محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
المتعدد المقدر بعد خروج زيد ، وخالد مخرج منه بعد خروج زيد وعمرو ؛ وكذا لو كان الأول موجبا ، نحو : جاءني القوم إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا ، ولا يجوز التفريغ والإبدال ههنا ؛ أي جاءني غير زيد من جملة القوم إلا عمرا ، وجاءني غير زيد وعمرو من جملتهم إلا خالدا ، وكل المستثنيات ههنا منفية ؛
وإن كان المستثنى منه أكثر من واحد (١) ، فإن كان في غير الموجب لم يجز في ثاني المستثنيين إلا النصب على الاستثناء ، نحو : ما أكل أحد إلا الخبز إلا زيدا ، لأن النفي قد انتقض بالّا الأولى ، فهو استثناء من موجب ، والمعنى كل أحد أكل الخبز فقط إلا زيدا فإنه لم يأكله فقط ، بل أكل معه شيئا آخر ، أيضا ؛ فإن لم يذكر ما استثنى منه المستثنى الأول كما ذكرنا ، اشتغل العامل به كما رأيت ، وإن ذكرته جاز في المستثنى الأول : الإبدال ، والنصب على الاستثناء ، نحو : ما أكل أحد شيئا إلا الخبز إلا زيدا ؛
وإن كان الكلام موجبا ، فلا بدّ من ذكر المستثنى منهما ، لأن الموجب لا يفرغ ، على ما تقدم ، تقول : أكل القوم جميع الطعام إلا الخبز إلا زيدا ، والنصب واجب في أوّل المستثنيين ، لأنه عن موجب ، وأمّا ثانيهما فالقياس جواز إبداله ، ونصبه على الاستثناء ، لأنه في المعنى عن غير موجب بسبب نقض إلا لمعنى الإيجاب ، والمعنى : ما أكل القوم الخبز إلّا زيد وإلا زيدا ، وإن كان القوم في اللفظ في حيّز الإيجاب ؛
وسادسها : أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بالواو ، إذا تعقّبها الاستثناء الصالح للجميع ، كقوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ..)(٢) الآية ، فما يقتضيه مذهب محققي البصرة ، وهو أن الجملة بكمالها عاملة في المستثنى عمل «عشرون» في الدرهم ، أو أن العامل معنى الفعل فيها : أن (٣) الجملة الأخيرة أولى بالعمل فيه ، فيكون من باب تنازع العاملين فصاعدا ، لمعمول واحد ، ولو كان العامل جميعها ، لزم حصول أثر
__________________
(١) أي من حيث الواقع ، ولا يكون مذكورا في اللفظ ، كما يفهم من بقية حديثه ،
(٢) الآية ٤ من سورة النور ، والاستثناء في الآية التالية لها ، وهي : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ...».
(٣) هذا خبر قوله : فما يقتضيه مذهب محققي البصرة ، وما بينهما اعتراض. بيّن فيه مذهب هؤلاء ؛
واحد من مؤثرين مستقلين أو أكثر ، وهذا مما لا يجيزونه ، حملا للعوامل على المؤثرات الحقيقية ، وأمّا إن كانت الجملة الأخيرة مستأنفة ، والواو للابتداء ، فلا كلام في انفرادها به ، كقولك : أكرم بني تميم ؛ والنحاة هم البصريون الّا فلانا ؛
[المستثنى المجرور]
[وبقية أدوات الاستثناء]
[قال ابن الحاجب :]
«ومخفوض بعد غير ، وسوى وسواء ، وبعد حاشا في الأكثر»
«واعراب غير كإعراب المستثنى بالا على التفصيل» ؛
[قال الرضي :]
قوله : «ومخفوض» ، عطف على قوله : وهو منصوب ، في أول باب الاستثناء ؛ وإنما وجب خفضه بعد هذه الأسماء لكونه مضافا إليه ؛
وفي «سوى» أربع لغات ، كما في حجة القراءة (١) : فتح السين وكسرها مع القصر ، وهما المشهورتان ، وكسر الأول مع المدّ ، وضمه مع القصر ؛
قوله : «وبعد حاشا في الأكثر» ، التزم سيبويه حرفية «حاشا» ، لقولهم : حاشاي ، من دون نون الوقاية ، ولو كان فعلا لم يجز ذلك ، وامتناع وقوعه صلة لما المصدرية مطردا ، كخلا وعدا ، يمنع فعليته ،.
__________________
(١) لأبي علي الفارسي كتاب اسمه : الحجة ، في توجيه القراءات ،
على أنه روى الأخفش قول الشاعر :
٢٢٤ ـ رأيت الناس ما حاشا قريشا |
|
فانا نحن أفضلهم فعالا (١) |
وما حكى المازني من قول بعضهم : اللهم اغفر لي ولمن سمع دعائي حاشا الشيطان وابن الأصبغ (٢) ، بفتح (٣) الشيطان ، أي جانب الغفران الشيطان : شاذ (٤) عند سيبويه ، وزعم الفراء أنه فعل لا فاعل له ، والجر بعده بتقدير لام متعلقة به محذوفة لكثرة الاستعمال ؛ وهو بعيد ، لارتكاب محذورين : اثبات فعل بلا فاعل وهو غير موجود ، وجرّ بحرف جر مقدر وهو نادر ؛ وعند المبرد يكون تارة فعلا ، وتارة حرف جر ، وإذا وليته اللام ، نحو : حاشا لزيد ، تعيّن ، عنده ، فعليته ؛
هذا ما قيل ، والأولى أنه مع اللام : اسم ، لمجيئه معها متونا كقراءة أبي السّمال (٥) : «حاشا لله» (٦) ، فنقول : انه مصدر بمعنى : تنزيها لله ، كما قالوا في سبحان الله ، وهو بمعنى حاشا : سبحانا ، قال :
٢٢٥ ـ سبحانه ثم سبحانا نعوذ به |
|
وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (٧) |
فيجوز ، على هذا ، أن نرتكب كون «حاشا» في جميع المواضع مصدرا بمعنى تبرئة وتنزيها ، وأمّا حذف التنوين في : حاشا لك ، فلاستنكارهم للتنوين فيما غلب عليه تجريده منه لأجل الاضافة ، وهذا كما قال بعضهم في قوله :
__________________
(١) نسبه العيني في الشواهد الكبرى للأخطل ونقل ذلك عنه شراح الشواهد ، وقال البغدادي في خزانة الأدب إنه فتش ديوان الأخطل مرتين فلم يجده فيه ، قال : ووجدت فيه أبياتا على هذا الوزن في هجاء جرير ، ويروى : فأما الناس .. وبذلك تكون الفاء في قوله فانا في جواب أمّا ،
(٢) بالغين المعجمة ويروى وأبا الأصبغ ،
(٣) أي بنصبه على أنه مفعول حاشا ،
(٤) خبر عن قوله : وما حكى المازني الخ
(٥) أبو السمّال ، بتشديد الميم ولام في آخره ، أحد أصحاب القراءات الشاذة ، واسمه : قعنب الأسدي ، وهو غير ابن السماك بالكاف في آخره ،
(٦) جزء من الآية ٥١ من سورة يوسف وستأتي ،
(٧) الجوديّ والجمد بفتح الجيم والميم جبلان ، والبيت لورقة بن نوفل ، قاله ضمن أبيات حين رأى كفار مكة يعذبون بلالا رضي الله عنه ،
٢٢٦ ـ أقول لما جاءني فخره |
|
سبحان من علقمة الفاخر (١) |
إنّ ترك تنوينه لا يدلّ على علميّته ، لأنه لأجل إبقائه على صورة المضاف لمّا غلب استعماله مضافا ، كما يجيئ في بيان «سوى» ويجوز أن نقول ان «حاشا» الجارة حرف ، وهي في نحو : حاشا لله ، اسم بني لمشابهته لفظا ومعنى لحاشا الحرقية ؛
واستدل المبرد على فعليته بتصريفه ، نحو : حاشيت زيدا أحاشيه ، قال النابغة :
٢٢٧ ـ ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه |
|
ولا أحاشي من الأقوام من أحد (٢) |
وليس بقاطع ، لأنه يجوز أن يكون مشتقا من لفظ «حاشا» حرفا أو اسما ، كقولهم : لو ليت أي قلت لو لا ، ولا ليت ، أي قلت : لا ، لا ؛ وسبّحت ، أي قلت سبحان الله ، ولبّيت أي قلت لبّيك ، وهذا هو الظاهر ؛ لأن المشتق الذي هذا حاله ، بمعنى قول تلك اللفظة التي اشتق منها ، فالتسبيح : قول سبحان الله ، والتسليم : قول سلام عليك ، والبسملة : قول بسم الله ، وكذا غيره ؛ ومعنى حاشيت زيدا ، قلت : حاشا زيد ، واستدلاله على فعليته بالتصرف فيه ، والحذف نحو : (حاش الله)(٣) ليس بقويّ ، لأن الحرف الكثير الاستعمال قد يحذف منه ، نحو : سو أفعل ، في : سوف أفعل ؛
وكثر فيها : حاش ، وقلّ : حشا ، لأن الحذف في الأطراف أكثر ، وإذا استعمل «حاشا» في الاستثناء وفي غيره ، فمعناه تنزيه الاسم الذي بعده من سوء ذكر في غيره أو فيه ، فلا يستثنى به إلا في هذا المعنى ؛ وربّما أرادوا تنزيه شخص من سوء ، فيبتدئون بتنزيه الله سبحانه وتعالى من السوء ، ثم يبرّئون من أرادوا تبرئته ، على معنى أن الله تعالى
__________________
(١) من قصيدة الأعشى في تفضيل عامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة ، الصحابي ، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن روايتها لما تضمنته من هجاء مقذع لعلقمة ، قال البغدادي بعد أن روى الحديث وأورد أبياتا من القصيدة : ولهذا لم أذكرها كلها ،
(٢) من قصيدته التي تعد إحدى المعلقات ، والتي أولها :
يا دارمية بالعلياء فالسند |
|
أقوت وطال عليها سالف الأمد |
والمقصود من قوله يشبهه : النعمان بن المنذر ، وهو يعتذر إليه في هذه القصيدة ؛
(٣) الآية السابقة من سورة يوسف وستأتي
منزّه عن ألّا يطهّر ذلك الشخص مما يصمه (١) ، فيكون آكد وأبلغ ، قال الله تعالى : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)(٢) ،
وقد جاء في كلامهم «إلّا» قبل «ما خلا وما عدا» لا قبل غيرهما ، فيكون تكريرا معنويا لكلمة الاستثناء ؛
وجوّز الكسائي دخول «إلّا» على «حاشا» الجارة ؛
[استعمال غير]
[والتبادل بينها وبين إلّا]
[قال ابن الحاجب :]
«وغير ، صفة ، حملت على الّا في الاستثناء ، كما حملت»
«هي عليها في الصفة ، إذا كانت تابعة لجمع منكور غير»
«محصور ، لتعذر الاستثناء ، مثل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٣)» ؛
[قال الرضي :]
قوله : غير ، مبتدأ ، وصفة : خبره ؛
اعلم أن أصل «غير» : الصفة المفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها ، إمّا بالذات ، نحو : مررت برجل غير زيد ، وإمّا بالصفات ، نحو : دخلت بوجه غير الوجه الذي خرجت
__________________
(١) أي مما يعيبه ويشينه ،
(٢) الآية ٥١ من سورة يوسف ، وبالواو قبل قلن جزء من الآية ٣١ من السورة نفسها
(٣) الآية ٢٢ من سورة الأنبياء ؛
به ، والأصل هو الأوّل ، والثاني مجاز ؛ فإن الوجه الذي تبيّن فيه أثر الغضب كأنّه غير الوجه الذي لا يكون فيه ذلك بالذات ؛ وماهية المستثنى ، كما ذكرنا في حده : هو المغاير لما قبل أداة الاستثناء نفيا وإثباتا ، فلما اجتمع ما بعد «غير» وما بعد أداة الاستثناء في معنى المغايرة لما قبلها ، حملت أمّ أدوات الاستثناء أي «إلّا» في بعض المواضع على «غير» في الصفة ، وحملت «غير» على «الّا» في الاستثناء في بعض المواضع ، ومعنى الحمل : أنه صار ما بعد «الا» مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة كما بعد «غير» ولا تعتبر مغايرته له نفيا وإثباتا ؛ كما كان في أصلها ؛ وصار ما بعد «غير» مغايرا لما قبلها نفيا وإثباتا ، كما بعد «الا» ، ولا تعتبر مغايرته له ذاتا ، أو صفة ، كما كانت في الأصل ؛ إلا أنّ حمل «غير» على «إلّا» أكثر من العكس ، لأن «غيرا» اسم ، والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف ، فوقع «غير» في جميع مواقع «إلّا» (١) ، في المفرغ وغيره ، والمنقطع وغيره ، مؤخرا عن المستثنى ومقدما عليه ، وبالجملة ، في جميع محالّه ، إلا أنه لا يدخل على الجملة كإلّا ، لتعذّر الاضافة إليها ؛ ولم يحمل «الا» على «غير» إلا بالشرائط التي نذكرها ؛
فإذا دخل (٢) «إلا» على غير ، وإلّا ، في الأصل حرف ، لا يتحمّل الاعراب ، روعي أصلها ، فجعل اعرابها الذي كانت تستحقه لو لا المانع المذكور على ما بعدها عاريّة ، وإذا دخل «غير» على «إلّا» ، وأصل «غير» من حيث كونه اسما جواز تحمل الاعراب ، وما بعده ، الذي صار مستثنى بتطفل «غير» على «إلا» مشغول بالجر لكونه مضافا إليه في الأصل ، جعل اعرابه الذي كان يستحقه لو لا المانع المذكور ، أي اشتغاله بالجر ، على نفس «غير» عاريّة ؛
فعلى هذا التقدير ، لا حاجة إلى أن يعتذر ، لانتصاب «غير» في الاستثناء بما قال بعضهم ، لمّا رأى انتصابه من دون واسطة ، كما كان في المستثنى بالّا ؛ وهو (٣) أنه إنما انتصب بلا واسطة حرف لمشابهته الظروف المبهمة بابهامه ؛
__________________
(١) أي استعمل ، غير ، استعمال الا ، في جميع أحوالها ؛
(٢) أي استعمل استعمالها
(٣) أي ما قاله بعضهم في تعليل انتصاب غير ، والذي قال انه لا حاجة إلى الاعتذار به ؛
وإنما لم يحتج إلى هذا العذر المذكور ، لما بيّنا أن حركة «غير» لما بعدها على الحقيقة ، وهي عليها عاريّة ، فكأنّ «غير» هي الواسطة لانتصاب ما بعدها في الحقيقة ، والدليل على أن الحركة لما بعدها حقيقة : جواز العطف على محله ، نحو : ما جاءني غير زيد وعمّرو ، بالرفع عطفا على محل زيد ، لأن المعنى : ما جاءني إلا زيد ؛
قال الفراء : يجوز أن يبنى «غير» في الاستثناء مطلقا ، سواء أضيف إلى معرب أو مبنيّ ؛ لكونه بمعنى الحرف ، يعني «إلّا» ،
ومنعه البصريون ، لأن ذلك فيه عارض غير لازم فلا اعتبار به ، وأمّا إذا أضيف إلى «أن» ، فلا خلاف في جواز بنائه على الفتح كما في قوله :
٢٢٨ ـ لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت |
|
حمامة في غصون ذات أو قال (١) |
كما يجيئ في باب الإضافة ، ويجوز أن يكون نحو قوله :
٢٢٩ ـ غير أني قد أستعين على الهم |
|
مّ إذا خفّ بالثوي النجاء (٢) |
من هذا الباب ، أي مبنيا على الفتح ، لاضافته إلى «أنّ» ، كما في قوله تعالى : (مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)(٣) ، ويجوز أن يكون منصوبا لكونه استثناء منقطعا ؛
وقولهم بيد ، مثل غير ، ولا تجيئ إلا في المنطقع مضافة إلى «أنّ» وصلتها ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : «أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش» (٤) ، ويجوز أن يقال ببنائها لاضافتها إلى «أنّ» وأن يقال هي منصوبة لكونها في الاستثناء المنقطع ؛
__________________
(١) من قصيدة لأبي قيس بن الأسلت ، وهو في وصف الناقة ، والضمير في قوله منها يعود إلى الناقة حيث يقول قبل ذلك :
ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا |
|
فيها ، فصرت إلى وجناء شملال |
والأوقال في بيت الشاهد. جمع وقل ، وهو شجر الدوم أو ثمره ؛
(٢) هذا أحد أبيات معلقة الحارث بن حلّزة اليشكري ، ويرتبط به قوله بعده :
بزقوف كأنها هقلة أم |
|
م رئال دويّة سقفاء |
(٣) الآية ٢٣ سورة الذاريات ،
(٤) قال ابن هشام في مغني اللبيب في الكلام على «بيد» ، إنها تكون بمعنى من أجل ، واستشهد بالحديث ، ويتغير المعنى على الوجهين ؛
قوله : «كما حملت هي عليها في الصفة» أي كما حملت «الّا» على غير ، في الصفة ؛ قوله : لجمع ، أي : ما يدل على الجمعية ، جمعا كان كرجال ، أو ، لا ، كقوم ورهط ، وإنما شرط هذا الشرط ليوافق حالها صفة حالها أداة استثناء ، وذلك لأنه لا بدّ لها في الاستثناء من مستثنى منه متعدد ، لفظا كان أو تقديرا ، فلا تقول في الصفة : جاءني رجل إلا زيد ، ولا يجوز تقدير الموصوف قبل إلّا ، وصفا ، كما جاز في غير ، وذلك ليكون أظهر في كونها صفة ؛ وشرط كون الجمع منكرا ، لأنه إذا كان معرّفا ، نحو : جاءني الرجال ، أو القوم إلا زيد ، احتمل أن يراد به استغراق الجنس فيصح الاستثناء ، واحتمل أن يشار به إلى جماعة يعرف المخاطب أن فيهم زيدا ، فلا يتعذّر ، أيضا ، الاستثناء الذي هو الأصل في «الّا» ، فالسامع يحمل «الا» على أصلها من الاستثناء ، فاختير كونه منكرا غير محصور ، لئلا يتحقق دخول ما بعد «الّا» فيه فيضطر السامع على حمل «الّا» على غير الاستثناء ؛
واشترط أن يكون المنكور غير محصور ، والمحصور شيئان : إمّا الجنس المستغرق ، نحو : ما جاءني رجل أو رجال ، وإمّا بعض منه معلوم العدد ، نحو : له عليّ عشرة دراهم أو عشرون ، لأنه (١) إن كان محصورا على أحد الوجهين وجب دخول ما بعد إلا فيه فلا يتعذر الاستثناء فلا يعدل عنه ، وذلك نحو : كل رجل إلا زيدا جاءني ، وله عليّ عشرة إلا درهما ، وربّما كان المنكر محصورا وتجوز الصفة (٢) ، لعدم دخوله قطعا (٣) فيه ، كقولك عندي عشرة رجال إلا زيد ، ففيه الصفة لا غير ، وكذا في المحصور الآخر نحو : ما جاءني رجلان إلا زيد ، وما جاءني رجال إلا عمرو ، فإن معنى ما جاءني رجلان : ما جاءني اثنان من هذا الجنس ، وزيد ليس اثنين منه ، فلا يدخل فيه ، وكذلك : معنى ما جاءني رجال : ما جاءني جماعة من هذا الجنس ، وعمرو ليس جماعة ، فلا يدخل ؛ فليس في مثله ، إذن ، إلا الصفة ، أو الاستثناء المنقطع ؛
__________________
(١) علة اشتراط كونه غير محصور
(٢) أي جعل إلا صفة ،
(٣) المراد القطع بعدم دخوله ؛
هذا كله مبني على أن المستثنى واجب الدخول في المستثنى منه ، كما هو مذهب جمهور النحاة ، وأمّا على مذهب المبرد فيجوز الاستثناء مع هذه الشروط ، أيضا ، لأنه يكتفي لصحة الاستثناء ، بصحة الدخول ؛
وقال الأندلسيّ والمالكيّ (١) : لا بدّ لالّا ، إذا كانت صفة من منبوع ظاهر كما ذكر المصنف ، جمع أو شبهه ، منكر أو معرّف باللام الجنسية ، قال :
٢٣٠ ـ أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة |
|
قليل بها الأصوات إلا بغامها (٢) |
ويجوز في البيت أن تكون «الّا» للاستثناء ، وما بعدها بدل من الأصوات ، لأن في «قليل» معنى النفي ، كما ذكرنا ؛
ومذهب سيبويه (٣) : جواز وقوع «الا» صفة مع صحة الاستثناء ، قال : يجوز في قولك : ما أتاني أحد إلا زيد ، أن تكون «إلا زيد» بدلا ، وصفة ، وعليه أكثر المتأخرين تمسكا بقوله :
٢٣١ ـ وكل أخ مفارقه أخوه |
|
لعمر أبيك إلا الفرقدان (٤) |
وقوله عليه الصلاة والسّلام : «الناس كلهم هالكون إلا العالمون ، والعالمون كلهم
__________________
(١) الرأي الذي أورده الرضي هنا منسوبا للأندلسي والمالكي ، هو مما عرفت نسبته لابن مالك أيضا ، وهذا مما يقوي انه يريد بالمالكي : ابن مالك والله أعلم ،
(٢) من قصيدة لذي الرمة ، وهو من حديثه عن الناقة في أول القصيدة :
ألا خيّلت ميّ وقد نام صحبتي |
|
فما نفرّ التهويم إلا سلامها |
طروقا ، وجلب الرحل مشدودة به |
|
سفينة برّ تحت خدي زمامها |
وقوله طروقا ، مصدر طرق ، إذا جاء ليلا ، وهو متصل بقوله خيّلت أي زار خيالها ليلا ، ويروى الشطر الثاني : فما أرّق النيّام إلا كلامها ؛ وسفينة البر ، من أحسن ما وصفت به الناقة ، وبلدة ، الأولى : صدر الناقة ، والثانية الأرض ، والبغام صوت الظبية أطلقه على صوت الناقة ؛
(٣) سيبويه ج ١ ص ٣٧١ وأشرت فيما سبق إلى أن معظم ما في هذا الباب بلفظه أو معناه منقول عن سيبويه في باب الاستثناء ؛
(٤) الفرقدان : نجمان متلازمان منذ وجدا وقد أورد البغدادي أوجها أخرى في توجيه البيت غير ما قاله الشارح والبيت منسوب لعمرو بن معد يكرب ، ولحضرميّ بن عامر الأسدي ؛
هالكون إلا العاملون ، والعاملون كلهم هالكون إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم» ؛
وقال الكسائي : تقدير البيت : إلا أن يكون الفرقدان ؛ وهو مردود ، لأن الحرف الموصول لا يحذف إلا بعد الحروف التي تذكر في نواصب المضارع ؛
وقال المصنف : في البيت شذوذان : وصف كل ، دون المضاف إليه ، والمشهور وصف المضاف إليه ، إذ هو المقصود ، و «كل» لإفادة الشمول فقط ، وهذا الوصف ضرورة للشاعر ، إذ لو جاز له وصف المضاف إليه ، وهو أن يقول : إلا الفرقدين ، لم يجعل إلا صفة ، بل كان يجعله استثناء ؛ والشذوذ الثاني : الفصل بالخبر بين الصفة والموصوف وهو قليل ؛
وقوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(١) ، قال سيبويه : لا يجوز ههنا إلا الوصف ، لأنك لو قلت : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، لم يجز ، يعني أن البدل لا يجوز إلا في غير الموجب ؛ وليس الشرط ، وإن لم يكن موجبا صرفا ، من غير الموجب الذي يجوز معه الإبدال ،
قال المصنف : ولا يجري النفي المعنوي كاللفظي ، إلا في : قلّما ، وقلّ رجل ، وأبى ومتصرّفاته ، كما مضى ، قال : وأيضا ، البدل لا يجوز ، إلا حيث يجوز الاستثناء ، ولا يجوز الاستثناء ههنا ، لأن «الله» غير واجب الدخول في «آلهة» ، المنكّر ، لأنه غير عام ولا محصور ؛
ولو وقع ، أيضا ، الجمع المنكر في سياق النفي ، وقصد به الاستغراق لم يجز استثناء المفرد منه ، كما تقدم ، من أنه لا يقال : ما جاءني رجال إلا زيدا ، على أنه استثناء متصل ؛
وأجاز المبرد رفع «الله» على البدل ، لأنّ في «لو» معنى النفي ، إذ هو لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فكأنّه قيل : ما فيهما آلهة إلا الله ؛ وهذا كما أجرى الزجاج التحضيض
__________________
(١) الآية ٢٢ سورة الأنبياء ؛
في قوله تعالى : (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ ...) (١) الآية ، مجرى النفي فأجاز البدل في «قوم يونس» ؛ والأولى منع إجراء الشرط والتحضيض في جواز الإبدال والتفريغ معهما ، مجرى النفي ، إذ لم يثبت ؛
وأمّا عدم وجوب دخول «الله» في «آلهة» فلا بضر المبرد ، لأنه يكتفي في جواز الاستثناء بصحة الدخول كما تقدم ؛
قوله : «وهو في غيره ضعيف» ، يعني جعل «الا» صفة في غير الموضع الجامع للشروط المذكورة ، كما في قوله :
وكل أخ مفارقه أخوه |
|
لعمر أبيك إلا الفرقدان (٢) ـ ٢٣١ |
ضعيف (٣) ؛ هذا عند المصنف ، ولا يضعف عند سيبويه وأتباعه كما تقدم ؛
[سوى وسواء]
[معناهما ، واستعمالاتهما]
[قال ابن الحاجب :]
«واعراب سوى وسواء : النصب على الظرف ، على الأصح» ؛
[قال الرضي :]
إنما انتصب «سوى» ، لأنه في الأصل صفة ظرف مكان وهو «مكانا» ، قال الله
__________________
(١) الآية ٩٨ من سورة يونس وتكرر ذكرها في هذا الباب
(٢) البيت المتقدم قبل قليل ؛
(٣) خبر عن قوله في شرح عبارة المتن : يعني جعل الا صفة ؛
تعالى : (مَكاناً سُوىً)(١) ؛ أي مستويا ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه مع قطع النظر عن معنى الوصف ، أي معنى الاستواء الذي كان في «سوى» فصار «سوى» بمعنى : «مكانا» فقط ، ثم استعمل «سوى» استعمال لفظ مكان ، لمّا قام مقامه في افادة معنى البدل ، تقول أنت لي مكان عمرو ، أي بدله ، لأن البدل سادّ مسدّ المبدل منه وكائن مكانه ، ثم استعمل بمعنى البدل في الاستثناء ، لأنك إذا قلت جاءني القوم بدل زيد ، أفاد أن زيدا لم يأت ، فجّرد عن معنى البدلية أيضا ، لمطلق معنى الاستثناء ؛
فسوى ، في الأصل : مكان مستو ، ثم صار بمعنى مكان ، ثم بمعنى بدل ، ثم بمعنى الاستثناء ، ولا يجوز في «سوى» القطع عن المضاف إليه كما يجوز في «غير» على ما يجيئ ، والتزم بعضهم وجوب اضافته إلى المعارف ، فلا يجيز : جاءني القوم سوى رجل منهم طويل ، وهو الظاهر من كلامهم ؛ وعند البصريين ، هو لازم النصب على الظرفية لأنه ، في الأصل ، صفة ظرف ، والأولى في صفات الظروف إذا حذفت موصوفاتها : النصب ، فنصبه على كونه ظرفا في الأصل ، وإلّا فليس الآن فيه معنى الظرفية ؛ والدليل على ظرفيته في الأصل : وقوعة صلة ، بخلاف «غير» ، نحو : جاءني الذي سوى زيد ؛
وعند الكوفيين يجوز خروجها عن الظرفية ، والتصرف فيها رفعا ونصبا وجرّا ، كغير ، وذلك لخروجها عن معنى الظرفية إلى معنى الاستثناء ، قال :
٢٣٢ ـ ولم يبق سوى العدوا |
|
ن دنّاهم كما دانوا (٢) |
__________________
(١) من الآية ٥٨ سورة طه ،
(٢) من أبيات للفند الزمّاني ، مما قيل في حرب البسوس ، يقول فيها :
صفحنا عن بني ذهل |
|
وقلنا : القوم إخوان |
إلى أن يقول :
فلما صرّح الشرّ |
|
فأمسى وهو عريان |
ولم يبق سوى العدوان .. البيت ؛
وقال :
٢٣٣ ـ تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي |
|
وما قصدت من أهلها لسوائكا (١) |
ومثله عند البصريين شاذ ، لا يجيئ إلا في ضرورة الشعر ؛
وزعم الأخفش أن «سواء» إذا أخرجوه عن الظرفية ، أيضا ، نصبوه ، استنكارا لرفعه فيقولون جاءني سواءك وفي الدار سواءك ؛ ومثل هذا في استنكار الرفع فيما غلب انتصابه على الظرفية قوله تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ) (٢) ، و: (قَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (٣) ؛ وتقول :
لي فوق السداسيّ ودون السباعيّ ؛ (٤)
[حذف المستثنى](٥)
[استعمال ليس غير وليس إلا]
واعلم أن المستثنى قد يحذف من «الا» و «غير» الكائنين بعد «ليس» فقط ، كما يحذف ما أضيف إليه «غير» الكائن بعد «لا» ، تقول : جاءني زيد ليس إلّا ، وليس غير ، بالضم ، تشبيها لغير بالغايات حين حذف المضاف إليه ، كما يجيئ في الظروف المبنية ، و «غير» خبر ليس ، أي : ليس الجائي غيره ، وقال الأخفش : يجوز أن يكون اسمه وقد حذف المضاف إليه ، وأبقي المضاف على حاله ، كقوله :
__________________
(١) من قصيدة للأعشى في مدح هوذة بن عليّ الحنفي ، ويروي : عن جلّ اليمامة أي عن معظم أهلها وقبله :
إلى هوذة الوهّاب أعملت مدحتي |
|
أرجّي نوالا فاضلا من عطائكا |
واستجاد البغدادي هذه القصيدة ، وقال إنها تشبه اشعار المحدثين لسهولة ألفاظها ؛
(٢) الآية ١١ من سورة الجن ،
(٣) من الآية ٩٤ سورة الأنعام ،
(٤) الثوب السداسي أو الأزار السداسي : ما كان طوله ست أذرع. والسباعي ما كان طوله سبع أذرع ؛
(٥) من استطرادات الرضي ،
٢٣٤ ـ خالط من سلمى خياشيم وفا (١)
وهو ضعيف من وجهين : أحدهما أن حذف خبر «ليس» قليل ، والثاني أن حذف المضاف إليه وإبقاء المضاف على حاله قليل ؛
وقد يقال (٢) : ليس غير ، بالنصب ، على إبقاء المضاف على حاله بعد حذف المضاف إليه ؛ وقد ينوّن «غير» ، على ما حكاه الأخفش في الحالين ، نحو : ليس غير ، وليس غيرا ، كما ينوّن كل ، وبعض عوضا عن المضاف إليه ؛
وحكى الأخفش ليس غيره وليس غيره ، وهذا ممّا يقوّي من مذهبه ، من كون : ليس غير بالضم : على حذف الخبر ؛
ويجوز أن يقال : حسن حذف خبر ليس ههنا وإن كان قليلا في غير هذا الموضع ، لكثرة استعماله في الاستثناء ؛ والنصب على إضمار اسم ليس أي : ليس الجائي غيره ، وإذا أضيف «غير» ظاهرا (٣) ، جاز عند الأخفش أن يأتي بعد «لم يكن» ، نحو : جاءني زيد لم يكن غيره ، وغيره بالرفع والنصب ، على التفسيرين المذكورين ، قال : وتقول جئتني ليس غيرك وغيرك ، ولم يكن غيرك وغيرك ؛
[لا سيّما](٤)
وأمّا «لا سيّما» ، فليس من كلمات الاستثناء حقيقة ، بل المذكور بعده منبّه على أولويّته بالحكم المتقدم ، وإنما عدّ من كلماته ، لأن ما بعده مخرج عمّا قبله من حيث أولويّته بالحكم ؛
__________________
(١) في تأويل هذا الشاهد أوجه وتأويلات أفاض فيها البغدادي وهو من أرجوزة للعجاج ؛
(٢) مع ضعفه كما ضعف رأي الأخفش
(٣) أي إضافة ظاهرة ، وإلا فهو لا يستعمل إلا مضافا ولو تقديرا ؛
(٤) وهذا أيضا من استطرادات الرضي ،
فإن جرّ ما بعده ، فباضافة «سيّ» إليه ، و «ما» زائدة ، ويحتمل أن تكون نكرة غير موصوفة ، والاسم بعدها بدل منها ،
وإن رفع ، وهو أقل من الجرّ ، فخبر مبتدأ محذوف ، و «ما» بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة بجملة اسمية ، وإنما كان أقلّ ، لأن حذف أحد جزأي الاسمية التي هي صلة كقراءة (١) من قرأ : (تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ) (٢) ، أو صفة ، قليل (٣) ؛
وليس نصب الاسم بعد «لا سيّما» بقياس ، لكن روي بيت امرئ القيس :
٢٣٥ ـ ألا ربّ يوم صالح لك منهما |
|
ولا سيّما يوم بدارة جلجل (٤) |
بنصب «يوما» ، فتكلّفوا لنصبه وجوها ، قال بعضهم : «ما» نكرة غير موصوفة ، ونصب يوما بإضمار فعل ، أي : أعني يوما ؛
قال الأندلسيّ (٥) : لا ينتصب بعد «لا سيّما» إلا النكرة ، ولا وجه لنصب المعرفة ، وهذا القول منه مؤذن
بجواز نصبه قياسا على أنه تمييز ، لأن «ما» بتقدير التنوين ، كما في : كم رجلا ، إذ لو كان باضمار فعل لاستوى المعرفة والنكرة ،
قال الأخفش في قولهم : إن فلانا كريم ولا سيّما إن أتيته قاعدا : «ما» ههنا ، زائدة ، عوضا عن المضاف إليه ، أي : ولا مثله إن أتيته قاعدا ؛
واعلم أن الواو التي تدخل على : لا سيّما في بعض المواضع كقوله :
ولا سيّما يوم بدارة جلجل
__________________
(١) هي قراءة يحيى بن يعمر ، وعبد الله بن أبي اسحاق الحضرميّ وهي شاذة ،
(٢) من الآية ١٥٤ سورة الأنعام.
(٣) خبر عن قوله لأن حذف أحد جزأي الاسمية ... ،
(٤) من معلقة امرىء القيس التي تكررت الشواهد منها في هذا الشرح والضمير في منهما يعود على امرأتين تحدث عنهما قبل ذلك وذكر قصة جرت بينه وبينهما في مكان اسمه دارة جلجل ؛
(٥) الأندلسي تقدم ذكره في هذا الجزء وفي الجزء الأول وسيتكرر ذكره ؛
اعتراضية (١) ، كما في قوله :
٢٣٦ ـ فأنت طلاق ، والطلاق عزيمة |
|
ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم (٢) |
إذ هي مع ما بعدها بتقدير جملة مستقلة ؛
والسيّ ، بمعنى المثل ، فمعنى جاءني القوم ولا سيما زيد ، أي : ولا مثل زيد موجود بين القوم الذين جاءوني ، أي : هو كان أخصّ بي ، وأشدّ إخلاصا في المجيئ ، وخبر «لا» محذوف ؛
وتصرّف في هذه اللفظة تصرّفات كثيرة ، لكثرة استعمالها ، فقيل : سيّما ، بحذف «لا» ، و: لا سيما بتخفيف الياء ، مع وجود «لا» وحذفها ، (٣)
وقد يحذف ، ما بعد (٤) «لا سيما» على جعله (٥) بمعنى : خصوصا ، فيكون منصوب المحل ، على أنه مفعول مطلق ، وذلك كما مرّ في باب الاختصاصي (٦) من نقل نحو : ... أيها الرجل من باب النداء ، إلى باب الاختصاص ، لجامع بينهما معنوي ، فصار في نحو :
__________________
(١) الجملة الاعتراضية لا تنحصر في الواقعة بين شيئين متلازمين ، وذلك عند أهل البيان ، وقد شنّع ابن هشام في مغنى اللبيب على من حصرها في الواقعة بين شيئين ؛
(٢) هذا أحد أبيات ثلاثة ، تناقلها النحاة والفقهاء ولم ينسبها أحد منهم ، إلا أنهم قالوا إن الكسائي أرسل بها إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة يسأله الجواب عنها ، وهي :
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن |
|
وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم |
فأنت طلاق والطلاق عزيمة |
|
ثلاثا ، ومن يخرق أعق وأظلم |
فبيني بها ، أن كنت غير رفيقة |
|
وما لامرئ بعد الثلاث مقدّم |
وفي رواية البيت الذي أورده الشارح روايات كثيرة يختلف الحكم على كل منها وقد بسط البغدادي الكلام على هذه الروايات ، وبيّن ما يستفاد من كل منها من الحكم الشرعي ، وكيفية استخراج هذا الحكم ؛
(٣) قال ابن هشام في مغنى اللبيب نقلا عن ثعلب : من استعمل لا سيما على غير ما جاء في قوله : ولا سيما يوم .. فهو مخطئ ، ثم نقل عن غير ثعلب بعض ما قاله الرضي من التصرفات ،
(٤) يقصد الاسم الذي يقع بعد لا سيما ، ويكون أولى من غيره بالحكم ،
(٥) أي جعل لا سيما ، وكذلك في قوله بعد : فيكون منصوب المحل ،
(٦) ص ٤٣١ من الجزء الأول ،
أنا أفعل كذا أيها الرجل ، .. منصوب المحل على الحال ، مع بقاء ظاهره على الحالة التي كان عليها في النداء من ضم «أي» ، ورفع الرجل ؛ كذلك ، «لا سيّما» ههنا ، يكون باقيا على نصبه الذي كان له ؛ في الأصل حين كان اسم «لا» التبرئة (١) ، مع كونه منصوب المحل على المصدر لقيامه مقام «خصوصا» ،
فإذا قلت : أحبّ زيدا ولا سيّما راكبا ، أو على الفرس ، فهو بمعنى : وخصوصا راكبا ، وكذلك في نحو : أحبّه ولا سيّما وهو راكب ، وكذا : أحبّه ولا سيّما ان ركب ، أي وخصوصا إن ركب ، فجواب الشرط مدلول خصوصا ، أي : إن ركب أخصّه بزيادة المحبة ؛
ويجوز أن يجعل بمعنى المصدر اللازم ، أي اختصاصا ، فيكون معنى وخصوصا راكبا ، أي : ويختص بفضل محبّتي راكبا ، وعلى هذا ينبغي أن نؤوّل ما ذكره الأخفش أعني قوله : ان فلانا كريم ولا سيّما إن أتيته قاعدا ، أي يختص بزيادة الكرم اختصاصا في حال قعوده (٢) ؛ ويجوز مجيئ الواو قبل «لا سيّما» إذا جعلته بمعنى المصدر وعدم مجيئها ، إلا أن مجيئها أكثر ، وهي اعتراضية ، كما ذكرنا ، ويجوز أن تكون عطفا ، والأوّل أولى وأعذب ؛ (٣)
وقد يقال : لا سواء ما ، مقام : لا سيّما ؛
__________________
(١) تكرر وجه تسميتها بذلك ، وهو أنها برّأت الاسم من الاتصاف بالخبر ،
(٢) هذا بيان للمعنى وليس المراد منه أن جملة إن أتيته .. جملة حالية ؛
(٣) في بعض النسخ أولى وأعرب بالراء ، أي أقرب إلى قواعد الإعراب ؛
[الجملة الفعلية]
[بعد إلا]
واعلم أن أصل «الّا» ، أن تدخل على الاسم ، وقد يليها في المفرّغ فعل مضارع ، إمّا خبر لمبتدأ ، كقولك : ما الناس الا يعبرون ، وما زيد إلا يقوم ؛ أو حال ، نحو : ما جاءني زيد إلا يضحك ؛ أو صفة ، نحو : ما جاءني منهم رجل إلّا يقوم ويقعد ؛ ويجوز أن يكون هذا حالا لعموم ذي الحال (١) ؛
وإنما شرط التفريغ ، لتكون «الّا» ملغاة عن العمل على قول (٢) ، أو عن التوصل بها إلى العمل على قول آخر ، فيسهل دفعها عما تقتضيه من الإسم ، لانكسار شوكتها بالإلغاء ، وشرط كونه مضارعا لمشابهته للاسم ؛ وأمّا الماضي ، فجوّزوا أن يليها في المفرغ بأحد قيدين ، وذلك إمّا باقترانه بقد ، نحو : ما الناس إلا قد عبروا ، وذلك لتقريبها له من الحال (٣) ، المشبه للاسم ؛ وإمّا تقدم ماض منفي ، نحو : قولهم : ما أنعمت عليه إلا شكر ، وما أتيته إلا أتاني ، وعنه عليه الصلاة والسّلام : «ما أيس الشيطان من بني آدم إلا أتاهم من قبل النساء» ، وذلك إذا قصد لزوم تعقّب مضمون ما بعد «إلا» ، لمضمون ما قبلها ؛
وإنما جاز أن يليها الماضي مع هذا القصد ، لأنّ هذا المعنى هو معنى الشرط والجزاء ، في الأغلب ، نحو : إن جئتني أكرمتك ، وإنما قلت في الأغلب لأنه قد لا يكون (٤) مضمون الجزاء متعقبا لمضمون الشرط ، بل يكون مقارنا له في الزمان ، نحو : إن كان هناك نار كان احتراق ، وإن كان هناك احتراق فهناك نار ، وإن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق ، لكن التعقب المذكور هو الأغلب ؛
__________________
(١) من استطرادات الرضي أيضا ،
(٢) أي لأنه نكرة في سياق النفي ،
(٣) أي على القول بأنها هي العاملة ، أو على القول بأنها واسطة في العمل ،
(٤) أي المضارع الذي يدل على الحال ؛
(٥) يكثر تعبير الرضي بمثل هذا ، أي دخول قد على الفعل المنفي ، وقد أشرت في أكثر من موضع إلى هذا وقلت أنه غير موافق للقواعد ،
فلما كان تعقب مضمون ما بعد «الا» لمضمون ما قبلها هو المراد ، وكان معنى حرف النفي مع «إلا» يفيد معنى الشرط والجزاء ، أعني لزوم الثاني للأول ، جاز أن يعتبر معنى الشرط والجزاء مع حرف النفي وإلا ، فيصاغ ما قبل إلا ، وما بعدها صوغ الشرط والجزاء ، وذلك إمّا بكونهما ماضيين ، نحو : ما زرتني إلا أكرمتك ، أو مضارعين نحو : ما أزوره إلا يزورني ، ومثل هذا هو الغالب في الشرط والجزاء ، أعني كونهما ماضيين أو مضارعين ، فجاز كون الماضي الذي بعد «إلا» ههنا مجردا عن «قد» والواو ، مع أنه حال ، كما ذكرنا في باب الحال ؛ (١) وذلك لكونه متضمنا معنى الجزاء ، فيكون ما بعد «إلا» ، على هذا المعنى إمّا ماضيا مجرّدا (٢) ، أو مضارعا مجرّدا ، كما رأيت ، وجاز ، أيضا ، أن ينظر إلى كون مثل هذا الفعل حالا في الحقيقة وإن كان فيه معنى الجزاء ، فيؤتى به ماضيا أو مضارعا مع الواو ، نحو : ما زرته إلا وأكرمني ، ولا أزوره إلا ويكرمني ، وإنما اطرد الواو مع هذا النظر لكون هذا الحال غير مقترن مضمونه بمضمون عامله كما هو الغالب في الحال ، نحو : جاءني زيد راكبا ؛ ولفظه ، أيضا ، منفصل عن العامل بالّا ، فجاز أن يستظهر (٣) مطردا ، في ربط مثل هذه الحال بعاملها لفظا ، بحرف الربط أي الواو ، فمن ثمّ ، اطرد نحو : ما أزوره إلا ويكرمني ، وندر : قمت وأصك عينه ، كما مرّ في باب الحال ؛
ويجيئ في الماضي مع الواو «قد» أيضا ، نحو : ما زرته إلا وقد زارني ، ولا يجوز الاقتصار على «قد» ، فلا يقال : ما زرته إلا قد زارني لأنك إن نظرت إلى معنى الجزاء الذي يستفاد من مثل هذه الحال ، فالجزاء لا يتجرد عن الفاء إذا كان مع «قد» ، كما يجيئ في بابه ، وإن نظرت إلى الحال الذي هو أصله فليس فيه حرف الربط المذكور ،
وإنما قلنا إن الأغلب في الحال مقارنة مضمونه لمضمون عامله ، لأنه قد يجيئ بخلاف
__________________
(١) في أول هذا الجزء.
(٢) أي مجردا من قد والواو ، ومضارعا مجردا أي من الواو ،
(٣) أي جاز أن يستعان في الربط مع هذه المبررات بالواو ، التي هي حرف الربط في باب الحال إلى جانب الضمير ؛
ذلك كقولهم : خرج الأمير معه صقر صائدا به غدا ، أي عازما على الصيد ؛ (١) وكذلك معنى الخبر (٢) ، أي : ما أيس الشيطان من بني آدم من جهة غير النساء ، إلا عازما على اتيانهم من قبلهنّ ؛ جعلوا المعزوم عليه ، المجزوم به ، كالواقع الحاصل ؛
[قسم السؤال (٣)]
[واستعمال لمّا في الاستثناء]
وقد تدخل «الّا» و «لمّا» بمعناها على الماضي ، إذا تقدمهما قسم السؤال نحو : نشدتك بالله الّا فعلت ، وقول عمر (٤) رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى : «عزمت عليك لمّا ضربت كاتبك سوطا» ، كتبه إليه لمّا لحن كاتبه في كتابه إلى عمر ، وكتب : من أبو موسى ،
وقولهم : نشدتك الله ، من قولهم : نشدته كذا فنشده ، أي ذكرته فتذكر (٥) ، فنشد المتعدي إلى واحد ، مطاوع للأول المتعدي إلى اثنين ؛ والمعنى : ذكّرتك الله بأن أقسمت عليه به وقلت لك بالله لتفعلنّ ، أو يكون نشدت بمعنى طلبت ، أي نشدت لك الله ، كقوله تعالى : (.. أَبْغِيكُمْ إِلهاً) ، (٦) أي أبغي لكم ، أي طلبت لك الله من بين جميع ما يقسم به الناس ، لأقسم به تعالى عليك ؛ ومعنى إلا فعلت : إلا فعلك ، وإلا ، لنقض معنى النفي الذي تضمنه القسم ، لأنك إذا حلّفت غيرك بالله قسم الطلب فقد ضيّقت عليه الأمر في
__________________
(١) ويسميها النحاة : الحال المقدرة أو المنتظرة ،
(٢) أي الحديث المتقدم ،
(٣) استطراد أيضا من الرضي ،
(٤) أي عمر بن الخطاب ، وأبو موسى الأشعري ، رضي الله عنهما ،
(٥) المناسب لتفسيره أن يقول : ذكرته إيّاه فتذكره ؛
(٦) من الآية ١٤٠ سورة الأعراف ؛