تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

وبعد أن عدد سبحانه هذه الوجوه ، ونبّه إلى فسادها ، بيّن وجه الحق فى عدم إيمانهم فقال :

(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي إن ما جاءهم به هو الحق الذي لا محيص منه ، فما هو إلا توحيد الله ، وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر ، لكن أكثرهم جبلوا على الزيغ والانحراف عن الحق ، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك والإسراف فى الآثام والمعاصي ، ومن ثم فهم لا يفقهون الحق ولا تستسيغه نفوسهم فهم له كارهون.

وإنما نسب هذا الحكم للأكثر ، لأن فيهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه أن يقولوا : ترك دين آبائه ، لا كراهة للحق ، كما أثر عن أبى طالب من قوله :

فو الله لو لا أن أجىء بسبّة

تجرّ على أشياخنا فى القبائل

إذا لا تبعناه على كل حالة

من الدهر جدّا غير قول التخاذل

ثم بين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدى إلى الفساد العظيم فقال :

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي ولو سلك القرآن طريقهم ، بأن جاء مؤيدا للشرك بالله ، واتخاذ الولد ، (تعالى الله عن ذلك) وزيّن الآثام واجتراح السيئات ، لاختل نظام العالم كما جاء فى قوله : «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا» ولو أباح الظلم وترك العدل لوقع الناس فى هرج ومرج ، ولوقع أمر الجماعات فى اضطراب وفساد ، والمشاهد فى الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يئول أمرها إلى الزوال ، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال وأن يكون الضعيف فريسة للقوى ، لما استتبّ أمن ولا ساد نظام ، وحال العرب قبل الإسلام شاهد صدق على ذلك.

ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب وما عرف والد ولده ، فلا تتكوّن الأسر ، ولا يكون من يعول الأبناء ، ولا يبحث لهم عن رزق ، فيكونون شرّدا فى الطرقات لا مأوى لهم ، ولا عائل يقوم بشئونهم ، وأكبر برهان على هذا ما هو حادث فى أوروبا الآن من

٤١

وجود نسل بازدواج غير شرعى مما تئنّ منه الأمم والجماعات ؛ إلى نحو أولئك مما سبق ذكره من قبل وفصّلناه تفصيلا.

وبعد أن أنبّههم على كراهتهم للحق ، شنّع عليهم لإعراضهم عما فيه الخير لهم ، وهو يخالف ما جبلت عليه النفوس

من الرغبة فى ذلك فقال :

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم فأعرضوا عنه ، ونكصوا على أعقابهم ، وازدروا به وجعلوه هزوا وسخرية ، وما كان لهم من الخير أن يفعلوا ذلك.

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ».

ثم نفى عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما ربما صدّهم عن دعوته ، وهو طلبه المال منهم أجرا لنصحه وإرشاده فقال :

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أم يزعمون انك طلبت منهم أجرا على تبليغ الرسالة ، فلأجل هذا لا يؤمنون.

والمراد ـ إنك لا تسألهم أجرا ، فإن ما رزقك الله فى الدنيا والعقبى خير من ذلك ، لسعته ودوامه وعدم تحمل منّة فيه ، ولأنك تحتسب أجره عند الله لا عندهم.

ونحو الآية قوله : «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ» وقوله : «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» وقوله : «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى».

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) توكيد لما قبله ، إذ من يكون خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.

وبعد أن فنّد آراءهم أتبعها ببيان صحة ما جاء به الرسول وأنه الحق الذي لا معدل عنه فقال :

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتدعو هؤلاء المشركين من

٤٢

قومك إلى ذلك الدين القيم الذي تشهد العقول السليمة باستقامته ، وبعده عن الضلال والهوى والاعوجاج والزيغ.

وخلاصة ما سبق ما قاله صاحب الكشاف : قد ألزمهم الحجة فى هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم ـ بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره ، وحاله مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدّعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم ، مع إبراز المكنون من أدوائهم ، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل ، واستهتارهم بدين الآباء الضّلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق ، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيّرة ، وكراهتهم للحق ، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر اه.

ثم بين أن الذين ينكرون البعث هم فى ضلال مبين فقال :

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي وإن الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت ، وبقيام الساعة ومجازاة الله عباده فى الآخرة ـ عادلون عن محجة الحق ، وعن قصد السبيل ، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده ، ونصب الأدلة عليه.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي إنهم بلغوا فى التمرد والعناد حدا لا يرجى معه صلاح لهم ، فلو أنهم ردوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر ، فما خضعوا لربهم ولا انقادوا لأمره ونهيه ولا تذللوا ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه ، بل استمروا فى غيهم وضلالهم.

ونحو الآية قوله : «فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا».

ثم أبان عاقبة أمرهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال :

٤٣

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله ، وجاءتهم الساعة بغتة ، وأخذهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون ـ أيسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠))

تفسير المفردات

ذرأكم فى الأرض : أي خلقكم وبثكم فيها ، اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما من قولهم : فلان يختلف إلى فلان : أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه إعراض المشركين عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل فى الحقائق ـ أردف ذلك الامتنان على عباده بأنه قد أعطاهم الحواس من السمع والبصر وغيرهما ووفقهم لاستعمالها ، وكان من حقهم أن يستفيدوا بها ، ليستبين لهم الرشد من الغى ، لكنها لم تغن عنهم شيئا ، فكأنهم فقدوها كما قال : «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ» ثم ساق أدلة أخرى على وجوده وقدرته ، فبين أنه أوجدهم من العدم وأن حشرهم إليه ، وأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم ، وأنه هو الذي يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل ، أفلا عقل لكم تتأملون به فيما تشاهدون؟

٤٤

الإيضاح

امتن سبحانه على عباده بأمور هى دلائل قدرته وواسع علمه فقال :

(١) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله هو الذي أحدث لكم السمع ، لتسمعوا به الأصوات التي تخاطبون بها ، والأبصار لتشاهدوا بها الأضواء والألوان والأشكال المختلفة ، والعقول لتفقهوا بها ما ينفعكم ويوصلكم إلى سعادة الحياتين الدنيا والعقبى.

وخص هذه الثلاثة بالذكر ، لأنها طريق الاستدلال الحسى والعقلي لمعرفة الموجودات ، وذكرها على هذا الترتيب ، لما أثبته الطب أن الطفل فى الأيام الثلاثة الأولى يسمع ولا يبصر ، ثم يبدأ الرؤية بعدئذ ، ومن الواضح تأخر العقل عن ذلك.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تقول العرب للكفور الجحود للنعمة : ما أقل شكر فلان على نعمتى ، على معنى أنه لم يشكرها ، فالمراد هنا أنكم لم تشكروه على هذه النعم العظيمة ، وقد كان ينبغى أن تشكروه عليها فى كل حين.

(٢) (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي خلقكم فى الأرض وبثكم فيها على اختلاف أجناسكم ولغاتكم ، ثم يجمعكم لميقات يوم معلوم فى دار لا حاكم فيها سواه.

(٣) (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي وهو الذي جعل الخلق أحياء بنفخ الروح فيهم بعد أن لم يكونوا شيئا ، ثم يميتهم بعد أن أحياهم ، ثم يعيدهم تارة أخرى للثواب والجزاء.

(٤) (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وهو الذي سخر الليل والنهار وجعلهما متعاقبين يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا ، لا يملانّ ولا يفترقان كما قال : «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ».

ثم أنب من ترك النظر فى كل هذا فقال :

٤٥

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتفكرون فى هذه الموجودات ، لتعلموا أن هذه صنع الإله العليم القادر على كل شىء ، وأن كل شىء خاضع له تحت قبضته دالّ على وجوده؟

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣))

تفسير المفردات

الأساطير : الأكاذيب واحدها أسطورة كأحدوثة وأعجوبة ، قاله المبرد وجماعة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أدلة التوحيد المبثوثة فى الأكوان والأنفس والتي يراها الناس فى كل آن ـ أعقبها بذكر البعث والحشر وإنكار المشركين لهما ، وتردادهم مقالة من سبقهم من الكافرين الجاحدين فى استبعادهما والتكذيب بحصولهما.

الإيضاح

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله ، ولا تدبروا حججه الدالة على قدرته على فعل كل ما يريد ، كإعادة الأجسام بالبعث ، وحياتها حياة أخرى للحساب والجزاء ، بل قالوا مثل مقالة أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم ، تقليدا لهم دون برهان ولا دليل.

ثم فصل تلك المقالة. فقال :

قالوا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي قالوا : أئذا متنا وصرنا ترابا قد بليت أجسامنا ، وجرّدت عظامنا : من لحومنا : أإنا لمبعوثون من قبورنا أحياء كهيئتنا قبل الممات؟ إن هذا لن يكون.

٤٦

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :

(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي قالوا : لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا به ، ووعد آباؤنا من قبل مثل هذا على أيدى قوم زعموا أنهم رسل الله ، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد.

ثم زادوا فى تأكيد الإنكار فقالوا :

(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الذي تعدنا به من البعث بعد الممات إلا أكاذيب الأولين ، قد تلقفناها منهم دون أن يكون لها ظل من الحقيقة ، ولا نصيب من الصحة ونحو الآية قوله حكاية عنهم : «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله : «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠))

تفسير المفردات

تتقون : أي تحذرون عقابه ، الملكوت : الملك والتدبير ، يجير : أي يغيث ، من قولهم أجرت فلانا من فلان إذا أنقذته منه ، ولا يجار عليه : أي لا يعين أحد منه أحدا ، تسحرون : أي تخدعون وتصرفون عن الرشد.

٤٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه شبهات المشركين فى أمر البعث والحساب والجزاء وأحوال النشأة الآخرة ـ عقب ذلك بذكر الأدلة التي تثبت تحققه وأنه كائن لا محالة.

الإيضاح

احتج سبحانه عليهم لإثبات البعث ببرهانات ثلاثة :

(١) (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك : لمن ملك السموات والأرض ومن فيها من الخلق ، إن كنتم من أهل العلم بذلك؟

وفى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) استهانة بهم وتوكيد لفرط جهالتهم كما لا يخفى ولما كانت بداهة العقل تضطرهم أن يجيبوا بأن الخالق لها هو الله ـ أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال :

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي إنهم سيقرون بأنها لله ملكا وخلقا وتدبيرا دون غيره.

ثم أمر رسوله أن يرغبهم فى التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه فقال :

(قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي قل لهم حين يعترفون بذلك موبّخا لهم : أفلا تتدبرون فتعلموا أن من قدر على خلق ذلك ابتداء؟ ـ فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم ، وإعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم.

(٢) (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي قل لهم : من خلق السموات وخلق العرش المحيط بهن كما قال : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ومن يدبر أمرهن على هذا الوضع البديع والنظام العجيب ، كما قال : «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها».

ثم أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال :

٤٨

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي له كل شىء وهو رب ذلك ، ليس لهم جواب غيره ولما تأكد الأمر وزاد وضوحا حسن التهديد فقال :

(قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي قل لهم منكرا وموبخا : أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقاب ربكم ، فتنكروا ما أخبر به من البعث؟

وبعد أن قررهم بأن العالمين العلوي والسفلى ملك له تعالى ـ أمره أن يقررهم بأن له تدبير شئونهما وتدبير كل شىء فقال :

(٣) (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قل لهم : من المالك لكل شىء؟ والمدبر لكل شىء؟ وفى قبضته وتحت سلطانه وتصرفه كل شىء؟ وهو يغيث من يشاء فيكون فى حرز لا يقدر أحد على الدنوّ منه ، ولا يغاث أحد ولا يمنع منه ، لأنه ليس فى العوالم كلها ما هو خارج من قبضته.

والخلاصة ـ إنه المدبر لنظام العالم جميعه ، وهو الذي يغيث من شاء ، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه.

ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا فقال :

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي بيده ذلك دون غيره.

(قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟) أي قل لهم على طريق الاستهجان والتوبيخ : كيف تخدعون وتصرفون عن توحيد الله وطاعته؟ فأنتم بعبادة الأصنام أو بعض البشر قد سحرت عقولكم كأنما غابت عن رشدها ، واعتراها الذهول ، فتصورت الأشياء على غير ما هى عليها.

وقد ثبت بالتجربة أن تكرار الكلام يخدع العقول والحواس حتى تتخيل غير الحق حقا ، وتتوهم صدق ما يقال وإن كان باطلا ، ومن ثم كثرت المذاهب الإسلامية وابتدع الرؤساء الدينيون والسياسيون من الأساليب ما خدعوا به عقول الشعوب فى دينهم ودنياهم.

٤٩

والخلاصة ـ إن الكتاب الكريم عبر عن انصراف المشركين عن الحقائق الملموسة إلى ما لا أصل له إلا فى أوهامهم وخيالاتهم بالسحر ، فإن قوما يعترفون بإله خالق للسموات والأرض بل للعالم كله ، ثم هم بعد ذلك يقولون إن له شريكا ـ ليس له من سر إلا أن العقول قد سحرت عن أن تفهم الحقائق ، وعوّلت على الاقتناع بالترهات والأباطيل.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من قولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين ، بل جئناهم فيه بالدين الحق الذي فيه سعادة البشر ، وإنهم لكاذبون فى إنكار ذلك ، لأن عقولهم قد سحرت بخدع الآباء ، وتكرار القول ، وحكم العادة ، وهى طبيعة ثانية.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن المشركين كاذبون فى إنكار البعث والجزاء ، وفى مقالتهم : إن القرآن أساطير الأولين ، قفى على ذلك ببيان أنهم كاذبون فى أمرين آخرين.

اتخاذ الله للولد ، وإثبات الشريك له.

الإيضاح

نفى سبحانه عن نفسه شيئين :

(١) (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) أي ليس له ولد كما زعم قوم من المشركين حين

٥٠

قالوا : الملائكة بنات الله ، وكيف يكون له ذلك ، ولا مثل له ولا ندّ ، والوالد إنما يتخذ للحاجة إلى النصير والمعين ، والله غنى عن كل شىء.

(٢) (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يشركه فى الألوهية ، لا قبل خلق العالم ولا حين خلقه له ولا بعد خلقه.

ثم ذكر دليلين على بطلان تعدّد الآلهة فقال :

(ا) (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي لو قدّر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق ، إذ لكل صانع ضرب من الصنعة يغاير صنعة سواه ، فكان يحصل التباين فى نظم الخلق والإيجاد ، ويوجد الاختلاف بين المخلوقات المتحدة الأنواع فلا ينتظم الكون ، والمشاهد أنه منتظم متسق ، وهو الغاية فى الكمال كما قال : «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ».

(ب) (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولكان لكل منهم أن يطلب قهر الآخر وغلبته ، فيعلو بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا ، وإذا لم تروا أثرا للتحارب والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون.

وبعد أن وضح الحق وصار كفلق الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال :

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتقدّس عما يقوله الكافرون من أن له ولدا أو شريكا.

ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال :

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء فلا يرونه ولا يشاهدونه ، وبما يرونه ويبصرونه ، والمراد أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا ، فإنهم يقولون عن غير علم ، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها وغائبها ولا تخفى عليه خافية من أمرهما ـ قد نفى ذلك ، فخبره هو الحق دون خبرهم.

(فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس عما يقول الجاحدون الظالمون.

٥١

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠))

تفسير المفردات

الهمزات : الوساوس المغرية بمخالفة ما أمرنا به ، واحدها همزة ، وأصل الهمز النخس والدفع بيد أو غيرها ، ومنه مهماز الرائض (حديدة توضع فى مؤخر الرحل ينخس بها الدابة لتسرع) كلا : كلمة تستعمل للردع والزجر عن حصول ما يطلب ، من ورائهم : أي من أمامهم ، برزخ : أي حاجز بينهم وبين الرجعة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه ما لهم من مقالات السوء ، كإنكار البعث والجزاء واتخاذ الولد ، ووصف الله بما لا يليق به ، وكان كل هذا مما يدعو إلى استئصالهم وأخذهم بالعذاب ـ أمر رسوله أن يدعوه بألا يجعله قرينا لهم فيما يحيق بهم من العذاب ، ثم ذكر أنه قدير على أن يعجّل لهم العذاب ، ولكنه أخره ليوم معلوم ، ثم أرشده إلى الترياق النافع فى مخالطة الناس ، وهو إحسان المرء إلى من يسىء إليه حتى تعود عداوته صداقة ، وعنفه لينا.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

٥٢

ثم أمره أن يستعيذ من حيل الشياطين وأن يحضروه فى أي عمل من أعماله ، ولا يكون كالكافرين الذين قبلوا همزها وأطاعوا وسوستها ، حتى إذا ما حان وقت الاحتضار تمنّوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحا ، وإنه لا يسمع لمثل هؤلاء دعاء ، فإنه لارجعة لهم بعد هذا ، وأمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم البعث.

الإيضاح

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قل رب إن عاقبتهم وأنا مشاهد ذلك فلا تجعلنى فيهم ، ولا تهلكنى بما تهلكهم به ، ونجّنى من عذابك وسخطك ، واجعلنى ممن رضيت عنهم من أوليائك.

وفى أمره بذلك إيماء إلى أن العذاب قد يلحق غير من هو أهل له كما قال : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».

روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدعو «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّنى إليك غير مفتون».

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي وإنا أيها الرسول لقادرون على أن نريك ما ننزله بهم من العذاب ، فلا يحزننك تكذيبهم بك ، وإنما تؤخره حتى يبلغ الكتاب أجله ، علما منا أن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمن ، ومن جزاء ذلك لا نستأصلهم ولا نمحو آثارهم.

ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحقه أذاهم فقال :

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي ادفع الأذى عنك بالخصلة التي هى أحسن ، بالإغضاء والصفح عن جهلهم والصبر على أذاهم وتكذيبهم بما أتيتهم به من عند ربك ، ونحن أعلم بما يصفوننا به ، وينحلونه إيانا من الاختلاق والأكاذيب ،

٥٣

وبما يقولون فيك من السوء وهجر القول ومجازوهم على ما يقولون ، فلا يحزنك ذلك ، واصبر صبرا جميلا.

ونحو الآية قوله : «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».

روى عن أنس رضى الله عنه أنه قال فى الآية : «يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه ، فيقول له : إن كنت كاذبا فإنى أسأل الله أن يغفر لك ، وإن كنت صادقا فإنى أسأل الله أن يغفر لى».

ولما أدب سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يدفع بالحسنى أرشده إلى ما به يقوى على ذلك فقال :

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي وقل : رب إنى ألتجئ إليك من أن يصل إلىّ الشياطين بوساوسهم ، أو أن يبعثوا إلىّ أعداءك لإيذائى ، وهكذا يدعو المؤمنون فإن الشيطان لا يصل إليهم إلا بأحد هذين الأمرين.

وإذا انقطع العبد إلى مولاه وتبتل إليه وسأله أن يعيذه من الشياطين استيقظ قلبه ، وتذكرر به فيما يأتى ويذر ، ودعاه ذلك إلى التمسك بالطاعة ، وازدجر عن المعصية.

وقد استعاذ صلّى الله عليه وسلّم أن تحضره الشياطين فى عمل من أعماله ولا سيما حين الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل.

أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا كلمات نقولها عند النوم خوف الفزع : بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ، قال فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها فى عنقه».

٥٤

وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال : «يا رسول الله إنى أجد وحشة ، قال : إذا أخذت مضجعك فقل : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ، فإنه لا يحضرك وبالحرى لا يضرك».

وروى أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول : «اللهم إنى أعوذ بك من الهزم ، وأعوذ بك من الهدم ، ومن الغرق ، وأعوذ بك أن تتخبّطنى الشياطين عند الموت».

ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين معاينة الموت من سؤال الرجعة إلى الدنيا ليصلحوا ما كانوا قد أفسدوا حال حياتهم فقال :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي ولا يزال الكافر يجترح السيئات ولا يبالى بما يأتى وما يذر من الآثام والأوزار ، حتى إذا جاءه الموت وعاين ما هو قادم عليه من عذاب الله ندم على ما فات ، وأسف على ما فرّط فى جنب الله وقال : رب ارجعنى إلى الدنيا لأعمل صالحا فيما قصّرت فيه من عبادتك وحقوق خلقك.

وخلاصة ذلك ـ إنه حين الاحتضار يعاين ما هو مقبل عليه من العذاب فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا ، ليصلح ما أفسد ، ويطيع فيما عصى.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» وقوله : «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» وقوله : «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» وقوله : «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ».

ومن كل هذا تعلم أنهم يطلبون الرجعة حين الاحتضار ، وحين النشور ، وحين

٥٥

العرض على الملك الجبار ، وحين يعرضون على النار وهم فى غمرات جهنم ، فلا يجابون إليها فى كل حال.

(كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي إنا لا نجيبه إلى ما طلب ، لأن طلبه الرد ليعمل صالحا هو قول فحسب ولا عمل معه وهو كاذب فيه ، فلو ردّ لما عمل كما قال : «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».

(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي ومن أمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم القيامة.

وفى هذا تيئيس لهم من الرجوع أبدا ، لأنهم إذا لم يرجعوا قبل يوم القيامة ، فهم بعدها لا يرجعون أبدا ، لما علم أنه لا رجعة بعد البعث إلا إلى الآخرة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

٥٦

تفسير المفردات

الصور واحدها صورة نحو بسر وبسرة : أي نفخت فى الأجساد أرواحها ، ولا يتساءلون : أي لا يسأل بعضهم بعضا ، موازينه : أي موزوناته وهى حسناته ، المفلحون : أي الفائزون ، خسروا أنفسهم : أي غبنوها ، تلفح : أي تحرق ، كالحون : أي عابسون متقلصو الشفاه ، الشقوة والشقاوة : سوء العاقبة ، وهى ضد السعادة ، اخسئوا : أي اسكتوا سكوت ذلة وهوان ، سخريا : أي هزوا ، ذكرى : أي خوف عقابى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن وراء الرجوع إلى الدنيا حاجزا إلى يوم القيامة ـ أعقب ذلك بذكر أحوال هذا اليوم ، فبين أنه عند البعث وإعادة الأرواح فى الأجسام لا تنفع الأحساب ، ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره ، وأن من رجحت حسناته على سيئاته فاز ونجا من النار ودخل الجنة ، ومن ثقلت سيئاته على حسناته خاب وهلك وأدخل النار خالدا فيها أبدا ، وكان عابس الوجه متقلّص الشفتين من شدة الاحتراق ، وأنه يقال لأهل النار توبيخا لهم على ما ارتكبوا من الكفر والآثام ، ألستم قد أرسلت إليكم الرسل ، وأنزلت عليكم الكتب؟ فيقولون بلى ، ولكنا لم ننقد لها ولم نتبعها فصللنا ، ربنا ارددنا إلى دار الدنيا ، فإن نحن عدنا فإنا ظالمون مستحقون العقوبة ، فيجيبهم ربهم : امكثوا فى النار صاغرين أذلاء ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا ، إنكم كنتم تستهزئون بعبادي المؤمنين وكنتم منهم تضحكون ، إنهم اليوم هم الفائزون جزاء صبرهم على أذاكم واستهزائكم بهم.

الإيضاح

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد حين البعث والنشور ، لا تنفعهم الأنساب ، لأن التعاطف يزول ، والود

٥٧

يختفى ، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم ، واشتغال كل امرئ بنفسه كما جاء فى قوله : «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ» (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره ، لاشتغاله بأمر نفسه كما قال : «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» وما جاء فى بعض الآيات من إثبات التساؤل بينهم كقوله : «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» فإنما هو عند القرار فى الجنة أو النار.

ثم شرع يبين أحوال السعداء وأحوال الأشقياء حينئذ فقال :

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موزونات أخلاقه وأعماله فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب ، والحائزون لكل مرغوب.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي ومن ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك الذين خابوا وآبوا بالصفقة الخاسرة ، إذ هم دسّوا أنفسهم باسترسالهم فى الشهوات وفعل الموبقات.

(فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي مآلهم أن يمكثوا فى جهنم لا يخرجون منها أبدا.

ثم وصف حال النار وحالهم فيها فقال :

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرق النار وجوههم وهم فيها منقلصو الشفاه من أثر ذلك اللفح.

وإنما خص الوجوه من بين باقى الأعضاء ، لأنها أشرفها ، فذكر ما ينوبها من ألم ، ويلحقها من أذى ، يكون أزجر عن المعاصي التي تصل بهم إلى النار.

أخرج ابن مردويه عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى قول الله تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.

ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ توبيخا وتقريعا وتذكيرا لما به حقّ عليهم العذاب (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي قد أرسلت إليكم الرسل ،

٥٨

وأنزلت عليكم الكتب ، وأزلت عنكم الشّبه ، ولم يبق لكم حجة كما قال : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقال : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» فكذبتم بها ، وأعرضتم عنها ، وآذيتم من جاء بها.

ونحو الآية قوله : «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ».

ثم ذكر جوابهم عن ذلك فقال :

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي قالوا قد قامت علينا الحجة ولم ننقد لها ، لسوء استعدادنا وتغلّب شهواتنا ، ولما دسّينا به أنفسنا من الآثام والمعاصي ومن ثم ضللنا طريق الهدى ، ولم نتبع الحق.

ونحو الآية قوله «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ».

والخلاصة ـ إنا كنا نعرف الحق ، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا ، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه ، وما مثلنا إلا مثل شاربى الخمر والتّبغ والمولعين بحب الكبرياء والعظمة والمغرمين بالإسراف ، فإنهم يعرفون أضرارها ، ثم لا يجدون سبيلا إلى تركها ولا للبعد عنها.

وبعدئذ حكى دعاءهم ربّهم أن يخرجهم منها : وقولهم فإن عدنا كنا ظالمين فقال :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي قالوا ربنا أخرجنا من النار ، وارددنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والآثام كنا ظالمين لأنفسنا جديرين بالعقوبة.

ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا فقال :

(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي قال امكثوا فيها أذلاء صاغرين واسكتوا ، ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم هذا ، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا ، وإنما يكلمنى من سمت نفسه إلى عالم الأرواح ، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه ، واحتقر الدنيا وشهواتها ، وعزف عنها ، لما يرجوه من ربه من ثواب عميم ، ونعيم مقيم.

٥٩

ثم بين السبب فيما نالهم من العذاب فقال :

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ : رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي إن فريقا من عبادى ممن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فى الدنيا يقولون : ربنا آمنا بك وبرسلك وبما جاءوا به من لدنك ، فاستر زلّاتنا ، وآمن روعاتنا ، ولا تخزنا يوم العرض ، ولا تعذبنا بعذابك ، فإنك أرحم من رحم أهل البلاء.

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي فتشاغلتم بهم ، ساخرين منهم ، ودأبتم على هذا ، حتى نسيتم ذكرى ، ولم تخافوا عقابى ، وكنتم تضحكون منهم استهزاء بهم.

والخلاصة ـ إنكم أضفتم إلى سيئاتكم ، الاستهزاء بمن يفعلون الحسنات ، ويتقربون إلى رب الأرض والسموات ، روى أنها نزلت فى كفار قريش وقد كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبلال وعمار وصهيب.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ».

ثم ذكر ما جازى به أولئك المستضعفين فقال :

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي إنى جزينهم بصبرهم على الأذى والسخرية بهم ـ بالفوز بالنعيم المقيم.

والخلاصة ـ إنهم صبروا فجوزوا أحسن الجزاء.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

٦٠