تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

وفى هذا إيماء إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر قوى ـ فيه بعض الملامة لما فيه من تقديم شئون الدنيا على أمور الآخرة ، كما أن فيه احتفالا برسوله صلّى الله عليه وسلّم إذ جعل الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا إلى الاستغفار ، فضلا عن الذهاب بلا إذن ، ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان لأى أمر مهما كان ، مهمّا كان أو غير مهمّ ، على أنه علق الإذن بالمشيئة.

وبعد أن ظهر فى هذه السورة شرف الرسول ، ولا سيما فى هذه الآية التي بهرت العقول ـ أردف هذا ما يؤكده فقال :

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي لا تقيسوا أيها المؤمنون دعاءه عليه السلام إياكم بدعاء بعضكم بعضا فى المساهلة والرجوع من مجلسه بغير ستئذان ، فإن هذا محرم عليكم.

ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان فقال :

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد فى الخطبة واحدا بعد واحد من غير استئذان خفية مستترين بشىء ، وإن عملهم هذا إن خفى على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة ، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك ، ولديه الجزاء على ما يفعلون.

روى أبو داود أنه كان من المنافقين من يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس فى المسجد فإذا استأذن أحد من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به فأنزل الله الآية.

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فليتق الله من يفعلون ذلك منكم ، فينصرفون عن رسول الله بغير إذنه ، أن تصيبهم محنة وبلاء فى الدنيا أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع فى الآخرة ، بأن يطبع الله على قلوبهم ، فيتمادوا فى العصيان ومخالفة أمر الرسول ، فيدخلهم النار وبئس القرار.

١٤١

والآية تعم كل من خالف أمر الله وأمر رسوله وجمد على التقليد من بعد ما تبين له الهدى ، وظهر له الصواب من الخطأ.

وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السموات والأرض ، ثم حذر كل مخالف لرسوله صلى الله عليه وسلّم ـ ختم السورة ببيان أنه المالك للموجودات بأسرها ، خلقا وملكا ، وتصرفا وإيجادا ، وإعداما بدءا وإعادة ، فقال :

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وإنه عالم بما يعمل العباد كما قال : «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقال تعالى : «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ؟».

ثم هدّد وتوعد فقال :

(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم حين العرض والحساب يخبرهم بما فعلوا فى الدنيا من جليل وحقير ، وكبير وصغير كما قال : «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» وقال : «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» وبعدئذ ذكر ما هو كالدليل على ما سلف بقوله :

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه سينبئهم بما عملوا فى حياتهم الأولى ، لأنه ذو علم بكل شىء وإحاطة به وهو موف كل عامل أجر عمله ، يوم يرجعون إلى حكمه ، إذ لا حكم يومئذ إلا هو.

١٤٢

عن عقبة بن عامر قال : «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية فى خاتمة النور ، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول بكل شىء بصير» أخرجه الطبراني وغيره ، قال السيوطي بسند حسن.

وصلّ ربنا على محمد النبي الأمى وعلى آله.

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد

(١) عقوبة الزاني والزانية.

(٢) عقوبة قاذفى المحصنات الغافلات المؤمنات.

(٣) حكم قذف الزوجات.

(٤) قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة.

(٥) آداب الزيارة.

(٦) أمر المؤمنين بغضّ الأبصار وحفظ الفروج.

(٧) نهى النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ.

(٨) أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء ، فالمجتمع الإسلامى كأنه أسرة واحدة.

(٩) أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح لعدم وجود المال أو سواه بالعفة حتى يغنيه الله.

(١٠) بيان أن الأعمال الصالحة التي يعملها الكافرون فى الدنيا لا تجدى عنهم نفعا يوم القيامة ، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (١١) الأدلة التي نصبها الله فى الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته.

(١٢) المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.

(١٣) وصف المؤمنين الصادقين.

١٤٣

(١٤) وعد الله عباده المؤمنين بأنه سيستخلفهم فى الأرض وينشر دينهم الذي ارتضى لهم.

(١٥) استئذان الموالي والأطفال فى أوقات ثلاث إذا أرادوا الدخول على أهليهم (١٦) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فى الجهاد.

(١٧) لا حرج فى الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ بلا إذن.

(١٨) نهى المؤمنين عن الانصراف من مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كانوا معه فى أمر جامع.

(١٩) إباحة إذنه لهم إن شاء حين الطلب.

(٢٠) بيان أن مجلس الرسول مبجّل موقر وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض.

١٤٤

سورة الفرقان

هى مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة ، وهى ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ، وآيها سبع وسبعون نزلت بعد سورة يس.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إنه سبحانه اختتم السورة السابقة بكونه مالكا لما فى السموات والأرض مصرّفا له على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة مع النظام البديع والوضع الأنيق ، وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرا كان أو شرا ، وافتتح هذه بما يدل على تعاليه فى ذاته وصفاته وأفعاله وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديا وسراجا منيرا.

(٢) اختتم السورة السالفة بوجوب متابعة المؤمنين للرسول صلّى الله عليه وسلم مع مدحهم على ذلك وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة والعذاب الأليم ، وافتتح هذه بمدح الرسول وإنزال الكتاب عليه لإرشادهم إلى سبيل الرشاد ، وذمّ الجاحدين لنبوته بقولهم : إنه رجل مسحور ، وإنه يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق إلى آخر ما قالوا.

(٣) فى كل من السورتين وصف السحاب وإنزال الأمطار وإحياء الأرض الجرز فقال فى السالفة : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً» إلخ وقال فى هذه : «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً» إلخ.

(٤) ذكر فى كل منهما وصف أعمال الكافرين يوم القيامة وأنها لا تجزيهم فتيلا ولا قطميرا فقال فى الأولى : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ» إلخ وقال فى هذه : «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً».

(٥) وصف النشأة الأولى للإنسان فى أثنائهما فقال فى الأولى : «وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وفى الثانية : «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً»

١٤٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢))

تفسير المفردات

تبارك : من البركة ، وهى كثرة الخير لعباده ، بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم كما قال «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها» والفرقان : هو القرآن ، سمى بذلك لأنه فرّق فى الإنزال كما قال : «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» على عبده : أي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، ووصفه بذلك تشريفا له بكونه فى أقصى مراتب العبودية ، وتنبيها إلى أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ، وفيه ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام ، للعالمين : أي الثقلين من الإنس والجن ، فقدره : أي هيّأه لما أعدّه له من الخصائص والأفعال.

المعنى الجملي

حوت هذه السورة توحيد الله وإثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ، وبيان صفات النبي ، والرد على من أنكروا نبوته صلّى الله عليه وسلم ، ثم بيان أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من الأهوال ، ثم ختمت بأوصاف عباده المخلصين الذين يمشون على الأرض هوبا ، ثم ذكر جلال الله ، وتصرفه فى خلقه ، وتفرده بالخلق والتقدير.

الإيضاح

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) حمد سبحانه نفسه على ما نزّله على رسوله من القرآن الكريم ، لينذر به الثقلين الجن والإنس ويخوفهم

١٤٦

بأسه ، وإنما ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير مع أن الرسول مرسل بهما ، من قبل أن السورة بصدد بيان حال المعاندين المتخذين لله ولدا والطاعنين فى كتبه ورسله واليوم الآخر.

وخلاصة ذلك ـ تعالى الله عما سواه فى ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن المعجز الناطق بعلوّ شأنه ، وسمو صفاته ، وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح ، على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم ، لينذر به الناس ويخوفهم بأسه ، ووقائعه بمن خلا قبلهم من الأمم.

ونحو الآية قوله : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ».

ثم وصف سبحانه نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء :

(١) (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان القاهر عليهما ، فله القدرة التامة فيهما وفيما حوياه إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.

(٢) (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي ولم يكن له ولد كما زعم الذين قالوا ذلك للمسيح وعزير والملائكة ، كما حكى الله عنهم فى قوله : «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ» وقوله : «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟» (٣) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي وما كان لله شريك فى ملكه وسلطانه يصلح أن يعبد من دونه ، فأفر دواله العبادة وأخلصوها له دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والملائكة والجن والإنس.

وفى هذا ردّ على مشركى العرب الذين كانوا يقولون فى تلبيتهم للحج : «لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك».

١٤٧

(٤) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي وأوجد كل شىء بحسب ما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة ، وهيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال التي تليق به ، فأعدّ الإنسان للإدراك والفهم ، والتدبر فى أمور المعاش والمعاد ، واستنباط الصناعات المختلفة ، والانتفاع بما فى ظاهر الأرض وباطنها ، وأعدّ صنوف الحيوان للقيام بأعمال مختلفة تليق بها وبإدراكها.

والخلاصة ـ إن كل شىء مما سواه مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شىء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شىء تحت قهره ، وتسخيره وتقديره ، ومن كان كذلك فكيف يخطر بالبال أو يدور فى الخلد كونه سبحانه والدا له أو شريكا له فى ملكه كما قال : «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟» الآية.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

الإيضاح

بعد أن وصف سبحانه نفسه بصفات العزة والجلال ، وبيّن وجه الحق فى ذلك أردفه حكاية أباطيل عبدة الأوثان الذين اتخذوا من دونه آلهة ، تعجيبا لأولى النّهى من حالهم ، وتنبيها إلى خطأ أفعالهم ، وتسفيها لأحلامهم ، فقد انحرفوا عن منهج الحق وركبوا المركب الذي لا يركبه إلا كل آفن الرأى ، مسلوب العقل.

وقد أبان سبحانه ما بها من النقص من وجوه متعددة :

(١) إنها لا تخلق شيئا ، والإله يكون قادرا على الخلق والإيجاد.

(٢) إنها مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه.

١٤٨

(٣) إنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا ، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها ، ومن كان كذلك فلا فائدة فى عبادته وإجلاله وتعظيمه.

(٤) إنها لا تقدر على التصرف فى شىء ما ، فلا تستطيع إماتة الأحياء ، ولا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم ، ومن كان كذلك فكيف يسمى إلها ، وتعطى له خصائص الآلهة من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله؟.

وعلى الجملة فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق المالك لكل شىء ، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه ، وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وليس بعد هذا من حماقة ، ولا يرضى بمثله من له مسكة من عقل ، ولا أثارة من علم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

تفسير المفردات

الافتراء : الاختلاق والكذب ، من قولهم : افتريت الأديم ـ الجلد ـ إذا قطّعته للإفساد ، جاءوا : أي أتوا ، والظلم : وضع الشيء فى غير موضعه ، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى من كان مبرأ منه ، والزور : الكذب ، والأساطير : واحدها أسطار أو أسطورة كأحدوثة ، وهو ما سطّره المتقدمون ، اكتتبها : أي أمر بكتابتها ، تملى عليه : أي تلقى عليه بعد اكتتابها ليحفظها ، بكرة وأصيلا : أي صباحا ومساء ، والمراد دائما.

١٤٩

المعنى الجملي

بعد أن تكلم أوّلا فى التوحيد ، ثم فى الرد على عبدة الأوثان ـ أردف ذلك الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وقد قسموا مطاعنهم قسمين : مطاعن فى القرآن ، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن.

روى أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحرث إذ هو الذي قال هذه المقالة ، وعنى بالقوم الآخرين عدّاسا مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسارا مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبا فكيهة الرومي ، وكانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة ويحدّثون أحاديث منها ، فأسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ويختلف إليهم ، فمن ثم قال النضر ما قال.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي وقال الكافرون : إن هذا القرآن ليس من عند الله ، بل اختلقه محمد ، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب ممن أسلموا ، وكان يتعهدهم ويختلف إليهم : «تقدم ذكر أسمائهم» فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة ، وهو يصوغها بلغته وأسلوبه الخاص.

فرد الله عليهم مقالهم فقال :

(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد وضعوا الأشياء فى غير مواضعها ، وكذبوا على ربهم ، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ إفكا مفترى من قبل البشر ، وكيف يتقوّلون ذلك على الرسول وقد تحداهم أن يأتوا بمثله ، وهم ذوو اللسن والفصاحة والغاية فى البلاغة ، فعجزوا أن يأتوا بمثله ، ولو كان ذلك فى مكنتهم ما ادّخروا وسعا فى معارضته ، وقد ركبوا الصعب والذلول ليدحضوا حجته ، ويبطلوا دعوته ، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد استعان فى ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا هم بغيرهم ، فما مثله فى اللغة إلا مثلهم فلما

١٥٠

لم يفعلوا علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى وانتهى إلى حد الإعجاز ـ إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم ، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم.

وبعد أن حكى عنهم قولهم فى الافتراء بإعانة قوم آخرين عليه ـ حكى عنهم طريق تلك الإعانة.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي وقال المشركون الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى : أي ما هذا إلا أحاديث الأولين الذين كانوا يسطرونها فى كتبهم من نحو أحاديث رستم وإسفنديار ـ اكتتبها من اليهود فهى تستنسخ منهم وتقرأ عليه ، ليحفظها غدوة وعشيا : أي قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم ، وقد عنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال ، وهذه جرأة عظيمة منهم ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائما.

ثم أمره الله تعالى بإجابتهم عما قالوا بقوله :

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم ردّا وتحقيقا للحق : ليس ذلك كما تزعمون ، بل هو أمر سماوى أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفكار ، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته ، كما أخبركم فيه بمغيّبات مستقبلة ، وأمور مكنونة ، لا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير.

وقد وصف سبحانه نفسه بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية ، فالجلية المعلومة من باب أولى ، إيذانا بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر.

(إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنكم استوجبتم العذاب بمكايدتكم لرسوله ، لكنه لم يعجله لكم رحمة بكم ، رجاء توبتكم وغفران ذنوبكم ، ولو لا ذلك لصبّ عليكم العذاب صبّا.

١٥١

وفى هذا إيماء إلى أن هذه الذنوب مع بلوغها الغاية فى العظم ـ مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها ، فلا ييأسوا منها بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من معاداة الرسول ومخاصمته.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

تفسير المفردات

مسحورا : أي سحر فاختلّ عقله ، الأمثال : أي الأقاويل العجيبة الجارية لغرابتها مجرى الأمثال ، فضلوا : أي فبقوا متحيرين فى ضلالهم ، أعتدنا : أي هيأنا والسعير : النار الشديدة الاشتعال ، رأتهم : أي إذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد ، من قولهم : دور تتراءى أي تتناظر ، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم : «إن المؤمن والكافر

١٥٢

لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى ، إذ يجب على المؤمن مجانبة الكافر والمشرك فى أمور الدين ، والتغيظ : إظهار الغيظ ، والمراد صوت التغيظ ، والزفير : إخراج النفس بعد مده ، مقرنين : أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى السلاسل ، والثبور : الهلاك ، وجنة الخلد : هى التي لا ينقطع نعيمها ، مسئولا : أي جديرا أن يسأل ويطلب ، لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه شبهتهم فيما يتعلق بالمنزّل وهو القرآن ـ ساق شبهتهم فى المنزّل عليه ، وهو الرسول على الوجه الذي ذكره ثم فنّد تلك الشبه وبين سخفها وأنها لا تصلح مطعنا فى النبي ، ثم حكى عنهم نوعا ثالثا من أباطيلهم وهو تكذيبهم بيوم القيامة ، ثم وصف ما أعد للكافرين فيه مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى يسمعون لها تغيظا وزفيرا ، ووضعهم فيها مقرنين فى الأصفاد ، وندائهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه ، ثم أتبع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم بوصف ما يلقاه المتقون فى جنات النعيم : مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وأن هذا ما وعدهم به ربهم الذي لا خلف لوعده.

الإيضاح

حكى الله هنا أن المشركين ذكروا خمس صفات للنبى تمنع النبوة فى زعمهم :

(١) (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ؟) أي أىّ شىء ميّزه عنا وجعله يدعي النبوة مع أنه يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب؟

(٢) (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لابتغاء الرزق كما نفعل فهو مثلنا ، فمن أين له الفضل علينا؟ وهم يقصدون بذلك استبعاد الرسالة عنه ، لمنافاتها للأكل والشرب وطلب المعاش ، وكأنهم قالوا : إن صح ما يدعيه ، فما باله لم يخالف حاله حالنا ولم يؤت ميزة دوننا؟

١٥٣

وما هذا منهم إلا لضعف عقولهم وقصور إدراكهم ، فإن الرسل لم يمتازوا بأمور حسية ، بل بصفات روحية ، وفضائل نفسية ، فطرهم الله عليها توجب صفاء عقولهم وطهارة نفوسهم ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ».

(٣) (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي فهلا أنزل إليه ملك من عند الله يكون شاهدا على صدق ما يدعيه ، ويردّ على من يخالفه ، وشبيه بهذا ما قال فرعون عن موسى : «فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ».

(٤) (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي وهلا أنزل عليه كنز من السماء ينفق منه حتى لا يحتاج إلى المشي فى الأسواق لطلب المعاش.

(٥) (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي وهلا كان له بستان يعيش من غلته كما يعيش المياسير من الناس.

قال صاحب الكشاف : إنهم طلبوا أن يكون الرسول ملكا ، ثم زلوا عن ملكيّته إلى صحبة ملك يعينه ، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل ويرزق منه اه.

وعن ابن عباس قال : إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبى أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه ، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك ، قال فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن

١٥٤

نسودّك ، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بي مما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن بعثني إليكم رسولا ، وأنزل على كتابا ، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علىّ أصبر حتى يحكم الله بينى وبينكم ، قالوا يا محمد : فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فسل لربك ، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغى ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فأنزل الله فى ذلك هذه الآية.

أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر.

وبعد أن حكى عنهم أوّلا أنهم يثبتون له كمال العقل ولكنهم ينتقصونه بصفات فى شئون الدنيا ـ حكى عنهم ثانيا أنهم نفوا عنه العقل بتاتا وادّعوا أنه مختلّ الشعور والإدراك ، وإلى هذا أشار بقوله :

(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي وقال الكافرون الظالمون لأنفسهم بنسبتهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما هو منه براء ، وما يدل العقل والمشاهد على نفيه عنه : ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختلّ عقله فهو لا يعى ما يقول ، ومثله لا يطاع له رأى ، وهذا منهم ترقّ فى انتقاصه ، وأنه لا يصلح للنبوة بحال.

ولما ذكر ضلالاتهم التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم مسليا له بقوله :

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي انظر واعجب لهم : كيف جرءوا على التفوّه بتلك الأقاويل العجيبة ، فاخترعوا لك صفات وأحوالا بعيدة كل البعد عن صفاتك التي أنت عليها ، فضلوا بذلك عن طريق الهدى

١٥٥

وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون ولا ما يقدحون به فى نبوتك إلا مثل ذلك السّخف والهذر.

والخلاصة ـ إن ما أتوا به لا يصلح أن يكون قادحا فى نبوتك ولا مطعنا فيك ، فإن كان لهم مطعن فى المعجزات التي أتيت بها فليفعلوا ، ولكن أنّى لهم ذلك؟

ثم رد على ما اقترحوه من الجنة والكنز بقوله :

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي كثر خير ربك ، فإن شاء وهب لك فى الدنيا خيرا مما اقترحوا فإن أراد جعل لك فى الدنيا مثل ما وعدك به فى الآخرة ، فأعطاك جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وآتاك القصور الشامخة والصياصي التي لا يصل إلى مثلها أكثرهم مالا وأعزهم نفرا ، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنه أراد أن يكون عطاؤه لك فى الدار الباقية الدائمة ، لا فى الدار الزائلة للفانية ، وإنما كانت مما ذكروا : لكثرتها وجريلن الأنهار من تحت أشجارها وبناء المساكن الرفيعة فيها ، والعرب تسمى كل بيت مشيد قصرا.

ثم انتقل من ذلك إلى كلامهم فى البعث وأمر الساعة مبينا بذلك السبب فى عدم تصديقهم برسوله فقال :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي ما أنكر هؤلاء المشركون ما جئتهم به من الحق ، وتقوّلوا عليك ما تقوّلوا ، إلا من قبل أنهم لا يوقنون بالبعث ، ولا يصدقون بالثواب والعقاب.

والخلاصة ـ إنهم أتوا بأعجب من هذا كله ، وهو تكذيبهم بالساعة ، ومن ثمّ فهم لا ينتفعون بالدلائل ، ولا يتأملون فيها.

ثم توعدهم وبين عاقبة أمرهم وما كتب لمثلهم من الخيبة والخذلان فقال :

(وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً

١٥٦

وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي إنا أعددنا لمن كذب بالبعث والحشر ، والنشر والحساب والجزاء نارا تسعر وتتقد عليهم ، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ ؛ لشدة توقدها ، وصوت الزفير الذي يخرج من فم الحزين المتهالك حسرة وألما.

أخرج ابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال «إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ، ولا نبىّ مرسل إلا ترعد فرائصه ، حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه فيقول : رب لا أسألك اليوم إلا نفسى».

وإذا ألقوا منها فى مكان ضيق قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى الأغلال والسلاسل ، استغاثوا وقالوا يا ثبوراه : أي باهلاكنا احضر فهذا وقتك ، فيقال لهم : لا تنادوا هلاكا واحدا وادعوا هلاكا كثيرا : أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحدا ، إنما ثبوركم منه كثير ، لأن العذاب ألوان وأنواع ، ولكل منها ثبور لشدته وفظاعته.

وخلاصة ذلك ـ إن الله قد أعدّ لمن كذب بالقيامة نارا مستعرة ، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد سمعوا صوت غليانها ، وإذا طرحوا منها فى مكان ضيق وهم مقرنون فى السلاسل والأغلال تمنوا الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل : (أشد من الموت ما يتمنى معه الموت) فيقال لهم حينئذ : لا تدعوا هلاكا واحدا فإنه لا يخلّصكم ، بل اطلبوا هلاكا كثيرا لتخلصوا به ـ والمقصد من ذلك تيئيسهم مما علّقوا به أطماعهم من الهلاك ، وتنبيه إلى أن عذابهم أبدى لاخلاص لهم منه.

وبعد أن وصف عقاب المكذبين بالساعة ، أردفه ما يؤكد حسرتهم وندامتهم فقال :

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ؟) أي قل لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم على مافاتهم : أهذه النار التي وصفت لكم خير أم جنة الخلد التي يدوم نعيمها ولا يبيد ، وقد وعدها من اتقاه فى الدنيا بطاعته فيما به أمره ونهاه؟

١٥٧

ثم حقق أمرها تأكيدا للبشارة بقوله :

(كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أي كانت هذه الجنة لهم جزاء أعمالهم فى الدنيا بطاعته ، وثوابا لهم على تقواه ، ومرجعا لهم ينتقلون إليه فى الآخرة.

ثم وصف مقدار تنعمهم فيها بقوله :

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) أي لهم فى جنة الخلد ما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ونحو ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وهم فيها خالدون أبدا بلا انقطاع ولا زوال.

(كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم حين سألوه بقولهم : «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ».

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))

تفسير المفردات

ضل السبيل : فقده وخرج عنه ، والذكر : ما ذكّر به الناس على ألسنة أنبيائهم ، بورا : أي هالكين وهو لفظ يستوى فيه الواحد والجمع ، صرفا : أي دفعا للعذاب ، يظلم : أي يكفر.

١٥٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أعدّ لأولئك المكذبين بيوم القيامة من الشدائد والأهوال فى النار ودعائهم على أنفسهم بالويل والثبور ـ أردفه ذكر أحوالهم مع معبوداتهم من دون الله وتوبيخهم على عبادة من عبدوا من الملائكة وغيرهم ، ثم ذكر أن معبوداتهم تكذبهم فيما نسبوه إليهم ، ثم بين أن العابدين لا يستطيعون دفع العذاب عن أنفسهم ولا يجدون من يستنصرون به.

الإيضاح

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟) أي واذكر لقومك تخويفا وتحذيرا يوم يحشر عابدو الأصنام والملائكة عيسى وعزير وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون الله ، ثم يقال لأولئك المعبودين : ء أنتم دعوتم عبادى إلى الغى والضلال حتى دسّوا أنفسهم وهلكوا ، أم هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحق ، وسلكوا سبيل الهلاك بإعراضهم عن اتباع الرسول؟ فأجاب المعبودون :

(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي قال المعبودون على طريق التعجب مما قيل لهم ، لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون ، فما أبعدهم عن الإضلال : تنزهت ربنا مما نسب إليك هؤلاء المشركون ، ما كان يليق بنا ونحن لا نتخذ من دونك أولياء أن ندعو غيرنا إلى ذلك ، ولكنك ربنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم نعمك ليعرفوا حقها ويشكروك ، فاستغرقوا فى الشهوات ، وانهمكوا فى اللذات وغفلوا عن ذكرك والإيمان بك ، فكانوا من الهالكين ، فحينئذ يقال لأولئك العابدين.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) أي فقد كذبكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم ودعوكم إلى عبادتهم ـ فيما تقولون ،

١٥٩

فما تستطيعون صرف العذاب عن أنفسكم ولا تجدون من ينصركم ويدفع عقاب الله عنكم والخلاصة ـ إنكم لا تستطيعون النجاة ، لا بالهرب ولا بالانتصار لأنفسكم ، فأنتم معذبون لا محالة.

ثم عمم سبحانه الحكم وخاطب جميع المكلفين فقال :

(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) أي ومن يكفر منكم أيها المكلفون فيعبد الله إلها غيره كهؤلاء الذين كذبوا بيوم القيامة ـ نذقه فى الآخرة عذابا كبيرا بقدر قدره ، ولا تصل العقول إلى معرفة كنهه.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقالتهم التي طعنوا فيها على رسوله بقولهم : «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» زاعمين أن هذا مما لا ينبغى للرسول أن يفعل مثله ـ أردن ذلك الاحتجاج عليهم بأن محمدا ليس بدعا فى الرسل ، فكلهم كانوا يفعلون فعله.

وفى هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتصبير له على أذاهم.

ثم بين أن سنته أن يبتلى بعض الناس بعض ، فيبتلى الفقراء بالأغنياء ، والمرسلين بالمرسل إليهم ، فيناصبوهم العداء وعودهم ، ليعلم أيّهم يصبر وأيهم يجزع؟ وهو البصير بحال الصابرين وحال الجازعين.

١٦٠