مصابيح الظلام - ج ٧

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٧

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-7-8
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥١٦

١٥٦ ـ مفتاح

[موارد وجوب الجهر والإخفات]

يجب الجهر بالقراءة في الصبح واوليي العشاءين ، والإخفات في البواقي مطلقا على المشهور ، فتبطل الصلاة بمخالفة ذلك عمدا لا سهوا ولا جهلا للصحيح (١).

واستحبّه السيّد والإسكافي (٢) ، للأصل وإطلاق آية (وَلا تَجْهَرْ) (٣) وفي الصحيح : عن الرجل يصلّي من الفرائض ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه أن لا يجهر؟ قال : «إن شاء جهر وإن شاء لم يجهر» (٤).

وحملت الآية على الجهر والإخفات الزائدين على المعتاد (٥) كما في النص (٦) ، فلا ينافي التفصيل ، والحديث محمول على التقيّة (٧).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٦ / ٨٦ الحديث ٧٤١٢.

(٢) نقل عنهما في المعتبر : ٢ / ١٧٦ ، مختلف الشيعة : ٢ / ١٥٣ و١٥٤.

(٣) الإسراء (١٧) : ١١٠.

(٤) وسائل الشيعة : ٦ / ٨٥ الحديث ٧٤١١ مع اختلاف يسير.

(٥) مدارك الأحكام : ٣ / ٣٥٧.

(٦) وسائل الشيعة : ٦ / ٩٦ الحديث ٧٤٤٠ ، ٩٨ الحديث ٧٤٤٤.

(٧) لا حظ! تهذيب الأحكام : ٢ / ١٦٢ ذيل الحديث ٦٣٦.

٣٦١

والحكم مختصّ بالرجال ، أمّا النساء فمخيّرات مع عدم سماع الأجنبيّ ، ومعه قيل : لا يجوز لهن الجهر فتبطل صلاتهنّ (١). وفيه نظر.

واشتراط تحريم إسماعهنّ بخوف الفتنة غير بعيد ، وأمّا تحريم السماع للأجنبيّ فمشروط به.

والمرجع فيهما إلى العرف وفي الحسن : «لا يكتب من القراءة والدعاء إلّا ما أسمع نفسه» (٢).

ويجوز حال الضرورة والتقيّة ، مثل حديث النفس وتحريك اللسان وإن لم يسمع ، كما في الصحاح (٣).

__________________

(١) جامع المقاصد : ٢ / ٢٦١.

(٢) وسائل الشيعة : ٦ / ٩٦ الحديث ٧٤٣٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٦ / ١٢٧ الباب ٥٢ من أبواب القراءة في الصلاة.

٣٦٢

قوله : (يجب الجهر). إلى آخره.

وجوب الجهر فيما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، والإخفات في البواقي ، أي الظهرين مطلقا وأخيرة المغرب وأخيرتي العشاء سوى البسملة هو المشهور المعروف بين الأصحاب ، بل نقل الشيخ في «الخلاف» الإجماع (١) ، وكذلك ابن زهرة في «الغنية» (٢).

ونقل عن السيّد أنّه قال : هو من وكيد السنن (٣) وعن ابن الجنيد أنّه جوّز الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، واستحباب أن لا يفعل (٤).

والعلّامة في «المنتهى» نسب القول بالاستحباب إلى ابن الجنيد فقط ، وقال بعده : وهو مذهب الجمهور كافّة ، ونقل عن السيّد ، كما نقلناه ، ولعلّه لعدم ظهور كون مراد السيّد من السنن المستحبّات ، لأنّه اصطلاح صار في الأزمنة المتأخّرة ، سيّما مع أنّه قال بعد ذلك : حتّى روي أنّه من تركهما عمدا أعاد (٥) ، انتهى.

وغير خفيّ أنّ الشي‌ء ربّما يكون واجبا عند السيّد في الصلاة ، ومع ذلك تركه غير مبطل لها ، كما مرّ في نيّة القربة (٦).

والحاصل ، أنّ وجوب شي‌ء في العبادة لا يستلزم الجزئيّة ولا الشرطيّة عنده ، بل وعند غيره أيضا ، كما مرّ في وجوب الموالاة العرفيّة في الوضوء (٧).

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٣٧٢ المسألة ١٣٠.

(٢) غنية النزوع : ٧٨.

(٣) نقل عنه في منتهى المطلب : ٥ / ٨٦.

(٤) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ١٥٣.

(٥) منتهى المطلب : ٥ / ٨٦.

(٦) راجع! الصفحة : ٣٩٤ و٣٩٥ (المجلّد الثالث) ، ١٥٠ و١٥١ من هذا الكتاب.

(٧) راجع! الصفحة : ٣٣٩ (المجلّد الثالث) من هذا الكتاب.

٣٦٣

نعم ، في «المختلف» نسب الاستحباب إليهما (١) ، وسيجي‌ء في مسألة الجهر بالبسملة في أوّل الحمد وأوّل السورة بعد الحمد أنّه من دين الإماميّة ، وأنّه مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، ومذهب الشيعة ، وأجمع آل الرسول عليهم‌السلام عليه ، وغير ذلك ، ولم يقل أحد من الشيعة بوجوب الجهر بالبسملة خاصّة ، فتأمّل!

حجّة المعظم بعد الإجماعات المنقولة كون العبادة توقيفيّة موقوفة على الثبوت ، وبمراعاة الجهر والإخفات تحصل البراءة اليقينيّة خاصّة ، لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام بالتقريب الذي مرّ في وجوب السورة ، فلاحظ.

ولصحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال له : رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي أن يجهر فيه ، أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال : «أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسيا [أ] وساهيا أو لا يدري فلا شي‌ء عليه» (٢).

وجه الدلالة الأمر بالإعادة ، وهو حقيقة في الوجوب ، و «نقض» بالقاف والضاد المعجمة ، كما ضبطه المشايخ ، وهو كناية عن البطلان ، كما لا يخفى ، بل «نقص» بالمهملة أيضا ظاهر في البطلان ، لأنّ النقص حقيقة في عدم إتمام شي‌ء ، وترك ما هو جزء منه وما لا يتمّ إلّا به.

وغير خفي أنّ مواضع الجهر ومواضع الإخفات معلومة معروفة بين قاطبة المسلمين سوى البسملة ، وإنّما الخفاء والتأمّل في الوجوب والاستحباب ، والقائل بالاستحباب أيضا مسلّم عنده ذلك ولا ينكر أصله ، بل ينكر وجوبه ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام كانوا يواظبون ، والصحابة والتابعون أيضا كذلك ، بل

__________________

(١) مختلف الشيعة : ٢ / ١٥٣ و١٥٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٢٧ الحديث ١٠٠٣ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٦٢ الحديث ٦٣٥ ، الاستبصار : ١ / ٣١٣ الحديث ١١٦٣ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٦ الحديث ٧٤١٢ مع اختلاف يسير.

٣٦٤

المسلمون في الأعصار والأمصار أيضا كانوا يداومون ، وإن قالوا بالاستحباب.

ومن هذا قال الشهيد : إنّ وجوب التأسّي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا يدلّ على ذلك (١).

وفي «المدارك» قال : هذا الاستدلال منه ضعيف جدّا ، لأنّ التأسّي فيما لا يعلم وجهه مستحب لا واجب ، كما قرّر في محلّه (٢) ، انتهى.

وهذا منه في غاية العجب ، فإنّه رحمه‌الله كثيرا ما يستدلّ به على الوجوب ، بل لا دليل عليه سوى ذلك ، كما مرّ في هيئة تكبيرة الإحرام وغيره (٣) ، بل واستدلّ عليه في غاية الإبرام ، واعتمد عليه بنهاية الوثوق والاستحكام ، كما لا يخفى ، فكيف في المقام يقول : ضعيف غاية الضعف؟ وما قرّر كونه مستحبّا ليس من المقام ، وهو كونه بيانا للمجمل ، مع ورود الأمر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٤) وغير ذلك ممّا مرّ.

نعم ، لو صدر منه فعل لا دخل له في بيان عبادة ولا ورد منه الأمر بالمتابعة فيه يكون محمولا على الاستحباب ، لعدم ثبوت الوجوب بمحض احتمال وجوبه ، نعم ، يستحب للاحتياط ، إذ ربّما كان واجبا.

ويدلّ على الوجوب أيضا صحيحة زرارة التي ذكرناها في بحث وجوب السورة ، وذكرنا التقريب أيضا (٥) ، فلاحظ.

وجميع ما ذكرناه دليلا على وجوب السورة يصير دليلا في المقام أيضا ،

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٣ / ٣٢٠.

(٢) مدارك الأحكام : ٣ / ٣٥٧.

(٣) راجع! الصفحة : ١٧٣ و١٧٤ من هذا الكتاب.

(٤) عوالي اللآلي : ١ / ١٩٧ الحديث ٨.

(٥) راجع! الصفحة : ٢٨٩ و٢٩٠ من هذا الكتاب.

٣٦٥

بملاحظة قوله عليه‌السلام : «أيّ ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي‌ء عليه» (١) ، وكون المراد من الشي‌ء هو وجوب الإعادة ، ونحوه عرفته في ذلك المبحث.

ويعضد دلالة الصحيحين فهم الفقهاء والإجماعات المنقولة هنا وفيما سيجي‌ء في الجهر بالبسملة ، مع التزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، وما ذكرنا بالنسبة إليهما ، والاشتهار بين الشيعة مع مخالفة جميع العامّة لهم ، وقاعدة العبادة التوقيفيّة ، وتحصيل اليقين بالبراءة.

وما رواه في «الكافي» في الصحيح أنّه سأل الصادق عليه‌السلام : عن القراءة خلف الإمام ، فقال عليه‌السلام : «أمّا الصلاة التي لا تجهر فيها بالقراءة فذلك جعل إليه ، فلا تقرأ خلفه ، وأمّا التي تجهر فيها فإنّما امر بالجهر لينصت من خلفه» (٢) الحديث. فإنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، كما حقّق.

ويؤيّده قوله : «لا تجهر فيها» ، إذ ظاهر أنّ المراد لا يجهر شرعا ، والمقرّر بحسب الشرع ، لا من جهة اخرى ، مع أنّ النفي يفيد الاستمرار والتأبيد المناسب للوجوب ، فإنّ المستحب والمكروه لا يقال فيهما : لا يفعل مطلقا ، فتأمّل جدّا!

ويعضد ذلك وجوب الإنصات ، وأنّ قوله تعالى (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (٣) ظاهر في وجوبهما بلا شبهة ، وظهر من الأخبار أنّ وجوبهما إنّما هو خلف الإمام فيما يجهر به ، فتأمّل جدّا!

ويعضده الأخبار الاخر التي ورد فيها عبارة يجهر ولا يجهر ، مثل صحيحة علي بن يقطين عن الكاظم عليه‌السلام : عن الرجل يصلّي خلف إمام يقتدي به في صلاة

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤٧ الحديث ٥٧٧ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٦ الحديث ٧٤١٣.

(٢) الكافي : ٣ / ٣٧٧ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٥٦ الحديث ١٠٨٨٨.

(٣) الأعراف (٧) : ٢٠٤.

٣٦٦

يجهر فيها بالقراءة (١) ، الحديث.

وصحيحة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : «إن كنت خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة» (٢) ، الحديث.

وصحيحة قتيبة الأعشى عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا كنت خلف إمام ترتضي به في صلاة يجهر فيها بالقراءة» (٣) الحديث.

وصحيحة علي بن يقطين عن الكاظم عليه‌السلام : عن الركعتين اللتين يصمت فيهما الإمام (٤) ، الحديث.

ومعلوم أنّ فعل المضارع يفيد الاستمرار التجدّدي ، والمعصوم عليه‌السلام أقر السائل على سؤاله.

ورواية الأزدي عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّي لأكره للمؤمن أن يصلّي خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة ، فيقوم كأنّه حمار» (٥) ، الحديث.

ومرسلة محمّد بن أبي حمزة (٦) عن الصادق عليه‌السلام : عن الرجل يؤمّ القوم وأنت لا ترضى به في صلاة تجهر بها في القراءة (٧) الحديث ، إلى غير ذلك ، وهي كثيرة ، منها

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٣٤ الحديث ١٢٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٢٩ الحديث ١٦٥٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٥٨ الحديث ١٠٨٩٤.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٣٥ الحديث ١٢٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٥٧ الحديث ١٠٨٩٢.

(٣) الكافي : ٣ / ٣٧٧ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٣٣ الحديث ١١٧ ، الاستبصار : ١ / ٤٢٨ الحديث ١٦٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٥٧ الحديث ١٠٨٩٠.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٩٦ الحديث ١١٩٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٥٨ الحديث ١٠٨٩٦.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٥٦ الحديث ١١٦١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٧٦ الحديث ٨٠٦ وسائل الشيعة : ٨ / ٣٦٠ الحديث ١٠٩٠٠.

(٦) كذا في النسخ ، والظاهر الصحيح : صحيحة معاوية بن وهب.

(٧) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٦٧ الحديث ١٠٩٢٣.

٣٦٧

ما سيجي‌ء في بحث الجهر بالبسملة.

ومرّ في بحث وجوب السورة عنهم عليهم‌السلام : «أنّه لا قراءة حتّى يبدأ بالحمد في جهر أو إخفات» (١).

ومرّ في بحث التسبيحات الأربع في الأخيرتين صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام المتضمّنة للمنع عن قراءة المأموم خلف الإمام في الأوّلتين ، من جهة أنّ الله تعالى قال (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) يعني في الفريضة خلف الإمام (فَاسْتَمِعُوا) (٢) الآية (٣).

فلو لم يكن الجهر واجبا لما ناسب صيرورته سببا لحرمة القراءة خلف الإمام مطلقا.

وما روي في «الفقيه» في الصحيح عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام «إنّ العلّة التي جعل من أجلها الجهر في بعض الصلوات دون بعض ، أنّ الصلاة التي يجهر فيها إنّما هي في أوقات مظلمة ، فوجب أن يجهر فيها ليعلم المارّ أنّ هناك جماعة» (٤) ، الحديث.

وما رواه في «الفقيه» أيضا عن الصادق عليه‌السلام علّة الجهر في صلاة الجمعة والمغرب والعشاء والفجر أنّ الله أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإجهار فيها (٥) ، الحديث ، فلاحظ!

وعرفت أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، ولفظ «وجب» أيضا ، كما هو المدار

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٦ / ٣٨ الحديث ٧٢٨١.

(٢) الأعراف (٧) : ٢٠٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٥٥ الحديث ١٠٨٨٦.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٠٣ الحديث ٩٢٧ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٢ الحديث ٧٤٠٦.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٠٢ الحديث ٩٢٥ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٣ الحديث ٧٤٠٧ نقل بالمضمون.

٣٦٨

عند القائل بالاستحباب أيضا.

مع أنّ الوجوب اللغوي أيضا ظاهره الوجوب الشرعيّ ، لأنّ الثبوت كذلك ظاهر في الاستقرار وعدم جواز الترك ، سيّما مع انضمام ما عرفت من فهم المعظم ، وغير ذلك من الامور الكثيرة.

احتجّ القائل بالاستحباب بالأصل ، وصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام : عن الرجل يصلّي من الفرائض ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه أن لا يجهر؟ قال : «إن شاء جهر وإن شاء لم يجهر» (١).

ولا يخفى ما فيهما ، فإنّ الأصل لا يجري في ماهيّة العبادات ، ولو كان يجري لكان الحق مع من يقول بجواز كلّ ما يكون في تكبيرة الافتتاح ، كما مرّ (٢).

مع أنّ الأصل يعدل عنه بالدليل ، فكيف الأدلّة الكثيرة التامّة؟

وأمّا الرواية فظاهرها عدم رجحان أيضا في الجهر المذكور وهو خلاف ما يقول به الكل ، لأنّ المستدلّ قائل بشدّة الاستحباب وعند صاحب «المدارك» ومن وافقه في الميل إلى الاستحباب (٣).

والاستدلال بها : أنّ الرواية التي لا يقول بظاهرها أحد ، لا يمكن الاستدلال [بها] لصيرورتها شاذّة.

ومع ذلك الأصحاب حملوها على التقيّة (٤) ، لما عرفت من اتّفاق العامّة على عدم الوجوب (٥) ، مضافا إلى اشتهاره بين الخاصّة.

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٠٥ الحديث ٧٩٦ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٥ الحديث ٧٤١١.

(٢) راجع! الصفحة : ١٦٣ و١٧٦ و١٧٧ و٢٨٥ من هذا الكتاب.

(٣) مدارك الأحكام : ٣ / ٣٥٧ و٣٥٨ ، ذخيرة المعاد : ٢٧٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٦٢ ذيل الحديث ٦٣٦ ، منتهى المطلب : ٥ / ٨٧ ، مدارك الأحكام : ٣ / ٣٥٨ ، ذخيرة المعاد : ٢٧٤.

(٥) المجموع للنووي : ٣ / ٣٨٩.

٣٦٩

وقد ورد الأخبار إلى حدّ يصل مرتبة التواتر ، أو كاد أن يصل ، موافقة للاعتبار والمشاهدة بالعيان بين الشيعة أنّ ما وافق العامّة يجب تركه وليس برشد ، بل هو غيّ باطل ، وأمثال هذه (١) ، ومدار الشيعة من زمان الصادقين عليهما‌السلام إلى الآن على ذلك ، وأنّه من جراب النورة (٢).

هذا ، مع ما ورد من الأمر بأخذ ما اشتهر بين الخاصّة ، وأنّه الرشد بلا ريبة (٣) ، مع أنّ التقيّة في زمان الكاظم عليه‌السلام كانت في غاية الشدّة ، بخلاف ما ورد عن الباقر عليه‌السلام من الصحيحين وغيرهما ، فإنّ التقيّة في زمانه كادت أن تكون مرفوعة من جهة اشتغال بني اميّة ببني العبّاس وبالعكس.

مع أنّ جابرا بلّغ إليه سلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه يبقر علم الدين بقرا» (٤) ، وأنّ جابرا في أكثر الأوقات كان يصل إلى خدمته ، والعامّة كانوا يقولون بحجيّة قوله (٥) عليه‌السلام بزعمهم أنّه أخذ من جابر (٦) ، مضافا إلى ما ورد من أنّه عليه‌السلام كان يفتي بمرّ الحق (٧) ، سيّما مع كون الراوي عنه زرارة ، وورد أنّه لم يكن أحد أصدع بالحق منه (٨) ، إلى غير ذلك ممّا ورد فيه ، هذا مضافا إلى الإجماعات المنقولة

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) تهذيب الأحكام : ٩ / ٣٣٢ الحديث ١١٩٥ ، الاستبصار : ٤ / ١٧٤ الحديث ٦٥٧ ، وسائل الشيعة : ٢٦ / ٢٣٨ الحديث ٣٢٩١٥.

(٣) لا حظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٤) علل الشرائع : ٢٣٣ الباب ١٦٨ الحديث ١ ، الخرائج والجرائح : ١ / ٢٧٩ الحديث ١٢ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ٢٢٥ الحديث ٤ و٥.

(٥) في (د ١) و (ك) : قول الباقر ، بدلا من : قوله.

(٦) تهذيب الكمال : ٢٦ / ١٣٧ الرقم ٥٤٧٨ ، سير أعلام النبلاء : ٤ / ٤٠١ الرقم ١٥٨.

(٧) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣٥ الحديث ٥٢٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٨٥ الحديث ١٠٤٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٦٤ الحديث ٥١٠٨.

(٨) رجال الكشي : ١ / ٣٥٥ الرقم ٢٢٥ ، بحار الأنوار : ٧٩ / ٢٩٢ الحديث ٢٢.

٣٧٠

في المقام ، وفيما سيجي‌ء في الجهر بالبسملة ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، وغير ذلك ممّا مرّ في وجوب السورة ، مضافا إلى غاية كثرة الصحاح الظاهرة في الوجوب ، أو المؤيّدة له.

بل بملاحظة جميع ما ذكر يظهر الإجماع الواقعي ، وأنّ حال ابن الجنيد هنا يقرب حاله في استحلاله القياس ، مع أنّ ذائقته كانت ملائمة لطريق العامّة ، كما لا يخفى على المطّلع.

وما ذكرنا هنا يكفي ، ومن أراد أزيد فعليه بمطالعة حاشيتنا على «المدارك» (١) و «الذخيرة» (٢).

ومن العجائب أنّه رجح في «المدارك» و «الذخيرة» (٣) صحيحة علي بن جعفر على الصحاح المذكورة وغيرها بوضوح الدلالة وعلوّ إسنادها ، والموافقة لظاهر القرآن ، لأنّه تعالى قال (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) (٤) الآية.

إذ ليس المراد النهي عن حقيقة الإجهار والإخفات ، إذ لا واسطة بينهما ، فالمراد النهي عن الشديد منهما والأمر بالمتوسّط ، وهو شامل للجهر والإخفات بالمعنى الذي هو محلّ النزاع (٥) ، انتهى.

إذ عرفت الحال ، ونزيد ونقول : ظاهر الصحيحة عدم العبرة بالجهر والإخفات مطلقا ، هما بمشيئة المكلّف ، وهذا خلاف الضروري والأخبار المتواترة ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، وغير ذلك ممّا عرفت.

__________________

(١) الحاشية على مدارك الأحكام للوحيد رحمه‌الله : ٣ / ٤٨ ـ ٦٠.

(٢) مخطوط.

(٣) مدارك الأحكام : ٣ / ٣٥٨ ، ذخيرة المعاد : ٢٧٤.

(٤) الإسراء (١٧) : ١١٠.

(٥) ذخيرة المعاد : ٢٧٤.

٣٧١

فمع هذا كيف يكون أوضح دلالة؟ مع أنّه بالتأمّل فيما ذكرنا لا يبقى تأمّل في كون ذلك محمولا على التقيّة ، وبالتأمّل فيما ذكرنا كيف يبقى تأمّل في وضوح دلالة المعارض؟

وأمّا دلالة الآية ، فغير خفيّ أنّه لم يتحقّق النهي عن نفس الجهر والإخفات ، بل الجهر في صلاتك والإخفات في صلاتك ، والإضافة هاهنا تفيد العموم ، لعدم سبق معهود ولا مرجّح لفرد منها ، فالمراد ـ والله يعلم ـ : لا تجهر بكلّ فرد فرد من صلاتك ، ولا تخافت كذلك ، واطلب طريقة بين ذلك.

وأيضا الصلاة اسم مجموع أفعال وأذكار ، فيمكن أن يكون نهي الجهر بها نهيه بمجموع قراءتها وأذكارها ، ولا تخافت المجموع أيضا كذلك ، فيكون المراد نهي الجهر في مجموع قراءة كلّ فرد فرد منها.

وكذلك الحال في الإخفات ، وهذا هو الظاهر من الآية والموافق للأدلّة الكثيرة من الخارج ، من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهما ، فالآية أيضا دليل من أدلّة المعظم ، لأنّ حرمة الجهر في كلّ واحد واحد ، وحرمة الإخفات كذلك ، وكون الواجب بين ذلك على ما عليه المعظم ، وعدم الدلالة على تعيين البين غير مضرّ في المطلوب ، وهو كون الجهر والإخفات على سبيل الوجوب.

وأمّا تعيين البين فهو من البديهيّات ، لا تأمّل لأحد فيه ، ظاهر من الأخبار وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، والمسلمين في الأعصار والأمصار ، بل هو أظهر من الشمس في وسط النهار ، وإنّما الخفاء في الجملة ، والتأمّل من النادر غاية الندرة من الشيعة في خصوص كون الجهر والإخفات في ذلك ، البين المعيّن على سبيل الوجوب لشبهة عرضته.

مع أنّه يمكن إتمام الدليل بضميمة عدم القائل بالفصل ، لأنّ كلّ من قال

٣٧٢

بمدلول الآية قال بالتعيين ، والتفصيل المعروف من بديهيّات الدين أو المذهب.

ولم يتأمّل أحد فيه ، حتّى القائل بالاستحباب ، وحيث كانت الآية واضحة الدلالة على الوجوب وحرمة المخالفة ، مضافا إلى جميع ما عرفته من الأدلّة والشواهد فكيف يبقى له ريبة؟

على أنّ ما ذكراه من ظهور القرآن فيما ذكراه لا يخفى فساده من وجوه كثيرة :

الأوّل : كون النهي حقيقة وظاهرا في الحرمة ، وعلى ما ذكراه لا حرمة بالبديهية ، ففيه خلاف الأصل والظاهر مرّتين ، وفيهما ما فيهما.

الثاني : كون الجهر غير مقيّد بالشدّة ، وكذلك الإخفات ، والأصل والظاهر عدم التقيّد ، ففيه أيضا الخلافان مرّتان.

الثالث : قوله تعالى (وَابْتَغِ) (١). إلى آخره أمر حقيقة في الوجوب وظاهر فيه ، ففيه الخلافان مرّة (٢) فصار خمس مرّات.

والرابع : كون المستحب هو بين الجهر الشديد والإخفات الشديد في جميع الصلوات كما ذكراه وجعلاه شاملا لمحلّ النزاع ، خلاف الضرورة من الدين والمذهب ، والأخبار المتواترة ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، والمسلمين في جميع الأعصار والأمصار وغير ذلك ، ومسلّم عند الخصم أيضا بطلانه ، إذ لو كان الراجح هو البين بين في كلّ صلاة لم يكن الراجح خصوص الجهر في بعض أجزاء بعض الصلوات بالبديهة ، وكذلك الحال في الإخفات.

وجعل المراد لا تجهر الجهر الشديد فيما تجهر فيه من صلاتك ، ولا تخافت الإخفات الشديد فيما تخافت فيه من صلاتك ـ مع ما فيه من المفاسد التي عرفت ،

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ١١٠.

(٢) كذا في النسخ ، والظاهر الصحيح : مرّتان فصار ستّ مرّات.

٣٧٣

فإنّ ورود النص في ذلك ، لأنّ بطون الآيات غير ظواهرها ، وظواهرها حجّة علينا بلا تأمّل ـ لا يدلّ على استحباب نفس الجهر والإخفات بالبديهة.

بل ربّما كانت ظاهرة أيضا في الوجوب ، مع قطع النظر عن الأدلّة الكثيرة الدالّة عليه ، لما عرفت سابقا من ظهور قول ما يجهر فيه من الصلاة وما يخافت فيه من الصلاة في كون الجهر والإخفات ممّا تعيّن وثبت ، وقرّر شرعا كونه في الصلاة ، وكون الصلاة غير خالية منهما ، سيّما بعد ملاحظة ما وافقها من الأخبار التي كادت تبلغ التواتر ، والعبارات الظاهرة فيها.

انظر أيّها العاقل! كيف يكون الله ينهى نبيّه عن الجهر الشديد ، مع كونه خلاف مدلول الآية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا بأس؟

وكذلك الحال في الإخفات ، ويأمره بأخذ الوسط في كلّ فرد منها والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمتثل أمره ، وكذلك الأئمّة عليهم‌السلام ، ومع ذلك يأمرون الغير أيضا بعدم الامتثال والمخالفة ، ويبالغون ويصرّون ، إلى أن جعلوا ذلك من بديهيّات دينهم ، بل إلى حدّ ظهر على الشيعة الوجوب بلا تأمّل منهم إلّا من شاذّ منهم (١).

ومع جميع هذا جعل في «المدارك» و «الذخيرة» ما ذكر هو الأظهر من الآية ، حتّى جعلا ذلك دليلا على عدم الوجوب (٢) ، والمعصوم من عصمه الله ، والأفكار السليمة قلّما يتّفق اتّفاقهم على الخطأ كما ظهر ، وظهر عليّ أنّ الخطأ إنّما هو من النادر ، كما هو الحال في المقام وما وافقه.

فظهر عليك أنّ الآية أيضا دليل واضح للمعظم ، ومرجّح تامّ للأخبار الدالّة على الوجوب عقلا ونقلا.

__________________

(١) لاحظ! مختلف الشيعة : ٢ / ١٥٣.

(٢) مدارك الأحكام : ٣ / ٣٥٧ ، ذخيرة المعاد : ٢٧٤.

٣٧٤

وهو الأخبار المتواترة في الأخذ بما وافق القرآن وترك ما خالفه (١) ، فاجتمع فيما دلّ على الوجوب جميع ما دلّ على وجوب الأخذ بما خالف العامّة وترك ما وافقهم.

وجميع ما دلّ على وجوب الأخذ بما اشتهر بين الأصحاب وترك الشاذّ.

وجميع ما ورد من وجوب الأخذ بما وافق القرآن ، أو ما هو أوفق به (٢).

وجميع ما ورد من الأخذ بما هو موافق لسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وطريقهم ، وجميع ما ورد منهم ، من أنّه إذا ورد عليكم حديث فاعرضوه على سائر أحاديثنا فإن وجدتموه موافقا لها ، وإلّا فاتركوه (٣).

وقد عرفت الأخبار الظاهرة في مطلوبية الجهر والإخفات ، إذ بلغت حدّ التواتر.

وأمّا الظاهرة في الوجوب ، ففي غاية الكثرة أيضا ، وأين هذا من خبر لم يوافق خبرا من الأخبار منهم عليهم‌السلام؟

وما ذكروه (٤) من كونه أعلى سندا من روايات الباقر عليه‌السلام ، ففيه : إنّا لم نجد منه ولا من غيره اعتبار هذا القدر القليل من العلو ، وجعله مرجّحا على ما اشتهر بين الأصحاب وما خالف العامّة ، وما وافق طريقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة ولا يخفى وضوحا.

مثل ما ورد أنّ الباقر عليه‌السلام كان يفتي بمرّ الحق (٥) ، وأنّه كان في زمان قلّ فيه التقيّة ، وكادت أن تنعدم ، وأنّ الكاظم عليه‌السلام اشتدّ التقيّة عليه ، إلى أن أخفى نفسه وأخفى دعوى إمامته ، حتّى صار أعاظم الرواة متحيّرين (٦) يذهبون عند عبد الله

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٤) في (د ١) و (ك) : وما ذكره.

(٥) الاستبصار : ١ / ٢٨٥ الحديث ١٠٤٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٦٤ الحديث ٥١٠٨.

(٦) في (د ١) و (ك) : حيرانين.

٣٧٥

الأفطح ولا يجدونه إماما ، إلى أن كاد أن يرتدّوا عن الإيمان ، حتّى أظهر نفسه الشريفة في غاية الخوف وشدّة التقيّة (١) ، إلى غير ذلك ممّا هو معلوم.

وأين هذا من ذاك؟ إذ على تقدير اعتبار ذلك لا يصير عشر معشار ذلك ، بل لا يصير طرف النسبة.

مع أنّ الأحاديث الظاهرة في الوجوب غير منحصرة فيما ورد عن الصادقين عليهما‌السلام ، بل ورد عن الرضا عليه‌السلام كما عرفت (٢) ، فهو أعلى سندا ممّا ذكره.

وروى في «العلل» بسنده إلى علي بن محمّد عليه‌السلام أنّه أجاب في مسائل يحيى ابن أكثم القاضي : «أمّا صلاة الفجر وما يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار والحال أنّه إنّما يجهر في صلاة الليل ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغلس فيها لقربها من الليل» (٣). والسند والدلالة منجبرتان بالشهرة وغيرهما ممّا لا تحصى.

هذا ، مع ما سيجي‌ء في الجهر بالبسملة ، من كون ذلك من دين الإماميّة ، وعلامة المؤمن وغير ذلك.

وممّا ذكر ظهر فساد ما ذكره المحقّق ، من أنّ حمل الخبر المذكور على التقيّة تحكّم ، لأنّ بعض الأصحاب لا يرى وجوب الجهر بل يستحبّه استحبابا مؤكّدا (٤) ، انتهى.

ومراده من البعض المرتضى ، وقد عرفت حاله (٥) ، مع أنّه رحمه‌الله جعله من وكيد السنن ، إلى أن ورد الأمر بالإعادة بتركه.

__________________

(١) مصنّفات الشيخ المفيد : ١١ / ٢٢١ ـ ٢٢٣.

(٢) راجع! الصفحة : ٣٦٧ و٣٦٨ من هذا الكتاب.

(٣) علل الشرائع : ٣٢٣ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٤ الحديث ٧٤٠٨ مع اختلاف.

(٤) المعتبر : ٢ / ١٧٧.

(٥) راجع! الصفحة : ٣٦٣ من هذا الكتاب.

٣٧٦

وأين هذا من مدلول الخبر المذكور من التسوية بين الجهر والإخفات مطلقا ، من دون رجحان أصلا؟ بل أين ذلك من الاستحباب ، فضلا عن كونه من السنّة ، فضلا عن كونه من أكيدها ، فضلا عن الأمر بالإعادة؟

مع أنّ مجرّد قول بعض به لا يأبى الحمل على التقيّة قطعا ، ولم يشترط أحد في الحمل عليها عدم قول من أحد من الخاصّة ، كيف وحرمة القياس من ضروريّات المذهب ، مع قول ابن الجنيد به ، إلى غير ذلك.

بل جلّ المواضع المحمولة على التقيّة عنده أيضا ليس مجمعا عليه بين الشيعة ، مع أنّه لو كان كذلك يكون المعارض شاذّا ، يجب طرحه لشذوذه.

وهذا غير الحمل على التقيّة ، مع أنّ الاشتهار بين الأصحاب مرجّح على حدة ، ورد الأمر باعتبارها كذلك ، والأصحاب أيضا اعتبروها على حدة.

مع أنّه لم يرد في خبر من الأخبار الواردة في وجوب حمل ما وافق العامّة على التقيّة أنّ ذلك مشترط بشرط ، سيّما أن يكون ذلك الشرط عدم قول أحد من الخاصّة به. وكذلك الحال في كلام الأصحاب في ذلك.

وبالجملة ، الكلام في أمثال المقام من جهة أنّها من مزالّ أقدام الفحول الأعلام ، لا بدّ منه من زيادة النقض والإبرام ، لكن لا يشبع إلّا بعد الطول المقتضي للملال والسأم ، فلذا تركنا أزيد ممّا ذكرنا.

وهذا القدر يكفي رفعا للاستبعاد في أنّ مثل هؤلاء كيف يخطئون ، وإن خالفوا المشهور؟

ويظهر على البصير أنّ المشهور كيف كان حالهم؟ فلا يجترئ مجتر بمخالفتهم في الفتوى والعمل ، وإن لم يجترئ أحد بمخالفتهم في العمل.

قوله : (والحكم). إلى آخره.

يعني وجوب الجهر في موضعه والإخفات كذلك مختصّ بالرجال ، فلم يجب

٣٧٧

على النساء جهر ولا إخفات.

أمّا عدم وجوب الجهر عليهنّ فهو إجماعي عند أهل العلم كافّة ، وإن كان عبارة غير واحد من الأصحاب في وجوبهما مطلقا من دون استثنائهنّ ، نقل الإجماع عليه الفاضلان والشهيدان (١) ، فهنّ مخيّرات فيهما مطلقا.

ويدلّ عليه بعد الإجماعات ما دلّ على وجوبهما ، وهو العمدة في الدلالة ، وهو الصحيحان فهو مختصّ بالرجال ، حيث سأل الراوي عن رجل جهر ، الحديث. والجواب أيضا كذلك ، حيث قال : «أيّ ذلك فعل» (٢) ، الحديث.

والضمير في قوله عليه‌السلام : «فعل» راجع إلى الرجل المذكور ، ولا إجماع على اشتراك الرجل والمرأة فيهما ولا في مطلق الحكم الشرعي ، وأمّا ما يتعدّى فيه فمن دليل إجماعا وليس هاهنا.

وأمّا ما استدللنا ببعض الأخبار ، مثل : «يجهر فيها ولا يجهر فيها» ونحوها (٣) فمطلق لا عموم فيه ، والمطلق ينصرف إلى الأفراد الشائعة المتبادرة ، والشائع فيما ذكر هو الرجال.

مع أنّ الظاهر أنّها مجملة بالنسبة إلى الفاعل ، إذ ليس مدّ النظر فيها كون الفاعل ومن عليه الجهر والإخفات من هو؟ وليس العناية في تعيينه ، فترجع حينئذ إلى المتّفق عليه ، هذا بالنسبة إلى بعض تلك الأخبار ، والبعض الآخر مخصوص بالرجال كالصحيحين (٤) ، وربّما كان بعض منها ظاهرا في الرجال ويتبادرون. فتبقى عمومات الأمر بالقراءة والإطلاقات والاصول سالمة ، مع أنّ

__________________

(١) المعتبر : ٢ / ١٧٨ ، نهاية الإحكام : ١ / ٤٧٢ ، ذكرى الشيعة : ٣ / ٣٢٢ ، روض الجنان : ٢٦٥.

(٢) وسائل الشيعة : ٦ / ٨٦ الحديث ٧٤١٢ و٧٤١٣.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٦ / ٨٢ الباب ٢٥ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٤) مرّت الإشارة إليهما آنفا.

٣٧٨

الظاهر أنّه إجماعي واقعي يقيني ، لأنّ الفريضة اليوميّة من أعمّ ما يبتلى به المكلّف بل أعمّ وأعمّ.

فلو كانت المرأة مثل الرجل لاشتهر اشتهار الشمس ، كما اشتهر الرجل بذلك ، سيّما والمرأة كثيرا ما يكون الأجانب بقربها ، وهو مانع عن الجهر ، فيحصل عليهنّ الإشكال في تعارض الواجب والحرام ، سيّما وكون حرمة سماع صوتها لم يصر بديهي الدين أو المذهب ، وكذا القدر المحرّم منه.

والعادة تقتضي اشتهار مثل ما ذكر في كلّ حال ، ورفع الإشكال في الحكم ، وإن وقع في موضوعه الإشكال ، ومع ذلك صار الأمر بالعكس ، لم يبق تأمّل في عدم وجوبه ، وعليه المدار في جميع الأعصار والأمصار.

وأيضا العلل المذكورة للجهر لا تناسب المرأة ، كما لا يخفى ، مع استبعاد وجوب الإخفات عليهنّ في خصوص الظهرين وأخيرتي العشاءين ، ولا يظهر من دليل أصلا ، ولا يناسبه علّة مطلقا ، فتأمّل جدّا!

وممّا ذكرنا ظهر عدم وجوب الإخفات عليهنّ أيضا ، وإن كان ظاهر بعض عبارات الأصحاب وجوبه عليهنّ ، مثل عبارة «الشرائع» حيث قال : وليس على النساء جهر بعد ما قال : ويجب الجهر والإخفات بكذا في كذا (١).

وفي «الذخيرة» مال إلى الوجوب من جهة التمسّك بتحصيل البراءة اليقينيّة ، وكونه موقوفا عليه (٢).

وفيه ، أنّك عرفت نهاية ظهور فساد القول بالوجوب ، وأنّه لا عبرة به أصلا ورأسا ، فأيّ عبرة به حتّى يميل إلى الوجوب من الجهة المذكورة؟ سيّما مع ما صدر

__________________

(١) شرائع الإسلام : ١ / ٨٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ٢٧٥.

٣٧٩

منه في نفس وجوب الجهر والإخفات.

مع أنّ الدليل الاجتهادي يوجب الخروج عن العهدة ، نعم ، الاحتياط في الارتكاب لو كان شبهة.

وهل الخنثى المشكل كالرجل ، لتوقّف البراءة اليقينيّة على ذلك ، أو كالمرأة لأصالة البراءة والعدم ، وانصراف الإطلاقات المقتضية للتكليف إلى الأفراد المتعارفة؟ وكذلك حال من ليس له ما للرجال وما للنساء ، والاحتياط ظاهر.

وحكم القضاء حكم الأداء بالإجماع ، وعموم قولهم عليهم‌السلام : «يقضي ما فاتته كما فاتته» (١).

ثمّ اعلم! أنّ جاهل الحكم في الجهر والإخفات معذور إجماعا كالناسي ، ومرّ صحيحتا زرارة الدالّتان على ذلك (٢) ، فلو ذكر في أثناء القراءة أو تعلّم كذلك لم يجب عليه الاستئناف ، بل ولو في أثناء الكلمة.

بل ولو تذكّر في الأثناء أو تعلّم وهو مشغول بالقراءة مستول عليها ، بحيث لم يمكنه ضبط نفسه في ترك القراءة أو تبديلها من الجهر إلى الإخفات أو العكس بأوّل ما تذكّر أو سمع ، بل قرأ شيئا منها بالحالة السابقة الجارية على لسانه حين التذكّر أو السماع ، ولم يتيسّر له ضبط نفسه ، إلى أن تمكّن من الضبط وتيسّر له ، فالظاهر صحّته أيضا ، لأنّه عليه‌السلام قال : «أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة» (٣). ولا شكّ في أنّ ما صدر منه في تلك الحالة ليس بتعمّد.

واعلم! أيضا أنّ الجهر والإخفات إنّما يجبان في القراءة خاصّة ، دون شي‌ء

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٥ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٦٨ الحديث ١٠٦٢١ مع اختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة : ٦ / ٨٦ الحديث ٧٤١٢ و٧٤١٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٢٧ الحديث ١٠٠٣ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٦ الحديث ٧٤١٢.

٣٨٠