تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

تفسير المفردات

اللبث : الإقامة ، العادّين : الحفظة العادين لأعمال العباد وأعمارهم ، والعبث : ما خلا من الفائدة ؛ الحق : أي الثابت الذي لا يبيد ولا يزول ملكه ، والعرش : هو مركز تدبير العالم ، ووصفه بالكريم لشرفه ، وكل ما شرف فى جنسه يوصف بالكرم كما فى قوله : «وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» وقوله : «وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً» يدعو : يعبد ، حسابه : أي جزاؤه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر إنكارهم للبعث وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان فى هذه الدنيا ، وأنه بعد الفناء لا حياة ولا إعادة ـ ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا فى النار ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدا ، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم فى الأرض ، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدا طويلا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه ، وحينئذ يزدادون حسرة وألما على ما كانوا يعتقدون فى الدنيا حين رأوا خلاف ما ظنوا ، ثم بين بعدئذ ما هو كالدليل على وجود البعث ، وهو تمييز المطيع من العاصي ، ولولاه لكان خلق العالم عبثا ، تنزه ربنا عن ذلك. ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره ، وأنذره بالعذاب الأليم ، ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب ، وأن يثنى عليه بما هو أهله.

٦١

الإيضاح

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟) أي قال الملك المأمور بسؤالهم : كم لبثتم فى الأرض أحياء؟.

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فقد نسى هؤلاء الأشقياء مدة لبثهم فى الدنيا ، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب ، وقصّر عندهم الأمد الذي مكثوه فيها ، ما حل بهم من نقمة الله ، حتى حسبوا أنهم لم يمكثوا إلا يوما أو بعض يوم ، ولعل بعضهم يكون قد أقام بها الزمان الطويل والسنين الكثيرة.

(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي فاسأل الحفظة العارفين لأعمال العباد وأعمارهم كما روى ذلك جماعة عن مجاهد.

(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قال لهم الملك : ما لبثتم إلا زمنا يسيرا ، ولو كنتم تعلمون شيئا من العلم لعملتم على مقتضى ذلك ، ولما صدر منكم ما أوجب خلودكم فى النار ، ولما قلنا لكم «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ».

روى مرفوعا «إن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال : يا أهل الجنة كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، قال : لنعم ما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم رحمتى ورضوانى وجنتى ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول يا أهل النار. كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، فيقول بئسما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم نارى وسخطى ، امكثوا فيها خالدين مخلدين» : ثم زاد فى توبيخهم على تماديهم فى الغفلة وتركهم النظر الصحيح فيما يرشد إلى حقية البعث والقيامة فقال :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي أظننتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبا وباطلا؟ كلا ، بل خلقناكم لنهذبكم ونعلمكم ، لترتقوا إلى عالم أرقى مما أنتم فيه ، لا كما ظننتم أنكم لا ترجعون إلينا للحساب والجزاء.

٦٢

وفى هذا إشارة إلى أن الحكمة تقتضى تكليفهم وبعثهم لمجازاتهم على ما قدموا من عمل ، وأسلفوا من سعى فى الحياة الدنيا.

ثم نزه الله نفسه عما يصفه به المشركون فقال :

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي تنزه ربنا ذو الملك والملكوت ؛ الذي لا يزول ، وليس هناك معبود سواه ، وهو ذو العرش الكريم الذي يدبر فيه نظام الكون علويّه وسفليّه وجميع ما خلق عن أن يخلق الخلق عبثا ، وأن تخلوا أفعاله عن الحكم والمقاصد الحميدة ، وأن يكون له ولد أو شريك.

وبعد أن ذكر أنه الملك الحق الذي لا إله إلا هو ـ أتبعه ببيان أن من ادعى أن فى الكون إلها سواه فقد ادعى باطلا ، وركب شططا فقال :

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعبد مع ذلك المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، معبودا آخر لا بيّنة له به ، فحزاؤه عند ربه ، وهو موفيه ما يستحقه من جزاء وعقاب.

وفى ذلك من شديد التوبيخ والتقريع ما لا يخفى.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي إنه لا يسعد أهل الشرك ، ولا ينجيهم من العذاب.

وما ألطف افتتاح السورة بفلاح المؤمنين ، وختمها بخيبة الكافرين ، وعدم فوزهم بما يؤملون!.

وبعد أن شرح أحوال الكافرين وجهلهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة ، أمر رسوله بالانقطاع إليه ، والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله :

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي وقل أيها الرسول : رب استر على ذنوبى بعفوك عنها ، وارحمني بقبول توبتى وترك عقابى على ما اجترحت من آثام وأوزار ، وأنت ربّنا خير من رحم ذا ذنب ، فقبل توبته وتجاوز عن عقابه إنك ربنا خير غافر ، وإنك المتولى للسرائر ، والمرجوّ لإصلاح الضمائر ، وصلّ ربّنا على محمد وآله.

٦٣

أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان فى جماعة عن أبى بكر أنه قال «يا رسول الله علّمنى دعاء أدعو به فى صلاتى قال : قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لى مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم».

خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام والآداب

(١) فوز المؤمنين ذوى الصفات الفاضلة بدخول الجنات خالدين فيها أبدا.

(٢) ذكر حال النشأة الأولى.

(٣) خلق السموات السبع وإنزال المطر من السماء وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب وذكر منافع الحيوان للإنسان.

(٤) قصص بعض الأنبياء كنوح وشعيب وموسى وهرون وعيسى عليهم السلام ثم أمرهم جميعا بأكل الطيبات وعمل الصالحات.

(٥) لا يكلف الله عباده إلا بما فيه يسر وسجاحة.

(٦) وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول ، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها.

(٧) ذكر ما أنعم به على عباده من الحواس والمشاعر.

(٨) إنكار المشركين للبعث والجزاء والحجاج على إثبات ذلك.

(٩) النعي على من أثبت الولد والشريك لله.

(١٠) دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه ألا يجعله فى القوم الظالمين حين عذابهم.

٦٤

(١١) تعليم نبيه صلّى الله عليه وسلّم الأدب فى معاملة الناس ، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه.

(١٢) طلب الكفار العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب ، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحا.

(١٣) وصف أهوال يوم القيامة وبيان ما فيها من الشدائد.

(١٤) أوصاف السعداء والأشقياء.

(١٥) تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا وزجرهم على هذا الطلب.

(١٦) سؤال المشركين عن مدة لبثهم فى الدنيا ، وبيان أنهم ينسون ذلك.

(١٧) النعي على من عبد مع الله إلها آخر.

وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.

٦٥

سورة النور

هى مدنية وآيها أربع وستون.

ووجه اتصالها بما قبلها :

(١) إنه قال فى السورة السالفة : «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغضّ البصر الذي هو داعية الزنا ، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ، والنهى عن إكراه الفتيات على الزنا.

(٢) إنه تعالى لما قال فيما سلف إنه لم يخلق الخلق عبثا بل للأمر والنهى ـ ذكر هنا جملة من الأوامر والنواهي.

روى عن مجاهد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «علّموا رجالكم سورة المائدة ، وعلموا نساءكم سورة النور» وعن حارث بن مضرّب رضى الله عنه قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

تفسير المفردات

أنزلناها : أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده : رفعت إليه حاجتى ، والفرض : التقدير كما قال : «فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» وقال : «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» والمراد هنا تقدير ما فيها من الحدود والأحكام على أتمّ وجه ، بينات : أي واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام ، ولعلّ هنا يراد بها الإعداد والتهيئة ، تذكرون : أي تتذكرون وتتعظون.

٦٦

الإيضاح

امتنّ سبحانه على عباده بما أنزل عليهم فى هذه السورة من الفرائض والأحكام وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة التي لا تقبل جدلا ، ليعدّهم بذلك لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم وفيه صلاحهم ، فإن فى حفظ الفروج صيانة للأنساب واطمئنانا على سلامتها مما يشوبها ، كما أن فيه أمنا من حصول الضغائن والأحقاد التي قد تجر إلى القتل وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد ، وأمنا على الصحة والبعد من الأمراض التي قد تودى بحياة المرء وتوقعه فى أشد المصايب وأعظم ألوان البلاء.

كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجمع ، ففيها نظام دخول البيوت للتزاور ، وفيها حفظ الألسنة وصونها عن الولوغ فى الأعراض بما لا ينبغى أن يقال حتى لا ينتسر الفحش بين الناس ، وفيها تحذير للعباد من ذلك «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».

والخلاصة ـ إنه تعالى ذكر فى أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود الشرعية.

وفى آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته ، فأشار إلى الأولى بقوله (وَفَرَضْناها) وإلى الثانية بقوله : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ).

والفائدة فى كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها ومعرفة الله المعرفة التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه ، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قلّ أو كثر فإذا تم له ذلك صلحت نظم الفرد ونظم المجتمع ، وسادت السكينة والطمأنينة بين الناس.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢))

٦٧

عقوبة الزنا الدنيوية

الزاني والزانية إما أن يكونا محصنين : أي متزوجين ، أو غير محصنين : أي غير متزوجين.

عقوبة المحصنين

إن كان الزانيان محصنين واستوفيا الشروط الآتية ، وهى أن يكونا بالغين عاقلين حرين مسلمين متزوجين بعقد نكاح صحيح ـ وجب رجمهما : أي رميهما بالحجارة حتى يموتا ، ويكون ذلك فى حفل عامّ للمسلمين ليعتبر بهما غيرهما.

وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة ، ورواه الثقات عن النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقد رواه أبو بكر وعمر وعلىّ وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد ابن خالد وبريدة الأسلمى فى آخرين من الصحابة ، وجاء فى رواياتهم أن رجلا من الصحابة يسمى ما عزا أقر بالزنا فرجم ، وأن امرأتين من بنى لخم وبنى غامد أقرتا بالزنا فرجمعا على مشهد من الناس ومرأى منهم.

عقوبة غير المحصنين

إن كان الزانيان غير محصنين فالعقوبة مابة جلدة بمحضر جمع من المسلمين كما بينته الآية ليفتضح أمرهما كما تقدم ذلك.

طريق إثبات الزنا

يثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة :

(١) الإقرار به وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنا فى الإسلام ، وبه أوقع النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته العقوبة على من زنى.

(٢) الحبل للمرأة بلا زوج معروف لها.

(٣) شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما ملتبسان بالجريمة.

٦٨

عقوبة الزنا الأخروية

تقدم أن بيّنا المساوى والأضرار التي تنشأ من الزنا للأفراد والجماعات فى الدنيا ، وهنا نذكر حكمه الأخروى فنقول : اتفقت الأمة على أن الزنا من أكبر الآثام ، وأنه من الذنوب التي شدد الدين فى تركها ، وأغلظ فى العقوبة على فعلها ، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت فى غيره مما حرم الله ، فقد قرن بالشرك فى قوله : «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً» وروى عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث فى الدنيا وثلاث فى الآخرة ، أما التي فى الدنيا فيذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما التي فى الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى ، وسوء الحساب ، وعذاب النار».

وعن عبد الله بن مسعود قال : «قلت يا رسول الله ، أىّ الذنب أعظم عند الله؟

قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ، قلت ثم أىّ؟ قال وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت ثم أىّ؟ قال وأن تزنى بحليلة جارك ، فأنزل الله تصديقها : «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ».

الإيضاح

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين فاجلدوا كلا منهما مائة جلدة عقوبة له على ما أتى من معصية الله.

(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي ولا تأخذكم بهما رحمة ورقة فى حكم

٦٩

الله ، فتعطلوا الحدود أو تخففوا الضرب ، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا فى دين الله ولا يأخذكم اللين والهوادة فى استيفاء الحدود ، وكفى برسول الله أسوة فى ذلك ، إذ يقول : «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها».

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن كنتم تصدقون بالله ربكم ، وأنكم مبعوثون للحشر ومجازون بالثواب والعقاب. فإن من كان مصدّقا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه خوف عقابه على معاصيه.

وفى هذا تهييج وإغضاب لتنفيذ حدود الله وإقامة شريعته.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ فى زجرهما ، وأنجع فى ردعهما ، والزيادة فى تأنيبهما على ما فعلا.

والطائفة : الأربعة فصاعدا كما روى عن ابن عباس ، وعن الحسن : عشرة فصاعدا.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

المعنى الجملي

قال مجاهد وعطاء : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة عيشا ، ولكل منهن علامة على بابها للتعريف عن نفسها والإعلان عن أمرها ، وكان لا يدخل عليهن إلا زان أو مشرك ، فرغب فى كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا ننّزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهنّ ، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية.

الإيضاح

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي إن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب فى نكاح الصوالح من النساء ،

٧٠

وإنما يرغب فى فاسقة خبيثة أو فى مشركة مثلها ، والفاسقة المستهترة لا يرغب فى نكاحها الصالحون من الرجال ، بل ينفرون منها ، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة ، ولقد قالوا فى أمثالهم : إن الطيور على أشكالها تقع.

ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب كما يقال : لا يفعل الخير إلا الرجل التقى ، وقد يفعل الخير من ليس بتقى ، فكذا هذا فإن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة ، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.

(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي إن نكاح المؤمن المتّسم بالصلاح الزانية ، ورغبته فيها واندماجه فى سلك الفسقة المشهورين بالزنا ـ محرم عليه ، لما فيه من التشبه بالفسّاق ومن حضور مواضع الفسق والفجور التي قد تسبب له سوء القالة واغتياب الناس له ، وكم فى مجالسة الفساق من التعرض لاقتراف الآثام ، فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار ، وجاء فى الخبر «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

حكم قذف غير الزوجة من النساء

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

تفسير المفردات

المراد بالمحصنات هنا العفيفات الحرائر البالغات العاقلات المسلمات.

المعنى الجملي

بعد أن نفّر سبحانه من نكاح الزانيات وإنكاح الزانين وبيّن أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله ـ نهى هنا عن رمى

٧١

المحصنات به ، وشدد فى عقوبته الدنيوية والأخروية ، فجعل عقوبته فى الدنيا الجلد وألا تقبل له شهادة أبدا ، فيكون ساقط الاعتبار فى نظر الناس ملغى القول لا تسمع له كلمة ، وجعل عقوبته فى الآخرة العذاب المؤلم الموجع إلا إذا تاب إلى الله وأناب وأصلح أعماله ، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) أي إن الذين يشتمون العفيفات من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا ، ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك ـ فاجلدوهم ثمانين جلدة جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض ، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق.

(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي وردوا شهادتهم ، ولا تقبلوها أبدا فى أي أمر من الأمور.

ثم بين سوء حالهم عند ربهم بقوله :

(وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم إذ أنهم فسقوا عن أمره ؛ وركبوا كبيرة من الكبائر ، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبا وبهتانا ؛ كما قال حسان يمدح أمّ المؤمنين عائشة :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (١)

وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات ، وأوقعوا السامعين فى شك من أمرهن ، دون أن يكون فى ذلك فائدة دينية ولا دنيوية لهم ، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن فى ذلك مصلحة فى الدين.

__________________

(١) حصان : عفيفة ، ورزان : حصيفة الرأى ، وتزن : تتهم ، وريبة : أي شك فى عرضها ، وغرثى : جائعة ، والمراد أنها لا تغتاب النساء كما هو شأن المرأة.

٧٢

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي إلا الذين رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا من بعد ما اجترحوا ذلك الإثم وأصلحوا حالهم.

وقد اختلف فى هذا الاستثناء ، أيعود إلى الجملة الأخيرة فترفع التوبة الفسق فحسب ، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب؟ وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة ، أم يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيّب وجماعة من السلف ، وهو رأى مالك والشافعي وأحمد ، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق.

ثم ذكر علة قبول التوبة فقال :

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن الله ستّار لذنوبهم التي أقدموا عليها بعد أن تابوا منها ، رحيم بهم فيزيل عنهم ذلك العار الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به.

حكم قذف الرجل زوجه

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

تفسير المفردات

يرمون أزواجهم : أي يقذفونهنّ بالريبة وتهمة الزنا ، ولعنة الله : الطرد من رحمته ، ويدرأ : أي يدفع ، والعذاب : الحد ، وغضب الله : سخطه والبعد من فضله وإحسانه.

٧٣

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء ـ ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك ، وهو قذف الزوجات ، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية ، لأن فى تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا ، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.

روى عن ابن عباس أنه قال : «لما نزل قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات إلخ قال عاصم بن عدىّ الأنصاري : إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك ، فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت على غيظ ، اللهم افتح.

وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عو يمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتى خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا فى أهل بيتي! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : وما ذاك؟ قال أخبرنى عويمر ابن عمى أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة ، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا وقال لعويمر اتقى الله فى زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ، فقال : يا رسول الله أقسم بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيرى ، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم : اتقى الله ولا تخبري إلا بما صنعت ، فقالت يا رسول الله : إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلىّ ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

٧٤

فنودى (الصلاة جامعة) فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإنى لمن الصادقين ، ثم قال : قل أشهد بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى لمن الصادقين ، ثم قال : قل أشهد بالله إنها حبلى من غيرى وإنى من الصادقين ثم قال : قل : أشهد بالله إنها زانية وإنى ما قربتها منذ أربعة شهور وإنى لمن الصادقين ثم قال : قل لعنة الله على عويمر (يعنى نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال ، ثم قال : اقعد ، وقال لخولة : قومى فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا زوجى لمن الكاذبين ، وقالت فى الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت فى الثالثة : إنى حبلى منه ، وقالت فى الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآنى على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين ، وقالت فى الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين فى قوله ، ففرق رسول الله بينهما».

«وفى رواية عن ابن عباس : أنها حين كانت تؤدى الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ، ثم قالت والله لا أفضح قومى فشهدت فى الخامسة كما تقدم ، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتفريق بينهما وألا يدعى ولدها لأب ، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة ، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة» فصار هذا سنّة المتلاعنين وسمى عملهما (اللعان والملاعنة).

وفى رواية «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة (سحلية) فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به على النعت المكروه».

الإيضاح

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)

٧٥

أي والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا ، ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة ، فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنا ، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهى الحد أن تخلف بالله أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة ـ لمن الكاذبين فيما قال ، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به.

وخصّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله عليها تغليظا عليها ، لأنها هى سبب الفجور ومنبعه ، بخديعتها وإطماعها الرجل فى نفسها.

وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج بين أن فى هذا تفضلا بعباده ورحمة بهم فقال :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي ولو لا تفضله سبحانه ورحمته بكم وأنه قابل لتوبتكم فى كل آن ، وأنه حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان ـ لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان ، إذ لو لم يشرع لكم ذلك لوجب على الزوج حد القذف ، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه ، لأنه أعرف بحال زوجه ، وأنه لا يفترى عليها ، لاشتراكهما فى الفضيحة ، ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها لأهمل أمرها وكثر افتراء الزوج عليها لضغينة قد تكون فى نفسه من أهلها ، وفى كل هذا خروج من سبق الحكمة والفضل والرحمة ، ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما درائة عنه العقوبة الدنيوية ، وإن كان قد ابتلى الكاذب منهما فى تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه وهو العقاب الأخروى.

٧٦

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا

٧٧

الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

تفسير المفردات

الإفك : أبلغ الكذب والافتراء ، والعصبة : الجماعة ، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين ، وقد عدّت عائشة منها المنافق عبد الله بن أبى ابن سلول وقد تولّى كبره ، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضى الله عنها وزوج طلحة ابن عبيد الله ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، كبره (بكسر الكاف وضمها وسكون الباء) أي معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه ، (لولا) كلمة بمعنى هلّا تفيد الحث على فعل ما بعدها ، مبين : أي ظاهر مكشوف ، أفضتم : أي خضتم فى حديث الإفك ، تلقونه : أي تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض ، يقال تلقّى القول وتلقّنه وتلقّفه ومنه «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» سبحانك : تعجب ممن تفوّه به ، بهتان : أي كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته ، يعظكم : أي ينصحكم ، تشيع : أي تنتشر ، الفاحشة : الخصلة المفرطة فى القبح وهى الزنا ، وخطوات واحدها خطوة (بالضم) ما بين القدمين من المسافة ، ويراد بها نزغات الشيطان ووساوسه : والمنكر : ما تنكره النفوس فتنفر منه ، زكا : أي طهر من دنس الذنوب ، ولا يأتل : أي لا يحلف ، الفضل الزيادة فى الدين ، السعة : الغنى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات ، وحكم من قذف الزوجات ـ ذكر فى هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، صيانة لعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

٧٨

ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن حرجت قرعتها استصحبها ، فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى (نصيبى) فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت فى هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودى بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى ، فلست صدرى فإذا عقدى من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسنى ابتغاؤه ، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلون بي فاحتملوا هودجى فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أنى فيه لخفتى ، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلى وظننت أنهم سيفقدوننى ويعودون فى طلبى ، فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت ، وكان صفوان بن المعطّل السّلمى من وراء الجيش ، فلما رآنى عرفنى فاستيقظت باسترجاعه ، فخمّرت وجهى بجلبابي ، وو الله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها ، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا فى نحر الظهيرة ، وافتقدنى الناس حين نزلوا وماج القوم فى ذكرى ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا فى حديثى فهلك من هلك ، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبى ، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك لا أشعر بشىء من ذلك ، ويريبنى فى وجعي أنى لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم؟ فذلك يريبنى ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعد ما نقهت ، وخرجت مع أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول فى التنزه فى البرية ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح

٧٩

(هى ابنة أبى رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبى بكر الصديق) قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح فى مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت : أي هنتاه أولم تسمعى ما قال؟ قلت : وما قال؟ فأخبرتنى بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضى فلما رجعت إلى منزلى ودخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال كيف تيكم؟

قلت أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قال نعم ، قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما ، فجئت أبوىّ فقلت لأمى : أي أماه ، ما ذا يتحدث الناس به؟ فقالت : أي بنيّة هوّنى عليك ، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراتر إلا أكثرن عليها : قالت قلت سبحان الله ، أو قد تحدث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت نعم ، قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقألى دمع ولا أكتحل بنوم؟ ثم أصبحت فدخل علىّ أبو بكر وأنا أبكى ، فقال لأمى ما يبكيها؟

قالت : لم تكن علمت ما قيل لها ، فأكبّ يبكى ، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية ، فكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواى أن البكاء سيفلق كبدى ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحى يستشيرهما فى فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي فى نفسه من الود ، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علىّ فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية (يعنى بريرة) تصدقك ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريرة فقال : هل رأيت من شىء يريبك من عائشة؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتى الدواجن فتأكله ، فقام

٨٠