مصابيح الظلام - ج ٧

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٧

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-7-8
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥١٦

قوله : (وهل يجوز). إلى آخره.

يظهر ممّا ذكره أنّ مع العجز عن الحالة العليا يجوز النافلة فيما هو أدون منها ، بلا إشكال ولا تأمّل من أحد ، وإنّما الإشكال والتأمّل [في] اختيار الأدون مع القدرة على الأعلى ، ومقتضى توقيفيّة العبادة عدم الجواز ، لعدم الثبوت من الشرع ، وما أشار إليه من الضعيفة لم نظفر بها.

وقيل بالجواز ، اختاره العلّامة في «النهاية» (١) ، بناء على عدم وجوب النافلة وأجزائها.

وفيه ، أنّ المراد الوجوب الشرطي لا الشرعي ، كالطهارة لها.

__________________

(١) نهاية الإحكام : ١ / ٤٤٤.

١٢١
١٢٢

القول في النيّة والإحرام

قال الله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (١) ففي الصحيح : «هو رفع يديك حذاء وجهك» (٢).

__________________

(١) الكوثر (١٠٨) : ٢.

(٢) وسائل الشيعة : ٦ / ٢٧ الحديث ٧٢٥٣.

١٢٣
١٢٤

قوله : (ففي الصحيح). إلى آخره.

قد مرّ في مبحث القيام في الصحيح تفسير آخر (١) ، وسيأتي في صلاة الأضحى تفسير آخر ، هو أنّ المراد صلاة الأضحى ونحر الإبل ، وهذا هو الظاهر منها ، والتفسيران الآخران من البواطن بحسب الظاهر.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٤٦ من هذا الكتاب.

١٢٥
١٢٦

١٤٣ ـ مفتاح

[وجوب النيّة في الصلاة]

تجب النيّة في الصلاة ، وقد مضى تحقيقها في مباحث الوضوء (١) ، وأنّه يشترط فيها القربة والتعيين في غير المتعيّن ليس إلّا ، وهي ركن في الصلاة ، تبطل بالإخلال بها عمدا وسهوا بلا خلاف.

والمشهور ، وجوب مقارنتها لأوّل جزء من التكبير لتتميّز عن العزم. وقيل : يجب استحضارها إلى انتهاء التكبير (٢) ، ومنهم من جعلها بين الألف والراء (٣) ، وهما ضعيفان جدّا.

وقيل : يجب استدامة حكمها إلى آخر الصلاة ، بمعنى عدم نقضها بنيّة القطع (٤) ، دون استصحابها فعلا بلا خلاف ، وفي بطلان الصلاة بنيّة الخروج أو فعل المنافي إذا لم يفعله وجهان : أقربهما العدم.

__________________

(١) لا حظ! مفاتيح الشرائع : ١ / ٤٧ و٤٨.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠٧ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٦٦.

(٣) لا حظ! ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٤٨.

(٤) شرائع الإسلام : ١ / ٧٨ ، تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠٨ المسألة ٢٠٥.

١٢٧
١٢٨

قوله : (تجب النيّة). إلى آخره.

قد مضى هنا [ك] أيضا في شرحه تحقيقات لا بدّ من ملاحظتها (١) ، والنيّة واجبة في الصلاة بلا خلاف بين علماء الإسلام ، كما قال في «المنتهى» (٢) ، واشتراط القربة بمعنى الامتثال والإطاعة إجماعي بين المسلمين ، مدلول أدلّة قد مضت هناك ، وكذا قصد التعيّن ، لعدم تحقّق الإطاعة العرفيّة إلّا به.

والمشهور المعروف بين الفقهاء وجوب هذا القصد مطلقا ، أي سواء كان الفعل غير متعيّن شرعا ، أو كان متعيّنا.

أمّا الأوّل فظاهر ، إذ المكلّف في ركعتي الفجر إن قصد نافلتهما يكون ممتثلا في نافلة الفجر ، وإن قصد الفريضة فكذلك ، وإن لم يقصد واحدة منهما ولا عيّن بوجه يرجع إلى واحدة منهما لم يكن ممتثلا للمجموع جزما ، ولا لأحد منهما بالخصوص ، لعدم ترجيح من الشرع ولا من غيره.

اللهم إلّا أن يكون مطّلعا على خصوص الفريضة غير مطّلع على الآخر ، أو يكون غافلا عن الآخر ، فحينئذ ممتثل بالنسبة إلى خصوص الفريضة لأنّه قصدها خاصّة ، فقصد التعيّن موجود حينئذ.

وكذا الحال لو كان مطّلعا على خصوص النافلة ، أو متفطّنا له ، فإنّه ممتثل بالنسبة إليها خاصّة ، والفريضة بعد بذمّته ، لجهله أو غفلته عنها ، وأمّا مع العلم بهما جميعا ، وكذا تفطّنه لهما حين الفعل ، وعلمه بأنّ الواحدة لا تجزي عنهما. ومع ذلك لم يعيّن أصلا ورأسا لم يعدّ عرفا ممتثلا بالنسبة إلى واحدة منهما أيضا ، لاستحالة

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٦٣ ـ ٣٧٧ (المجلّد الثالث) من هذا الكتاب.

(٢) منتهى المطلب : ٥ / ١٨.

١٢٩

الترجيح بلا مرجّح ، ولم يتأمّل أحد في استحالته (١) ، وإن تأمّل متأمّل في استحالة الترجيح بلا مرجّح.

وأقلّ الترجيحات للفريضة هو أن يعلم أنّ بعد الإتيان بركعتين مطلقا ينصرف إلى الفريضة ، لأنّها المكلّف بها ، المؤاخذ عنها ، مثل من سبّح تسبيحة واحدة في الركوع مع علمه بأنّ الثلاث مستحب ، وبناؤه على الاكتفاء بتلك الواحدة ، لأنّه في الحقيقة تعيّن له بالنسبة إلى الفريضة.

وأمّا من قصد بهما خصوص النافلة ولم يأت بغيرهما ، فغير خفيّ أنّ مثله لا يعدّ عرفا آتيا بالفريضة ممتثلا ، إذ لعلّه لا يريد الامتثال بالنسبة إلى الفريضة أصلا.

وكذا الحال فيمن أتى بهما مردّدا بين الفريضة والنافلة من دون تعيين أصلا ، وكذا الحال فيمن أتى بهما مردّدا بين الفريضة والنافلة من دون تعيين أصلا ، وأمّا مع التعيين شرعا ، فلأنّ التعيين بحسب الواقع لا يستلزم التعيين عند المكلّف ، إذ لو علم المكلّف بالتعيين شرعا وبنى على إطاعة الشرع والإتيان بذلك المعيّن فلا شكّ في كونه قصد التعيين ، وأمّا إذا لم يقصد ذلك المعيّن ، وقصد غير معيّن وعنده في نظره أنّه غير معيّن ، ومتفطّن لذلك حين فعله ولم يعيّن أصلا ، فحكمه حكم ركعتي الفجر وأمثالهما.

وكذلك الحال إذا لم يعلم أنّ المطلوب منه واحد أو متعدد ، وكلّ واحد من التعدّد متعيّن في نفسه أم لا.

ولو كان عنده وجوب أمر مرّتين أو أزيد فأتى به مرّة ، فإن كان واقعا أيضا كذلك كان ممتثلا بالمرّة الواحدة خاصّة ، إن كان اعتقاده عن دليل شرعي على المشهور ومطلقا على رأي بعض ، وإلّا فلا ، لعدم معذوريّة الجاهل الذي لم يطابق عمله الواقع إجماعا من جميع العلماء ، وإن ناقش بعض من تأخّر في خصوص

__________________

(١) أي : لم يتأمّل أحد في استحالة امتثاله.

١٣٠

صورة اتّفاق الموافقة (١) ، فتدبّر!

وبالجملة ، قد حقّق في الوضوء أنّ الإطاعة العرفيّة لا تتحقّق في مطلوب من العبادات إلّا بعد معرفة المطلوبيّة ، وكون المطلوب ما ذا على سبيل التعيين أو التردّد بين أمرين أو امور ، مثل أنّه يعلم اشتغال ذمّته بقضاء فريضة واحدة. ولا يعلم كونها الظهر أو غيرها من الخمس ، ومع ذلك لا بدّ من قصد ذلك المطلوب حين الفعل ، وأنّ إتيانه ليس إلّا من جهة أنّه تعالى طلب منه ، ويسمّونه بقصد الامتثال الذي يعبرون عنه بقصد القربة غالبا ، فإن كان ذلك المطلوب شخصا معيّنا عند المكلّف لا يقبل غيره ، وقصده حين الفعل فهو قصد تعيينه جزما.

ويجب هذا القصد لتحقّق إطاعته ، كما يجب قصد التعيين في غير المتعيّن.

وكذا قصد القربة ، فإنّ المطيع الممتثل يقصدهما جزما ، لأنّ الإطاعة لا تتحقّق إلّا بهما.

فأيّ فرق بين المتعيّن وغير المتعيّن ، بل وبين قصد القربة وقصد التعيّن في غير المتعيّن؟ إذ الأمر بقصد القربة وقصد التعيين في غير المتعيّن إنّما هو لأن يصير مطيعا ، إذ ربّما لا يطيع ، وهذا بعينه وارد في المتعيّن بلا تفاوت ، فإنّ المكلّف ربّما لا يطيع في المتعيّن أيضا ، وبعد البناء على الإطاعة يقصد ذلك المتعيّن ، كما أنّه يقصد تعيين غير المتعيّن ويقصد أيضا أنّ ما يفعل إنّما يفعل لأنّ الله تعالى يطلب منه ، وهو قصد الإطاعة ، فتدبّر.

والحاصل ؛ إن كان الفعل متعيّنا وقصده فهو قصد التعيين ، وإلّا ـ بأن جاز عند كونه واجبا ومستحبّا جميعا ، وأداء وقضاء كذلك ، أو ظهرا وعصرا كذلك ـ فلا بدّ من التعيين ، أمّا الوجوب والندب فكما قلنا في نافلة الفجر وفريضته ، وأمّا

__________________

(١) لاحظ! مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٥٤.

١٣١

الأداء والقضاء ، فبأن يكون عليه صلاة مغرب أداء وصلاة مغرب قضاء والمكلّف حين الفعل متفطّن لهما جميعا غير جاهل ولا غافل ، فإن كان بناء أمره على ترك القضاء والاقتصار على الأداء ، فهذا بعينه قصد التعيين.

وكذلك لو كان الأمر بالعكس ، وإن كان بناؤه على الإتيان بواحد من دون تعيين أنّه هو الأداء أو هو القضاء ، وأتى بثلاث ركعات مردّدة بينهما فلا يعد عرفا ممتثلا بهما جزما ، ولا بواحدة منهما كذلك ، لما ذكرنا من استحالة الترجيح.

وإن بنى على الإتيان بهما جميعا فعلى القول بوجوب تقديم القضاء فلا بدّ من قصد كون ما يفعله أوّلا هو القضاء ، وعلى القول بجواز التقديم والتأخير جميعا ، فلا بدّ من تعيين كلّ واحد منهما عند فعلها ، حتّى ينصرف الامتثال العرفي إليه البتّة ، لأنّه عند فعل كلّ واحدة وبعد فراغه عنها لا يتأتى أن يقال : امتثال هذا ، أو امتثل ذاك ، إذ يحتمل أن يكون جاهلا بجوازهما جميعا.

وعلى فرض العلم ، فيحتمل أن يعصي الله ، بأن يجعل الجميع أداء أو يجعل الكلّ قضاء ، أو لا يريد الامتثال في حكاية الوقت أصلا ، بأن يقول : وإن كان الله تعالى أراد منّي كون إحداهما في هذا الوقت بخصوصه ، والاخرى في أيّ وقت يتحقّق ، إلّا أنّي لا اطيع الله في ذلك ، فلا بدّ من التعيين لتحقّق الامتثال ، مضافا إلى أنّ الترجيح بلا مرجّح محال.

وإن تردّد أمره بين أن يكون الواقع عند الله مقدّما هو إحداهما ، فقصد ذلك كذلك ، بأن قصد في الأوّل ما هو المقدّم عند الله فهو أيضا قصد تعيين.

وعرفت أنّ الاحتمال كون ذلك مردّدا بين أمرين عند المكلّف كاف ، وإن لم يكن في الواقع كذلك ، وكذلك الحال في مثل الظهر والعصر ، إذ يمكن صدور العصر من المكلّف في وقت الظهر ، بأن بنى على عدم امتثال الظهر أصلا ، أو مقدّما على العصر ، إمّا لجهل المسألة ، لو فرض وجوده ، أو لعصيانه وعدم إطاعة الله تعالى في

١٣٢

التقديم والتأخير ، فلا بدّ في تحقّق الامتثال العرفي فيه من قصد كون الأوّل هو الظهر ، أو قصد الذي طلب منه مقدّما ، فإنّه أيضا قصد تعيين للظهر.

وبالجملة ؛ إن تعيّن عند المكلّف وقصده فهو قصد تعيين ، وإن لم يتعيّن عنده أو تعيّن لكن لا يريد إطاعة الله في قصد ذلك المعيّن ولذا لا يقصده ، فلا بدّ من قصده حتّى يتحقّق إطاعته لمولاه كما هو حقّه ، ويعد ممتثلا مطلقا ، غير عاص أصلا ، فتأمّل جدّا!

مع أنّ ظاهر «التذكرة» اتّفاق الأصحاب على وجوب قصد الوجه ، أي الوجوب والأداء والقضاء (١) ، مضافا إلى عدم انفكاك المكلّف المطيع الممتثل عن القصدين في مقام تجويزه النوعين من كلّ واحد منهما ، وفي مقام عدم تجويزه يكون ذلك المعيّن مقصوده.

فبملاحظة جميع ما ذكر كيف يتحقّق يقين البراءة في مقام الامتثال والإطاعة في العبادة؟ مع كونها توقيفية ، سيّما على القول بالجزئيّة ، أو القول بأنّ لفظ العبادة اسم لخصوص المستجمعة لجميع الشرائط المعتبرة في الصحّة.

قوله : (وهي ركن). إلى آخره.

في «المنتهى» نسب القول بركنيّتها للصلاة إلى علماء الإسلام (٢).

والمراد من الركنيّة بطلان الصلاة بالإخلال بها عمدا أو سهوا ، أعم من أن يكون شرطا في صحّة الصلاة أو جزء لها.

واختلف الفقهاء في الشرطيّة أو الجزئيّة ، فمن قال بالجزئيّة اعتبر فيها جميع ما اعتبر في الصلاة من الطهارة والستر والقيام وغيرها ، بل في «المسالك» استدلّ

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠١ المسألة ٢٠٠.

(٢) منتهى المطلب : ٥ / ١٨.

١٣٣

بما ذكر على الجزئيّة (١).

فظهر منه الاتّفاق على اعتبار ما اعتبر في الصلاة فيها ، فلم يبق ثمرة للنزاع ، والظاهر من الأدلّة كونها شرطا ، فتدبّر فيها.

قوله : (والمشهور). إلى آخره.

في «المنتهى» : ويشترط في النيّة مقارنتها لتكبيرة الافتتاح ، ذهب إليه علماؤنا (٢).

وفي «التذكرة» : الواجب اقتران النيّة بالتكبير ، بأن يأتي بكمال النيّة قبله ثمّ يبتدئ بالتكبير بلا فصل ، وهذا تصح صلاته إجماعا (٣) ، انتهى.

ولا شكّ في كون وجوب المقارنة إجماعيّا ، لكون النيّة علّة غائيّة للصلاة ، داعية ومحرّكة للمكلّف في فعلها وإيجادها.

فعلى القول بانحصار الداعي والمحرّك المؤثّر في المخطر بالبال كما هو المشهور بين الفقهاء تعيّن المقارنة ، لما عرفت هاهنا وسابقا في مبحث الوضوء ، ولأنّ قوله تعالى (مُخْلِصِينَ) (٤) حال يبيّن هيئة الفاعل ، ولأنّ الحق أنّها شرط فلا يجوز خلوّ شي‌ء من المشروط عنها ، كما هو الحال في الشرائط ، وعدم اعتبارهم المقارنة في كلّ جزء جزء ، من جهة لزوم الحرج المنفي ، كما صرّحوا به (٥).

وعلى القول بعدم الانحصار ، كما هو الحقّ (٦) فالأمر واضح ، لاستحالة تحقّق

__________________

(١) مسالك الأفهام : ١ / ١٩٥.

(٢) منتهى المطلب : ٥ / ٢١.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠٧.

(٤) البيّنة (٩٨) : ٥.

(٥) لاحظ! مدارك الأحكام : ٣ / ٣١٤ ، كشف اللثام : ٣ / ٤١٦.

(٦) في (ك) و (د ٢) زيادة : المحقّق.

١٣٤

المعلول من دون العلّة الغائيّة بالبديهة ، كاستحالة تحقّقه من دون الفاعليّة أو الماديّة أو الصوريّة.

ومن البديهي أنّ العلّة الغائيّة لوجود خصوص التكبيرة غير العلّة الغائيّة لسائر أجزاء الصلاة ، لأنّ كلّ جزء جزء منها فعل اختياري صادر عن المختار باختياره بالبديهة ، كما أنّ كلّ واحد من أدعية التعقيب وأذكاره فعل اختياري جزما ، مع خلوّه عادة وغالبا عن المخطر بالبال ، ونيّة الصلاة لا ربط لها بالتعقيب قطعا ، فكيف يكون عدم القصد مؤثّرا في وجود المقصود؟ فإنّ المعدوم لا يؤثّر بالبديهة ، فكيف يؤثّر فيما ذكر؟

وكون العلّة موجودة ، سابقة على وجود المعلول منعدمة حال إيجاده ، باطل أيضا بالبديهة ، لأنّ الموجود السابق انعدم في حال إيجاد المعلول ، والمعدوم محال أن يؤثّر حال عدمه بالبديهة.

فلا جرم يكون المحرّك لإرادة المكلّف في ترجيح جانب الوجود على العدم وتأثيرها في الإيجاد دائما يكون مقارنا مع الحركة الإراديّة ، متّصلا معها ، محال الانفكاك عنها ، فلا يمكن صدور الصلاة بغير مقارنة القصد ، ولا جزء من أجزائها بغير المقارنة ، كما مرّ التحقيق في مبحث الوضوء ، ومرّ وجه حصر جمع من الفقهاء النيّة في المخطر بالبال ، وأنّه لذلك اشترطوا المقارنة ، واعتبروا الاستدامة الحكمية ، والجواب عن ذلك الوجه (١).

لكن بملاحظة الإجماع المنقول في المقام ، وأنّه لم يخالف أحد فيه ، وكون العبادة توقيفيّة متوقّفة على اليقين بالبراءة لا يحصل اليقين في البراءة إلّا بمراعاة الإخطار بالبال حال المقارنة المذكورة ، سيّما بملاحظة ما رواه الصدوق في كتابه

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٧١ ـ ٣٧٧ (المجلّد الثالث) من هذا الكتاب.

١٣٥

«العلل» ، عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام في علّة رفع اليدين في التكبير ، أنّ في وقت رفع اليدين إحضار للنيّة وإقبال القلب على ما قال وقصد ، لأنّ الفرض من الذكر إنّما هو الاستفتاح ، وكلّ سنّة فإنّها تؤدّى على جهة الفرض ، فلما أن كان في الاستفتاح الذي هو الفرض رفع اليدين ، أحبّ أن تؤدّى السنّة على جهة الفرض (١) ، انتهى.

إذ هذا ينادي بأنّ إحضار النيّة عند تكبيرة الافتتاح كان مرعيا في زمانه عليه‌السلام ، ظاهر اللزوم ، بحيث جعل علّة رفع اليدين تحقّق الإحضار الظاهر المعلوم ، ويكون ذلك كاشفا عن صحّة ما ادّعي من الإجماع على لزوم المقارنة لإحضار النيّة للتكبيرة ، لكن لا بنحو يوجب الوسواس ، لأنّ المقارنة في غاية الصعوبة ، بل القلب ما لم يرفع اليد عن الإخطار لا يتيسّر له الإتيان بالتكبيرة ، فالمقارنة مقارنة عرفيّة سهلة سمحة ، لا حقيقية صعبة.

وربّما يؤيّده ويشير إليه وقوع النزاع بين الشيعة وأهل السنّة في كون النيّة مجرّد أمر قلبي أو يجب أن يضاف إليه النطق اللساني أيضا ، أو يستحب ذلك ، فالشيعة بأجمعهم على الأوّل (٢) ، وبعض الشافعيّة على الثالث (٣) ، وآخرون من فقهاء العامّة على الثاني (٤).

وممّا ذكر ظهر عدم جواز التلفّظ بالنيّة ، باعتقاد مشروعيّته ، لما عرفت من كونه بدعة من العامّة ، والبدعة حرام جزما ، لكونها ضلالة ، وكون كلّ ضلالة

__________________

(١) علل الشرائع : ١ / ٢٦٤.

(٢) لاحظ! تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠٠.

(٣) مغني المحتاج : ١ / ١٥٠.

(٤) المجموع للنووي : ٣ / ٢٧٧ ، فتح العزيز : ٣ / ٢٦٣.

١٣٦

سبيلها إلى النار ، كما ورد في الأخبار (١) ، مع أنّ «من تشبّه بقوم فهو منهم» كما ورد أيضا (٢) ، فالأولى والأحوط الاجتناب عنه ، وإن لم يكن بقصد المشروعيّة.

مضافا إلى كراهة التكلّم فيما بين الإقامة والصلاة ، وأنّ ذلك موجب لإعادة الإقامة على الاستحباب أو على الوجوب ، ومرّ التحقيق فيه (٣).

وكيف كان ، لا يجوز التلفّظ بها في نيّة صلاة الاحتياط الواجبة عند الشكّ بين الثلاث والأربع أو غيره من الشكوك وكذا لا يجوز التلفّظ بها في الأجزاء المنسيّة في الصلاة عند تداركها بعد التسليم ، وكذا في سجدة السهو ، لما سيجي‌ء من عدم جواز التكلّم فيما بين الامور المذكورة وبين التسليم في الصلاة ، وكذا الحال في نيّة سائر أجزاء الصلاة إن أحضرها في البال.

وبالجملة ، كلّ موضع لا يجوز التكلّم لا يجوز التلفّظ بها ، وكلّ موضع يكره فيكره التلفّظ ، هذا مع عدم قصد المشروعيّة ، كما عرفت.

ثمّ اعلم! أنّه بعد ما قال في «الشرائع» في النيّة : إنّ حقيقتها استحضار صفة الصلاة في الذهن والقصد بها إلى أمور أربعة (٤). قال في «المسالك» : اعلم أنّ النيّة أمر واحد بسيط ، وهو القصد إلى فعل الصلاة المخصوصة ، والأمور المعتبرة فيها ـ التي يجمعها اسم المميّز ـ إنّما هي مميّزات المقصود ، وهو المنوي لا أجزاء النيّة ، والقربة غاية الفعل المتعبّد به ، فهي خارجة عنها أيضا.

ثمّ لمّا كانت النيّة عزما وإرادة متعلّقة بمقصود معيّن اعتبر في تحقّقها إحضار

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٨٧ الحديث : ٣٩٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٦٩ الحديث ٢٢٦ ، الاستبصار : ١ / ٤٦٧ الحديث ١٨٠٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥ الحديث ١٠٠٦٢.

(٢) عوالي اللآلي : ١ / ١٦٥ الحديث ١٧٠ ، مستدرك الوسائل : ١٧ / ٤٤٠ الحديث ٢١٨٠٤.

(٣) راجع! الصفحة : ٥٣١ و٥٣٢ (المجلّد السادس) من هذا الكتاب.

(٤) شرائع الإسلام : ١ / ٧٨.

١٣٧

المقصود بالبال أوّلا بجميع مشخصاته كالصلاة مثلا ، وكونها ظهرا واجبة مؤدّاة أو مقابلا لها (١) أو بالتفريق ، ثمّ يقصد إيقاع هذا المعلوم على وجه التقرّب إلى الله تعالى ، فلفظة «اصلّي» مثلا هي النيّة ، وهي وإن كانت متقدّمة لفظا فهي متأخّرة معنى ، لأنّ الاستحضار القلبي للفعل يصيّر المتقدّم من اللفظ والمتأخّر ، في مرتبة واحدة.

ثمّ نقل عن الشهيد التصريح بما ذكره بقوله في «الدروس» و «الذكرى» (٢) : لمّا كان القصد مشروطا بعلم المقصود وجب إحضار ذات الصلاة وصفاتها الواجبة من التعيين والأداء والقضاء والوجوب ، ثمّ القصد إلى هذا المعلوم لوجوبه قربة إلى الله تعالى.

ثمّ شرع في الاعتراض على عبارة «الشرائع» بالحزازة والقصور (٣).

وليس فيه أمر مهم ، ولا في كون النيّة أمرا بسيطا أو مركّبا ، إذ لا مشاحّة ولا ثمرة في الفرق ، إلّا أنّ الظاهر من كلامهما كون وجه حصر النيّة في المخطر بالبال أنّ النيّة عزم وإرادة وقصد وكون ذلك مشروطا بعلم المقصود وإحضاره بالبال ، وقد عرفت ذلك في مبحث الوضوء.

وأيضا الظاهر من كلامهما اعتبار الوجوب القيدي الوصفي والوجوب التعليلي معا في النيّة ، وعدم جواز خلوّها عن واحد منهما.

وفي «الذكرى» نسب الجمع بينهما إلى المتكلّمين ، وقال : وهذا يطرد في جميع نيّات العبادات ، لكن معظم الأصحاب لم يتعرّضوا له إلّا في الصلاة (٤) ، انتهى.

__________________

(١) في المصدر : أو مقابلاتها.

(٢) الدروس الشرعيّة : ١ / ١٦٦ ، ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٤٥.

(٣) مسالك الأفهام : ١ / ١٩٦.

(٤) ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٤٨ و٢٤٩.

١٣٨

وغير خفيّ أنّ الدليل لا يقتضي وجوب الجمع ، بل يقتضي كفاية إحداهما.

وما ذكره المتكلّمون لا يعلم حقّيّته ، ولا يظهر من كلام الفاضلين في كتبهما ما يشير إلى الجمع المذكور ، بل ظاهره خلافه ، بل صريحه (١).

والمتقدّمون كلامهم خال عن ذكر النيّة مطلقا إلّا ما أشرنا إليه ، ولا شكّ في عدم استفادة ما ذكر من ذلك.

ولم يظهر من الآيات ولا من الأخبار سوى لزوم الإخلاص ، ولم يظهر من وجوب الإطاعة سوى ما أشرنا إليه وهو قصد ما طلب منه وفعله امتثالا لأمره تعالى ، وقصد ما طلب منه أمر سهل لا يكاد ينفكّ أذهان مريدي الإطاعة عنه ، ولذا لم يتعرّض له في الآية والأخبار في مقام ذكر واحد واحد من الواجبات وغيرها ، ولا في مقام بيان واحد منها ولا تعرّض له القدماء.

وأقصى ما ظهر من الإجماع المنقول وغيره إحضار لما ذكر في مقام الشروع في التكبير (٢).

وما ذكره المصنّف من قوله : (لتتميّز عن العزم) لم نفهم له معنى ، ولا أشار إليه أحد من الفقهاء وغيرهم ، بل ذكرنا وجه الإحضار عند الشروع في التكبيرة عن الشهيدين ، وبيّنا وجه ذلك أيضا في مبحث الوضوء (٣) وفي المقام.

قوله : (وقيل : يجب استحضارها). إلى آخره.

في «الدروس» حكم بوجوب استحضارها فعلا إلى آخر التكبير ، وحكما إلى آخر الصلاة (٤).

__________________

(١) شرائع الإسلام : ١ / ٧٨ ، المعتبر : ٢ / ١٤٩ و١٥٠ ، تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠٠ المسألة ٢٠٠ ، تحرير الأحكام : ١ / ٣٧.

(٢) راجع! الصفحة : ١٣٤ من هذا الكتاب.

(٣) راجع! الصفحة : ٣٧٠ ـ ٣٧٧ (المجلّد الثالث) من هذا الكتاب.

(٤) الدروس الشرعيّة : ١ / ١٦٦.

١٣٩

وعن «الذكرى» أيضا كذلك ، استنادا إلى أنّ الصلاة لا تنعقد إلّا بتمام التكبير ، ولذا لو رأى المتيمّم الماء قبل تمام التكبير بطل تيمّمه (١) ، انتهى.

وفيه ، أنّ الدليل لم يقتض أزيد من المقارنة لأوّل التكبيرة على أسهل وجه وأسمح طريق ، بل عرفت من الإجماع أنّه يأتي بكمال النيّة قبل التكبير ثمّ يبتدئ به.

وقال في «التذكرة» : الإجماع واقع على الاكتفاء بالاستدامة الحكمية (٢) ، من غير استثناء ما ذكره ، كما سنذكر.

وبالجملة ، لا شكّ في فساده بعد ملاحظة ما ذكرنا.

ونقل الشهيد عن بعض الأصحاب : أنّه أوجب إيقاع النيّة بأسرها بين الألف والراء ، قال : وهو مع ما فيه من العسر مقتض لحصول أوّل التكبير بغير نيّة (٣).

أقول : بل مقتض لخلوّ التكبيرة عن تلك النيّة ، ولا شكّ في ضعفه ومخالفته للإجماع المنقول في «التذكرة» ، وغيره من الأدلّة.

وممّا ذكر ظهر ما في كلام «التذكرة» من قوله : ولو ابتدأ بالنيّة بالقلب حال ابتداء التكبير باللسان ثمّ فرغ منهما دفعة فالوجه الصحّة (٤) ، انتهى.

قوله : (قيل : يجب استدامة حكمها). إلى آخره.

قد مرّ في مبحث الوضوء التحقيق في ذلك (٥).

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٤٨.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠٨ المسألة ٢٠٥.

(٣) ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٤٨.

(٤) تذكرة الفقهاء : ٣ / ١٠٧ المسألة ٢٠٤.

(٥) راجع! الصفحة : ٣٩٩ ـ ٤٠١ (المجلّد الثالث) من هذا الكتاب.

١٤٠