محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
[الضمائر]
[علة بنائها ، والغرض من وضعها]
[أنواعها]
[قال ابن الحاجب :]
«والمضمر ما وضع لمتكلم ، أو مخاطب ، أو غائب تقدم»
«ذكره لفظا ، أو معنى ، أو حكما» ؛
[قال الرضى :]
اعلم أن المقصود من وضع المضمرات رفع الالتباس ، فإن «أنا» ، و «أنت» ، لا يصلحان إلا لمعيّنين ، وكذا ضمير الغائب ، نص في أن المراد هو المذكور بعينه في نحو : جاءني زيد وإيّاه ضربت ، وفي المتصل يحصل مع رفع الالتباس : الاختصار ؛
وليس كذا : الأسماء الظاهرة ، فإنه لو سمّي المتكلم والمخاطب بعلميهما (١) فربّما التبس ، ولو كرّر لفظ المذكور (٢) مكان ضمير الغائب فربّما توهّم أنه غير الأول ؛
وإنما بنيت المضمرات ، إمّا لشبهها بالحروف وضعا ، على ما قيل ، كالتاء في «ضربت» والكاف في «ضربك» ، ثم أجريت بقية المضمرات نحو : أنا ، ونحن ، وأنتما : مجراها (٣) ، طردا للباب ؛
__________________
(١) أي بالاسمين الموضوعين علمين لهما ، وفي نسخة بعينهما ، ورأينا أن ما أثبتناه أوضح ،
(٢) المراد به مفسّر الضمير ،
(٣) يعني مجرى التاء والكاف ونحوهما ،
وإمّا لشبهها بالحروف (١) لاحتياجها إلى المفسّر ، أعني الحضور للمتكلم ، والمخاطب ، وتقدم الذكر في الغائب ، كاحتياج الحرف إلى لفظ يفهم به معناه الافرادي ، وإمّا لعدم موجب الاعراب فيها ، وذلك أن المقتضى لإعراب الأسماء : توارد المعاني المختلفة على صيغة واحدة ، والمضمرات مستغنية باختلاف صيغها لاختلاف المعاني ، عن الاعراب ، ألا ترى أن كل واحد من المرفوع والمنصوب والمجرور له ضمير خاص ؛
قوله : «ما وضع لمتكلم» ، يخرج قول من اسمه «زيد» : زيد ضرب ، وقولك لزيد : يا زيد افعل كذا ، وقولك لزيد (٢) الغائب : زيد فعل كذا ، فإن لفظ «زيد» وإن أطلق على المتكلم والمخاطب والغائب (٣) إلا أنه ليس موضوعا للمتكلم ولا للمخاطب ولا للغائب المتقدم الذكر ، بل الأسماء الظاهرة كلها موضوعة للغيبة مطلقا ، لا باعتبار تقدم الذكر ، فمن ثمّ قلت : يا تميم كلهم ، نظرا إلى أصل المنادى قبل النداء ، ولهذا يقول المسمّى بزيد : زيد ضرب ، ولا يقول : زيد ضربت ، وكذا لا تقول للمسمّى بزيد : زيد ضربت ، لكنها ليست لغائب تقدم ذكره ، كهو ، وهي ، ونحوهما ؛
وإنما جاز : يا تميم كلكم ، لأن «يا» ، دليل الخطاب ، وليس في : زيد ضرب ، دليل التكلم ؛
ويدخل في حدّه لفظ المتكلم والمخاطب ، إلا أن يقال (٤) : ما وضع لمتكلم به ، أو لمخاطب به ، أي للمتكلم بهذا اللفظ الموضوع ، وللمخاطب به ،
وكذا في حدّ أسماء الإشارة ، ينبغي أن يقيّد فيقال : ما وضع لمشار إليه به حتى لا يدخل لفظ «المشار إليه» ؛
قوله : «لفظا ، أو معنى ، أو حكما» ، قسم التقدم اللفظي قسمين ، أحدهما متقدم
__________________
(١) يعني لشبهها بالحروف في المعنى ، فهو غير الوجه الأول ؛
(٢) أي في الحديث عنه ،
(٣) في الأمثلة التي ذكرها
(٤) في تفسير معنى التكلم وما معه
لفظا تحقيقا ، نحو : ضرب زيد غلامه ، والآخر متقدم لفظا تقديرا نحو : ضرب غلامه زيد ، إذ «زيد» متقدم في اللفظ تقديرا لكونه فاعلا ، وقسم ، أيضا ، التقدم المعنوي قسمين ، أحدهما أن يكون قبل الضمير لفظ متضمن للمفسّر بأن يكون المفسّر جزء مدلول ذلك اللفظ ، كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١) ، أي : العدل أقرب ، لأن الفعل يدل على المصدر والزمان ؛ والثاني أن يدل سياق الكلام على المفسّر التزاما ، لا تضمنا ، كقوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا ..)(٢) ، لأنه لما ساق الكلام قبل ، في ذكر الميراث لزم من ذلك السياق أن يكون ثمّ مورّث فجرى الضمير عليه من حيث المعنى ؛
هذا تقرير كلامه ، رحمه الله ، وفيه مخالفة لطريقته المألوفة ، لأن عادته جعل التقدير قسيم اللفظ ، لا قسمه ، كما قال في أول الكتاب في المعرب ، «لاختلاف العوامل لفظا ، أو تقديرا» (٣) ، وقال بعيد : (٤) «التقدير فيما تعذر» ، ثم قال : «واللفظي فيما عداه» ؛
فجعل نحو : ضرب غلامه زيد مما تقدم معنى ، أولى ، إذ هو متقدم معنى وتقديرا ، لا لفظا ؛ فإذا جاز سلب اللفظية عن هذا التقدم بأن يقال : ليس لفظ المفسّر مذكورا قبل الضمير ، فكيف يكون التقدم لفظيا ؛
فإن قال : أردت كأنه متقدم لفظا من حيث التقدير ؛ قيل : فعدّ نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) ، أيضا من هذا القسم لأن المفسّر فيه كأنه متقدم اللفظ أيضا في التقدير ، ولا فرق بينهما ، إلا أن المفسّر في نحو : ضرب غلامه زيد ، ملفوظ به ، بخلاف المفسّر في نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، والتقدم في كليهما ليس لفظيا ، بل هو تقديري ، وكلامنا في التقدم اللفظي ، لا في المفسّر الملفوظ به أو المقدّر ؛
__________________
(١) الآية ٨ سورة المائدة
(٢) الآية ١١ سورة النساء ؛
(٣) انظر ص ٥٥ من الجزء الأول ،
(٤) أي بعد ذلك بقليل ،
وقد قرّر على الصواب ، في باب الفاعل (١) ، وهو قوله في : ضرب غلامه زيد ، لا بدّ من متقدم يرجع إليه هذا الضمير تقدما لفظيا ، أو معنويا ، وهو راجع إلى «زيد» وهو متأخر لفظا ، فلو لا أنه متقدم عليه من حيث المعنى ، لم يجز ؛ فجعله من باب المتقدم معنى لا لفظا ، وهو الحق ؛
وعلى هذا ، فالحق أن يقول : التقدم اللفظي : أن يذكر المفسّر قبل الضمير ذكرا صريحا ، سواء كان من حيث المعنى ، أيضا ، متقدما ، نحو : ضرب زيد غلامه ، لأن الفاعل من حيث المعنى متقدم على المفعول ، أو كان من حيث المعنى متأخرا ، كقوله تعالى ، : (وَإِذِ ، ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ)(٢) ، لأن المفعول من حيث المعنى متأخر عن الفاعل ؛
واعلم أنه إذا تقدم ممّا يصلح للتفسير شيئان فصاعدا ، فالمفسّر هو الأقرب لا غير ، نحو : جاءني زيد وبكر فضربته ، أي ضربت بكرا ، ويجوز ، مع القرينة ، أن يكون للأبعد ، نحو : جاءني عالم وجاهل ، فأكرمته ؛
والتقدم المعنوي ألّا يكون المفسّر مصرّحا بتقديمه ، بل هناك شيء آخر غير ذلك الضمير يقتضي كون المفسّر قبل موضع الضمير ، وذلك ضروب : كمعنى الفاعلية ، المقتضى كون الفاعل قبل المفعول رتبة ، كضرب غلامه زيد ، ومعنى الابتداء المقتضى لكون المبتدأ قبل الخبر ، نحو : في داره زيد ؛ ومعنى المفعول الأول ، المقتضى تقدّمه على الثاني ، نحو : أعطيت درهمه زيدا ، وكذا نحو (٣) : ضربت في داره زيدا ، وكلفظ الفعل المتضمن للمصدر المفسّر لضمير متصل بذلك الفعل نحو :
هذا سراقة للقرآن يدرسه |
|
والمرء عند الرّشا ان يلقها ذيب (٤) ـ ٨١ |
أو منفصل عنه نحو قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٥) ، وقوله تعالى : «بَلْ
__________________
(١) ص ١٨٧ من الجزء الأول ،
(٢) الآية ١٢٤ سورة البقرة ؛
(٣) لأن «في داره» مفعول ثان بواسطة الحرف ،
(٤) تقدم الاستشهاد بهذا البيت في الجزء الأول
(٥) الآية ٨ من سورة المائدة وتقدمت قريبا ؛
هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» (١) ، وكذا الصفة (٢) ، كقوله :
٣٦٤ ـ إذا زجر السفيه جرى إليه |
|
وخالف والسفيه إلى خلاف (٣) |
أي : إلى السفه ، وكسياق الكلام المستلزم للمفسّر ، استلزاما قريبا ، كقوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ)(٤) ، لأن سياق ذكر الميراث دالّ على المورّث دلالة التزاميّة ؛ أو بعيدا (٥) ، كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ)(٦) ، إذ العشيّ (٧) يدل على تواري الشمس ، وكقوله تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٨) ، إذ النزول في ليلة القدر التي هى في شهر رمضان ، دليل على أن المنزل هو القرآن ، مع قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذ أُنْزِلَ فهِ الْقُرْآنُ) (٩) ، وكذا قوله تعالى : (مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) (١٠) ، فإن ذكر الدابّة مع ذكر «على ظهرها» دال على أن المراد ظهر الأرض ؛ وكذا الفناء مع لفظة «على» في قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (١١) ، وكذا قوله تعالى : (وإن كانت واحدة) (١٢) ، أي إن كانت الوارثة واحدة ، إذ هو في بيان الوارث ؛
والتقدم الحكمي : أن يكون المفسّر مؤخرا لفظا ، وليس هناك ما يقتضي تقدمه على
__________________
(١) من الآية ١٨٠ سورة آل عمران ؛
(٢) مقابل قوله كلفظ الفعل المتضمن للمصدر الخ ؛
(٣) استشهد به كثير من أئمة النحو ، ولم ينسبه أحد ، ويروى إذا نهي ، وهو بالبناء للمجهول مثل زجر ، ومعنى قوله : والسفيه إلى خلاف : أن ذلك من شأنه ودأبه ، وبيان الشاهد ما قاله الشارح من أن مرجع الضمير ما تضمنه الوصف من المصدر ، أي إذا زجر السفيه جرى إلى السّفه ؛
(٤) من الآية ١١ سورة النساء ، وتقدم بعضها ؛
(٥) أي استلزاما بعيدا ،
(٦) من الآية ٣٢ سورة ص ،
(٧) المذكور في قوله : إذ عرض عليه بالعشي الصافات الجياد ، في الآية التي قبل ذلك ،
(٨) أول آية في سورة القدر ،
(٩) الآية ١٨٥ في سورة البقرة ،
(١٠) من الآية ٤٥ سورة فاطر ؛
(١١) الآية ٢٦ سورة الرحمن ،
(١٢) جزء من الآية ١١ سورة النساء وتقدمت ،
محل الضمير ، إلا ذلك الضمير ، فنقول : إنه وإن لم يتقدم لفظا ولا معنى (١) ، إلا أنه في حكم المتقدم نظرا إلى وضع ضمير الغائب. وإنما يقتضي ضمير الغائب تقدم المفسّر عليه لأنه وضعه الواضع معرفة لا بنفسه بل بسبب ما يعود عليه ، فإن ذكرته ولم يتقدمه مفسّره بقي مبهما منكّرا لا يعرف المراد به حتى يأتي مفسّره بعده ، وتنكيره خلاف وضعه ؛
فإن قلت : فأيش (٢) الحامل لهم على مخالفة مقتضى وضعه بتأخير مفسّره عنه ؛
قلت : قصد التفخيم والتعظيم في ذكر ذلك المفسّر ، بأن يذكروا أوّلا شيئا مبهما ، حتى تتشوّق نفس السامع إلى العثور على المراد به ، ثم يفسّروه فيكون أوقع في النفس ، وأيضا ، يكون ذلك المفسّر مذكورا مرتين ، بالإجمال أوّلا ، والتفصيل ثانيا ، فيكون آكد ؛
فإن قلت : فهذا الضمير الذي هذا حاله ، أيبقى على وضعه معرّفا أم يصير نكرة ، لعدم شرط التعريف ، أعني تقدم المفسّر؟ ؛
قلت : الذي أرى أنه نكرة ، كما يجيء في باب المعرفه ، وعند النحاة : يبقى معرّفا ، لكن تعريفه أنقص مما كان في الأوّل (٣) ، لأن التفسير يحصل بعد ذكره مبهما ، فقبل الوصول إلى التفسير ، فيه الإبهام الذي في النكرات ، ولهذا جاز دخول «ربّ» عليه ، مع اختصاصها بالنكرات ؛
وإنما حكموا ببقائه على وضعه من التعريف ، لأنه حصل جبران (٤) ما فاته بذكر المفسّر بعده بلا فصل ، فهو كالمضاف الذي يكتسي التعريف من المضاف إليه ، أمّا الجبران في ربّه رجلا ، ونعم رجلا ، وبئس رجلا ؛ و: (ساءَ مَثَلاً)(٥) فظاهر ؛ لأن الاسم المميّز المنصوب لم يؤت به إلا لغرض التمييز والتفسير ، فنصبه على التمييز مع عدم انفصاله
__________________
(١) يعني بالتفسير المتقدم للتقدم اللفظي والمعنوي.
(٢) المعنى : أي شيء وتقدم التنبيه عليها في أول الباب ،
(٣) أي حالة تقدم المفسّر ،
(٤) مصدر قليل الاستعمال بمعنى التعويض عما فات ويستعمله الرضي كثيرا ،
(٥) جزء من الآية ١٧٧ في سورة الأعراف ؛
عن الضمير قائم مقام المفسر المتقدم ، فالجبران ، في مثله في غاية الظهور ؛ وقريب منه : ضمير يبدل منه مفسّره نحو : مررت به زيد ، إذ لم يؤت بالبدل إلا للتفسير ؛
وأمّا في ضمير الشأن والقصة (١) ، فالجملة بعده ، وإن لم تأت كالتمييز المذكور لمجرد التفسير ، إلا أن قصدهم لتفخيم الشأن بذكره مجملا ثم مفصلا مع اتصال الخبر المفسّر بالمبتدأ ، سهّل الإتيان به مبهما فهذا التفسير دون الأول ؛
وأمّا تأخر المفسّر في باب التنازع نحو : ضربني وضربت زيدا ، على مذهب البصريين ، فالحق أنه بعيد ، لأنّ مجوّز تأخير المفسّر لفظا ومعنى : قصد تفخيم المفسّر مع الإتيان بالمفسّر لمجرد التفسير بلا فصل كما في نعم رجلا زيد ، أو قصد التفخيم مع اتصال المفسّر كما في ضمير الشأن ؛ والثلاثة في ضمير التنازع معدومة ، أعني قصد التفخيم والإتيان بالمفسّر لمجرد التفسير واتصاله بالضمير ؛ فضعف (٢) ، فمن ثمّ ، حذف الكسائي الفاعل في مثله ، مع أن فيه محذورا أيضا ؛
وما أجازه المبرد والأخفش من نحو : ضرب غلامه زيدا ، أعني اتصال ضمير المفعول المؤخر بالفاعل المقدم ، ليس بأضعف مما ارتكبه البصرية (٣) ، لأن الاتصال الذي بين الفاعل والمفعول إذا كانا لعامل واحد ، أكبر من الاتصال الذي بين الضمير ومفسّره على ما ذكره البصرية في باب التنازع ؛
قال المصنف : أردت بالتقدم الحكمي : أنك إذا قصدت الإبهام للتفخيم ، فتعقلت المفسّر في ذهنك ولم تصرح به للابهام على المخاطب ، وأعدت الضمير على ذلك المتعقّل ، فكأنه راجع إلى المذكور قبله ، فذلك المتعقّل في حكم المفسّر المتقدم ؛
ولا يتمّ ما ذكره في باب التنازع إذ لا يقصد هناك التفخيم ؛
__________________
(١) سيأتي الكلام عنهما. وأراد هنا بيان جبر ما فاته من تقدم مفسّره عليه : كما بين ذلك في المجرور برب ، وفاعل نعم وبئس الخ ؛
(٢) أي ضعف بسبب تأخير مفسّره من غير تعويض وجبر له ومن غير وجود أحد الأشياء الثلاثة المذكورة فيه ،
(٣) يعني في باب التنازع ، والمراد أنّ ما ذهب إليه الأخفش والمبرد أقوى مما ذهب إليه البصريون في باب التنازع ؛ وإن كان مذهبهما في ذاته ضعيفا ؛
[المتصل والمنفصل]
[في الضمائر]
[قال ابن الحاجب :]
«وهو متصل ومنفصل ، فالمنفصل : المستقل بنفسه والمتصل»
«غير المستقل» ؛
[قال الرضى :]
يعني بالمستقل بنفسه : أنه لا يحتاج إلى كلمة أخرى قبله يكون كالتتمّة لها بل هو كالظاهر ، سواء انفصل عن عامله نحو : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(١) ، و: ما ضربت إلا إيّاك ، أو اتصل به نحو : ما أنت قائما ، عند الحجازية ، وذلك لأنه يجوز استقلاله بنفسه وفصله عن عامله نحو : ما اليوم أنت قائما ، فليس كالجزء مما قبله ، وإلّا لم يجز انفصاله عما قبله ،
والمتصل : ما يتصل بعامله الذي قبله ويكون كالتتمّة لذلك العامل وكبعض حروفه ، فالضمائر المستترة في نحو : زيد ضرب ، ويضرب ، وهند ضربت وتضرب ، واضرب ، أمرا ، وأضرب ، ونضرب ، وتضرب في خطاب المذكر ، وفي الصفات نحو : زيد ضارب والزيدان ضاربان إلى آخر تصاريفها (٢) : كلها متصلة ، كما يجيء تحقيقها ، وليس المستتر فيها : ما يبرز في نحو : زيد ضرب هو وعمرو ، و: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(٣) ، وهند زيد ضاربته هي ؛ بل البارز تأكيد للفاعل ، لا فاعل ، كما يجيء شرحه ، وهو منفصل بدليل قولك : زيد ضرب اليوم هو وعمرو ، واسكن اليوم أنت وزوجك. وهند زيد ضاربته اليوم هي ؛
__________________
(١) من الآية ٤٠ سورة يوسف ،
(٢) جاء في بعض النسخ ذكر هذه التصاريف كلها ، وهي واضحة ،
(٣) من الآية ٣٥ سورة البقرة ؛
[تقسيم الضمائر]
[من حيث الإعراب]
[قال ابن الحاجب :]
«وهو مرفوع ومنصوب ومجرور ، فالمرفوع والمنصوب متصل»
«ومنفصل ، والمجرور متصل ، فذلك خمسة أنواع ، الأول»
«ضربت وضربت إلى ضربن وضربن ، والثاني : أنا .. إلى»
«هنّ ، والثالث : ضربني إلى ضربهنّ ، والرابع : إيّاي إلى»
«إياهنّ ، والخامس : غلامي ، ولي ، إلى غلامهنّ ولهنّ» ؛
[قال الرضى :]
اعلم أن الضمير إنما كان مرفوعا ومنصوبا ومجرورا ، لأن الضمير كما قلنا ، قائم مقام الظاهر ، لرفع الالتباس وحده ، أو له ، وللاختصار ؛ فيكون كالظاهر مرفوعا ومنصوبا ومجرورا ؛
وإنما لم يكن المجرور إلا متصلا ، لأن المتصل ، كما ذكرنا ، هو الذي يكون كالجزء الأخير لعامله ، يعني يجيء العامل أوّلا ثم يجيء الضمير بعده على وجه لا يمكن معه الفصل بينهما ، والمجرور كذلك ؛
فإن قيل : أليس الفصل جائزا بين المضاف والمضاف إليه في الشعر؟ ؛ قلت : ذلك مع الظاهر قبيح (١) ، فامتنع في المضمر الذي هو أشد اتصالا بعامله من الظاهر ؛
وكل واحد من هذه الأنواع الخمسة (٢) ، يكون لثمانية عشر معنى ؛ لأن كل واحد منها ، إمّا أن يكون لمتكلم أو مخاطب أو غائب ، وكل واحد من هذه الثلاثة إمّا أن يكون
__________________
(١) للرضي رأي في الفصل بين المتضايقين أدّى إلى إنكاره لتواتر القراءات كما في باب الإضافة ،
(٢) المستفادة من كلام المصنف ،
لمفرد أو مثنى أو مجموع ، صارت تسعة ، وكل واحد من التسعة إمّا أن يكون لمذكر أو مؤنث ، فصارت للمتكلم ستة ، وللمخاطب ستة وللغائب ستة ؛ وضعوا للمتكلم منها لفظين يدلّان على ستة المعاني المذكورة ، كضربت وضربنا ، فضربت مشترك بين الواحد المذكر والمؤنث وضربنا بين الأربعة : المثنى المذكر والمثنى المؤنث ، والمجموع المذكر والمجموع المؤنث ؛ وإنما شركوا في المتكلم بين المذكر والمؤنث ، مفردا كان أو غيره ، لأن المشاهدة تكفي في الفرق ؛ وإنما ارتجل لمثنى المتكلم وجمعه صيغة وهي «نا» وكذلك قولك «نحن» ، ولم يزيدوا للمثنى ألفا ، وللجمع واوا كما فعلوا في مثنى المخاطب وجمعه ، لأن مثناهما (١) : اسم انضمّ إليه لفظ آخر مثله ، بدليل أنك إذا قيل لك : فصّل «أنتما» قلت : أنت يا زيد وأنت يا عمرو ، وهذه حقيقة المثنى كما يجيء ، وكذلك في الجمع إذا قيل لك : فصّل «أنتم ، قلت : أنت يا زيد ، وأنت يا عمرو ، وأنت يا خالد ؛
وأمّا إذا قيل نحن ، وأردت المثنى ، فقيل لك فصّل ، قلت (٢) : أنا وزيد ، أو أنا وأنت ، أو أنا وهو ، وتقول في الجمع : أنا وزيد وعمرو ، وليس كل أفراده «أنا» ، فلما لم يكن شرط المثنى والمجموع وهو اتفاق الاسمين أو الأسماء في اللفظ ، حاصلا لم يمكنهم إجراء تثنيته وجمعه على وفق ما أجري عليه سائر التّثاني (٣) والجموع ، فارتجلوا للمثنى صيغة ، وشركوا معه الجمع للأمن من اللبس بسبب القرائن ؛
وكثيرا ما يجيء في غير هذا الباب ، أيضا ، المثنى بصيغة الجمع نحو قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (٤) ؛
وقد يقول المعظّم (٥) : فعلنا ، ونحن ، وإيانا ، عادّا لنفسه كالجماعة ؛
__________________
(١) يريد مثنى المخاطب ؛
(٢) تكررت الإشارة إلى استعمال الرضي هذا ، وهو المجيء بجواب أمّا هكذا بدون فاء وكان أسهل لو قال :
وإذا قيل لك ... قلت ؛
(٣) أي سائر أنواع التثنية ،
(٤) من الآية ٤ سورة التحريم ،
(٥) أي المعظم لنفسه ،
ووضعوا منها للمخاطب خمسة ألفاظ : أربعة منها نصوص ، وهي : ضربت وضربت ، وضربتم وضربتنّ ، وواحد مشترك بين المثنى المذكر والمثنى المؤنث ، وهو ضربتما ؛
وحكم الغائب حكم الغائبة في النصوصيّة (١) والاشتراك ، نحو : ضرب وضربت وضربا وضربتا وضربوا وضربن ، والضمير هو الألف المشترك بين المثنّيتين (٢) ، والتاء حرف تأنيث ؛
ويجب أن يكون المقدّر في : ضرب وضربت متغايرين ، كما في البارز نحو : هو ، وهي ؛
هذا ، وبقية الأنواع الخمسة ، جارية هذا المجرى أعني أن للمتكلم لفظين ، وللمخاطب خمسة ، وللغائب خمسة ، فصار المجموع ثنتي عشرة كلمة ، لثمانية عشر معنى ؛
[التدرّج]
[في ضع الضمائر]
[قال الرضي (٣) :]
واعلم أن أوّل ما بدئ بوضعه من الأنواع الخمسة : ضمير المرفوع المتصل ، لأن المرفوع مقدّم على غيره ، والمتصل مقدم على المنفصل ؛ لكونه أخصر ، فنقول :
__________________
(١) أي كون اللفظ نصا في شيء لا يحتمل غيره ، وأشرنا إلى أن هذا تعبير مستحدث وهو من المصادر الصناعية ،
(٢) يعني فيكون المجموع خمسة أيضا ؛
(٣) هذا استطراد من الرضي كعادته في كثير من المباحث ، وقد أتى فيه بشيء عجيب ، إذا كان يدل على قدرة فائقة في التوليد والاختراع فإننا نشير إلى ان الرضي كثيرا ما يرد على غيره ممّن يوردون بعض الآراء الغريبة بقوله : من أين لهم هذا ، أو بقوله : إن هذا من قبيل الرجم بالغيب ، وفي هذا الشرح كثير من مثل هذه الاستطرادات أظهر فيها الرضي براعة زائدة ؛ رحمه الله ؛
إنما ضموا التاء في المتكلم لمناسبة الضمة لحركة الفاعل ، وخصّوا المتكلم بها لأن القياس وضع المتكلم أولا ، ثم المخاطب ، ثم الغائب ؛
وفتحوا للمخاطب فرقا بين المتكلم وبينه ، وتخفيفا ، وكسروا للمخاطبة فرقا ، ولم يعكسوا الأمر بكسرها للمخاطب وفتحها للمخاطبة ، لأن خطاب المذكر أكثر فالتخفيف به أولى ، وأيضا ، هو مقدم على المؤنث ، فخصّ ، للفرق ، بالتخفيف ، فلم يبق للمؤنث إلا الكسر ؛
وزادوا الميم قبل ألف المثنى في «تما» (١) وقبل واو الجمع في «تموا» ، لئلا يلتبس المثنى بالمخاطب إذا أشبعت فتحته للاطلاق ، والجمع (٢) بالمتكلم المشبع ضمته ، وكان أولى الحروف بالزيادة : الميم ، لأن حروف العلة مستثقلة قبل الألف والواو ، والميم أقرب الحروف الصحيحة إلى حرف العلة لغنّتها ولكونها من مخرج الواو : شفوية ، ولذلك ضم ما قبلها ، كما يضم ما قبل الواو ؛ وحذف واو الجمع مع إسكان الميم إن لم يلها ضمير : أشهر من إثبات الواو مضموما ما قبلها ، وذلك لأنهم لما ثنّوا الضمائر وجمعوها ، والقصد بوضع متصلها التخفيف ، كما قلنا : لم يأتوا بنوني المثنى والمجموع بعد الألف والواو ، كما أتوا بهما في : هذان ، واللذان ، والذين ، فوقع الواو في الجمع ، في الآخر مضموما ما قبلها ، وهو مستثقل حسّا ، كما مرّ في الترخيم (٣) ، فحذفوا الواو ، وسكنوا الميم التي ضموها لأجله ، للأمن من الالتباس بالمثنى ، بثبوت الألف فيه دون الجمع ؛
ومن أثبت الواو مضموما ما قبلها ، فلأن ذلك مستثقل في الاسم المعرب كما يجيء في التصريف ؛
وأمّا إن ولي ميم الجمع ضمير نحو : ضربتموه ، وجب (٤) في الأعرف رجوع الضم
__________________
(١) اقتصر في التمثيل على الجزء المطلوب في مثل ضربتما وضربتمو ،
(٢) أي ولئلا يلتبس الجمع بالمتكلم ،
(٣) ج ١ ص ٤٠٩ والمراد عدم وقوع الواو طرفا مضموما ما قبلها ضما لازما في الأسماء المعربة وأما في المبني فقد يجيء ، وهو ما سيأتي في التصريف ،
(٤) جواب أما ، وحقه الاقتران بالفاء وكان يمكن الاقتصار على قوله : وإن ولي ...
والواو لأن الضمير ، لاتصاله ، صار كبعض حروف الكلمة ، فكأن الواو لم يقع طرفا ؛
وجوّز يونس حذف الواو وتسكين الميم مع الضمير ، أيضا ؛ ولم يثبت ما ذهب إليه ؛
وإذا لقي ميم الجمع ساكن بعدها ، ضمت الميم ردّا لها إلى أصلها ، وقد تكسر ، كما يجيء ؛
وزيدت للمؤنث (١) نون مشدّدة ، لتكون بإزاء الميم والواو في المذكر ، وإنما اختاروا النون لمشابهته ، بسبب الغنّة للميم والواو معا ، مع كون الثلاثة من حروف الزيادة ، واستتر ضمير الغائب والغائبة لأنه لما كان مفسّر الغائب لفظا متقدما في الأصل ، بخلاف المتكلم والمخاطب أرادوا أن تكون ضمائر الغيب أخصر من ضميريهما فابتدأوا في المفردين بغاية التخفيف ، وهي التقدير ، من دون أن يتلفّظ بشيء منه ، واقتصروا ، لمثنى مذكره ومؤنثه على الألف الذي هو علامة التثنية في كل مثنى ، وعلى الواو في جمع المذكر ؛
وقد يستغنى بالضمة عن الواو في الضرورة ، قال :
٣٦٥ ـ فلو أنّ الأطبّا كان حولي |
|
وكان مع الأطبّاء الأساة (٢) |
استثقالا للواو المضموم ما قبلها في الأخير ؛
واقتصروا على نون واحدة في مقابلة الواو ، إذ كانت واحدة (٣) ،
وقول النحاة : ان الفاعل في نحو : زيد ضرب ، وهند ضربت : هو وهي : تدريس (٤) لضيق العبارة عليهم ، لأنه لم يوضع لهذين الضميرين لفظ ، فعبّروا عنهما بلفظ المرفوع
__________________
(١) يعني لجمع المؤنث
(٢) أورده صاحب الإنصاف : وكان مع الأطباء الشفاة ، لأن بعده :
إذن ما أذهبوا ألما بقلبي |
|
وإن قيل الشفاة هم الأساة |
والأساة جمع آس وهو المعالج ، ولم ينسب هذا الشعر لأحد غير أن البغدادي نقله عن الفراء ؛
(٣) أي بالنسبة للمؤنث ،
(٤) أي تقريب من العلماء في تدريسهم لتصوير المعنى ،
المنفصل ، لكونه مرفوعا مثل ذلك المقدر ، لا أن المقدّر هو ذلك المصرّح به ؛ وكيف ذا (١) ، ويجوز الفصل بين الفعل وهذا المصرّح به ، نحو : ما ضرب إلا هو ؛
فإن قلت : بل المفصول المصرّح به غير المتصل ، فهو تحكم (٢) ؛
وإلى هذا نظر من قال من النحاة : ان المقدر في : ضرب وضربت ينبغي أن يكون أقلّ من الألف (٣) : نصفه أو ثلثه ؛ وذلك لأن ضمير المفرد ينبغي أن يكون أقل من ضمير المثنى ؛
وأمّا التاء في : ضربت وضربتا ، فهي حرف للتأنيث ، لا ضمير ، بدليل : ضربت هند ؛ وقلّ جعل الألف والواو والنون حروفا كتاء التأنيث ، كما يجيء آخر الكتاب ، نحو : قاما أخواك ، وأكلوني البراغيث ، و:
٣٦٦ ـ ولكن ديافيّ أبوه وأمه |
|
بحوران يعصرن السليط أقاربه (٤) |
هذا كله في الماضي ، وأمّا في المضارع والأمر ، فلم يبرز الضمير في : أفعل ، ونفعل لاشعار حرف المضارعة بالفاعل ، لأن «أفعل» مشعر بأن فاعله «أنا» ، و «نفعل» مشعر بنحن ، الهمزة بالهمزة ، والنون بالنون (٥) ،
وكذا «يفعل» نصّ في المفرد الغائب ، فلم يحتاجوا إلى ضمير بارز ، وأمّا «تفعل»
__________________
(١) يعني وكيف يكون ذلك مع جواز الفصل بين الفعل وهذا الملفوظ به ،
(٢) قوله : فهو تحكم ، جواب عن قوله : فإن قلت ...
(٣) أي ألف المثنى ؛
(٤) هو من قصيدة للفرزدق ، وديافيّ ، منسوب إلى ديّاف : إحدى قرى الشام وينسب إليها كل من يراد أنه نبطيّ ، والسليط : الزيت مطلقا ، أو المستخرج من السمسم وحوران من قرى الشام أيضا ؛ والمقصود بهذا الشعر هو عمرو بن عفراء الضبيّ وكان يكره الفرزدق ، والاستدراك في قوله ولكن ديافي ، مرتبط ببيت قبل ذلك يقول فيه الفرزدق :
فلو كنت ضبيّا صفحت ولو جرت |
|
على قدمي حيّاته وعقاربه |
إلى أن قال ولكن ديافيّ ، فهو بهذا ينفي عنه حتى انتسابه إلى ضبّه ؛
(٥) يعني أن الهمزة في الفعل مشعرة بأن أول الضمير المستتر همزة في أنا ، وكذلك القول في النون ؛
فإنه ، وإن كان محتملا للمخاطب والغائبة ، لكنهم لم يبرزوا ضميره ، إجراء لمفردات المضارع مجرى واحدا في عدم إبراز ضميرها ؛
ولعل هذا هو الذي حمل الأخفش على أن قال : إن الياء في : تضربين ليس بضمير ، بل حرف تأنيث ، كما قيل في : هذي ؛ والضمير لازم الاستتار ، وانه استنكر الحكم بكون ضمير المفرد أثقل من ضمير المثنى ، مع أن القياس يقتضي أن يكون أخفّ ؛
وأمّا «افعل» أمرا ، و «لا تفعل» نهيا ، فحكمهما حكم «تفعل» للمخاطب لأن الأمر والنهي (١) مأخوذان من المضارع ، كما يجيء في قسم الأفعال ؛
ومذهب المازني : أن الحروف الأربعة في المضارع والأمر ، أعني الألف في المثنيات ، والواو في جمعي المذكر ، والياء في المخاطبة ، والنون في جمعي المؤنث علامات ، كألف الصفات وواوها في نحو : ضاربان وحسنون ، وهي كلها حروف والفاعل مستكن عنده ؛ ولعلّ ذلك حملا للمضارع على اسم الفاعل ، واستنكارا لوقوع الفاعل بين الكلمة وإعرابها أي النون ؛
وأمّا الضمائر المرفوعة في الصفات أعني اسم الفاعل واسم المفعول ، والصفة المشبهة ، فلم يبرزوها ، لأنها غير عريقة في اقتضاء الفاعل ، بل اقتضاؤها له لمشابهة الفعل ، فلم يظهروا فيها ضمير الفاعل ، وكذا أسماء الأفعال ، والظروف ، على ما يجيء بعد ؛
وأيضا ، الألف والواو في مثنيّات الأسماء وجموعها الجامدة ، كالزيدان والزيدون : حروف زيدت علامة للمثنى والمجموع بلا ريب ، فجعلت مثنيات الصفات وجموعها على نهج مثنيات الجامدة وجموعها ، لأن الصفات فروع الجامدة ، لتقدم الذوات على صفاتها ، فصارت الألف علامة المثنى ، والواو علامة الجمع ، فلم يمكن أن يوصل ألف الضمير وواوه بالمثنى والمجموع ، لئلا يجتمع الفان ، وواوان ، فاستكنّ الضميران : الألف في المثنى ، والواو في المجموع ؛
__________________
(١) حقه أن يقتصر على الأمر لأن النهي مضارع حقيقة وليس مأخوذا منه كالأمر ؛
والدليل على أن الألف والواو الظاهرين ليسا بضميرين : انقلابهما بالعوامل ، نحو : لقيت ضاربين وضاربين ، والفاعل لا يتغيّر بالعوامل الداخلة على عامله نحو قولك : جاءني زيد راكبا غلامه ، فلم يعمل : «جاءني» في «غلامه» ؛
وكذا ، استكنّ النون في ضاربات ومضروبات ، تبعا لاستتار الضمير في جمع المذكر إذ هو الأصل ، وإذا استتر في المثنى ، والمجموع ، فالاستتار في مفرداتها أجدر ، فلزم الاستتار في الكل ، فلا ترى الفاعل ضميرا بارزا في الصفات إلا في نحو : أقائم هما ، وما قائم أنتما ؛
وأمّا في نحو : زيد عمرو ضاربه هو ، فالمنفصل ليس بفاعل ، بل هو تأكيد له لما سيجيء ؛
ثم ، لما فرغوا من وضع المرفوع المتصل في الأفعال والصفات أخذوا في وضع المرفوع المنفصل ؛
فقالوا : أنا للمتكلم : المذكر والمؤنث ؛ وقد تبدل همزتها هاء نحو : هنا ، وقد تمدّ همزته نحو : آنا فعلت ، وقد تسكن نونه في الوصل ؛
وهو عند البصريين ، همزة ونون مفتوحة ، والألف يؤتى بها بعد النون في حالة الوقف لبيان الفتح ، لأنه لو لا الألف لسقطت الفتحة للوقف ، فكان يلتبس بأن الحرفية ، لسكون النون ، فلذا يكتب بالألف لان الخط مبني على الوقف والابتداء ؛
وقد يوقف على نونها ساكنة ، وقد تبيّن فتحتها وقفا بهاء السكت ، قال حاتم : هكذا فزدي أنه (١) ، وقال : (٢)
__________________
(١) فزدي يعني فصدي ، وفصد الناقة أو البعير أن يجرحه فيسيل منه الدم فيشوى ويؤكل ، وكان حاتم الطائي أسيرا فطلبت منه إحدى الجواري أن يفصد لهم ناقة ليشتووا دمها فقام إليها فنحرها فلطمته الجارية وقالت له إنما قلت لك افصدها ، فقال : هكذا فزدي أنه ، وإبدال الصاد زايا من لغة طيئ ، وفي هذه القصة قال حاتم : لو ذات سوار لطمتني ،
(٢) وقال : أي الشاعر ، كما هو عادته ، وليس المراد أن القائل حاتم ؛
٣٦٧ ـ إن كنت أدري فعليّ بدنه |
|
من كثرة التخليط فيّ من أنه (١) |
وبنو تميم يثبتون الألف في الوصل ، أيضا ، في السّعة ، وغيرهم لا يثبتونها في الوصل إلا في الضرورة ، كقوله :
٣٦٨ ـ أنا سيف العشيرة فاعرفوني |
|
حميد قد تذرّيت السناما (٢) |
وجاء في قراءة نافع (٣) إثبات الألف إذا كان قبل همزة مفتوحة ، أو مضمومة ، دون المكسورة ؛
قال أبو علي (٤) : لا أعرف فرقا بين الهمزة وغيرها ، فالأولى ألّا يثبت الألف وصلا في موضع ؛
ومذهب الكوفيين أن الألف بعد النون من نفس الكلمة ؛ وسقوطه (٥) في الوصل ، في الأغلب ، مع فتح النون أو سكونه ، ومعاقبة هاء السكت له وقفا : دليلان على زيادته وكونه لبيان الحركة وقفا ؛
و: نحن ، للمتكلم مع غيره ، مثل : «نا» في المرفوع المتصل في صلاحيته للمثنى والمجموع ، والعلة كالعلة ، وتحريكه للساكنين وضمه : إمّا لكونه ضميرا مرفوعا ، وإمّا لدلالته على المجموع الذي حقه الواو ؛
وأما «أنت» إلى «أنتن» ، فالضمير ، عند البصريين «أن» ، وأصله «أنا» ، وكأنّ «أنا» عندهم ضمير صالح لجميع المخاطبين والمتكلم ، فابتدأوا بالمتكلم ، وكان
__________________
(١) قال البغدادي : لم أقف له على أثر ؛
(٢) قائله : حميد بن بحدل ، واسمه حميد بن حريث بن بحدل من بني كلب وهو شاعر إسلامي ؛
(٣) تقدم ذكره وهو أحد القراء السبعة ،
(٤) أي الفارسي ورأيه هذا يقرب من اتجاه الرضي وغيره من الطعن في القراءات
(٥) هذا رد على مذهب الكوفيين
القياس أن يبيّنوه بالتاء المضمومة نحو : أنت إلا أن المتكلم لما كان أصلا ، جعلوا ترك العلامة له علامة ، وبيّنوا المخاطبين بتاء حرفية بعد «أن» كالاسمية (١) في اللفظ وفي التصرف ؛
ومذهب الفراء أنّ «أنت» بكماله : اسم ، والتاء من نفس الكلمة ؛
وقال بعضهم : إن الضمير المرفوع هو التاء المتصرفة (٢) ، فكانت مرفوعة متصلة ، فلما أرادوا انفصالها : دعموها بأن ، المستقل لفظا ، كما هو مذهب الكوفيين وابن كيسان في : إياك وأخواته ، وهو أن الكاف المتصرفة كانت متصلة فأرادوا استقلالها لفظا لتصير منفصلة ، فجعلوا «إيّا» عمادا لها ، فالضمائر التي تلي إيا ، وإيا عماد لها ؛
وما أرى هذا القول بعيدا من الصواب في الموضعين ؛
وقالوا في الغائب : هو ، وهما ، وهم ، وهي ، وهما ، وهنّ ؛ فالواو ، والياء في هو ، وهي ، عند البصريين ، من أصل الكلمة ، وعند الكوفيين للاشباع والضمير هو الهاء وحدها ، بدليل التثنية والجمع فإنك تحذفهما فيهما ؛ والأوّل هو الوجه ، لأن حرف الإشباع لا يتحرك ، وأيضا حرف الاشباع لا يثبت إلا ضرورة ؛
وإنما حرّكت (٣) الواو ، والياء. لتصير الكلمة بالفتحة مستقلة حتى يصح كونها ضميرا منفصلا ، إذ لو لا الحركة لكانتا كأنهما للاشباع على ما ظنّ الكوفيون ، ألا ترى أنك إذا أردت عدم استقلالهما سكنت الواو والياء نحو : إنهّو ، وبهي ؛
وكان قياس المثنى والجمع ، على مذهب البصريين : هوما ، وهي ما وهوم ، وهين (٤) ، فخفف بحذف الواو والياء ؛
والكلام في زيادة الميم وحذف الواو في جمع المذكر ، وزيادة النونين في جمع المؤنث :
__________________
(١) يعني كالتاء الاسمية التي هي ضمير
(٢) أي التي تتغير بحسب المخاطب ؛
(٣) يعني بالنسبة لرأي البصريين ،
(٤) أي بزيادة علامات التثنية والجمع بنوعيه على صيغة المفرد مع بقائها على حالها ؛
على ما ذكرنا في المتصل ، سواء (١) ،
وهذه الضمائر المرفوعة المنفصلة ، يشترك فيها الماضي والمضارع والأمر ، والصفات ، وليست كالمرفوعة المتصلة ، فإنه لا شركة بين الماضي والمضارع فيها ، إلا في الألف والواو والنون ، كما ذكرنا ؛
تقول : ما ضرب إلا هو ، وما يضرب إلا أنا ، و: أضارب هما ... ؛
وتسكين هاء هو ، وهي ، بعد الواو ، والفاء ، ولام الابتداء جائز ، كما يجيء في التصريف (٢) ؛
وقد تسكن بعد كاف الجر شاذا ؛ وقد تحذف الواو والياء اضطرارا كقوله :
٣٦٩ ـ فبيناه يشري رحله قال قائل |
|
لمن جمل رخو الملاط نجيب (٣) |
وقوله :
دار لسعدى إذه من هواكا (٤) ـ ٨٢
ويسكنها قيس ، وأسد ؛ ويشدّدهما همدان ، قال :
__________________
(١) أي هما سواء.
(٢) في بعض النسخ التي أشير إليها بهامش المطبوعة اختلفت الأمثلة وتضمنت تفصيلا لما أشار إليه بأنه سيجيئ في التصريف ؛ كما تضمنت الإشارة إلى بيت لزياد بن منقذ وهو المرار العدوي ، يقول فيه :
فقمت للطيف مرتاعا فأرقني |
|
فقلت أهي سرت أم عادني حلم |
وهو من الشواهد التي أوردها الجاربردي في شرح الشافية وكتب عليه البغدادي في شرحه لشواهد الشافية حيث أضاف إليه شواهد الجاربردي ؛
(٣) قوله يشري بمعنى يبيع ، والبيت في وصف رجل فقد جمله وبئس من العثور عليه فعرض رحله للبيع ثم فوجئ بمن ينادي أنه عثر على جمل صفته كذا ، وفي رواية .. رخو الملاط ذلول ، وهو بهذه الرواية من شعر للعجير السلولي.
(٤) يعني إذ هي من هواكا أي من مهويك وهو شطر تقدم ذكره في الجزء الأول ص ٣٠٧ مع شطر آخر متصل به ؛ وهو من شواهد سيبويه ، التي لم يعرف قائلوها ، وهو في سيبويه ج ١ ص ٩.
٣٧٠ ـ وإن لساني شهدة يشتفى بها |
|
وهوّ على من صبّه الله علقم (١) |
ثم ، لما فرغوا من وضع المرفوع ، شرعوا في وضع المنصوب ، لأن النصب علامة الفضلات بلا واسطة ، والجرّ علامتها بواسطة ؛
فابتدأوا بمتصل المنصوب ، لتقدمه على منفصله ، وشركوا بينه وبين المجرور كما يجيء بعيد ، فوضعوا لمتكلمهما ياء ، إمّا ساكنة أو مفتوحة ، كما ذكرنا في باب الإضافة (٢) ، و «نا» للمتكلم مع غيره ، كما كان في متصل المرفوع ، والكاف للمخاطب مثل التاء في التصرف ، نحو : ك ، كما ، كم ، ك ، كما ، كنّ (٣) ؛ وبعض العرب يلحق بكاف المذكر إذا اتصلت بهاء الضمير ألفا ، وبكاف المؤنث ياء ، حكى سيبويه : أعطيتكاه ، وأعطيتكيه ، تشبيها للكاف بالهاء نحو : أعطيتهاه ، وأعطيتهوه ؛ قال أبو علي : وقد تلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء ، قال :
٣٧١ ـ رميتيه فأقصدت |
|
وما أخطأت الرّمية (٤) |
وربما كسرت الكاف في التثنية والجمعين بعد ياء ساكنة أو كسرة تشبيها لها بالهاء نحو : بكما وبكم وبكنّ ، وعليكما وعليكم وعليكنّ ؛
والكلام في حذف واو «عليكموا» وإسكان الميم ؛ كما مضى في نحو : ضربتم ؛
ولما أرادوا وضع المتصل المنصوب الغائب من هذا القسم : اختصروا مفرديه من المرفوع
__________________
(١) لم يتعرض البغدادي في الخزانة لنسبة هذا البيت وكذلك لم ينسبه أحد ممن استشهدوا به بأكثر من قول بعضهم انه لشاعر من همدان ، ومعروف أن هذه لغتهم ، وأورده صاحب مغني اللبيب شاهدا على حذف العائد المجرور بحرف من الصلة ؛
(٢) انظر في هذا الجزء ؛ ص ٢٦٤.
(٣) اقتصر على الجزء المقصود من الضمير كما فعل في المرفوع
(٤) لم ينسب إلى قائل معيّن ، وقال البغدادي : ان أبا حيّان أورده في تذكرته نقلا عن ابن جني وأورد بعده بيتا متعلقا به وهو قوله :
بسهمين مليخين |
|
أعارتكيهما الظبية |
ويروى البيت الشاهد : وما أخطأت في الرمية ؛