تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

قصة هود عليه السلام

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١))

تفسير المفردات

القرن : الأمة ، والمراد بهم عاد قوم هود لقوله تعالى فى سورة الأعراف :

«وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» أترفناهم : أي وسّعنا عليهم وجعلناهم فى ترف ونعيم ، لخاسرون : أي لمغبونون فى آرائكم ، إذ أنكم أذللتم أنفسكم لعبادة من هو دونكم ، هيهات : أي بعد ، ما توعدون : هو البعث والحساب ، بمؤمنين :

أي بمصدقين ، عما قليل : أي بعد زمان قليل ، ليصبحنّ : أي ليصيرنّ ، والصيحة :

العذاب الشديد كما قال :

صاح الزمان بآل برمك صيحة

خرّوا لشدتها على الأذقان

٢١

والغثاء : ما يحمله السيل من الورق والعيدان البالية التي لا ينتفع بها ، بعدا :أي هلاكا.

الإيضاح

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي ثم أوجدنا من بعد مهلك قوم نوح قوما آخرين وهم عاد ، فأرسلنا فيهم رسولا منهم ، وهو هود عليه السلام داعيا لهم قائلا : يا قوم اعبدوا الله وأطيعوه دون الأوثان والأصنام ، فإن العبادة لا تنبغى إلا له ، ولا تصلح لسواه ، أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره من وثن أو صنم؟

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي وقال أشراف قومه الذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بالبعث والحساب ، وقد وسعنا عليهم فى الحياة الدنيا بما بسطنا لهم من الرزق حتى بطروا وعتوا وكفروا بربهم : ما هود إلا بشر مثلكم لا ميزة له عنكم ، فهو يأكل مما تأكلون ، ويشرب مما تشربون ، ومرادهم بذلك توهين أمره ، وتحقير شأنه.

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي ولئن أطعتم بشرا مثلكم فاتبعتموه وقبلتم ما يقول : إنكم إذا لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة فى الدنيا.

ثم بينوا سبب إنكارهم لاتباعه ، واستبعادهم وقوع ما يدعيه بقولهم :

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا فى القبور بعد أن تذهب لحومكم وتبقى عظامكم.

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي بعد ما توعدون أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما تخرجون من قبوركم للبعث والحساب ثم الجزاء على ما تعملون

٢٢

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي ما حياة إلا هذه حياة فى الدنيا ، تموت الأحياء منا فلا تحيا ، ويحدث آخرون منا ويولدون ، وما نحن مبعوثين بعد الموت ، إنما مثلنا مثل الزرع يحصد هذا وينبت ذاك والخلاصة ـ إنه يموت منا من هو موجود ، وينشأ آخرون بعدهم.

وبعد أن كان أمرهم معه مقصورا على الاستبعاد فحسب ، جاهروا بتكذيبه فيما يدعى فقالوا :

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي ما هود إلا رجل يختلق الكذب على الله ، فتارة يقول : مالكم من إله غير الله خالق السموات والأرض وأخرى يقول : إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون ، وما نحن بمصدقيه فيما يدّعى ويزعم من التوحيد والبعث.

ولما يئس هود من إيمانهم بعد ذكر هذه المقالة «وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» فزع إلى ربه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال بعد أن يئس من إيمانهم وقد سلك فى دعوتهم كل مسلك ، متضرعا إلى ربه : رب انصرني عليهم وانتقم لى منهم بتكذيبهم إياى فيما دعوتهم إليه من الحق وإصرارهم على الباطل.

فأجابه ربه إلى ما سأل.

(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي قال تعالى مجيبا دعاءه : ليصيرنّ مكذبوك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا ، وستحل بهم نقمتنا ، ولا ينفعهم الندم حينئذ.

ثم أخبر أنه أنجز وعيده فيهم فقال :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي فسلطنا عليهم نقمتنا فأخذهم العذاب الذي لا قبل لهم به ، وقد كانوا لمثله مستحقين ، بسبب كفرهم وتكذيبهم برسوله ، فجعلناهم كغثاء السيل ، لاغناء فيهم ، ولا فائدة ترجى منهم.

٢٣

(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فأبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم ، إذ كفروا بربهم وعصوا رسوله وظلموا أنفسهم.

وفى هذا من الذلة والمهانة لهم والاستخفاف بأمرهم ما لا يخفى ، وأن الذي ينزل بهم فى الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم من العقاب فى الدنيا ، وفيه عظيم العبرة لمن بعدهم ممن هم عرضة لمثله.

قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

تفسير المفردات

تترى ، من المواترة : وهى التتابع بين الأشياء مع فترة ومهلة بينها قاله الأصمعى.

أحاديث : واحدها أحدوثة ، وهى ما يتحدث به تعجبا منه وتلهيا به ، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع ، وقال الزمخشري : الأحاديث اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الجمهور على أنه جمع كما علمت.

الإيضاح

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أي ثم أنشأنا من بعد هلاك عاد أقواما آخرين ، كقوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ما تتقدم أمة من تلك الأمم المهلكة الوقت الذي قدّر لهلاكهم وما يستأخرون عنه.

والخلاصة ـ ما تهلك أمة قبل مجىء أجلها ولا بعده ، فلكل شىء ميقات لا يعدوه.

٢٤

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ، وقد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به ، بعضهم فى إثر بعض.

(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) أي كلما بلّغهم الرسول ما جاء به من عند ربه من الشرائع والأحكام كذبوه ، كما فعل قومك بك حين أمرتهم بذلك.

(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي فأهلكنا بعضهم فى إثر بعض حين تألّبوا على رسلهم وكذبوهم.

(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث بها للناس ويتلهّون بذكرها.

ونحو الآية قوله : «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ».

ولما ترتب على تكذيبهم الهلاك المقتضى لبعدهم قال :

(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي فأبعد الله قوما لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله قصة موسى وهرون عليهما السلام

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

تفسير المفردات

الآيات : هى الآيات التسع التي سبقت فى سورة الأعراف ، والسلطان : الحجة عالين : أي متكبرين ، عابدون : أي خدم منقادون ، قال أبو عبيدة : العرب تسمى كل من دان للملك عابدا ، وقال المبرد : العابد : المطيع الخاضع ، الكتاب : هو التوراة.

الإيضاح

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي ثمّ أرسلنا بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم من قبل ـ موسى

٢٥

وأخاه هرون إلى فرعون وأشراف قومه من القبط ، بالآيات والحجج الدامغة ، والبراهين القاطعة ، فاستكبروا عن اتباعهما والانقياد لما أمروا به ودعوا إليه ، من الإيمان وترك تعذيب بنى إسرائيل كما جاء فى سورة النازعات : «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» وقد كان من دأبهم العتوّ والبغي على الناس وظلمهم كبرا وعلوا فى الأرض.

ثم ذكر ما استتبعه هذا العتو والجبروت.

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟) أي فقال فرعون وملؤه كيف ندين لموسى وأخيه ، وبنو إسرائيل قومهما خدمنا وعبيدنا يخضعون لنا ويتلقّون أوامرنا؟

وما قصدوا بهذا إلا الزراية بهما والحط من قدرهما ، وبيان أن مثلهما غير جدير بمنصب الرسالة ، وقد قاسوا الشرف الديني والإمامة فى تبليغ الوحى عن الله بالرياسة الدنيوية المبنية على نيل الجاه والمال.

وهم فى هذا أشبه بقريش إذ قالوا : «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» وقد فاتهم أن مدار أمر النبوة والاصطفاء للرسالة إنما هو السبق فى الفضائل النفسية والصفات السنية التي يتفضل الله بها على من يشاء من عباده ، فالأنبياء لصفاء نفوسهم يتصلون بالعالم العلوي وعالم المادة ، فيتلقون الوحى من الملأ الأعلى ويبلغونه إلى البشر ، ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق ، عن التبتل والانقطاع إلى حضرة الحق.

وإن تعجب من شىء فاعجب لهؤلاء وأمثالهم ممن لم يرض النبوة للبشر ، كيف سوّغت لهم أنفسهم ادعاء الألوهية للحجر : «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».

ثم ذكر عاقبة أعمالهم وما آل إليه أمرهم فقال :

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فأصر فرعون وملؤه على تكذيب موسى

٢٦

وهرون ، فأهلكهم الله بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبهم لرسلهم.

ثم ذكر ما أولاه موسى بعد هلاكهم من التشريف والتكريم فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفيها الأحكام من الأوامر والنواهي بعد أن أهلكنا فرعون وملأه وأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، رجاء أن يهتدى بها قومه إلى الحق ، ويعملوا بما فيها من الشرائع.

قصص عيسى عليه السلام إجمالا

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

تفسير المفردات

الآية : الحجة والبرهان ، وآويناهما : أي جعلنا مأواهما ومنزلهما الربوة : وهى ما ارتفع من الأرض دون الجبل ، ذات قرار : أي ذات استقرار للناس لما فيها من الزرع والثمار ، ومعين : أي ماء جار.

الإيضاح

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي وجعلنا عيسى آية للناس دالة على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا ، إذ خلقناه من غير أب ، وأنطقناه فى المهد ، وأجرينا على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وجعلنا أمه آية إذ حملته من غير أب.

وجعلهما آية واحدة ، لأنهما اشتركا فى هذا الأمر العجيب الخارق للعادة وهو الولادة بلا أب.

ونحو الآية قوله : «وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ».

(وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي وجعلناهما ينزلان بمرتفع من الأرض ذى ثمار وماء جار كثير.

٢٧

قال قتادة : الربوة : بيت المقدس ، وقال مقاتل والضحاك : هى غوطة دمشق إذ هى ذات الثمار والماء.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥))

(نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

تفسير المفردات

الطيبات : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ، أمتكم : أي ملتكم وشريعتكم ، فتقطعوا : أي قطّعوا ومزّقوا ، أمرهم : أي أمر دينهم ، زبرا : أي قطعا واحدها زبور ، فذرهم : أي فدعهم واتركهم ، وأصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة ويسترها والمراد بها الجهالة ، حتى حين : أي إلى أن يموتوا فيستحقوا العذاب ، نمدهم : أي نعطيه مددا لهم.

المعنى الجملي

بعد أن قص سبحانه علينا قصص بعض الأنبياء السالفين ـ عقّب هذا ببيان أنه أوصاهم جميعا بأن يأكلوا من الحلال ، ويعملوا صالح الأعمال ، كفاء ما أنعم به عليهم من النعم العظيمة ، والمزايا الجليلة التي لا يقدر قدرها ، ثم حذرهم وأنذرهم بأنه عليم بكل أعمالهم ، ظاهرها وباطنها ، لا تخفى عليه من أمورهم خافية ، ثم أرشدهم إلى أن الدين الحق واحد لا تعدد فيه ، ولكن الأمم قد فرقت دينها شيعا ، وكل أمة فرحة مسرورة بما تدين به كما هى حال قريش ، ثم خاطب رسوله بأن يتركهم وما يعتقدون إلى حين ، ثم ذكر أنهم فى عماية حين ظنوا أن ما أوتوه من النعم هو حظوة من

٢٨

ربهم لهم ـ كلا ، فهم لا يشعرون بحقيقة أمرهم وعاقبة حالهم ، ولو عقلوا لعلموا أنهم فى سكرتهم يعمهون.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) أمر الله كل نبى فى زمانه بأن يأكل من المال الحلال مالذّ وطاب ، وأن يعمل صالح الأعمال ، ليكون ذلك كفاء ما أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة.

وهذا الأمر وإن كان موجها إلى الأنبياء فإن أممهم تبع لهم ، وكأنه يقول لنا : أيها المسلمون فى جميع الأقطار ، كلوا من الطيبات أي من الحلال الصافي القوّام ـ الحلال ما لا يعصى الله فيه ، والصافي ما لا ينسى الله فيه ، والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل ـ واعملوا صالح الأعمال.

أخرج أحمد وابن أبى حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد ابن أوس رضى الله عنها أنها بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن حين فطره وهو صائم ، فرد إليها رسولها وقال : من أين لك هذا؟ فقالت من شاة لى ، ثم رده وقال : من أين هذه الشاة؟ فقالت اشتريتها بمالى فأخذه ، فلما كان من الغد أمته وقالت يا رسول الله : لم رددت اللبن؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم : أمرت الرسل ألا يأكلوا إلا طيبا ، ولا يعملوا إلا صالحا.

وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أبى هريرة قال : قال صلّى الله عليه وسلّم : «أيها الناس! إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» وقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّى بالحرام ، يمدّ يديه إلى السماء ، يا رب يا رب فأنى يستجاب له»؟

٢٩

وفى تقديم أكل الطيبات على العمل الصالح إيماء إلى أن العمل الصالح لا يتقبّل إلا إذا سبق بأكل المال الحلال.

وجاء فى بعض الأخبار «إن الله تعالى لا يقبل عبادة من فى جوفه لقمة من حرام» وصح أيضا

«أيّما لحم نبت من سحت فالنار أولى به».

ثم علل هذا الأمر بقوله :

(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي إنى بأعمالكم عليم ، لا يخفى على شىء منها ، وأنا مجازيكم بجميعها ، وموفّيكم أجوركم ، وثوابكم عليها ، فخذوا فى صالح الأعمال ، واجتهدوا قدر طاقتكم فيها ، شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم وفى هذا تحذير من مخالفتهم ما أمروا به ، وإذا قيل للأنبياء ذلك فما أجدر أممهم أن تأخذ حذرها ، وترعوى عن غيها ، وتخشى بأس الله وشديد عقابه.

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي وإن دينكم معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة ، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

واختلاف الشرائع والأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال لا يسمى اختلافا فى الدين ، لأن الأصول واحدة.

(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي وإنى أنا ربكم لا شريك لى فى الربوبية فاحذرو عقابى وخافوا عذابى.

وفى هذا إيماء إلى أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة الله واتقاء معاصيه.

ثم بين أن أمم أولئك الرسل خالفوا أمر رسلهم واتبعوا أهواءهم وجعلوا دينهم فرقا وشيعا فقال :

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي فتفرق أتباع الأنبياء فرقا وجماعات ، وأصبح كل فريق معجبا بنفسه ، فرحا بما عنده ، معتقدا أنه الحق الذي لا معدل عنه.

٣٠

فيا أتباع الأنبياء. أين عقولكم؟ إن الله أرسل إليكم رسلا فجعلتموهم محل الشقاق ومثار النزاع ، لم هذا؟ هل اختلاف الشرائع مع اتحاد الأصول والعقائد ينافى المودة والمحبة؟ وأين أنتم يا أتباع محمد؟ ما لكم كيف تفرقتم أحزابا؟ هل اختلاف المذاهب كشافعية ومالكية ، وزيدية وشيعة يفرق العقيدة؟ وكيف يكون هذا سبب التفرقة فهل تغير الدين؟ وهل تغير القرآن؟ وهل تغيرت القبلة؟ وهل حدث إشراك؟ كلا كلا ، فإذا كان العيب قد لحق الأمم المختلفة على تنابذها ، فما أجدركم أن يلحقكم الذم على تنابذكم وأنتم أهل دين واحد.

ولا علة لهذا إلا لجهالة الجهلاء ، فقد خيّم الجهل فوق ربوعكم ومدّت طنبه بين ظهرانيكم ، لأنكم فرطتم فى كتاب ربكم : ظننتم أن أسس الدين هى مسائل العبادات والأحكام ، وتركتم الأخلاق وراءكم ظهريا ، وتركتم آيات التوحيد والنظر فى الأكوان ولو أنكم نظرتم إلى شىء من هذا لعلمتم أن كل ذلك من دينكم وأنتم عنه غافلون.

وبعد أن ذكر سبحانه ما حدث من أمم أولئك الأنبياء من التفرّق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة ، ومن فرحهم بما فعلوا ـ أمر نبيه أن يتركهم فى جهلهم الذي لا جهل فوقه ، لأنه لا ينجع فيهم النصح ، ولا يجدى فيهم الإرشاد فقال :

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي فذرهم فى غيّهم وضلالهم إلى حين يرون العذاب رأى العين.

ونحو الآية قوله : «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» وقوله : «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».

وقد جعلوا فى غمرة تشبيها لحالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء وغطّاه.

ثم بين خظأهم فيما يظنون من أن سعة الرزق فى الدنيا علامة رضا الله عنهم فى الآخرة فقال :

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)

٣١

أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد ، كرامة لهم علينا وإجلالا لأقدارهم عندنا ـ كلا ، إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا فى المعاصي ، واستجرارا لهم إلى زيادة الإثم ، وهم يحسبونه مسارعة فى الخيرات ، إذ هم أشبه بالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا فى أنه ـ استدراج هو أم مسارعة فى الخيرات؟

ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم : «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» وقوله : «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وقوله : «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً».

قال قتادة فى تفسير الآية : مكر الله بالقوم فى أموالهم وأولادهم. يا ابن آدم لا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.

وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : قال صلّى الله عليه وسلم : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا من أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه ، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه ، قالوا وما بوائقه يا رسول الله؟ قال : غشّه وظلمه».

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

تفسير المفردات

الخشية : الخوف من العقاب ، والإشفاق نهاية الخوف والمراد لازمه ، وهو دوام الطاعة ، والآيات : هى الآيات الكونية فى الأنفس والآفاق والآيات المنزلة ، وجلة : أي خائفة ، سابقون : أي ظافرون بنيلها.

٣٢

المعنى الجملي

بعد أن ذم سبحانه من فرقوا دينهم شيعا وفرحوا بما عملوا وظنوا أن ما نالوه من حظوظ الدنيا هو وسيلة لنيل الثواب فى الآخرة ، وبين أنهم واهمون فيما حسبوا ـ قفّى على ذلك بذكر صفات من له المسارعة فى الخيرات ، ومن هو جدير بها.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائبون فى طاعته ، جادّون فى نيل مرضاته ، فهم فى نهاية الخوف من سخطه عاجلا ، ومن عذابه آجلا ، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي والذين هم بآيات ربهم الكونية التي نصبها فى الأنفس والآفاق دلالة على وجوده ووحدانيته ، وبآياته المنزّلة على رسله ـ مصدّقون موقنون ، لا يعتريهم شك ولا ريب.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي والذين لا يعبدون مع الله سواه ، ويعلمون أنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي ليس له صاحبة ولا ولد.

وفيما سبق وصف لله بتوحيد الربوبية ، وهنا وصف له بتوحيد الألوهية ، ولم يقتصر على الأول ، لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية كما قال : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ» ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة ، ومن ثم عبدوا الأصنام والأوثان على طرائق شتى ، وعبدو معبودات مختلفة.

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي والذين يعطون ما أعطوا ، ويتصدقون بما تصدقوا ، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم ، وألا يقع على الوجه المرضى حين يبعثون ويرجعون إلى ربهم ، وتنكشف الحقائق ، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه وإن قل «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

٣٣

ويدخل فى قوله : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) كل حق يلزم إيتاؤه ، سواء أكان من حقوق الله كالزكاة والكفارة وغيرها أم من حقوق العباد كالودائع والديون والعدل بين الناس ، فمتى فعلوا ذلك (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره) اجتهدوا فى أن يوفّوها حقّها حين الأداء.

وسألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله : «(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزنى ويشرب الخمر ، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى؟ فقال لا يا بنة الصديق ، ولكن هو الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل ذلك منه.

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن يرغبون فى الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا ، ويتعجلون فى الدنيا وجوه الخيرات العاجلة التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة فى نحو قوله : «فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» وقوله : «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي إنهم يرغبون فى الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب ، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منّا لهم ، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات ، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية الله وعدم الإشراك به وعدم الرياء فى العمل والتصديق مع الخوف منه.

ومعنى (هم لها) أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة ، كقولك لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره ـ أنت لها ـ وعلى هذا قوله :

مشكلات أعضلت ودهت

يا رسول الله أنت لها

وخلاصة ذلك ـ إن النعم ليست هى السعادة الدنيوية ونيل الحظوظ فيها ، بل هى العمل الطيب ، بإيتاء الصدقات ونحوها مع إحاطة ذلك بالخوف والخشية.

٣٤

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))

تفسير المفردات

الوسع : ما يتسع على الإنسان فعله ولا يضيق عليه ، والكتاب : هو صحائف الأعمال ، بالحق : أي بالصدق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه صفات المؤمنين المخلصين الذين يسارعون إلى الخيرات ـ أرشد إلى أن ما كلّفوا به سهل يسير لا يخرج عن حد الوسع والطاقة ، وأنه مهما قلّ فهو محفوظ عنده فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى ، وهو لا يظلم أحدا من خلقه ، بل يجزى بقدر العمل ، وبما نطقت به الصحف على وجه الحق والعدل.

الإيضاح

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا إلا ما فى وسعها وقدر طاقتها ، ومن ثم قال مقاتل : من لم يستطع القيام فى الصلاة فليصلّ قاعدا ، ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.

(وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) أي وليدنا صحائف أعمالهم يقرءونها حين الحساب ، وتظهر فيها أعمالهم التي عملوها فى الدنيا دون لبس ولا ريب ، ويجازون على الجليل منها والحقير ، والقليل والكثير.

ونحو الآية قوله «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وقوله : «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها».

ثم بين فضله على عباده وعدله بيننهم فى الجزاء إثر بيان لطفه فى التكليف وكتابة الأعمال على ما هى عليه فقال :

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وهم لا يظلمون فى الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، بل يجازون مما عملوا ونطقت به كتبهم بالعدل والحق.

٣٥

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

تفسير المفردات

الغمرة : الغفلة والجهالة ، من دون ذلك : أي غير ذلك ، والمترف : المتوسع فى النعمة ، وجأر الرجل : صلح ورفع صوته ، لا تنصرون : أي لا يجيركم أحد ولا ينصركم ، تنكصون : أي تعرضون عن سماعها ، وأصل النكوص : الرجوع على

٣٦

الأعقاب (العقب مؤخر الرّجل) ورجوع الشخص على عقبه : رجوعه فى طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه ، سامرا : أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، والهجر (بالضم) الهذيان ، والجنّة : الجنون ، والذكر : القرآن الذي هو فخرهم ، عن ذكرهم : أي فخرهم ، خرجا : أي جعلا وأجرا ، صراط مستقيم : أي طريق لا عوج فيه ، لنا كبون : أي عادلون عن طريق الرشاد ، يقال نكب عن الطريق : إذا زاغ عنه ، لج فى الأمر : تمادى فيه ، يعمهون : أي يتحيرون ويترددون فى الضلال ، واستكانوا : خضعوا وذلوا ، وما يتضرعون : أي يجددون التضرع والخضوع ، مبلسون : أي متحيرون آيسون من كل خير.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه سجاحه هذا الدين ، وأنه دين يسر لا عسر ، فلا يكلفها النفس إلا ما تطيق ، وأن ما يعمله المرء فهو محفوظ فى كتاب لا يبخس منه شيئا ولا يزاد له فيه شىء ـ أردف هذا بيان أن المشركين فى غفلة عن هذا الذي بيّن فى القرآن ، ولهم أعمال سوء أخرى من فنون الكفر والمعاصي ، كطعنهم فى القرآن واستهزائهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإيذائهم للمؤمنين ، فإذا حل بهم بأسنا يوم القيامة جأروا واستغاثوا ، فقلنا لهم لا فائدة فيما تعملون ، فقد جاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عنها واتخذتموها هزوا تسمرون بها فى البيت الحرام ، وقد كان من حقكم أن تتدبروا القرآن لتعلموا أنه الحق من ربكم ، وأن مجىء الكتب إلى الرسل سنة قديمة ، فكيف تنكرونها؟ وهل رابكم فى رسولكم شىء حتى تمتنعوا من تصديقه وتقولوا إن به جنة وأنتم تعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا ـ لا ـ إن الأمر على غير ما تظنون ، إنه قد جاءكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ، لما دسّيتم به أنفسكم من الزيغ والانصراف عن سبيل الحق ، ولو أجابكم ربكم إلى ما فى أنفسكم من الهوى وشرع الأمور وفق ذلك لفسدت السموات والأرض لفساد أهوائكم واختلافها ، وأنتم

٣٧

لو تأملتم لعلمتم أن ما جاءكم به هو فخركم فكيف تعرضون عنه؟ وهل تظنون أنه يسألكم أجرا على هدايتكم وإرشادكم ، فما عند الله خير مما عندكم وهو خير الرازقين.

فها هو ذا قد تبين الرشد من الغىّ ، واستبان أن ما تدعوهم إليه هو الحق الذي لا محيص منه ، وأن الذين لا يؤمنون به عادلون عن طريق الحق ، وقد بلغوا حدا من التمرد والعناد لا يرجى معه صلاح ، فلو أنهم ردّوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.

ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر ، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم ، ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه ، بل استمروا فى غيهم وضلالهم كما قال «فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا».

فإذا جاءتهم الساعة بغتة ، وأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ، أيسوا من كل خير ، وانقطع رجاؤهم من كل راحة وسعادة.

الإيضاح

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي بل قلوب المشركين فى غفلة عن هدى القرآن والاسترشاد بما جاء به ، مما فيه سعادة الناس فى دينهم ودنياهم ، فلو قرءوه وتدبروه لرأوا أنه كتاب ينطق بالصدق ، وأنه يقضى بأن أعمال المرء مهما دقّت فهو محاسب عليها ، وإن ربك لا يظلم أحدا من عباده.

ثم ذكر جنايات أخرى لهم فوق جنايتهم السابقة فقال :

(وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) أي إن لهم أعمالا أخرى أسوأ من ذلك ، فقد أغرقوا فى الشرك والمعاصي ، واتخذوا هذا الكتاب هزوا ، وجعلوه سمرهم فى البيت الحرام يقولون فيه ما هو منه براء ، يقولون إن هو إلا سحر مفترى ، وما هو إلا أساطير الأولين ، وما هو إلا كلام شاعر ، ويتقوّلون على من أرسل به ، فيزعمون أنه رجل به جنّة ، وأنه قد تعلمه من غيره من أهل الكتاب ، وانغمسوا فى عبادة

٣٨

الأوثان والأصنام ، ولقد تراهم إذا جاء البرهان الساطع أعرضوا عنه وقالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي حتى إذا حلّ بهم بأسنا يوم القيامة ، وحاق بهم سوء العذاب ، صاحوا صيحة منكرة وقالوا : وا غوثاه ، ووا سوء منقلباه ، لشدة ما يروه من الكرب والهول ، ولا سيما مترفوهم الذي انقلب أمرهم من النعيم إلى العذاب الأليم ، وندموا حين لا ينفع الندم :

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

ثم أبان أن الصريخ والعويل لا يجديهم نفعا فقال :

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قلنا لهم : هيهات هيهات ، قد فات ما فات ، الآن لا يجديكم البكاء والعويل ، فهذا وقت الجزاء على ما كسبت أيديكم ؛ وقد حقّت عليكم كلمة ربكم ، ولا مغيث من أمره ، ولا ناصر يحول بينكم وبين بأسه.

ولا يخفى ما فى ذلك من التهويل الشديد لذلك اليوم وأنه لا تجدى فيه ضراعة ولا استغاثة ، ولا ينفع فيه ولىّ ولا نصير.

ثم ذكر سببا آخر يبين أن البكاء والصراخ لا ينفع شيئا فقال :

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي دعوا الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ، واتركوا النصير فإنه لا ينفعكم عندنا ، فقد ركبتم شططا ، وجاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عن سماعها ، فضلا عن تصديقها والعمل بها ، وكنتم كمن ينكص على عقبيه مولّيا القهقرى ، نافرا مما يسمع ويرى.

ثم ذكر سببا ثالثا يدعو إلى التنكيل بهم والتشديد فى عذابهم فقال :

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تعرضون عن الإيمان ، مستعظمين بالبيت الحرام ، تقولون نحن أهل حرمه وخدّام بيته ، فلا يظهر علينا أحد ، ولا نخاف أحدا ، وتسمرون حوله وتتخذون القرآن سلواكم ، والطعن فيه هجّيراكم ، تهذون فتقولون : هو سحر ، هو شعر ، هو كهانة إلى آخر ما يحلولكم أن تتقوّلوه.

٣٩

والخلاصة ـ إنكم كنتم عن سماع آياتي معرضين ، مستعظمين بأنكم خدام البيت وجيرانه ، فلا تضلمون ، وتهذون فى أمر القرآن وتقولون فيه ما ليس فيه مسحة من الحق ، ولا جانب من الصواب.

ثم أنّبهم على ما فعلوا وبيّن أن إقدامهم عليه لا بد أن يكون لأحد أسباب أربعة فقال :

(١) (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي إنهم لم يتدبروا القرآن فيعلموا ما خصّ به من فصاحة وبلاغة ، وقد كان لديهم فسحة من الوقت ، تمكنهم من التدبر فيه ومعرفة أنه الحق من ربهم ، وأنه مبرأ من التناقض وسائر العيوب التي تعترى الكلام ـ إلى ما فيه من حجج دامغة ، وبراهين ساطعة ، إلى ما فيه من فضائل الآداب ، وسامى الأخلاق ، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه كانوا سادة البشر ، واتبعهم الأسود والأحمر ، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين.

(٢) (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أم اعتقدوا أن مجىء الرسل أمر لم تسبق به السنن من قبلهم ، فاستبعدوا وقوعه ، لكنهم قد عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تترى وتظهر على أيديهم المعجزات ، فهلّا كان ذلك داعيا لهم إلى التصديق بهذا الرسول الذي جاء بذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.

(٣) (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أم أنهم لم يعرفوا رسولهم بأمانته وصدقه وجميل خصاله قبل أن يدّعى النبوّة؟ كلا ، إنهم لقد عرفوه بكل فضيلة ، وشهر لديهم باسم (الأمين) فكيف ينكرون رسالته ، ولقد قال جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه للنجاشى : إن الله بعث فينا رسولا نعرف نسبه ، ونعرف صدقه وأمانته ، وكذلك قال أبو سفيان لملك الروم حين سأله وأصحابه عن نسبه ، وصدقه وأمانته ، وقد كانوا بعد كفارا لم يسلموا.

(٤) (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي أم إن به جنونا فلا يدرى ما يقول ، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأوفرهم رزانة.

٤٠