين لا يجوز ، لأن لهما صدر الكلام.

وأمّا الفعل المتصرف ، واسم الفاعل ، واسم المفعول ، إذا خلت عن الموانع المذكورة ، فيجوز تقديم أحوالها عليها ، نحو : راكبا جاء زيد ، وزيد راكبا ماش ، ومجرّدا مضروب.

قوله : «بخلاف الظرف» ، يعني أن الحال ، وإن كان مشابها للظرف من حيث المعنى ، لأن «راكبا» في : جئتك راكبا ، بمعنى وقت الركوب ؛ إلا أن الظرف يتقدم

__________________

(١) هذا تصريح بما استفيد من التشبيه في قوله وكذا إذا كان ، ويتكرر ذلك من الرضي ،

(٢) أشير بها من المطبوعة التركية هنا أن بين نسخ هذا الشرح اختلافا في هذا الموضع ، وفيها إشارة إلى نسبة رأي لا يخرج عما قاله الرضي إلى : «المالكي» ، وهذا من الأمور التي جعلتني ، أرجح أن الرضي يقصد الإمام ابن مالك حين يقول المالكي ، لأن هذا الرأي معروف نسبته إلى ابن مالك ، وتكرر مثل هذا بهوامش هذا الشرح ؛

(٣) الآية ١٥٨ سورة آل عمران ؛

٢٧

على عامله المعنوي الذي هو الظرف أو الجار ، خاصة ، سواء كان بعد المبتدأ نحو : زيد يوم الجمعة عندك ، أو قبله ، كقوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(١) ، وقولهم : كلّ يوم لك ثوب ، والحال لا يتقدم عليه عند سيبويه مطلقا ، ويتقدم عند الأخفش بشرط تأخره عن المبتدأ كما مرّ ، وذلك لتوسعهم في الظرف بخلاف الحال.

وكان على المصنف أن يقيّد فيقول : بخلاف الظرف ، فإنه يتقدم على الظرف والجار ، لأنه لا يتقدم على معنويّ غيرهما ، من التشبيه والتنبيه وغير ذلك ، اتفاقا.

واعلم أنه إذا تكرر ظرف واحد (٢) ، يصلح لأن يكون خبرا لما هو مبتدأ في الحال أو في الأصل ، وتوسّطهما ما يجوز ارتفاعه ، على أنه خبر عن ذلك المبتدأ ، وانتصابه على الحال كقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها)(٣) ، وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها)(٤). فالكوفيون يوجبون انتصابه (٥) على الحال ، كما في الآيتين ، لأنك لو رفعته خبرا وعلّقت الظرفين به ، لم يكن للثاني فائدة.

وأمّا عند البصريين ، فالحاليّة راجحة على الحبرية ، لا واجبة ، لأن الاسم ، إذن ، يكون خبرا بعد خبر ، والظرف الثاني متعلق بالخبر ، أو يكون الظرف الأول متعلقا بالخبر الذي بعده ، والثاني تأكيد للأول ، والتأكيد غير عزيز في كلامهم ؛

وإذا كان الظرف في الظاهر غير مستقر (٦) ؛ وقد تقدم أن معنى المستقر أن يكون متعلقا بمقدّر ؛ فخبريّة الاسم الذي يلي المبتدأ الذي يلي الظرف واجبة عند البصريين ، نحو : فيك زيد راغب ، ليكون الظرف متعلقا بذلك الخبر.

__________________

(١) الآية ٢٩ سورة الرحمن ،

(٢) أي ذكر لفظ من ألفاظ الظروف مرتين ،

(٣) الآية ١٠٨ سورة هود

(٤) الآية ١٧ سورة الحشر ؛

(٥) أي ذلك الاسم المتوسط

(٦) الحديث عن المستقر وغير المستقر ، وهل هو بفتح القاف أو بكسرها ، مذكور في باب المبتدأ والخبر ، وقد لخص الرضي المعنى هنا ، ثم إن المعروف أنه حينما يطلق الظرف ، يراد به ما يشمل الجار والمجرور ؛

٢٨

وأجاز الفرّاء والكسائي (١) : نصب ذلك الاسم نحو : فيك زيد راغبا ، على تقدير ، فيك رغبة زيد راغبا ، والحال دال على المضاف المحذوف ، أي هو يرغب فيك خاصة في حال رغبته في شيء ، أي : إن رغب في شيء فهو يرغب فيك ؛ قوله : «ولا على المجرور في الأصح» ، الذي تقدم ، كان أحكام تقدم الحال على عامله ، وتأخره عنه ؛ وهذا حكم تقدم الحال على صاحبها.

واعلم أن الكوفيين منعوا تقديم الحال على صاحبها ، إذا كان صاحبها ظاهرا ؛ مرفوعا كان ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، إلا في صورة واحدة ، وهي : إذا كان ذو الحال مرفوعا والحال مؤخر عن العامل ، فيجوّزون : جاء راكبا زيد ، ولا يجوّزون : راكبا جاء زيد ؛ وبعضهم يجوّز ، أيضا تقديم الحال على ذي الحال المنصوب المظهر ، إذا كان الحال فعلا ، نحو : ضربت ، وقد جرّد ، زيدا ؛

وأمّا إذا كان ذو الحال ضميرا ، فجوّزوا تقديم الحال عليه ، مرفوعا ، كان ، أو منصوبا أو مجرورا ، قالوا : وذلك لأن ذا الحال إذا كان مظهرا وقدمت الحال عليه ، أدّى إلى الاضمار قبل الذكر ، لأن في الحال ضميرا يعود على ذي الحال المتأخر ؛ وأمّا إذا كان ضميرا ، فالضميران يشتركان في عودهما على مفسّر لهما ، وأمّا جواز تلك الصورة الواحدة ، أعني نحو : جاء راكبا زيد ، فلشدة طلب الفعل للفاعل ، فكأن الفاعل ولي الفعل ، والحال ولي الفاعل ، فلا يكون اضمارا قبل الذكر ؛

وأمّا البصرية فأجازوا تقديم الحال على صاحبه المرفوع والمنصوب ، سواء كان مظهرا أو مضمرا ، لأن النيّة في الحال : التأخير عن صاحبه ، فلا يكون اضمارا قبل الذكر ، كما ذكرنا في تقديم خبر المبتدأ ، نحو : في داره زيد ، وفي الفاعل والمفعول نحو : «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى». (٢) ؛

__________________

(١) الفراء ، تقدم ذكره ، والكسائي هو علي بن حمزة ، زعيم نحاة الكوفة ، وأحد القراء السبعة ، وهو والفراء ممن تكرر ذكرهم في هذا الشرح ؛

(٢) الآية ٦٧ سورة طه

٢٩

وأمّا إذا كان ذو الحال مجرورا ، فان انجرّ بالاضافة إليه ، لم يتقدم الحال عليه اتفاقا ، سواء كانت الاضافة محضة ، كما في قوله تعالى : (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ، (١) أو ، لا ، نحو : جاءتني مجرّدا ضاربة زيد ، وذلك لأن الحال تابع وفرع لذي الحال ، والمضاف إليه لا يتقدم على المضاف فلا يتقدم تابعه أيضا ؛.

وان انجرّ ذو الحال بحرف الجر ، فسيبويه وأكثر البصرية ، يمنعون ، أيضا ،

ونقل عن ابن كيسان (٢) ، وأبي عليّ ، وابن برهان ؛ الجواز ، استدلالا بقوله تعالى : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» ؛ (٣)

ولعلّ الفرق بين حرف الجر والاضافة : أنّ حرف الجر ، معدّ للفعل كالهمزة. والتضعيف ، فكأنه من تمام الفعل ، وبعض حروفه ، فإذا قلت : ذهبت راكبة بهند ، فكأنك قلت : أذهبت راكبة هندا ، وقال الشاعر :

١٨٧ ـ لئن كان يرد الماء هيمان صاديا

إليّ حبيبا ، انها لحبيب (٤)

وقال آخر :

١٨٨ ـ إذا المرء أعيته المروءة ناشئا

فمطلبها كهلا عليه شديد (٥)

وبعضهم يجعل «كافة» حالا من الكاف ، والتاء للمبالغة ، وهو تعسّف ،

__________________

(١) جزء من الآية ١٢٣ من سورة النحل ؛

(٢) أبو الحسن محمد بن أحمد ، بن كيسان ، من مشاهير النحاة ، تقدم ذكره في الجزء الأول وسيتكرر ذكره.

وأمّا أبو علي الفارس وابن برهان فقد مضى ذكرهما قريبا ؛

(٣) الآية ٢٨ سورة سبأ ؛

(٤) من قصيدة لعروة بن حزام العذري ، واللام في قوله : لئن كان ، واقعة في جواب القسم في قوله قبل ذلك :

حلفت بربّ الراكعين لربّهم

خشوعا وفوق الراكعين رقيب

(٥) من أبيات نسبت لكثير من الشعراء ، قال البغدادي : رأيت نسبتها للمخبّل السعدي وقال إنها أبيات مستجادة ، وأورد عددا منها ومما أورده منها قوله :

وكائن رأينا من غنيّ مذمّم

وصعلوك قوم مات وهو حميد

٣٠

وأمّا العامل في الحال في نحو : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)(١) ، أعني إذا كان الحال عن مجرور بمضاف غير عامل في الحال كما عمل في نحو : ضرب زيد راكبا (٢) ؛ فعند من جوّز اختلاف العامل في الحال وفي صاحبها ، فلا اشكال فيه ، وأمّا من منعه فقال بعضهم (٣) : العامل فيه معنى الاضافة لأن الاضافة بمعنى حرف الجر المتعلق بمعنى الفعل ، لأن المعنى : ملة ثبتت لابراهيم حنيفا ، وهو ضعيف ، لأننا بيّنا في حدّ العامل : أن معنى الفعل قد انطمس في مثله (٤) ؛

وقال بعضهم : لما كان لا يضاف ممّا ليس بعامل في الحال إلى ذي الحال ، إلا جزؤه نحو : انظر إلى يد زيد ماشيا ، أو ما يقوم مقام المضاف إليه لو حذف ، كقوله تعالى : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ، كما تقدم في أول الباب ، جاز أن يعمل عامل المضاف في الحال ، مع أنه لم يعمل في المضاف إليه ، لأن المضاف إليه في التقديرين المذكورين ، كأنه المضاف ؛

ولكون حال المضاف إليه ، كحال المضاف ، إذا كان المضاف جزء المضاف إليه ، جاز ، وان كان على قلّة ، تقديم حال المضاف إليه على المضاف في نحو : تتحرك ماشيا يد زيد ، مع أننا ذكرنا قبل ، أن حال المضاف إليه لا يتقدم على المضاف ؛

وقد يجب تقديم الحال على صاحبها إذا كان صاحبها بعد «إلّا» أو معناها ، نحو : ما جاءني راكبا إلا زيد ، وإنما جاءني راكبا زيد ، لمثل ما مرّ من باب الفاعل ، (٥) أعني ، لتغيّر الحصر وانعكاسه لو أخّرت عن صاحبها ؛

ويجب (٦) ، أيضا ، إذا أضيف ذو الحال إلى ضمير عائد على ملابس الحال ، نحو : لقيني شاتم زيد أخوه ؛

__________________

(١) الآية المتقدمة من سورة النحل

(٢) ضرب : مصدر مضاف إمّا إلى المفعول وإما إلى الفاعل ، وصاحب الحال أحدهما ؛

(٣) أي بعض المانعين وسيذكر بعضا آخر منهم

(٤) انظر ص ٧٢ من الجزء الأول ؛

(٥) انظر ص ١٩٠ ج ١

(٦) أي تقديم الحال ،

٣١

[الاشتقاق]

[وحكمه في الحال]

[قال ابن الحاجب :]

«وكل ما دل على هيئة ، صحّ أن يقع حالا ، نحو : هذا بسرا»

«أطيب منه رطبا»

[قال الرضى :]

هذا ردّ على النحاة ، فان جمهورهم اشترطوا اشتقاق الحال ، وان كان جامدا تكلفوا ردّه بالتأويل إلى المشتق ؛ قالوا : لأنها في المعنى صفة ؛ والصفة مشتقة أو في معنى المشتق ، فقالوا في نحو : هذا بسرا أطيب منه رطبا ؛ أي هذا مبسرا أطيب منه مرطبا ، أي كائنا بسرا وكائنا رطبا ؛ و: (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) ، (١) أي دالّة ؛ قال المصنف ، وهو الحق ، لا حاجة إلى هذا التكلف ، لأن الحال هو المبيّن للهيئة ، كما ذكر في حدّه ، وكل ما قام بهذه الفائدة فقد حصل فيه المطلوب من الحال ، فلا يتكلّف تأويله بالمشتق ؛

وكذا ، ردّ عليهم اشتراطهم اشتقاق الصفة ، كما يجيئ في بابها ، ومع هذا ، فلا شك أن الأغلب في الحال والوصف : الاشتقاق ؛

فمن الأحوال التي جاءت غير مشتقة قياسا : الحال الموطئة ، وهي اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة ، فكأنّ الاسم الجامد وطّأ الطريق لما هو حال في الحقيقة ، لمجيئه قبلها موصوفا بها ، وذلك نحو قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٢) ، وقولك جاءني زيد رجلا بهيّا ؛

__________________

(١) الآية ٦٤ سورة هود

(٢) الآية الثانية من سورة يوسف ؛

٣٢

ومنها ما يقصد به التشبيه ، كقول بعض أصحاب أمير المؤمنين. علي رضي الله عنه في بعض أيام صفين :

فما بالنا أمس أسد العرين

وما بالنا اليوم شاء النجف (١) ـ ١٨٤

وقول المتني :

١٨٩ ـ بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا (٢)

وفي تأويل مثله وجهان : أحدهما أن تقدّر مضافا قبله ، أي : أمثال أسد العرين ، ومثل قمر ؛ والثاني أن يؤوّل المنصوب بما يصح أن يكون هيئة كما تقدم ، أي : ما بالنا أمس شجعانا ، واليوم ضعافا ، وبدت منيرة ، ونحو ذلك ، وذلك لأنهم يجعلون الشيء المشتهر في معنى من المعاني كالصفة المفيدة لذلك المعنى ، نحو قولهم : لكل فرعون موسى ، بصرفهما ، أي : لكل جبّار قهّار ؛

ومنها الحال في نحو : بعث الشاء شاة ودرهما ، وضابطه أن تقصد التقسيط فتجعل لكل جزء من أجزاء مجزّأة ، قسطا ، وتنصب ذلك القسط على الحال وتأتي بعده بذلك الجزء ، إمّا مع واو العطف ، كقولنا : شاة ودرهما ، أو بحرف الجر ، نحو : بعت البّر قفيزين بدرهم ، وأخذت زكاة ماله ، درهما عن كل أربعين ، وقامرته ، درهما في درهم ، أي : جعلت في مقابلة كل درهم منه درهما مني ، أو بغير ذلك نحو : وضعت عندكم الدنانير ، دينارا لدى كل واحد ؛

وكل واحدة من هذه الأحوال كانت جزءا أوّل من الجملة الابتدائية ، على ما مرّ قبل ؛ (٣)

__________________

(١) تقدم هذا الشاهد في هذا الباب ؛

(٢) هو للمتنبي والقول فيه ، ما تقدم من اختلاف العلماء في الاستشهاد بمثله ، ويمكن أن يكون تمثيلا ، كما يقولون ، وهو من قصيدة له والضمائر في الأفعال تعود إلى محبوبته التي قال عنها في بيت سابق على عادته في المبالغة :

بجسمي من برته فلو أصارت

وشاحي ثقب لؤلؤة لجالا

(٣) تقدم قريبا شرح هذا النوع عند قوله فاه إلى فيّ ، في هذا الباب ؛

٣٣

ومنها : الحال في نحو : بوّبته بابا بابا ، وجاءوني رجلا رجلا ، وواحدا واحدا ، ورجلين رجلين ، ورجالا رجالا ؛ أي مفصّلا هذا التفصيل المعيّن ، وضابطه : أن تأتي ، للتفصيل بعد ذكر المجموع بجزئه مكرّرا ؛ وكذا إن أتي ، لبيان الترتيب بعد ذكر المجموع بجزئه معطوفا عليه بالفاء أو بثم ، نحو : دخلوا رجلا فرجلا ، ومضوا كبكبة ثم كبكبة ، أي مترتبين هذا الترتيب المعيّن ؛

ومنها حال هو أصل لصاحبه نحو : يعجبني الخاتم فضة ، والثوب خزّا ، أو فرع له نحو : يعجبني الفضة خاتما ، والحديد سيفا ، أو نوع له ، نحو : يعجبني الحلى خاتما ، والعلم نحوا ؛

ومنها الحال في نحو : هذا بسرا أطيب منه ، أو من غيره رطبا ؛ وضابطه أن يفضّل الشيء على نفسه ، أو غيره ، باعتبار طورين ، وكذا إذا شبّهت شيئا بنفسه أو بغيره ، ولا يجوز أن يكون أفعل التفضيل ، ولا آلة التشبيه لضعفهما في العمل فلا يتقدم معمولهما عليهما ؛

ويشكل ذلك عليه بمثل قولك : زيد راجلا أحسن منه راكبا ، فإنه جائز اتفاقا مع خلوّ المبتدأ من معنى الفعل ، وبمثل قولك : تمر تحلى بسرا أطيب منه رطبا ، والأشراسيّ (١) بسرا أطيب منه رطبا ؛ والعامل في مثل هذه الصور : أفعل ، بلا خلاف ؛ ولا يصلح اسم الاشارة في : هذا بسرا .. للعمل ، وذلك لأن العامل في الحال متقيّد به ، فلو كان «هذا» عاملا في : «بسرا» لتقيّدت الاشارة بالبسريّة ، فوجب ألّا يقال هذا الكلام إلا في حال البسريّة ، كما أن الاشارة في : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)(٢) ، تقيّدت ولم تقع إلا في حال شيخوخته ، والمجيىء في : جاءني زيد راكبا ، لم يكن إلا في حال الركوب ، ونحن نعلم ضرورة أنه يصح أن يقال : هذا بسرا أطيب منه رطبا ، في غير حال البسريّة ؛

__________________

(١) الأشراسي نوع من التمر ، وربما كان مأخوذا من الشراسة ، وهي في الناس : سوء الخلق وفي النبات : سوء الطعم ،

(٢) الآية ٧٢ سورة هود ، وتقدمت

٣٤

واستدل المصنف على امتناع عمل اسم الإشارة في أوّل الحالين ، بأن المبتدأ إذا تقيد بحال ، لم يتقيد الخبر بالحال ، ألا ترى أن اسم الاشارة لّما تقيد بالحال في : هذا زيد قائما ، لم يتقيّد الخبر بذلك الحال ، وفي نحو : هذا بسرا أطيب منه رطبا ، تقيّد الخبر بالحال اتفاقا فلا يتقيد المبتدأ بالحال ؛

وهذا الدليل في غاية من الضعف لا توصف ؛ أمّا أوّلا ، فلأنه لا يلزم من امتناع تقيد المبتدأ والخبر معا بالحال في مثال معيّن : امتناع تقيدهما في جميع الأمثلة ، فلعلّ في ذلك المثال الخاص مانعا من تقيّدهما معا ، ليس في غيره ؛ وأما ثانيا فلأن المدّعى في المثال المذكور ، المتنازع فيه : أن المبتدأ مقيّد بحال ، والخبر بحال أخرى ، وهو لم يبيّن في نحو : هذا زيد قائما إلا استحالة تقيدهما معا بحال واحدة ، فلو سلّم ، أيضا ، اطراد استحالة تقيد المبتدأ والخبر في كل موضع بحال واحدة ، لم يلزم منه استحالة تقيد كل واحد منهما بحال أخرى (١) ، فالحق ، اذن ، أن يقال ، العامل في الحال الأول ، أيضا ، أفعل التفضيل ، وآلة التشبيه ، مع ضعفهما في العمل ، كما تقدم ؛

ولنقدم على بيان تعليله مقدمة ، فنقول : ما يدل على حدثين فصاعدا يصلح كل منهما للعمل ، على ضربين :

أحدهما : ما يدل على حدثين يقعان معا ، ويتعلق كل واحد منهما بمحدث الآخر ، نحو : تضارب زيد وعمرو ، وضارب زيد عمرا ، فانّ ضرب كل واحد منهما تعلّق بالآخر ، أو يقعان معا ويتعلق كلاهما بشيء واحد ، نحو : تنازعنا الحديث ؛

ومثل هذه العوامل لا يتميّز منصوب أحد جزأيها عن منصوب الآخر ، مفعولا به (٢) ، وقد يتميّز حالاهما ، نحو : تشاتم زيد قائما ، وعمرو قاعدا ، أو ظرفاهما نحو : تشاتم زيد في الدار وعمرو في الصفّة ؛ ويجوز أن يكونا حالين ولا يختلف زماناهما ، لأن الغرض

__________________

(١) أي غير حال صاحبه ؛

(٢) أي لا يتميز في حالة وقوعه مفعولا به ،

٣٥

وقوع الحدثين معا ؛ ويتميّز مستثناهما ، أيضا نحو : اختلف أهل البصرة إلّا سيبويه ، وأهل الكوفة إلا الكسائي في كذا ؛

وثانيهما (١) : ما يدل على حدثين ، يجوز تعلق كل منهما بغير محدث الآخر وبغير ما تعلق به الآخر ، ووقوعه في وقت آخر ، ومكان آخر ، وعلى حال أخرى ، وذلك : أفعل التفضيل ، نحو : زيد أضرب من عمرو ، ويجوز اختلاف مضروبيهما وكونهما غيرهما نحو : زيد لعمرو ، أضرب من بكر لخالد ، قال الله تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ)(٢) ، وكذا يجوز اختلاف زمانيهما ، نحو : زيد يوم الجمعة أضرب من عمرو يوم السبت ، وكذا المكانان ، نحو : زيد عندك أحسن منه عندي ، وكذا الحالان نحو : زيد قائما أحسن منه قاعدا ؛

وكذا آلة التشبيه ، تدل على حدثين ، فيجوز اختلاف زمانيهما ، نحو : زيد يوم الجمعة كعمرو يوم السبت ، واختلاف حاليهما ، نحو : زيد قائما مثله قاعدا ؛

أمّا أفعل التفضيل فانه يدل على حدثين معيّنين ، أعني حدث الفاضل والمفضول ، بصيغته ، لأن معنى زيد أحسن من عمرو : أنّ لزيد الفاضل حسنا ، ولعمرو المفضول حسنا ؛ وأمّا آلة التمثيل فلا تدل بصيغتها على حدثين معيّنين ، بل تدل بمعناها على حدثين مطلقين ، لأن معنى زيد كعمرو أن هناك حالة يشتركان فيها فلهما حالتان متماثلتان ، وأمّا أن تلك الحالة ما هي؟ فغير مصرّح به في اللفظ ، فمعنى قولك : زيد يوم الجمعة مثله يوم السبت ، أي : زيد تشبه حالته ودابه ، يوم الجمعة حالته ودأبه يوم السبت ، فالظرفان منصوبان بمعنى الحالة والدأب ، إذ يعبّر بهما عن كل حدث لازم كالحسن والجمال ، أو غير لازم كالضرب والقتل ، ألا ترى إلى تعلّق الجارّ والظرف في قوله :

١٩٠ ـ كدأبك من أمّ الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل (٣)

__________________

(١) أي ثاني النوعين اللذين يدلان على حدثين فصاعدا ،

(٢) الآية ١٦٧ من سورة آل عمران ؛

(٣) من معلقة امريء القيس ، التي تكرر الاستشهاد بأبياتها في هذا الشرح ، وأم الحويرث ، وأم الرباب ، من أسماء النسوة اللاتي تحدث عنهن في هذه القصيدة ؛

٣٦

بدأبك (١) ، لما كان بمعنى : تمتعك ، فكنى ولم يصرّح ؛

وقد تقوم مع آلة التشبيه قرينة تدل على الحدث المعيّن ، فيتعلق بها جارّان كما تعلّق الجارّ في بيت امرئ القيس بدأبك ، لمّا كنى به عن التمتع ؛ وذلك نحو قوله صلّى الله عليه وسلم : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ، أي قريب مني قرب هارون من موسى ؛ قال :

١٩١ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منّي بمنزلة المحبّ المكرم (٢)

وتقول : هو مني بمنزلة الثريا من المتناول ، أي بعيد مني بعدها منه ؛

إذا تقرّر هذا قلنا ، لمّا لم يتميز كل واحد من الحدثين من الآخر في أفعل التفضيل وآلة التشبيه ، وبابي فاعل وتفاعل ، وغيرهما ممّا يدل على حدثين حتى يجعل منصوب كل واحد بجنبه : ألزم أن يكون منصوب (٣) كل حدث بجنب صاحبه المصرح به ، فقيل : يفضل زيد راكبا على عمرو راجلا ، وتشاتم زيد قائما ، وعمرو قاعدا ، ورامى زيد في الدار عمرا في السوق ، وكذا في أفعل التفضيل ، وآلة التمثيل ، نحو : زيد مني كعمرو منك ، وبكر للضيف أكرم منه للجار ، وعمرو قائما ، أحسن منه قاعدا ، وبكر قاعدا مثله قائما ، وزيد يوم الجمعة أحسن ، أو مثله يوم السبت ؛ جعلت متعلّق حدث المفضّل والممثل بجنبهما ، ومتعلق حدث المفضل عليه والممثل به بجنبهما ؛ دفعا للالتباس ، وحرصا على البيان ، فلهذا تقدم معمولاهما عليهما مع ضعفهما ؛ وأمّا الضمير المستكن في أفعل ، وفي آلة التشبيه ، فانه ، وإن كان مفضّلا ؛ وممثّلا ، لكنه ، لمّا لم يظهر ، كالعدم ؛

ومع هذا كله ، فلا أرى بأسا بأن يقال ههنا ، وان لم يسمع ، زيد أحسن قائما منه

__________________

(١) هذا متعلق بقوله : ألا ترى إلى تعلق الجار .. الخ

(٢) أحد الأبيات في معلقة عنترة العبسيّ ، التي أولها :

هل غادر الشعراء من متردّم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

والمحبّ بفتح الحاء اسم مفعول من أحبّ ؛

(٣) أي في المثال موضع البحث والمراد بالمنصوب في كلامه : المعمول ، ليشمل الظرف والجار والمجرور ، كما هو واضح من التمثيل ، وسيأتي في كلامه ما يرشد إلى ذلك ؛

٣٧

قاعدا ، كما قال عليّ ، رضي الله عنه في الجارّ : «والله لابن أبي طالب ، آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» ؛ (١)

وهذا كما تقول : ضرب زيد قائما ، عمرا قاعدا ، لعدم الالتباس ؛ وبأن (٢) يقال ، على ضعف : زيد أحسن من عمرو قاعدا قائما ، و «قاعدا» حال من المجرور ، و «قائما» حال من الضمير المرفوع ، كما مرّ أوّل الباب (٣) في نحو : ضربت زيدا قائما قاعدا ؛

قال المالكيّ (٤) ؛ ومن الأحوال القياسية غير المشتقة : المصدر الآتي بعد اسم مراد به الكمال ، نحو : أنت الرجل علما ، أي : أنت الكامل في الرجولية عالما ، ومثله : هو زهير شعرا ؛ وكونه حالا رأى الخليل ؛ وقال أحمد بن يحيى (٥) : هو مصدر (٦) ، أي أنت العالم علما ، والذي أرى : أن المصدر في مثله تمييز ، لأنه فاعل في المعنى ، أي : أنت الكامل علما ، أي علمه ؛ وهو الكامل شعرا ، أي شعره ، والدليل عليه أنك تقول : هو قارون كنزا ، والخليل عروضا ، وسيبويه نحوا ، وهذه ليست بأحوال ولا مصادر ؛

ثم اعلم أنه لا قياس في شيء من المصادر يقع حالا ، بل يقتصر على ما سمع منها ، نحو قتلته صبرا ، ولقيته فجأة وعيانا ، وكلمته مشافهة ، وأتيته ركضا أو عدوا ، أو مشيا ؛

__________________

(١) مما جاء في نهج البلاغة ، ص ٣٩ طبع دار الشعب بالقاهرة بتصحيح الاستاذين محمد البنا ومحمد عاشور ؛

(٢) أي ولا أرى بأسا بأن يقال ،

(٣) تحدث الرضي عن مجيء حالين من الفاعل والمفعول وبيّن موضع كل منهما في الجملة ، انظر في هذا الجزء ؛

(٤) قلت عند ذكر «المالكي» لأول مرة في الجزء الأول ص ٢٠٧ أن الأرجح انه يريد ابن مالك ، وكان من أسباب الترجيح ما ينسبه الرضي إلى «المالكي» من آراء ، هي مما عرف أنه منسوب لابن مالك ، وهذا أحد الأمور فإن وقوع المصدر الآتي بعد اسم يراد به الكمال واعتباره حالا كالمثال الذي في الشرح معروف أنه رأى لابن مالك ، والله أعلم. ؛

(٥) هو الإمام ثعلب ، وهو من زعماء الكوفيين ويذكره الرضي باسم ثعلب في بعض الأحيان ،

(٦) أي مفعول مطلق للوصف الذي من لفظه ؛

٣٨

والمبرد (١) يستعمل القياس في المصدر الواقع حالا ، إذا كان من أنواع ناصبه نحو : أتانا رجلة وسرعة وبطأ ونحو ذلك ، وأمّا ما ليس من تقسيماته وأنواعه ، فلا خلاف أنه ليس بقياس ، فلا يقال : جاء ضحكا أو بكاء ونحو ذلك لعدم السماع ؛ ثم انه ، قد ذهب الأخفش والمبرد إلى أن انتصاب مثل هذه المصادر على المصدرية ، لا الحالية والعامل محذوف أي أتيته أركض ركضا ، كما هو مذهب أبي عليّ في : أرسلها العراك ؛

ولو كان كما قالا (٢) ، لجاز تعريفها ؛ وغيرهما على أن انتصابها على الحال ، لا على حذف المضاف (٣) ، فمعنى مشيا : ماشيا ، وقع المصدر صفة ، كما أن الصفة وقعت مصدرا في نحو : قم قائما ، على أحد المذهبين (٤) ، وعلى الثاني : هو حال مؤكدة ؛ كما يجيء ؛

ولا يمتنع أن يقال : ان جميع ذلك على حذف المضاف ، أي : أتيته ذا ركض ، إلا أنه لا مبالغة فيه ، كما مرّ في خبر المبتدأ ؛ (٥)

ومما جاء فيه الحال غير مشتق سماعا ، قولهم : كلمته فاه إلى فيّ ، وهشام (٦) يقيس عليه ، كما مرّ ، ومنه : بعته يدا بيد ، وأرسلها العراك ، وسائر ما ذكرته عند ذكر مجيىء الحال معرفة ؛

وأمّا نحو : جاء البرّ قفيزين ، أو صاعين ، فالأولى أن المنصوب خبر «جاء» ، لا حال ، كما يجيئ في الأفعال الناقصة ؛ (٧)

__________________

(١) المبرد من أكثر من نقل عنهم الرضي في شرحه هذا ، وقد ترجمنا له في الجزء الأول ،

(٢) أي الأخفش والمبرد ،

(٣) أي من غير تقدير مضاف ، وهو مقابل للرأي الآتي ،

(٤) أي ان قائما مصدر جاء بوزن فاعل ،

(٥) ص ٢٥٤ في الجزء الأول

(٦) المراد هشام بن معاوية ، الضرير ، وتقدم ذكره ؛

(٧) سيأتي في باب كان أن من الأفعال الناقصة : الفعل «جاء» في تراكيب معينة ، مثل ما هنا ؛

٣٩

[الجملة الحالية]

[صورها وشروطها وروابطها]

[قال ابن الحاجب :]

«ويكون جملة خبرية ، فالاسمية بالواو والضمير ، أو بالواو ،»

«أو بالضمير على ضعف ، والمضارع المثبت بالضمير وحده ،»

«وما سواهما بالواو والضمير ، أو بأحدهما ، ولا بدّ في الماضي»

«المثبت من «قد» ظاهرة أو مقدرة» ؛

[قال الرضي :]

أما جواز كون الحال جملة ، فلأن مضمون الحال ، قيد لعاملها ، ويصح أن يكون القيد مضمون الجملة ، كما يكون مضمون المفرد ؛

وأمّا وجوب كونها خبرية فلأن مقصود المجيىء بالحال ، تخصيص وقوع مضمون عامله بوقت وقوع مضمون الحال ، فمعنى قولك جاءني زيد راكبا : أن المجيىء الذي هو مضمون العامل واقع وقت الركوب الذي هو مضمون الحال ؛ ومن ثمّ ، قيل ان الحال يشبه الظرف في المعنى ؛

والإنشائية إمّا طلبية أو إيقاعية ، بالاستقراء ؛ وأنت في الطلبية لست على يقين من حصول مضمونها ، فكيف تخصص مضمون العامل بوقت حصول ذلك المضمون (١)؟ وأمّا الإيقاعية ، نحو : بعت ، وطلّقت ، فان المتكلم بها لا ينظر ، أيضا ، إلى وقت يحصل فيه مضمونها ، بل مقصوده إيقاع مضمونها وهو مناف لقصد وقت الوقوع ؛ بلى ، يعرف بالعقل ، لا من دلالة اللفظ أنّ وقت التلفظ بلفظ الإيقاع : وقت وقوع مضمونه ؛

__________________

(١) أي المضمون غير المتيقّن ،

٤٠