تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

الأرض لتقعقع خلاخلهن ، فإن ذلك مما يهيج الرجال ويورث ميلا إليهن ، وللنساء أفانين فى هذا ، فقد يجعلن الخرز ونحوه فى جوف الخلخال ، فإذا مشين ولو هونا كان له رنين وصوت خاص ، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلي أكثر مما تهيجه رؤيته (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم ، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.

أخرج أحمد والبخاري والبيهقي فى شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : أيها الناس توبوا إلى الله ، فإنى أتوب إليه كل يوم مائة مرة».

ومن شرط التوبة : الإقلاع عن الذنب ، والندم على ما مضى ، والعزم على ألا يعود إليه ، ورد الحقوق إلى أهلها ، لا كما يظن الناس الآن أنها كلمة تلاك باللسان دون أن يكون لها أثر فى القلب ، ولا عزم على عدم العود ، حتى إن كثيرا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفخر والاستلذاذ بذكره ، وهذا دليل على أنهم كاذبون فى توبتهم مراءون فى أفعالهم.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

١٠١

تفسير المفردات

الأيامى : واحدهم أيم وهو كما قال النضر بن شميل كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا كانت أو ثيبا ، ويقال آمت المرأة وآم الرجل إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين ، وكثر استعماله فى الرجل إذا ماتت امرأته وفى المرأة إذا مات زوجها ، والصالحين : أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه ، والإماء : واحدهن أمة وهى الرقيقة غير الحرة ، واسع : أي غنىّ ، وليستعفف : أي وليجتهد فى العفة ، لا يجدون : أي لا يتمكّنون من وسائله وهى المال والكتاب والمكاتبة : كالعتاب والمعاتبة يراد بها شرعا إعتاق المملوك بعد أداء شىء من المال منجّما أي فى موعدين أو أكثر فيقول له كاتبتك على كذا درهما ويقبل المملوك ذلك ، فإذا أدّاه عتق وصار أحق بمكاسبه ، كما صار أحق بنفسه ، والفتيات : واحدهن فتاة ، ويراد بالفتى والفتاة لغة العبد والأمة ، والبغاء : الزنا والتحصن : العفة ، لتبتغوا : أي لتطلبوا ، عرض الحياة الدنيا : أي الكسب وبيع الأولاد ، مبينات : أي مفصّلات ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من الأحكام والآداب ، مثلا : أي فصة عجيبة من قصص الماضين كقصة يوسف ومريم.

المعنى الجملي

لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج ونحوهما مما يفضى إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامى ، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع ، وحفظ الأنساب الذي يستدعى مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم ، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه ، ثم رغّب فى مكاتبة الأرقاء ، ليصيروا أحرارا فى أنفسهم

١٠٢

وفى أموالهم يتزوجون كما يشاءون ، وبعدئذ أردف ذلك النهى عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة ، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.

ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم فى هذه السورة وفى غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة ، وعقوبات رادعة ، وقصص عجيبة عن الماضين ، وأمثال مضروبة ، لتكون عبرة وذكرى لكم.

الإيضاح

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوّجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر : أي من الرجال والنساء ، والمراد بذلك ، مدّيد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك ، كإمدادهم بالمال ، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة.

(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية من الصحة والمال ونحو ذلك.

والخلاصة ـ إن فى الآية أمرا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية ، وللسادة بتزويج العبيد والإماء ، والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان لا على الوجوب ، لأنه قد كان فى عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وفى سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك أحد عليهم ، والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة.

ثم رغّب فى الزواج بالفقير والفقيرة وألا يكون عدم وجدان المال حائلا عن إتمامه فقال :

(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون زواجها ، ففى فضل الله ما يغنيهم ، والمال غاد ورائح.

وكم يسر أتى من بعد عسر

وفرّج كربة القلب الشجىّ

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي والله ذو سعة وغنى ، فلا انتهاء لفضله ولا حد لقدرته ،

١٠٣

فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما ، وهو عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

قال ابن عباس : أمر الله سبحانه بالنكاح ، ورغّبهم فيه ، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم فى ذلك الغنى.

وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي فى سبيل الله». وبعد أن بين حال القادرين على النكاح ووسائله ، بين حال العاجزين عن تلك الوسائل فقال :

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وليجتهد فى العفّة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح ، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله حتى يصل إلى بغيته من النكاح ، وقد جاء فى الحديث الصحيح : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» الباءة مؤن النكاح من مهر ونفقة وكسوة ، والوجاء نوع من الخصاء يكون برضّ عروق الأنثيين مع بقاء الخصيتين كما هما ، فشبه الصوم فى قطعه شهوة النساء به.

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجوما ليصيروا بعد أدائها أحرارا ، ويكونون قادرين على الكسب وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق ـ فكاتبوهم ويكونون بعد انتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارا فى رقابهم وفى كسبهم.

ثم حث المؤمنين جميعا على تحرير الرقاب فقال :

(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي وآتوا أيها السادة المكاتبين شيئا من مال الله الذي أعطاكم وليس لكم فيه فضل ، فإن الله ربكم ورب عبيدكم ، وأموالكم

١٠٤

ملكه ، وأعطوا أيها الحكام المكاتبين سهومهم التي جعلها الله لهم فى بيت المال فى مصارف الزكاة بقوله (وَفِي الرِّقابِ) أي وفى تحرير الأرقاء.

وفى هذا حث لجميع المؤمنين على عتق الرقاب ، روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد فى سبيل الله».

ثم نهى المؤمنين عن السعى فى جمع المال بسبل الحرام فقال :

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تكرهوا إماءكم على الزنا إن كنّ يردن التعفف والتحصن ، التماسا لعرض الدنيا من مال وزينة ورياش.

وفى قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) زيادة فى تقبيح حالهم وتشنيع عليهم ، فإن ذا المروءة لا يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه ، فضلا عن أمرهن بذلك وإكراههن عليه ، ولا سيما عند إرادة التعفف وتوافر الرغبة فيه.

والخلاصة ـ لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراه الإماء على البغاء ، طلبا لمتاع سريع الزوال ، وشيك الفناء والاضمحلال.

أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضى الله عنه أن جارية لعبد الله بن أبىّ ابن سلول يقال لها (مسيكة) وأخرى يقال لها (أميمة) كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية.

وأخرج ابن مردويه عن على كرم الله وجهه أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ليأخذوا أجورهن ، فنهوا عن ذلك فى الإسلام ونزلت الآية.

ثم أبان أنهن إن أكرهن فالوزر على من أكرههن لا عليهن فقال :

(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن يكرههن على البغاء فإن الله غفور رحيم لهن من بعد إكراههن والذنب على المكره لهن ، وكان الحسن إذا قرأ الآية قال : لهن والله ، لهن والله.

١٠٥

وبعد أن فصّل هذه الأحكام وبيّنها امتنّ على عباده بذلك فقال :

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي ولقد أنزلنا آيات القرآن مبينات لما أنتم فى حاجة إليه من الأحكام والآداب ، كما أنزلنا قصصا من أخبار الأمم السالفة كقصة يوسف وقصة مريم وفيها شبه بقصص عائشة ، وفيها عظة لمن اتقى الله وخاف عقابه وخشى عذابه.

وأثر عن على كرم الله وجهه فى وصف القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥))

تفسير المفردات

نور : أي ذو نور أي هو هاد أهل السموات والأرض ، والمراد العالم كله ، والمشكاة : لفظ حبشى معرّب يراد به الكوّة غير النافذة ، الزجاجة : القنديل من الزجاج ، والدرىّ : المضيء المتلألئ منسوب إلى الدر ، لا شرقية ولا غربية : أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شىء من الشروق إلى الغروب ، يضرب الله الأمثال : أي يبين للناس الأشباه والأمثال.

١٠٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه أنزل فى هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس فى صلاح أحوالهم فى معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق ـ بين أنه نور السموات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية والآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته من قدرة وعلم إلى نحو أولئك ، هادية إلى صلاح أمورهم فى الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الله هاد أهل السموات والأرض بما نصب من الأدلة فى الأكوان ، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلال ينجون.

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) أي مثل أدلته التي بثها فى الآفاق وهدى بها من شاء من عباده كنور مشكاة فيها سراج ضخم ثاقب له الصفات الآتية.

(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي وذلك المصباح فى قنديل من الزجاج الصافي الأزهر.

(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي الزجاجة كأنها كوكب ضخم مضىء من درارى النجوم وعظامها كالزّهرة والمشترى.

(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي رويت ذبالته (فتيلته) بزيت شجرة زيتونة كثيرة المنافع ، زرعت على جبل عال أو صحراء واسعة ، فهى ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها ، فزيتها أشد ما يكون صفاء.

فقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا شرقية فحسب ، ولا غربية فحسب ، بل هى شرقية غربية تصيبها الشمس من حين طلوعها إلى حين غروبها كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر أحيانا ويقيم أخرى.

١٠٧

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي هو لصفائه وبريقه ولمعانه كأنه يضىء بنفسه دون أن تمسه النار ، لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ثم رئى من بعد يرى كأن له شعاعا ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء ـ كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه ازداد نورا على نور وهدى على هدى.

قال يحيى بن سلام : قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له ، لموافقته إياه ، وهو المراد من قوله صلّى الله عليه وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله».

(نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هو نور مترادف متضاعف ، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوّى النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة.

ذاك أن المصباح إذا كان فى مكان ضيق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره ، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر ، والقنديل أعون شىء على زيادة الإنارة ، وكذلك الزيت وصفؤه.

(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يوفّق الله من يشاء من عباده لإصابة الحق بالنظر والتدبر وتوجيه الفكر لسلوك طريق الجادّة الموصلة إليه ، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى سواء لديه جنح الليل الدّامس ، وضحوة النهار الشامس. وعن على رضى الله عنه : «الله نور السماوات والأرض ، ونشر فيهما الحق وبثه ، فأضاء بنوره».

(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي ويسوق الله الأمثال للناس فى تضاعيف هدايتهم بحسب ما تدعو إليه حالهم ، لما فيها من الفوائد فى النصح والإرشاد ، إذ بها تتفتّق الأذهان للوصول إلى الحق ، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها وتدين بها ، ولأمر ما كثرت فى القرآن الكريم ، فقلّما ساق حجاجا أو أقام دليلا إلا أردفه بالمثل ، ليكون أدعى إلى الإقناع ، وأرحى للاقتناع.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعطى هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم ،

١٠٨

واستعدّوا لتلقى أحكام الدين وآدابه ؛ وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى بحسب اختلاف أحوال عباده ، لتقوم له الحجة عليهم.

وفى هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها ، ووعيد وإنذار لمن لم يتفكر فيها ولم يكترث بها ، فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدى لطريقه.

وخلاصة ذلك ما قاله ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه فى قلب المؤمن ، فكما يكاد الزيت الصافي يضىء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته ازداد ضوءا على ضوء ـ يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه ازداد هدى على هدى ونورا على نور.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

تفسير المفردات

المراد بالبيوت : المساجد ، وأذن : أمر ، أن ترفع : أي أن تعظم وتطهّر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال ، يسبح : أي ينزّه ويقدّس ، الغدو والغداة : أول النهار ، والآصال : واحدها أصيل وهو العشى : أي آخر النهار ، تلهيهم : أي تشغلهم وتصرفهم ، تجارة : أي نوع من هذه الصناعة ، ولا بيع : أي فرد من أفراد البياعات وخصه بالذكر لأنه أدخل فى الإلهاء ، وإقام الصلاة : أي إقامتها لمواقيتها ، وإيتاء الزكاة :

١٠٩

أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين ، واليوم : هو يوم القيامة ، وتتقلّب فيه القلوب والأبصار : أي تضطرب وتتغير من الهول والفزع.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ـ جلّت آلاؤه ـ نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه ـ بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور ، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.

الإيضاح

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي كمشكاة فى بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية ، كاللغو ورفث الحديث وأمر بذكره فيها وإخلاص العبادة له.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «المساجد بيوت الله فى الأرض ، تضىء لأهل السماء كما تضىء النجوم لأهل الأرض».

وعن عمرو بن ميمون قال : «أدركت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يقولون : المساجد بيوت الله ، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها».

(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي ينزه الله ويقدسه فى أول النهار وآخره ، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجاراتهم عن ذكر ربهم وهو خالقهم ورازقهم ، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم ، فما عندهم ينفد ، وما عند الله باق ، ويؤدون الصلاة فى مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين ، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرا لأنفسهم من الأرجاس.

ونحو الآية قوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» الآية. وقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ».

١١٠

ثم ذكر السبب فى شغل أنفسهم بالعبادة فقال :

(يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي إنهم يخافون عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع ، وتشخص فيه القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف ونحو الآية قوله : «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» وقوله : «إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ».

ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم فقال :

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي يفعلون هذه القربات من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة مع الخوف من عذاب يوم القيامة ـ ليثيبهم الله على حسناتهم التي فعلوها ، فرضها ونفلها ، واجبها ومستحبها.

ونحو الآية قوله : «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ، فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً».

وفى قوله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) إيماء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم.

(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يجزيهم بأحسن الأعمال ، ويضاعف لهم ما يشاء كما قال : «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» وقال : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» وقال صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن ربه : «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».

ثم نبه إلى كمال قدرته وعظيم جوده وسعة إحسانه فقال :

(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفى به الحساب ، فهم لما اجتهدوا فى الطاعة ، وخافوا ربهم أشد الخوف ـ جازاهم بالثواب العظيم على طاعتهم وزادهم الفضل الذي لا غاية له ، لخوفهم من قهره وشديد عذابه.

١١١

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

تفسير المفردات

السراب : ما يرى فى الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب ويحرى على وجه الأرض كأنه ماء ، والقيعة والقاع : المنبسط من الأرض ، والظمآن : شديد العطش ، لجى : أي ذى لج (بالضم) واللجّ معظم الماء ، والمراد بحر عميق الماء كثيره ، يغشاه : أي يغطيه ، لم يكد يراها : أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه أحوال المؤمنين وأنهم فى الدنيا يكونون فى نور الله ، وبه يستمسكون بالعمل الصالح ، وفى الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم ـ أردف ذلك بيان حال أضدادهم وهم الكفار ، فذكر أنهم يكونون فى الآخرة فى أشد الخسران والبوار ، وفى الدنيا فى ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض ، وضرب لكلتا الحالين مثلا يوضحها أتم الإيضاح والبيان.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) شبه الأعمال الصالحة التي يعملها من جحدوا توحيد الله وكذبوا بهذا القرآن

١١٢

وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند الله وتنجيهم من عذابه ، ثم تخيب فى العاقبة آمالهم ويلقون خلاف ما قدّروا ـ بالسراب يراه من اشتد به العطش فيحسبه ماء فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغى ، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ـ هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعة منجيّة لهم من بأس الله ، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه ، واحتاج إلى ما به يروى غلّته.

ثم بين شديد عقابه بقوله :

(وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي ووجد عقاب الله الذي توعد به الكافرين أمامه ، وتحوّل ما كان يظنه نفعا عظيما إلى ضرر محقق وتجيئه الزبانية تعتله وتسوقه إلى جهنم وتسقيه الحمم والغساق.

ونحو الآية قوله : «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً».

(وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر.

وخلاصة ما سلف ـ إن الخيبة والخسران فى الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال فى الدنيا كصلة الأرحام ، وإغاثة الملهوفين ، وقرى الأضياف ونحو ذلك. وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم ، وهم مع ذلك جاحدو ووحدانيته مكذبون لرسله ، فما مثلهم إلا مثل من اشتد أوامه ورأى السراب فخاله ماء وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه ، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ورجع يخفّى حنين.

هذه حالهم فى الآخرة ، أما حالهم فى الدنيا فكما قال :

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي ومثل أعمالهم التي عملت على غير هدى مثل ظلمات مترادفة فى بحر عميق ماؤه ، بعيد غوره ، يغطّيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ـ فالظلمات هى أعمال الكافرين ، والبحر اللجىّ قلوبهم التي غمرها الجهل ، وتغشبتها الحيرة والضلالة ، فلا تعقل ما فى السكون من

١١٣

آيات ، ولا تسمع عظة الناصحين ، ولا تبصر حجج الله ، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض.

قال الحسن : الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل ، وقال ابن عباس : هى ظلمة قلبه وبصره وسمعه.

والخلاصة ـ إن الكافر لشدة إصراره على كفره تراكمت عليه الضلالات ، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها ، فقلبه مظلم فى صدر مظلم فى جسد مظلم.

(ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي ما تقدم ذكره ظلمات متراكمة ، فإن البحر يكون مظلم القعر جدا بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كان فوق الماء سحاب يغطّى النجوم ويحجب أنوارها بلغت الظلمة حدا عظيما.

(إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي إذا أخرج الناظر يده ، وهى أقرب ما يرى إليه ، لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أي ومن لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة فما له هداية من أحد.

ونحو الآية قوله : «وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ، وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ» وقوله : «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا».

وخلاصة ذلك ـ من لم يوله الله نور توفيقه ولطفه فهو فى ظلمة الباطل لا نور له.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))

١١٤

تفسير المفردات

يسبح : أي ينزه ويقدس ، صافات : أي باسطات أجنحتها فى الهواء ، المصير : المرجع.

المعنى الجملي

لما وصف سبحانه قلوب المؤمنين بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة ـ أردف ذلك ذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعة.

الإيضاح

(١) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي ألم تعلم بالدليل أن الله ينزهه آنا فآنا فى ذاته وصفاته وأفعاله جميع ما فى السموات والأرض من العقلاء وغيرهم ، تنزيها تفهمه أرباب العقول السليمة ، إذ كل المخلوقات فى وجودها وبقائها دالة على وجود خالق لها متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص.

وخص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال ، من جرّاء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلّوا بالتنزيه ، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه ، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك ، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوّا كبيرا.

كما ذكر الطير مع دخولها فى جملة ما فى الأرض ، من قبل أنها غير مستقرة فيها ، ولاستقلالها ببديع الصنع وإنبائها عن كمال قدرة خالقها ولطف تدبير مبدعها ، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف فى الجو وتتحرك كيف تشاء ، وإرشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا ـ حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد ، وحكمة المبدع المعيد.

١١٥

(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي كل مصلّ منهم ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه ، لا يخفى عليه شىء من أفعالهم طاعتها ومعصيتها ، وعلمه محيط بها ومجازيهم عليها.

وقد يكون المعنى ـ إن كل مصلّ ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما ، وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.

انظر إلى النحل كيف تبنى بيوتها السداسية الأشكال التي لا يتمكن من بنائها فطاحل المهندسين إلا بدقيق الآلات ، وإلى العنكبوت كيف تفعل الحيل اللطيفة لاصطياد الذباب ، وإلى الدبّ يستلقى فى ممر الثور ، حتى إذا قرب منه ورام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي إن لله تعالى ملك السموات والأرض وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادا وإعداما بدءا وإعادة ، وإليه وحده مصيركم ومعادكم ، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا ، فأحسنوا عبادته ، واجتهدوا فى طاعته ، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))

١١٦

تفسير المفردات

زجى : يسوق برفق وسهولة ، يؤلف : أي يجمع بين أجزائه وقطعه ، ركاما : أي متراكما بعضه فوق بعض ، الودق : المطر ، من خلاله : أي من فتوقه التي حدثت بالتراكم ، واحدها خلل كجبال وجبل ، من جبال : أي من قطع عظام تشبه الجبال ، والسنا : الضوء ، يذهب بالأبصار : أي يخطفها لشدة ضوئه وسرعة وروده ، وهو كقوله فى البقرة «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» يقلب الله الليل والنهار : أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا فى قصر ذاك حتى يعتدلا ويغير أحوالهما بالحر والبرد ، لأولى الأبصار : أي لأهل العقول والبصائر.

الإيضاح

(٣) هاتان الآيتان دليلان آخران على وحدانية الله وقدرته.

وخلاصتهما ـ انظر أيها الرسول الكريم إلى السحاب ، ويسوقه الله بقدرته أول ما ينشئه ، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض ، فينزل المطر من فتوقه ، وحينا ينزل منه قطعا كبيرة من البرد كأنها الجبال ، فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده ، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد إذا كان فوق الحاجة ، ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه ، وإلى ما فى هذا السحاب من برق يضىء بشدة وسرعة حتى ليكاد يخطف الأبصار ، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة ، إذ فيه توليد الضد من الضد ، ففيه توليد النار من الماء.

وانظر أيضا إلى اختلاف الليل والنهار وتقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر ، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة ، إن فى هذا لعبرة لمن اعتبر ، وعظة لمن تأمل فيه ممن له عقل ، فهو واضح الدلالة على أن له مدبرا ومقلّبا لا يشبهه شىء.

عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «قال الله تعالى : يؤذينى

١١٧

ابن آدم يسبّ الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنهار» أخرجه البخاري ومسلم.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))

الإيضاح

(٤) هذا هو رابع الأدلة على التوحيد ، فقد استدل بأحوال السماء والأرض ، وبالآثار العلوية ، وهنا استدل بأحوال الحيوان فقال :

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي والله خلق كل حيوان يدبّ على الأرض من ماء هو جزء مادته.

وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد ، لظهور احتياج الحيوان إليه ، ولا سيما بعد كمال تركيبه ، ولامتزاج الأجزاء الترابية به.

ثم فصل أقسام الحيوان مما يدب على وجه الأرض فقال :

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والسمك وغيرهما من الزواحف ، وسمى حركتها مشيا مع كونها تزحف زحفا ، إشارة إلى كمال القدرة ، وأنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشى.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش.

ولم يذكر سبحانه ما يمشى على أكثر من ذلك كالعناكب وغيرها من الحشرات ، لدخوله فى قوله :

(يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر ، مع الاختلاف فى الصور والأعضاء ، والحركات والطبائع ، والقوى والأفاعيل.

١١٨

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء ـ لذو قدرة فلا يتعذر عليه شىء أراده.

وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات فى الأعضاء والقوى ، ومقادير الأبدان والأعمال والأخلاق ـ لا بد أن يكون بتدبير مدبّر حكيم ، مطلع على أحوالها وأسرار خلقها ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، تعالى الله عما يقول الجاحدون علوا كبيرا (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

المعنى الجملي

بعد أن ساق سبحانه ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية وأحوال الحيوان ـ ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون لا خفاء فيها.

الإيضاح

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي لقد أنزلنا عليك دلائل واضحات على طريق الحق والرشاد ، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتى بصيرة نيرة ، وفطرة سليمة ، تضىء له الفكر حتى يسير على نهج الحق ويبتعد عن الغى والضلال ، ومن ثم قال :

(وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي والله يرشد من يشاء إلى الطريق الذي لا عوج فيه ، وهو إخلاص العبادة له وحده والإنابة إليه.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ

١١٩

بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

تفسير المفردات

يتولى : أي يعرض ، مذعنين : أي منقادين ، مرض : أي فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال ، ارتابوا : أي شكّوا فى نبوّتك ، يحيف : أي يجور ، الظالمون : أي الذين يريدون ظلم الناس وجحد حقوقهم ، ويخشى الله : أي فيما صدر منه من الذنوب فى الماضي ، ويتقه : أي فيما بقي من عمره ، جهد أيمانهم : أي أقصى غايتها من قولهم : جهد نفسه إذا بلغ أفصى وسعها وطاقتها ، تولوا : أي تتولوا (بحذف إحدى التاءين).

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتمّ بيانها ، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم ، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون

١٢٠