شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

٣٠٩ ـ فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبي مرادة (١)

وقوله :

٣١٠ ـ تنفي يداها الحصى في كل هاجرة

نفي الدراهيم تنقاد الصياريف (٢)

عند من روى : بنصب الدراهيم ، وجرّ تنقاد ؛

وأنكر أكثر النحاة الفصل بالمفعول وغيره في السّعة ، ولا شك أن الفصل بينهما في الضرورة بالظرف ثابت ، مع قلّته وقبحه ، والفصل بغير الظرف في الشعر ، أقبح منه بالظرف ، وكذا الفصل بالظرف في غير الشعر أقبح منه في الشعر ، وهو عند يونس (٣) قياس ، كما مرّ في باب «لا» التبرئة (٤) ، والفصل بغير الظرف في غير الشعر أقبح من الكل (٥) ، مفعولا كان الفاصل ، أو يمينا أو غيرهما ، فقراءة ابن عامر ليست بذاك ، ولا نسلّم تواتر القراءات السبع ، وإن ذهب إليه بعض الأصوليين (٦) ؛

__________________

(١) قيل أن هذا بيت مصنوع ، أو من شعر المولدين فلا يصلح حجة ، وفي كلام البغدادي في خزانة الأدب تفصيل طيب عن مثل هذه الأساليب ، وفيه رد على الرضي فيما سيذكره عقب ذلك من إنكار لتواتر القراءات.

(٢) للفرزدق في وصف راحلته وأنها لسرعة سيرها في الهاجرة تضرب الحصى فيتناثر ، فيقرع بعضه بعضا ، فيشبه صوت الدراهيم حين ينقدها الصيرفي فينفي منها الزائف ، والأشهر في رواية البيت جر الدراهيم ورفع تنقاد ؛

(٣) تقدم ذكر يونس بن حبيب في هذا الجزء وفي الجزء الأول ؛

(٤) تكرر وجه تسميتها بذلك ،

(٥) ذكر الرضي قبل قليل ، أن لفظ «كل» وبعض ، يمتنع دخول اللام عليهما ، ثم نقل عن بعضهم جواز ذلك ؛

(٦) يسلك الرضي في هذا مسلك الزمخشري وأمثاله ممّن ينكرون تواتر القراءات السبع ، أو يرون أنها أخذت بالرأي والاجتهاد من رسم المصحف. وفي هذا الشرح أمثلة كثيرة لهذا الاتجاه منه ، وسيأتي قريبا في هذا البحث نقده لقراءتي نافع وحمزة ، وهما من القراء السبعة كابن عامر ؛ وعبارته هنا قريبة من عبارة الزمخشري في الكشاف في نقد قراءة ابن عامر ؛ في سورة الأنعام ؛

٢٦١

[المضاف إلى ياء المتكلم]

[وأحكامه]

[قال ابن الحاجب :]

«وإذا أضيف الاسم الصحيح أو الملحق به ، إلى ياء المتكلم»

«كسر آخره والياء مفتوحة أو ساكنة ، فإن كان آخره ألفا»

«ثبتت ، وهذيل تقلبها لغير التثنية ياء ؛ وإن كان ياء»

«أدغمت ، وإن كان واوا قلبت ياء وأدغمت ، وفتحت»

«الياء للساكنين» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «الاسم الصحيح» ، الصحيح في اصطلاح النحاة : ما حرف إعرابه صحيح كعمرو ، ودعد ، وزيد ؛ ويعني بالملحق به : ما آخره ياء أو واو ، قبلها ساكن ، كظبي ، ودلو ، ومدعوّ ، وكرسيّ وأبيّ ، ومعنى الحاقه بالصحيح : إعرابه بالحركات الثلاث كالصحيح ، وإنما احتملها ، لأن حرف العلة يخف النطق به ، وإن كان متحركا ، إذا سكن ما قبله ، كما يخف النطق به ، إذا سكن هو نفسه ؛

قوله : «كسر آخره» ، إنما ألزم ما قبل ياء المتكلم الكسر ، دون الضم والفتح ، ليناسبها ، ولهذا جوّز هذيل (١) قلب ألف المقصور ياء وإن كان الألف أخفّ من الياء ،

__________________

(١) هذيل اسم قبيلة ولكنه تحدث عنه بلغة التذكير باعتبار : قوم هذيل

٢٦٢

فقالوا : قفيّ ؛ ولهذا ، قالوا في الأفصح : فيّ (١) ، بقلب الواو ياء ؛ كما يجيء ؛

قوله : «والياء مفتوحة أو ساكنة» ، يعني الياء اللاحقة للصحيح والملحق به ، وأمّا اللاحقة لغيرهما فمفتوحة ، للساكنين ، كما يجيء ؛

وقد تقدم في باب المنادى : الخلاف في أن أصلها السكون أو الفتح ؛ ويجوز حذف الياء قليلا في غير المنادى كما تقدم هناك (٢) ؛

قوله : «فإن كان آخره ألفا» ، يعني إن لم يكن صحيحا ولا ملحقا به فلا يخلو آخره من أن يكون ألفا ، أو واوا ، أو ياء ؛ والألف تثبت في اللغة المشهورة الفصيحة ، للتثنية ، كانت ، كمسلماي ، أو ، لا ، كفتاي وحبلاي ، ومعزاي ؛ وهذيل تجيز قلب الألف التي ليست للتثنية ياء ، كأنهم لمّا رأوا أن الكسر يلزم ما قبل الياء ، للتناسب في الصحيح والملحق به ، ورأوا أن حروف المدّ من جنس الحركة ، على ما ذكرنا في أول الكتاب ، ومن ثم (٣) نابت عن الحركة في الإعراب : جعلوا (٤) الألف قبل الياء كالفتحة قبلها ، فغيّروها إلى الياء لتكون كالكسرة قبلها ؛

وأمّا ألف التثنية ، فلم يغيّروها ، لئلا يلتبس الرفع بغيره بسبب قلب الألف ، وأمّا في المقصور ، فالرفع والنصب والجر ، ملتبس بعضها ببعض ، لكن لا بسبب قلب الألف ياء ، بل لو أبقيت الألف أيضا ، لكان الالتباس حاصلا ؛

فإن قيل : فكان الواجب على هذا ، ألّا يقلب واو الجمع في : جاءني «مسلموي» ، لئلا يلتبس الرفع بغيره ؛

قلت : بينهما فرق ، وذلك أن أصل الألف عدم القلب قبل الياء ، لخفتها ، كما

__________________

(١) المراد : فو ، المضاف إلى ياء المتكلم ،

(٢) ص ٣٨٩ في الجزء الأول ،

(٣) يعني لأنها من جنس الحركة ،

(٤) جواب «لما» في قوله : كأنهم لما رأوا ، أو خبر كأن ، في كأنهم ..

٢٦٣

هو اللغة المشهورة الفصيحة ؛ وإنما جوّز هذيل قلبها لأمر استحساني ، لا موجب عندهم أيضا ، فالأولى تركه ، إذا أدّى إلى اللبس ، بخلاف قلب الواو في «مسلموي» فإنه لأمر موجب للقلب عند الجميع وهو اجتماع الواو والياء وسكون أولهما. ولا يترك هذا الأمر المطرد اللازم ، لالتباس يعرض في بعض المواضع ، ألا ترى أنك تقول ، مختار ، ومضطرّ ، في الفاعل والمفعول معا ؛

وقد جاء في الشعر قلب الألف ياء مع الإضافة إلى كاف الضمير ، قال :

٣١١ ـ يا ابن الزّبير طالما عصيكا

وطالما عنّيتنا اليكا

لنضربن بسيفنا قفيكا (١)

قوله : «وإن كان ياء» ، أي إن كان آخر الاسم ياء ، وذلك في المنقوص ، نحو : قاضيّ ، وفي المثنى والمجموع نصبا وجرّا ، نحو : مسلميّ ومسلميّ ؛

قوله : «وإن كان واوا» ، وذلك في المجموع بالواو والنون رفعا ؛ وإنما قلبت الواو ياء ، لأن قياس لغتهم ، كما يجيء في التصريف ، إذا اجتمعت الواو ، والياء ، وسكنت أولاهما ، قلب الواو ياء ، وإدغام أولاهما في الثانية ؛ وإنما لم تبقيا كراهة لاجتماع المتقاربين في الصفة ، أي اللين ، فخفف بالإدغام ، فقلب أثقلهما أي الواو ، إلى الأخف ، أي الياء ؛ وسهّل أمر الإدغام تعرضهما له بسكون الأول ؛ وتقلب الواو ياء ، سواء كانت أوّلا ، كطيّ ، أو ثانيا كسيّد ، وأصلهما : طوي وسيود ؛ فإذا حصل الإدغام ، فإن كان قبل الياء الأولى فتحة بقيت على حالها لخفتها ، نحو : مصطفيّ وأعلىّ ، في : مصطفون وأعلون (٢) ، وإن كان قبلها ضمة ، فإن لم تؤدّ إلى لبس وزن بوزن ، وجب قلبها كسرة ، لأجل الياء ، كما في : مسلميّ ، وسهّل ذلك قربها من الأخير الذي هو محل التغيير ، فلهذا (٣)

__________________

(١) عصيكا ، أي عصيت فابدلت التاء كافا ، وعنّيتنا أي سبّبت لنا العناء والتعب بالمسير إليك ونسبه أبو زيد في نوادره إلى رجل من حمير ، ولم يذكر اسمه ، والمقصود : عبد الله بن الزبير بن العوّام ؛

(٢) يعني : مصطفى وأعلى ، مضافين إلى ياء المتكلم

(٣) أي لأن القرب من الطرف مبرّر للتغيير ،

٢٦٤

لم تقلب في : سيّل وميّل (١) ، وأيضا ، فانهم لما شرعوا في التخفيف في «مسلميّ» بالإدغام تمّموه بقلب الضمة كسرة ، بخلاف «ميّل» ؛

وإن أدّى إلى اللبس ، فأنت مخيّر في قلبها كسرة وإبقائها ، نحو : ليّ ، في جمع ألوي ، إذ يشتبه فعل بفعل (٢) ؛

قوله : «وفتحت الياء للساكنين» ، يعني إذا كان قبل ياء الضمير ألف ، أو ياء ، أو واو ساكنة ، فلا يجوز فيها السكون ، كما جاز في الصحيح والملحق به ، وذلك لاجتماع الساكنين ، وقد جاء الياء ساكنا ، مع الألف في قراءة نافع (٣) : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي)(٤) وذلك ، إمّا لأن الألف أكثر مدّا من أخويه ، فهو يقام مقام الحركة من جهة صحة الاعتماد عليه ؛ وإمّا لإجراء الوصل مجرى الوقف ، ومع هذا فهو ، عند النحاة ، ضعيف ؛

وجاء في لغة بني يربوع فيها : الكسر مع الياء قبلها ، وذلك لتشبيه الياء بالهاء بعد الياء ، كما في : فيه ولديه ، ومنه قراءة حمزة (٥) : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ)(٦) ، وهو عند النحاة ضعيف ؛ قال :

٣١٢ ـ قال لها : هل لك ياتا ، فيّ (٧)

__________________

(١) جمع سائل ومائل ،

(٢) أي وزن فعل بضم الفاء بوزن فعل بكسرها ؛

(٣) نافع : هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي المدني أحد القراء السبعة توفي سنة ١٦٩ ه‍.

(٤) من الآية ١٦٢ من سورة الأنعام.

(٥) حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات أحد القراء السبعة وهو كوفي ، توفي سنة ١٥٦ ه‍.

(٦) الآية ٢٢ من سورة إبراهيم.

(٧) قيل إنه للأغلب العجلي ، أحد رجّاز العرب ، وفي الخزانة أن بعضهم قال : هو غير معروف القائل ؛ وهو حديث عن رجل لقي امرأة فعرض عليها نفسه فأبت ، ويروون بعده : قالت له ما أنت بالمرضيّ ؛ قال البغدادي :

والله أعلم بحقيقة الحال ؛

٢٦٥
٢٦٦

[الأسماء الستة]

[مع ياء المتكلم]

[قال ابن الحاجب :]

«وأمّا الأسماء الستة ، فأبي وأخي ، وأجاز المبرد : أبيّ وأخيّ ،»

«وتقول : حمي وهني ، ويقال : فيّ ، في الأكثر ، وفمي» ؛

[قال الرضي :]

هذا حكم الأسماء الستة عند إضافتها إلى ياء المتكلم ، وهي ، باعتبار الإضافة ، على ضربين : ضرب لا يقطع عن الإضافة ، ولا يضاف إلى مضمر ، وهو : «ذو» وحده ، فلا كلام فيه في هذا الباب ، إذ نحن نتكلم على المضاف إلى ياء المتكلم وهي ضمير ، وضرب يقطع ، ويضاف إلى مضمر ، وهو الخمسة الباقية ، وهي على ضربين : ضرب إعرابه عين (١) الكلمة ، ولامها محذوف ، وهو : فوك ؛ وضرب إعرابه لام الكلمة وهو الأربعة الباقية ، أعني : أبوك ، وأخوك ، وهنوك ، وحموك ؛

أمّا «فوك» فحالاته ثلاث : قطع الإضافة ، وإضافته إلى ياء المتكلم ، وإضافته إلى غيرها ، أمّا في حال القطع ، فيجب إبدال الواو ميما ، لامتناع حذفه وإبقائه (٢) ، أمّا

__________________

(١) اختار الرضي في إعراب الأسماء الستّة ، في الجزء الأول ، أن بعضها معرب بعين الكلمة نفسها ، وبعضها اعرابه لام الكلمة ، وهذا من بين الآراء العديدة التي أوردها هناك ؛ ص ٧٦

(٢) أي الواو ،

٢٦٧

الحذف (١) ، فلبقاء الاسم المتمكن على حرف واحد ، ولا يجوز ؛ لأن الإعراب إنما يدور على آخر الكلمة ، فلا يدور على كلمة آخرها أولها ؛

وأمّا الإبقاء ، فلأدائه منونا إلى اجتماع الساكنين ، فليؤول أمره إلى البقاء على حرف ، وذلك لأن أصله «فوه» بفتح الفاء وسكون العين ، أما فتح الفاء فلأن «فم» بفتح الفاء أكثر وأفصح من الضم والكسر ، وأما سكون العين ، فلأنه لا دليل على الحركة ، والأصل السكون ، فحذفت لامه نسيا منسيّا ، فلو لم تقلب الواو ميما ، لدار الإعراب على العين كما في : يد ، ودم ، فوجب قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فيلتقي ساكنان : الألف والتنوين ، فتحذف الألف ؛ فلمّا امتنع حذفها وابقاؤها ، قلبت إلى حرف صحيح قريب منها في المخرج وهو الميم ، لكونهما شفويّتين ؛ وأمّا قوله :

خالط من سلمى خياشيم وفا (٢) ـ ٢٣٤

فقيل : حذف المضاف إليه ضرورة ، وأصله : وفاها ، قال أبو علي ، يجوز أن يكون على لغة من لم يبدل من التنوين ألفا في النصب ، كما في الرفع والجر ، كما قال :

٣١٣ ـ كفى بالنأي من أسماء كاف

وليس لحبها إذ طال شافي (٣)

وقال :

٣١٤ ـ إلى المرء قيس أطيل السرى

وآخذ من كل حيّ عصم (٤)

__________________

(١) يعني أما علة عدم إمكان حذفه وكذلك في قوله وأما الإبقاء

(٢) تقدم هذا الشطر شاهدا في باب المستثنى من هذا الجزء ؛

(٣) هذا مطلع قصيدة لبشر بن أبي خازم في مدح أوس بن حارثة ، وبشر شاعر جاهلي ، وكان يهجو أوسا فتمكن منه أوس فأسره ثم أطلقه فعاد إلى مدحه والإشادة به ،

(٤) من قصيدة للأعشى في مدح قيس بن معد يكرب الكندي وله فيه مدائح كثيرة ، ومن هذه القصيدة قوله قبل هذا البيت في وصف رحلته وراحلته ؛

ويهماء تعزف جنّانها

مناهلها آسنات أجم

قطعت برسّامة جسدة

ويشفى عليها الفؤاد السّقم

السّقم بكسر القاف : السقيم ،

٢٦٨

وهذه لغة حكاها الأخفش ، فالألف عين الكلمة ، فلا يبقى المعرب على حرف ؛

وأمّا إضافته إلى ياء المتكلم فهو فيها على لغتين : أشهرهما «فيّ» في الأحوال الثلاث ، وقياس أصله : فوي ، كغدي ، ثم : فاي ، لتحرك الواو وانفتاح ما قبلها ، إلّا أنه لمّا جرت العادة فيما أعرب بالحركات إذا أضيف إلى الياء أن يقتصر من جملة الحركات الثلاث على الكسر للتناسب ، وكانت العين ههنا ، كالحركة الإعرابية ، الواو كالضمة ، والياء كالكسرة ، والألف كالفتحة : ألزمت الياء في الأحوال الثلاث قبل ياء المتكلم مكان الكسرة ، وإن لم تكن الكسرة إعرابية ، تشبيها للكسرة التي ليست بإعراب ولا بناء ، عند المصنف ، أو الكسرة البنائية عند النحاة (١) ، بالكسرة الإعرابية لعروضها ؛ وذلك كما شبهت الضمة البنائية في : يا زيد ، بالإعرابية ، فجيء بدلها بالواو ، والألف في : يا زيدان ويا زيدون ؛ وكما شبهت الفتحة البنائية في : لا رجل ، بالإعرابية فجيء بدلها بالياء ، فقيل : لا رجلين ولا مسلمين ؛ كل ذلك للعروض ؛ فلما صارت الياء التي هي عين في : «فيّ» ، مشبهة بالإعرابية وما قبل الياء الإعرابية في الأسماء الستة مكسور ؛ كسرت الفاء في «فيّ» ؛

وقد يقال : فمي وفمه ، وفم زيد (٢) ، في جميع حالات الإضافة ، قال :

٣١٥ ـ كالحوت لا يرويه شيء يلقمه

يصبح ظمآن وفي البحر فمه (٣)

والأوّل أصح وأفصح ، لأن علة الحاجة إلى إبدال الواو ميما عند القطع عن الإضافة ، هي خوف سقوط العين للساكنين ، ولا ساكنين في حال الإضافة ، إذ لا تنوين في المضاف ، فالأولى ترك إبدالها ميما ؛

__________________

(١) يشير هنا إلى ما تقدم في أول الكتاب من أن الكسرة قبل ياء المتكلم للمناسبة وحركات الإعراب مقدرة ، وهو رأي المصنف وبعض النحويين فهي لا إعرابية ولا بنائية ، وأن بعض النحاة يرون أن المضاف إلى ياء المتكلم مبني والكسرة حركة بناء ،

(٢) هذه اللغة الثانية ، المقابلة لقوله : أشهرهما «فيّ» ،

(٣) من أرجوزة طويلة للعجاج في مدح أبي العباس السفاح أول خلفاء العباسيين ، وروايتها على طولها كانت سببا في حظوة الأصمعي عند هارون الرشيد ،

٢٦٩

وقد جمع الشاعر بين الميم والواو ، قال :

٣١٦ ـ هما نفثا في فيّ من فمويهما

على النابح العاوي أشدّ رجام (١)

وهو جمع بين البدل والمبدل منه ؛

وتكلّف بعضهم معتذرا بأن قال : الميم بدل من الهاء التي هي لام ، قدّمت على العين ؛ وأمّا إضافته إلى غير المتكلم ، فالأعرف فيها : إعرابه بالحروف ، كما ذكرنا ، وجاء : فم زيد ، كما مرّ ؛

وأمّا الأربعة الباقية (٢) ، فلها ، أيضا ، ثلاثة أحوال (٣) ، إحداها القطع عن الإضافة ؛ والأعرف فيها حذف لاماتها ، وقد ثبتت في بعضها ، كما يجيء في ذكر لغاتها ؛ وثانيتها : الإضافة إلى غير ياء المتكلم ، فالأعرف ، إذن ، في : أبوك ، وأخوك : جعل لاميهما اعرابا ؛ وفي : حم وهن : حذف اللام ، كما يجيء في لغاتها ، وثالثتها : الإضافة إلى ياء المتكلم ، قال الجمهور : يجب حذف اللامات ، إذ ردّها في حال الإضافة إلى غير ياء المتكلم ، إنما كان لغرض جعلها إعرابا ، والإعراب لا يظهر في المضاف إلى ياء المتكلم ، فلا معنى لردّها معها ؛

وأجاز المبّرد ، قياسا على الإضافة إلى غير ياء المتكلم ، ردّ اللام في أربعتها كما نقل عنه ابن يعيش (٤) ، وابن مالك ، وفي : أب وأخ ، فقط ، كما نقل عنه جار الله (٥) والمصنف ؛

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة للفرزدق قالها في آخر حياته حين تاب إلى الله مما فرط منه من هجاء الناس وقذف المحصنات ، وفيها ذم لإبليس وأعوانه يقول فيها :

أطعتك يا إبليس تسعين حجة

فلما انتهى شيبي وتم تمامي

فزعت إلى ربي وأيقنت أنني

ملاق لأيام الحتوف حمامي

والضمير المثنى في : هما نفتا ، يعود إلى إبليس وابنه ، وقد ذكره في بيت سابق ؛

(٢) أي بقية الأسماء الستة ،

(٣) هكذا قال ثلاثة فجرى على أن الحال مذكر ثم قال : إحداها وثانيتها الخ ،

(٤) انظر شرح ابن يعيش على الفصل ج ٣ ص ٣٦

(٥) أي الزمخشري وانظر الموضع السابق من ابن يعيش ،

٢٧٠

ولمّا ردّها ألزم الياء ، لما قلنا في «فيّ» على الأصح ، وشبهته قول الشاعر :

٣١٧ ـ قدر أحلّك ذا المجاز وقد أرى

وأبيّ مالك ذو المجاز بدار (١)

وأجيب بأنه يحتمل أن يكون جمعا لأب ، مضافا إلى الياء ، إذ يقال في ، أب ، أبون ، قال :

٣١٨ ـ فلما تبيّنّ أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا (٢)

كما قيل في أخ : أخون ، قال :

٣١٩ ـ وكان لنا فزارة عمّ سوء

وكنت له كشرّ بني الأخينا (٣)

والمذهب لا يثبت بالمحتملات ؛

[اللغات المستعملة]

[في الأسماء الستة]

[قال ابن الحاجب :]

«وإذا قطعت قيل : أخ وأب وحم وهن وفم ، وفتح الفاء»

__________________

(١) أحد بيتين للمؤرج السدوسي السلمي شاعر إسلامي أموي ، وذو المجاز أحد أسواق العرب مثل عكاظ ؛ وتقديره عند المبرد : وحق أبي ،

(٢) يروى : فلما تبيّنّ أشباحنا ، وهو من أبيات لزياد بن واصل من شعراء الجاهلية ، افتخر فيها بآبائه وأمهات آبائه من بني عامر ، وهو في هذا الجزء من القصيدة يصف عودتهم من إحدى المعارك ظافرين وأن نساء القبيلة حين رأينهم رحبّن بهم وقلن لهم نفديكم بآبائنا ،

(٣) هذا من أبيات تتضمن وصفا لما يحدث بين الأقارب من جفوة ، وما يترتب على ذلك من آثار وهي منسوبة لرافع بن هريم ، كما نقل البغدادي عن صاحب العباب ، وقال : لم أجد في ديوان رافع إلا هذين البيتين :

عفاريت عليّ وأخذ مالي

وعجز عن أناس آخرينا

فهلا غير عمكم ظلمتم

إذا ما كنتم متظلمينا

وقال إن بيت الشاهد لعقيل بن علفة ، ولا يرتبط بأبيات رافع بن هريم ،

٢٧١

«أفصح منهما ، وجاء «حم» مثل : يد ، وخبء ، ودلو»

«وعصا ، مطلقا ، وجاء : «هن» مثل يد ، مطلقا ، وذو»

«لا يضاف إلى مضمر ، ولا يقطع» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أن في : أب ، وأخ ، أربع لغات ، وفي : أخ ، خامسة ؛

فاللغات المشتركة : أن يكونا محذوفي اللام مطلقا ، أي مضافين ومقطوعين ، فيكونان كيد ، فتثنيتهما : أبان وأخان ، والجمع : أبون ، وأخون ، كما مرّ ؛ (١)

والثانية ، أن يكونا مقصورين مطلقا ، كعصى ، والثالثة أن يكونا مشدّدي العين مطلقا مع حذف اللام ، والرابعة ، وهي أشهرها : حذف اللام والإعراب على العين ، مقطوعين ، وإعرابهما بالحروف مضافين ؛

واللغة المختصة بأخ : أخو ، كدلو ، مطلقا ؛

وفي «حم» ست لغات ، أبتدئ منها بالأفصح فالأفصح على الترتيب ، أولاها ، اعرابه بالحروف في الإضافة إلى غير الياء ، ونقصه حال القطع عنها ، وإعرابه على العين ؛

وثانيتها : أن يكون كدلو مطلقا ، أي في الإضافة والقطع ؛

والثالثة : أن يكون كعصى ، مطلقا ، والرابعة : أن يكون كيد مطلقا ،

والخامسة : أن يكون كخبء مطلقا ، والسادسة أن يكون كرشأ ، مطلقا ؛

وأمّا «هن» ، ففيه ثلاث لغات : أشهرها : النقص مطلقا ، كيد ، وبعدها : الإعراب بالحروف في حال الإضافة إلى غير الياء ، والنقص في غيرها ،

__________________

(١) تقدم ذكر هذه اللغة في الفصل الذي قبل هذا مع الاستشهاد لها ؛

٢٧٢

ولما لم تكن هي المشهورة ، زعم صدر الأفاضل (١) ، أنه ليس من الأسماء الستة ، ولم يذكرها ، أيضا ، الزجاجيّ (٢) فيها ، وثالثتها تشديد نونه مطلقا ؛

وأمّا إسكان النون في الإضافة نحو قوله :

٣٢٠ ـ رحت وفي رجليك ما فيهما

وقد بدا هنك من المئزر (٣)

فللضرورة ، وليس بلغة رابعة ؛

وفي «فم» لغات ؛ أشهرها وأفصحها : اعرابه بالحروف في الإضافة إلى غير الياء ؛ وفتح الفاء مع خفة (٤) الميم حال القطع ، وإبدال الواو ياء عند الإضافة إلى ياء المتكلم ؛

والثانية ، والثالثة ، والرابعة : فم مثلث الفاء ، محذوف اللام نسيا ، مطلقا مع إبدال الواو ميما ؛ وتثليث الفاء ، بناء على أن الواو التي أبدلت منها الميم : تقلب في حال الإضافة ألفا وياء ، فتكون الفاء في الحالات الثلاث ، إذن ، مثلثة ، لا للإعراب ، فيجوز تثليثها في الإفراد لغير الإعراب ؛

والخامسة والسادسة والسابعة : فما ، مثلث الفاء مقصورا مطلقا ، وكأنه جمع بين البدل والمبدل منه ، أو : الميم بدل من اللام قدمت على العين ، كما مرّ ، (٥) فيكون قوله :

فمويهما ، مثنى «فما» ؛

__________________

(١) صدر الأفاضل : لقب : أبي الفتح ناصر بن أبي المكارم المطرزي تلميذ الزمخشري ، نحوي أديب من أهل خوارزم ، واستحق هذا اللقب لتقدمه في اللغة والأدب وفي الفقه أيضا ؛

(٢) الزجّاجيّ بياء مشددة في آخره ، منسوب إلى الزجاج ، الإمام المعروف في النحو لأنه كان تلميذه وتقدم ذكره في هذا الجزء وفي الجزء الأول ؛

(٣) من أبيات للأقيشر السعدي ، وكان قد سكر مرة فسقط فبدت عورته ، ولامته امرأته بعد أن ضحكت ، فقال يصوّر هذه الحكاية :

تقول يا شيخ أما تستحي

من شربك الخمر على المكبر

فقلت : لو باشرت مشمولة

صهبا كلون الفرس الأشقر

رحت وفي رجليك ..

.... البيت

(٤) أي تخفيف

(٥) تقدم هذا في الكلام على أوجه إعرابها في الجزء الأول ص ٧٦

٢٧٣

والثامنة والتاسعة : فمّ ، مشدد الميم مطلقا ، ومضموم الفاء أو مفتوحها ، قال :

٣٢١ ـ حتى إذا ما خرجت من فمّه (١)

قال ابن جني : هو للضرورة ، وليس بلغة ، وكأن الميمين مبدلان من العين واللام ، والجمع أفمام ؛

العاشرة : اتباع الفاء الميم في الحركات ، نحو : هذا فم ، ورأيت فما ، ونظرت إلى فم ، وكأنه نظر فيها إلى حالة الإضافة بلا ميم ، أعني : فوك ، وفاك ، وفيك ؛

وقد يتبع فاء «مرء» أيضا حرف إعرابه فيقال : مرء ومرءا ، ومرئ ؛ وعين «امرى» و «ابنم» تابعان لحرف الإعراب اتفاقا ؛

وفي «دم» ثلاث لغات : القصر كعصى ، والتضعيف ، كمدّ ، وحذف اللام مع تخفيف العين ، وهو المشهور كيد ؛

قوله : «وذو لا يضاف إلى مضمر ولا يقطع» ، إنما لم يقطع ، لأنه ليس مقصودا لذاته ، وإنما هو وصلة إلى جعل أسماء الأجناس صفة ، وذلك أنهم أرادوا ، مثلا ، أن يصفوا شخصا بالذهب فلم يتأتّ لهم أن يقولوا : جاء رجل ذهب ، فجاءوا بذو ، وأضافوه إليه ، فقالوا : ذو ذهب ؛

ولما كان جنس المضمرات والأعلام ممّا لا يقع صفة ، كما يجيء ، لم يتوصّل بذو ، إلى الوصف بها ، وإن كان بعد التوصل يصير الوصف هو المضاف دون المضاف إليه ؛ وأمّا أسماء الأجناس التي هي نحو : الضرب والقتل ، فإنها ، وإن لم تكن مما يوصف به ، إلّا أنها من جنس ما يقع صفة ، أي : اسم الجنس كضارب وقاتل ؛ وأيضا (٢) لو حذف المضاف الموصوف به ، والمضاف إليه ضمير ، أو علم ، لم يجز قيامهما مقامه ؛ لامتناع الوصف بهما ،

__________________

(١) يروى : يا ليتها قد خرجت ، وجاء بعده : «حتى يعود الملك في أسطمّه» ولم ينسب إلى أحد ؛

(٢) راجع إلى ذو ؛

٢٧٤

وأمّا قولهم : صلّى الله على محمد وذويه ، فشاذ ، كما أن قطعه عن الإضافة ، وإدخال اللام عليه في قوله :

فلا أعني بذلك أسفليكم

ولكني أريد به الذّوينا (١) ـ ١٦

شاذّان ، وذلك لإجرائه مجرى صاحب (٢) ؛

وأمّا قولهم : ذو زيد ، وذوي آل النبيّ (٣) ، فإنما جاز ، لتأويل العلم بالاسم ، أي : صاحب هذا الاسم ، وأصحاب هذا الاسم ؛

[أصل الأسماء الستة]

قالوا : وأصل الأسماء الستة كلها : فعل ، بفتح الفاء والعين ، الا : فوك ، كما ذكرنا ، فكان قياسها أن تكون في الإفراد (٤) مقصورة ، لكن لما كثرت الإضافة فيها ، وصار إعرابها معها بالحروف ، كما مرّ في أول الكتاب ، ولم تكن فيها مقصورة ، حملوها في ترك القصر ، مفردات ، على حال الإضافة ؛

أمّا كون أب ، وأخ ، وحم ، مفتوحة العين ، فلجمعها على أفعال ، كآباء ، وآخاء ، وأحماء ، لأن قياس فعل صحيح العين : أفعال ، كجبل وأجبال ؛

وأمّا «ذو» فلا دليل في «أذواء» على فتح عينه ، لأن قياس فعل ساكن العين معتلها : أفعال ، أيضا ، كحوض وأحواض وبيت وأبيات ؛

__________________

(١) هذا من قصيدة طويلة للكميت وتقدم ذكره في الجزء الأول ، وهو يقصد به أهل اليمن ، والمراد بالذّوين :

المسمون بذو كذا نحو ذو نواس وذو يزن. وكان ذلك من ألقاب أشرافهم ؛

(٢) تعليل لإدخال اللام على ذو ، وإن كان ذلك شاذا كما قال ؛

(٣) إشارة إلى بيت الكميت في مدح بني هاشم وتقدم ذكره في الكلام على إضافة المسمى إلا الاسم ، وهو قوله :

اليكم ذوي آل النبي تطلعت

نوازع من قلي ظماء وألبب

(٤) أي عدم الإضافة ؛ وكذلك فيما يأتي من قوله : حملوها في ترك القصر مفردة ؛

٢٧٥

ودليل تحرك عينه : مؤنثه ، أعني : ذات ، وأصلها ذواة ، كنواة ، لقولهم في مثناها : (ذَواتا)(١) ، فحذفت العين في «ذات» لكثرة الاستعمال ولو كانت ساكنة العين ، لقلت في المؤنث : ذيّة ، كطيّة ؛

وقال الخليل : وزن «ذو» فعل ؛ بالسكون ؛ واللام محذوفة في جميع متصرّفات «ذو» إلا في : ذات ، وذوات ؛

وقال الفراء : الأخ ساكن العين في الأصل ؛ ولعلّه قال ذلك ، لقلّة «آخاء» ؛

وأمّا «هن» فلم يسمع فيه : أهناء ، حتى يستدل به على تحريك عينه ، ومؤنثه وهو «هنة» بالتحريك لا يدل على تحرك عينه ، لأنه يمكن أن يكون ساكنها ، لكن لما حذفت اللام فتحت العين ، لأن ما قبل تاء التأنيث لا بدّ من فتحه ، وكذا. لا دليل في : هنوات ، لأنه يمكن أن يكون كتمرات ؛

وأمّا «فوك» فأصله «فوه» بسكون الواو كما ذكرنا ، إذ لا دليل على حركتها ، وأفواه ، لا يدل عليها ، كما لا يدل أذواء ؛ ولام «فوك» هاء ، لقولهم أفواه ، وفويه ،

ولام «ذو» ياء ، لأن عينه واو ، بدليل : ذواتا ، وذوات وأذواء ، وباب طويت أكثر من باب القوّة ، والحمل على الأكثر أولى ، إذا اشتبه الأمر ؛ ولام أب ، وأخ ، وحم ، وهن : واو ، لقولهم : أبوان وأخوان وحموان وهنوات ، وإخوة ، وأخوات ؛ وأمّا هنيهة في : هنيّة فلأن لامه ذات وجهين (٢) ، وكذا لام «حم» قد تكون همزة ، كما تبيّن ؛ (٣)

__________________

(١) كما في قوله تعالى : (ذَواتا أَفْنانٍ) ، سورة الرحمن الآية ٤٨

(٢) فهو مثل سنة وشفة.

(٣) تبيّن ذلك في ذكر اللغات الواردة في الأسماء الستة. قبل قليل ؛

٢٧٦

[التوابع]

[معنى التابع]

[وبيان العامل فيه]

[قال ابن الحاجب :]

«التوابع : كل ثان أعرب بإعراب سابقه من جهة واحدة» ،

[قال الرضى :]

قوله : «كل ثان» ، يشمل التوابع ، وخبر المبتدأ ، وكل ما أصله خبر المبتدأ ، كخبري «كان» و «إنّ» ، وأخواتهما ، ويشمل الحال ، وثاني مفعولي «أعطيت» ،. قوله «بإعراب سابقه» ، أي : مع إعراب سابقه ، يخرج الكلّ ، إلّا خبر المبتدأ ، وثاني مفعولي : ظننت ، وأعطيت ، والحال عن المنصوب ، نحو : ضربت زيدا مجردا ، والتمييز عن المنصوب نحو : «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» ؛ (١)

قوله : «من جهة واحدة» ، قال المصنف : يخرج هذه الأشياء (٢) ، لأن ارتفاع المبتدأ من جهة كونه مبتدأ ، وارتفاع الخبر من جهة أخرى ، وهي كونه خبر المبتدأ ، وكذا ،

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة القمر وسيذكرها مرة أخرى ؛

(٢) جاء بهامش المطبوعة التركية كلام كثير لبيان وجه خروج هذه الأشياء ، رأيت أن ما هنا أوضح وأسهل عبارة منه ،

٢٧٧

انتصاب أوّل المفعولين ، من جهة كونه أولهما وانتصاب الثاني من جهة كونه ثانيهما ، وانتصاب الأول (١) في : ضربت زيدا قائما ، من جهة كونه مفعولا به ، وانتصاب الثاني من جهة كونه حالا ؛ وكذا في : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) ، انتصاب الأول ، من جهة كونه مفعولا به والثاني من جهة كونه تمييزا ؛

وفيه نظر (٢) ، لأن ارتفاع المبتدأ والخبر من جهة واحدة ، وهي كونهما عمدتي الكلام ، كما تقرر في أول الكتاب ، وانتصاب الأسماء المذكورة من جهة واحدة ، وهي كونها فضلات ؛ وإن قلنا بتغير الجهات بسبب تغيّر اسم كل واحد من : الأول ، والثاني ، فلنا أن نقول : ارتفاع «زيد» في : جاءني زيد الظريف من جهة كونه فاعلا ، وارتفاع الظريف ، من جهة كونه صفته ، وكذا باقي التوابع ؛ ثم نقول : الأخبار المتعددة لمبتدأ ، نحو : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)(٣) الآية ، وكذا المسندات في نحو : علمت زيدا عالما عاقلا ظريفا ، وكذا الأحوال المتعددة نحو : (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٤) ، وكذلك المستثنى بعد المستثنى ، نحو : جاءني القوم إلا زيدا ، إلا عمرا ؛ لا تتغير أسماؤها ، ولا جهات إعرابها ، فينبغي أن تدخل في حدّ التوابع ؛

ولو قال : كل ثان أعرب بإعراب سابقه لأجله ، أي إعراب الثاني لأجل إعراب الأول ، لم يرد عليه ما ذكرنا ؛

وقوله : «كل ثان» فيه نظر أيضا ، لأن المطلوب في الحدّ ، بيان ماهيّة الشيء ، لا قصد حصر جميع مفرداته ؛ ويدخل في قوله «ثان» : النعت الثاني فما فوقه ، وكذا التأكيد المكرر ، وعطف النسق المكرر ، لأن كلّا منها : ثان للمتبوع كالنابع الأول ؛

وأمّا الكلام في عوامل التوابع ففيه تفصيل ؛

__________________

(١) المراد اللفظ الأول من الاسمين ، وكذا في بقية المثال وفي مثال التمييز ؛

(٢) تصدّى السيد الجرجاني لرد هذا النظر ، وناقش الرضي فيما قاله وذلك في تعليقاته التي بهامش المطبوعة التركية ،

(٣) الآيتان ١٤ ، ١٥ من سورة البروج ،

(٤) الآية ٢٢ من سورة الإسراء

٢٧٨

أمّا الصفة ، والتوكيد ، وعطف البيان ، ففيها ثلاثة أقوال :

قال سيبويه (١) : العامل فيها هو العامل في المتبوع ؛ وقال الأخفش : العامل فيها معنوي ، كما في المبتدأ أو الخبر ، وهو كونها تابعة ؛ وقال بعضهم : إن العامل في الثاني مقدّر من جنس الأول ؛

ومذهب سيبويه أولى : لأن المنسوب إلى المتبوع في قصد المتكلم ، منسوب إليه مع تابعه ، فإن المجيء في جاءني زيد الظريف ، ليس في قصده منسوبا إلى زيد مطلقا ، بل إلى زيد المقيّد بقيد الظرافة ، وكذا في : جاءني العالم زيد ، وجاءني زيد نفسه ؛ فلمّا انسحب على التابع حكم العامل المنسوب معنى ، حتى صار التابع والمتبوع معا كمفرد منسوب إليه ، وكان الثاني هو الأول في المعنى ؛ كان الأولى انسحاب عمل المنسوب عليهما معا تطبيقا للّفظ بالمعنى ؛ أمّا إذا قلت : جاءني غلام زيد ، فالمنسوب إليه ، وإن كان الغلام مع زيد ، إلّا أن الثاني ليس هو الأول معنى ، فلم يعمل العامل فيهما معا ؛ وجعله معنويا ، كما ذهب إليه الأخفش ، خلاف الظاهر ، إذ العامل المعنوي في كلام العرب بالنسبة للّفظيّ ، كالشاذ النادر ، فلا يحمل عليه المتنازع فيه ؛

وتقدير العامل خلاف الأصل أيضا ، فلا يصار إلى الأمر الخفي ، إذا أمكن العمل بالظاهر الجليّ ؛

وأمّا البدل ، فالأخفش ، والرمّاني ، والفارسيّ ، وأكثر المتأخرين ، على أن العامل فيه مقدر من جنس الأول ، استدلالا بالقياس والسماع ،

أمّا السماع فنحو قوله تعالى : (لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ) (٢) ، وغير ذلك من الآي ، والأشعار ؛

__________________

(١) حديث سيبويه عن التوابع في الجزء الأول ص ٢٠٩ وما بعدها ، وقد تضمن كلام الرضي هنا كثيرا مما جاء في سيبويه ، بلفظه أو بمعناه ؛

(٢) الآية ٣٣ من سورة الزخرف ،

٢٧٩

وأمّا القياس فلكونه مستقلا ، ومقصودا بالذكر ، ولذا لم يشترط مطابقته للمبدل منه تعريفا وتنكيرا ؛

والجواب (١) عن الأوّل ، أن «لبيوتهم» ، الجار والمجرور ، بدل من الجار والمجرور ، والعامل ، وهو «لجعلنا» غير مكرر ، وكذا في غيره ،

فإن قيل : لو لم يكن المجرور وحده بدلا من المجرور ، لم يسمّ هذا بدل الاشتمال ، لأن الجار والمجرور ليس بمشتمل على الجار والمجرور ، بل البيت مشتمل على الكافر ، وكذا في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (٢) : من آمن ، بعض الذين استضعفوا ؛

قلنا : لمّا لم يحصل من اللام فائدة إلّا التأكيد ، جاز لهم أن يجعلوه كالعدم ، ويسمّوه بدل الاشتمال ، نظرا إلى المجرور ؛ ولا يكرّر في اللفظ في البدل من العوامل إلا حرف الجر ، لكونه كبعض المجرور ؛

والجواب عن القياس أن استقلال الثاني وكونه مقصودا ، يؤذن بأن العامل هو الأول ، لا مقدّر آخر ، لأن المتبوع ، إذن ، كالساقط فكأن العامل لم يعمل في الأول ولم يباشره ، بل عمل في الثاني ؛

ومذهب سيبويه ، والمبرد ، والسيرافي ، والزمخشري ، والمصنف ، أن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه ، إذ المتبوع في حكم الطرح فكأنّ عامل الأول باشر الثاني ؛

هذا ، وستعرف في باب عطف البيان : أنه في الحقيقة هو البدل ، فحكمه فيما ذكرنا حكم البدل ؛

وأمّا عطف النسق ، ففيه ثلاثة أقوال : قال سيبويه : العامل في المعطوف هو الأول

__________________

(١) مناقشة لرأي القائلين بأن العامل في البدل مقدر ،

(٢) الآية ٧٥ من سورة الأعراف ؛

٢٨٠