تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبىّ فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغني أذاه فى أهلى ، فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلى إلا معى ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضى الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله ، إن كان من الأوس صربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة ، فقال أىّ سعد بن معاذ : لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة ، كذبت لعمر الله لنقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ، ثم أتانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا فى بيت أبوىّ ، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكى معى ، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم جلس عندى ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى بشىء ، قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه دمعة ، قلت لأبى : أجب عنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال ، قال والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقلت لأمى : أجيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقالت والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن ، إنى والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر فى أنفسكم حتى كدتم أن تصدّقوا به ،

٨١

فإن قلت لكم إنى بريئة (والله يعلم أبى بريئة) لا تصدّقونى بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنى منه بريئة لتصدّقنى ، وإنى والله لا أجد لى ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ثم توليت فاضطجعت على فراشى وأنا والله أعلم أنى بريئة ، وأن الله سيبرئنى ببراءتي ، ولكنى والله ما كنت أظن أن ينزل فى شأنى وحي يتلى ، ولشأنى كان أحقر فى نفسى من أن يتكلم الله فى بأمر يتلى ، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المنام رؤيا يبرئنى الله بها ، قالت والله ما دام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحى حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق فى اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه ، قالت : فلما سرّى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشرى يا عائشة ، إن الله قد يراك ، فقالت لى أمي قومى إليه ، فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي ، فأنزل الله : «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» العشر الآيات كلها ، فلما أنزل الله هذا فى براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله : «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ـ إلى قوله ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فقال أبو بكر : إنى لأحب أن يغفر الله لى ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال لا أنزعها منه أبدا.

قالت عائشة : وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى وما سمعت ، فقالت : يا رسول الله أحمى سمعى وبصرى ، والله ما رأيت إلا خيرا.

قالت عائشة : وهى التي كانت تساميى ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أحبها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك».

٨٢

وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول : حدثتنى الصّديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبرّأة من السماء.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم أيها المؤمنون تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس لمقاصد لهم أخفوها والله عليم بما يفعلون.

وفى التعبير (بعصبة) بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون ، وأنهم هم الذين ينتسرونه ، لا أنهم عدد كثير من الناس.

(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا ، بل هو خير لكم ، لاكتسابكم به الثواب العظيم ، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة ، وإظهار كرامتكم على الله بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر فى براءتكم وتعظيم شأنكم ، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا ، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأملها.

ثم ذكر عقاب من اجترحوه ـ كل منهم بقدر ما خاض فيه فقال :

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكل امرئ منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه ، فإن بعضهم تكلم ، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع ، وبعضهم أقلّ ، وبعضهم أكثر.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي والذي تحمّل معظم ذلك الإثم منهم وهو عبد الله بن أبىّ (عليه اللعنة) له عذاب عظيم فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فبإظهار نفاقه على رءوس الأشهاد ، وأما فى الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العليم الحكيم.

وقد كان هو أول من اختلقه لإمعانه فى عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ،

٨٣

وقال الضحاك : الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله عذرها ، وجلد معهما امرأة من قريش ، وإنما أضاف الكبر إليه ، لأنه ابتدأ بذلك القول ، لاجرم حصل له من العقاب مثل ما حصل كل من قال ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

ثم عاتب الله أهل الإيمان به فيما وقع فى أنفسهم من إرجاف من أرجف فى أمر عائشة وزجرهم بتسعة أمور :

(١) (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي هلا إذ سمعتم ما قال أهل الإفك فى عائشة ظنتم بمن اتّهم بذلك خيرا ، لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن ، ويكفّكم عن إساءتكم أنفسكم أي أمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم كما قال «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» وقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» وهلا قلتم حينئذ : هذا كذب ظاهر مكشوف؟ فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه ـ ذاك أن مجىء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك ، ورسول الله بين أظهرهم ينفى كل شك ، وإنما قيل ما قيل لحسد فى القلوب كامن ، وبغض فى النفس مكتوم.

ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبّخهم على ما اختلفوه وأذاعوه بقوله :

(٢) (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا جاء الخائضون فى الإفك بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به.

(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك المفسدون هم الكاذبون فى حكم الله وشرعه.

(٣) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه عليكم فى الدنيا بضروب النعم التي من أجلّها الإمهال للتوبة ، ورحمته فى الآخرة بالعفو بعد التوبة ـ لعجل لكم العقاب فى الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.

٨٤

ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله :

(٤) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه ، وقولكم قولا بالأفواه دون أن يكون له منشأ فى القلوب يؤيده ، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به ، وهو من العظائم والكبائر عند الله.

وخلاصة ذلك ـ إنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها :

(ا) تلقى الإفك بالألسنة ، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك ، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه ، فهم قد فعلوا جهد المستطاع فى نشره.

(ب) إنه قول بلا روية ولا فكر ، فهو قول باللسان لا يترجم عما فى القلب ، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه (ج) استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له ، وهو عند الله عظيم الوزر ، مستحق لشديد العقوبة.

(ه) (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا ، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي وهلّا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه فى القول ـ قلتم تكذيبا له وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم : لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ولا ينبغى لنا أن نتفوه به سبحانك رب ـ هذا كذب صراح يحيّر السامعين ، أمره ، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر ، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس ، بيت النبوة الذي هو فى الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة ، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ؟ أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة ، وينبوع الطهر ، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين ، وشريف الأخلاق؟ وإنا لنبرأ إليك

٨٥

ربنا منه وأن تلوكه ألسنتنا ، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا ، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفّاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة فى انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.

وخلاصة هذا ـ تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين ، وألا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق ، وأن توسم زوج نبيه بالفجور ، والعقل والدين يمنعان الخوض فى مثل هذا ، لأن فيه إيذاء للنبى صلّى الله عليه وسلّم والله يقول «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها ، ولأن فى إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقا بأخلاق الله والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «تخلقوا بأخلاق الله».

ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال :

(٦) (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب ، وكبر هذا الجرم ، وأن فيه النكال والعقاب بالحد فى الدنيا ، والعذاب فى الآخرة ، كى لا تعودوا لمثله أبدا إن كنتم من أهل الإيمان تتعظون بعظات الله ، وتأتمرون بأمره ، وتنتهون عما نهاكم عنه.

وفى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ويفصّل الله لكم فى كتابه ، آيات التشريع ، ومحاسن الفضائل والآداب ، وهو العليم بكم ، لا يخفى عليه شىء منها ، فيجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته. الحكيم فى تدبير شئونكم وفيما كلفكم به ، مما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم ، وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح ، وتكونون خير الأمم فى سياسة الشعوب وعمارة الأرض ، وإقامة ميزان العدل بين أفرادها «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» ولقد صدق الله وعده وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفا فى ذلك الحين وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته

٨٦

حتى صاروا مضرب الأمثال ، فلما انحرفوا عن الصراط السوي ، والنهج القويم ، تقلّص ظلهم ، وذهب ريحهم ، وصاروا أذلاء مستعبدين بعد أن كانوا السادة الحاكمين ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بيّن ذلك بقوله :

(٧) (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا فى المحصنين والمحصنات من المؤمنين والمؤمنات ، لهم عذاب موجع فى الدنيا بإقامة الحد عليهم واللعن والذم من الناس ، وفى الآخرة بعذاب النار وبئس القرار.

وفى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».

وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة ، ومن أقال عثرة مسلم أقال الله عثرته يوم القيامة».

(وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا ، ولا ترووا ما لا علم لكم به ، ولا سيما حلائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتهلكوا.

ثم كرر فضله ورحمته على عباده للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب فقال :

(٨) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ولولا أن الله تفضل عليكم وأبقاكم بعد الخوض فى الإفك ومكّنّكم من التلافي بالتوبة لهلكتم ، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه.

وبعدئذ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال :

(٩) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه ، ولا تقتفوا آثاره ، بإشاعتكم الفحشاء فى الذين آمنوا ، وإذا عتكموها فيهم ، بروايتكم إياها عمن نقلها إليكم.

٨٧

ثم ذكر سبب النهى فقال :

(وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر ، فإنه لا يأمر إلا بهما ، ومن هذا شأنه لا ينبغى اتباعه ولا طاعته.

ثم أكد منته على عباده فقال :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ولو لا فضل الله عليكم ورحمته بكم بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب وتغسل أدرانها ما طهر أحد منكم من ذنبه وكانت عاقبته النكال والوبال ، ولعاجلكم بالعقوبة كما قال :

«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ على ظهرها مِنْ دَابَّةٍ».

(وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي ولكنّ الله جلت ، قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب التي اجترحوها تفضلا منه ورحمة كما فعل بمن سلّم من داء النفاق ممن وقع فى حديث الإفك كحسان ومسطح وغيرهما.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة ، عليم بما فى قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها ، ومجازيكم بكل ذلك.

وفى هذا حث لهم على الإخلاص فى التوبة ، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية ، وارتكاب الأوزار والآثام.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي ولا يحلف من كان ذا فضل وسعة منكم أيها المؤمنون بالله ، ألا يعطوا ذوى قرابتهم المساكين المهاجرين كمسطح ابن خالة أبى بكر الذي كان فقيرا وهاجر من مكة إلى المدينة وشهد مع رسول الله بدرا.

روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قول فى عائشة ما قال

٨٨

ذاك أنه بعد أن أنزلت براءة عائشة وطابت النفوس وتاب الله على من تكلم من المؤمنين فى ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه ـ تفضل وله الحمد والمنة فعطّف الصّدّيق على قريبه مسطح وكان ابن خالته وكان مسكينا لا مال له وكان من المهاجرين فى سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحدّ عليها.

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أي وليتركوا عقوبتهم على ذلك ، بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم ، وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الإفضال.

ثم رغبهم فى العفو والتفضل فقال :

(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضاله عليكم ، والجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك ، يغفر الله لك ، وكما تصفح يصفح الله عنك ، فحينئذ قال الصديق : بلى والله نحب أن تغفر لنا ربّنا ، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال والله لا أنزعها منه أبدا.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب من أطاعه واتبع أمره ، رحيم به أن يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها.

وفي هذا ترغيب عظيم فى العفو ، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب وحث على مكارم الأخلاق.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥))

٨٩

تفسير المفردات

المحصنات : العفيفات ، الغافلات : أي عن الفواحش وهن النقيات القلوب اللاتي لا يفكّرن فى فعلها ، لعنوا : أي طردوا من رحمة الله فى الآخرة وعذبوا فى الدنيا بالحدّ ، دينهم : أي جزاءهم ومنه «كما تدين تدان» الحق : أي الثابت الذي يحق لهم لا محالة ، أن الله : أي وعده ووعيده ، الحق : أي العدل الذي لا جور فيه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة وبين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب فى هذا ـ أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور ـ فهو مطرود من رحمة الله ، بعيد عن دار نعيمه ، معذّب فى جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها المؤمنات بالله ورسوله ـ يبعدون من رحمة الله فى الدنيا والآخرة ، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم ، فهم مصدر قالة السوء فى المؤمنات ، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والقدوة السيئة لمن يتكلم بها ، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها كما ورد فى الحديث : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولهم ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره يوم يجحدون ما اكتسبوا فى الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها ، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل ، إذ ينطقها الله بقدرته ، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.

٩٠

ونحو الآية قوله تعالى : «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ».

عن أبى سعيد الخدرىّ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله ، فيجحد ويخاصم ، فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك ، فيقول كذبوا ، فيقال أهلك وعشيرتك ، فيقول كذبوا ، فيقال احلفوا فيحلفون ، ثم يصمّهم الله فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ثم يدخلهم النار».

ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان ، بل شهادة الإثبات والبيان ، إذ كل ما يعمله الإنسان فى الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله ، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان ، واليد التي تمتد لفعل شىء ، والرجل التي تخطو إلى عمل ، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته ، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم فى قلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين ، فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيا جد الكفاية فى إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين.

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي فى هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم على أعمالهم ، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به فى حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه ، ويزول عنهم كل ريب كان قد ألمّ بهم فى الدار الأولى.

عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» رواه الشيخان.

قال صاحب الكشاف : ولو قلّبت القرآن كله وفتّشت عما أوعد به العصاة

٩١

لم تر أن الله قد غلّظ فى شىء تغليظه فى إفك عائشة رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعقاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك ، واستفظاع ما أقدم عليه ، على طرق مختلفة ، وأساليب مفتنّة ، كل واحد منها كاف فى بابه ، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين فى الدارين جميعا وتوعّدهم بالعذاب العظيم فى الآخرة ، بأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا ، وأنه يوفّيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله اه.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))

المعنى الجملي

بعد أن برأ سبحانه عائشة مما رميت به من الإفك ، ثم ذكر أن رامى المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله ـ أردف ذلك دليلا ينفى الريبة عن عائشة بأجلى وضوح ـ ذاك أن السنة الجارية بين الخلق مبنية على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين ، فالطيبات للطيبين ، والخبيثات للخبيثين ، ورسول الله من أطيب الطيبين ، فيجب كون الصّدّيقة من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم ، والعادة الشائعة بين الخلق.

الإيضاح

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال لا يتجاوزنهم إلى غيرهم.

٩٢

(وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، لأن المجالسة من دواعى الألفة ودوام العشرة.

(وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) أي والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، لما قد عرفت من الأنس بمن يحاكيك فى الصفات ، ويجانسك فى الفضل والكمال.

(وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والطيبون أيضا للطيبات منهن لا يتجاوزونهن إلى من عداهن.

وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، استبان أن الصديقة رضى الله عنها من أطيب الطيبات واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك.

(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أولئك الطيبون والطيبات ومنهم صفوان وعائشة مبرءون مما يقول الخبيثون والخبيثات من النساء.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة عن ذنوبهم التي اقترفوها من قبل ، ورزق كريم عند ربهم فى جنات النعيم.

[تنبيه] هذه الآية الكريمة تشرح الغرائز والطباع ، وتبين أن الإنسان بل هذا الوجود لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة ، فالكرة الأرضية متجاذبة الأجزاء ؛ وكرة الهواء مطيعة لمجموعها ، لما بينها من تناسب وتشابه فى الصفات ، وهكذا أخلاق الناس وصفاتهم إذا تشابهت اتفقوا ، وهم يكونون يوم القيامة كذلك ، لا يجتمعون إلا حيث يتفقون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))

٩٣

تفسير المفردات

حتى تستأنسوا : أي حتى تستأذنوا ، إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت ، وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول ، تذكرون : أي تتعظون ، أزكى : أي أطهر ، جناح : أي حرج ، متاع : أي حق تمتع ومنفعة كإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع ، كحوانيت التجارة والفنادق والحمامات ونحوها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات ، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط ، وكان مما يسهل السبيل إلى التّهمة فى كل هذا وجود الخلوة بين رجل وامرأة ـ أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره ، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التّهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة ، إلى أن الإنسان قد يكون فى بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.

روى عدى بن ثابت عن رجل من الأنصار «أن امرأة قالت يا رسول الله : إنى أكون فى بيتي على الحال التي لا أحب أن يرانى عليها أحد لا والد ولا ولد ، فيأتينى آت فيدخل علىّ فكيف أصنع؟ فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أدب الله عباده المؤمنين بآداب نافعة فى بقاء الود وحسن العشرة بينهم ، ومن ذلك

٩٤

ألا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يطلعوا على عورات سواهم ، ولا ينظروا إلى ما لا يحل لهم النظر إليه ، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس فى العادة ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها إلى أن فى هذا تصرفا فى ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه.

وينبغى أن يكون الاستئذان ثلاث مرات ، فإن أذن له دخل وإلا انصرف ، فقد ثبت فى الصحيح أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف ، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس (يعنى أبا موسى) يستأذن؟

ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك؟ قال إنى استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لى ، وإنى سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف».

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم خير من الدخول بغتة أو من الدخول على عادة الجاهلية ، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حيّيتم صباحا ، حيّيتم مساء ، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته فى لحاف واحد.

وقد أرشدكم ربكم إلى ذلك كى تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي فإن لم تجدوا فيها أحدا ممن يملك الإذن ، بأن كان فيها عبد أو صبى فلا تدخلوها حتى يأذن لكم من يملكه وهو رب الدار.

وقد استثنى من ذلك ما إذا دعت الضرورة إلى الدخول فورا كإطفاء حريق أو منع حدوث جناية أو نحو ذلك.

(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي وإن قال لكم أهل البيت تستأذنون فيه ارجعوا فارجعوا ، فإن الرجوع أطهر لكم فى دينكم ودنياكم ، لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان ،

٩٥

ولما فى ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس ، وربما ظن بأهل البيت سوء من وقوف الأجانب على أبوابهم.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي والله عليم بكل مقاصدكم ونواياكم من دخول البيوت ومجازيكم على ذلك.

ولما بين حكم البيوت المسكونة بين حكم البيوت غير المسكونة فقال :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي ليس عليكم أيها المؤمنون إثم ولا حرج أن تدخلوا بيوتا غير معدّة لسكنى قوم معينين ، بل معدة ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان كالفنادق والحوانيت والحمامات ونحوها مما فيه حق التمتع لكم كالمبيت فيها وإيواء الأمتعة والبيع والشراء والاغتسال ونحو ذلك ، لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلاع على عورات الناس والوقوف على أسرارهم ـ غير موجود فيها.

روى أن أبا بكر قال «يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية فى الاستئذان ، وإنا لنختلف فى تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت الآية».

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي والله عليم بما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة ، وما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس أو من قصد ريبة أو فساد.

وفى هذا من الوعيد الشديد ما لا يخفى.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ

٩٦

أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

تفسير المفردات

غض بصره : خفّض منه ، والخمر : واحدها خمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها (طرحة) والجيوب واحدها جيب : وهو فتحة فى أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد ، والبعولة : الأزواج واحدهم بعل ، والإربة : الحاجة إلى النساء ، والطفل : يطلق على الواحد والجمع ، لم يظهروا : أي لم يعلموا عورات النساء لصغرهم.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعا للقيل والقال والاطلاع على

عورات الناس وأسرارهم ـ أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غض البصر عن المحارم لمثل السبب المتقدم ، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها.

الإيضاح

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم ، ولا تنظروا إلا ما يباح لكم النظر إليه ، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرفوا أبصارهم عنه سريعا لما رواه مسلم عن عبد الله البجلىّ قال :

٩٧

«سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجاءة فأمرنى أن أصرف بصرى» ، وروى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلى : «يا علىّ لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» ، وفى الصحيح عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إياكم والجلوس على الطرقات ، قالوا يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها ، فقال صلّى الله عليه وسلم : إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه ، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غضّ البصر ، وكفّ الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».

والحكمة فى ذلك : أن فى غض البصر سدا لباب الشر ، ومنعا لارتكاب المآثم والذنوب ، ولله در أحمد شوقى حيث يقول :

نظرة فابتسامة فسلام

فكلام فموعد فلقاء

(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) بمنعها من عمل الفاحشة ، أو بحفظها من أن أحدا ينظر إليها ، وقد جاء فى الحديث : «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك».

(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي ما ذكر من غض البصر وحفظ الفرج أطهر من دنس الريبة وأنفع دينا ودنيا فقد قالوا : النظر بريد الزنا ورائد الفجور ، ولله در شاعرهم :

كل الحوادث مبداها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فعلت فى قلب فاعلها

فعل السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء مادام ذا عين يقلّبها

فى أعين العين موقوف على الخطر

بسر ناظره ما ضر خاطره

لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) فلا يخفى عليه شىء مما يصدر منهم من الأفعال كإجالة النظر واستعمال سائر الحواس ، وماذا يراد بذلك ، فلتكونوا على حذر منه تعالى فى كل ما تأتون وما تذرون.

٩٨

وبعد أن أمر رسوله بأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك.

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء (ما بين السرة والركبة) وإذا نظرن إلى ما عدا ذلك بشهوة حرم ، وبدونها لا يحرم ، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل ؛ لما روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة «أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه بعد ما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : أوعمياوان أنتما؟ أولستما تبصرانه؟».

(وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) عما لا يحل لهن من الزنا والسّحاق ويسترنها حتى لا يراها أحد.

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي ولا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل والخضاب ، فلا يؤاخذن إلا فى إبداء ما خفى منها كالسوار والخلخال والدّملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، لأن هذه الزينة واقعة فى مواضع من الجسد (وهى الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن) لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى فى الآية بعد.

ولما نهى عن إبداء الزينة أرشد إلى إخفاء بعض مواضعها فقال :

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) أي وليلقين خمرهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتى لا يرى منها شىء ، وكان النساء يغطين رءوسهن بالخمر ويسدلها من وراء الظهر فتبدو نحورهن وبعض صدورهن كعادة الجاهلية فنهين عن ذلك ، قالت عائشة : رحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها.

٩٩

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) أي قل للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفيّة إلا لأزواجهن ، فإنهم المقصودون بها ؛ والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم ، حتى إن لهم ضربهن على تركها ، ولهم النظر إلى جميع بدنهن ، أو لآباء النساء أو لآباء الأزواج أو لأبنائهن أو لأبناء أزواجهن أو لاخواتهن أو لأبناء الإخوة أو لأبناء الأخوات ، لكثرة المخالطة بينهم وبينهن ، وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات ، إلى أنهن محتاجات إلى صحبتهم فى الأسفار للركوب والنزول.

(أو نسائهن) أي المختصات بهن بالصحبة والخدمة.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من الجواري ، أما العبيد فقد اختلفوا فيهم ، فقال قوم عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا ، وله أن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم ، وروى ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وقد روى أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها ، وقال قوم هو كالأجنبى معها وهو رأى ابن مسعود والحسن وابن سيرين ، ومن ثم قالوا لا ينظر العبد إلى شعر مولاته ، وسئل طاوس هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا ، فأما رجل ذو لحية فلا.

(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم إلى النساء ، إما لأنهم طعنوا فى السن ففنيت شهواتهم ، وإما لكونهم ممسوحين قطعت منهم أعضاء التناسل.

(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي أو الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء.

ثم نهى عن إظهار وسوسة الحلي بعد النهى عن إبداء مواضعه فقال :

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي ولا يضربن بأرجلهن.

١٠٠