تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

الذين يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم ، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون صد ما يقولون ، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم ، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة ، ثم بيّن بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدّعون الإخلاص فيها ، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول فى كل ما يأمرهم به ، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبّوا الأمر سراعا ، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والإيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين ، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء ، فإن أبيتم فإنما علىّ التبليغ وعليكم السمع والطاعة ، فإن أطعتمونى اهتديتم ، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به ، وعلى الله الحساب والجزاء.

قال مقاتل : نزلت هذه الآية فى بشر المنافق دعاه يهودى فى خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ، ثم تحاكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم لليهودى فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال نتحاكم إلى عمر رضى الله عنه ، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لى النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه ، فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال بلى ، فقال مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل رضى الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ويقول هؤلاء المنافقون : صدّقنا بالله وبالرسول وأطعنا الرسول ، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة الله ورسوله ضلالا منهم عن الحق ، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان ، بل هم ممن فى قلوبهم مرض ، وقد مرنوا على النفاق ، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.

١٢١

وخلاصة ذلك ـ لا يدخل فى زمرة المؤمنين من يقول آمنا بالله والرسول وأطعنا ، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة وينحاز إلى غير المؤمنين.

ثم بين هذا التولّى بقوله :

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي وإذا دعى هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله ـ أعرضوا عن قبول الحق واستكبروا عن اتباع حكمه ، لأنه لا يحكم إلا بالحق.

ونحو الآية قوله : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً».

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا إلى الرسول مطيعين ، لعلهم بأنه يحكم لهم ، لأنه لا يحكم إلا بالحق ، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق ، بل لأنه وافق هواهم ، ومن جرّاء هذا لما خالف الحقّ قصدهم عدلوا عنه إلى غيره.

ثم فصل ما يحتمل أن يكون السبب فى عدولهم عن قبول حكمه صلّى الله عليه وسلّم بقوله :

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟) أي أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلّى الله عليه وسلّم أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق؟ أم سببه أنهم ارتابوا وشكّوا فى نبوته عليه السلام على ظهور أمرها؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم فى الحكم؟

وخلاصة ذلك ـ لا يخرج أمرهم عن أن يكون فى القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق ، أو عروض شك فى الدين ، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم ، وأيا كان الأمر فهو كفر وضلال ، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.

١٢٢

ثم أبطل السببين الأولين وأثبت الثالث فقال :

(بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب ، فهم ما عدلوا إلا لما فى قلوبهم من المرض والنفاق ، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم ومعصيتهم له فيما أمرهم به من الرضا بحكم رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أحبّوا وكرهوا ، والتسليم لقضائه.

وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق بين صفات المؤمن الكامل فقال :

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ينبغى أن يكون قول المؤمنين إذا دعاهم الداعون إلى حكم الله ورسوله فيما بينهم وبين خصومهم ـ سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم ، وأولئك هم الفائزون بكل مطلوب ، الناجون من كل مخوف.

وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع من الطاعة أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز فقال :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ، ويخش الله فيما صدر منه من الذنوب فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي ، ويتقه فى مستأنف أموره ، فأولئك الذين وصفوا بكل هذا هم الفائزون برضاه عنهم يوم القيامة ، والآمنون من عذابه.

ثم حكى سبحانه نوعا آخر من أكاذيب المنافقين بقوله :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) أي وحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها ـ لئن أمرتهم بالخروج للجهاد والغزو ليلبّنّ الطلب وليخرجنّ كما أمرت.

والخلاصة ـ إنهم أغلظوا الأيمان وشددوها فى أن يكونوا طوع أمرك ورهن اشارتك وقالوا : أينما تكن نكن معك ، فإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوّه بهذه الأيمان الفاجرة وأمره أن يقول لهم :

١٢٣

(قُلْ لا تُقْسِمُوا) أي قل لهم : لا تحلفوا ، فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى قسم ويمين لوضوح كذبه.

ثم علل النهى عن الحلف بقوله :

(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي لا تقسموا لأن طاعتكم معروفة لنا ، فهى طاعة باللسان فحسب من غير مواطأة القلب لها ، ولا يجهلها أحد من الناس.

ونحو الآية قوله : «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وقوله : «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ».

ثم هددهم وتوعدهم على أيمانهم الكاذبة وأنه مجازيهم على أعمالهم السيئة ، ولا سيما ذلك النفق المفضوح فقال :

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى لا تخفى عليه خافية من ظاهر أعمالكم وخافيها ، فيعلم ما تظهرونه من الطاعة المؤكدة بالأيمان الكاذبة ، وما تبطنونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين ونحو ذلك من أفانين الشر والفساد التي دبّرتموها.

ولما نبه سبحانه إلى خداعهم وأشار إلى عدم الاغترار بأيمانهم ـ أمر بترغيبهم وترهيهم مشيرا إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله :

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي مرهم باتباع كتاب الله وسنة رسوله ، وفى هذا إيماء إلى أن ما أظهروه من الطاعة ليسوا منها فى شىء.

ثم أكد الأمر السابق ، وبالغ فى إيجاب الامتثال به ، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي فإن تتولوا عن الطاعة بعد أن أمركم الرسول بها ، فما ضررتم الرسول بشىء ، بل ضررتم أنفسكم ، لأنه عليه

١٢٤

ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد فعل ، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة ، فإن أنتم لم تفعلوا وتولّيتم فقد عرّضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه ، وإن أطعتموه فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى ، فالنفع والضرر عائدان إليكم.

(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه ـ تهتدوا إلى الحق الموصّل إلى كل خير ، المنجّى من كل شر ، وما الرسول إلا ناصح وهاد ومبلّغ لكم ، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب ، وإن خالفتموه أوقعتم أنفسكم فى الهلكة.

والخلاصة ـ إن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة ، وقد بقي ما يجب عليكم أن تفعلوه.

ونحو الآية قوله : «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» وقوله : «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ».

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥))

المعنى الجملي

بعد أن بيّن أن من أطاع الرسول فقد اهتدى إلى الحق ، ومن اهتدى إلى الحق فجزاؤه دار النعيم ـ أردف ذلك وعده الكريم بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله خلفاء فى الأرض ، ويؤيدهم بالنصرة والإعزاز ، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا ، فيعبدون الله وحده وهم آمنون ، ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك فقد عصى ربه ، وكفر أنعمه.

١٢٥

روى الطبراني والحاكم وابن مردويه عن أبىّ بن كعب قال : «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا فى السلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟» فنزلت الآية.

الإيضاح

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم ـ ليورثنّهم أرض المشركين من العرب والعجم ، وليجعلنهم ملوكها وساستها ، كما استخلف بنى إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة وجعلهم ملوكها وسكانها.

وقد وفى سبحانه بوعده ، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم ، والمقوقس فى مصر ، والنجاشي ملك الحبشة.

ولما قبض صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى قام بالأمر من بعده الخلفاء الراشدون ، فنهحوا منهجه ، وافتتحوا كثيرا من المشرق والمغرب ، ومزّقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستعبدوا أبناء القياصرة ، وصدق قول رسوله «إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها».

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليجعلنّ دين الإسلام راسخا قويا ثابت القدم ، ويعظم أهله فى نفوس أعدائه الذين يواصلون الليل بالنهار فى التدبير لإطفاء أنواره ، لتعفو آثاره.

(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي وليغيرنّ حالهم من الخوف إلى الأمن قال الربيع من أنس : «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال

١٢٦

حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون فى السلاح ويصبحون فى السلاح ، فصبروا على ذلك ما شاء الله ، ثم إن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله : أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة ، فأنزل الله «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا» إلى آخر الآية.

ونحو الآية قوله : «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ثم أتبع ذلك بتعليل التمكين وما بعده بقوله :

(يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) أي يعبدوننى غير خائفين أحدا غيرى :

(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي ومن جحد هذه النعم فأولئك هم الذين أنكروا فضل المنعم بها ، وتناسوا جليل خطرها.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

تفسير المفردات

معجزين فى الأرض : أي جاعلين الله عاجزا عن إدراكهم وإهلاكهم وإن هربوا فى الأرض جميعها.

١٢٧

المعنى الجملي

بعد أن بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم فى الأرض ، ويجعل لهم من بعد الخوف أمنا ـ أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، شكرا له على ما أنعم به عليهم ، وإحسانا إلى عباده البائسين الفقراء كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزة وضعفهم قوة ، ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق ، مع كثرة عدد عدوهم وعددهم ، وبعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار ، وبئس القرار.

الإيضاح

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه الله فى مواقيتها ولا تضيعوها ، وآتوا الزكاة التي فرضها على أهلها ، لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوى البؤس والحاجة ، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه ، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه.

ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال ، ولا يجدون مهربا مما أوعدهم به ربهم فقال :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي أيها الرسول لا تضّنّ الكافرين يجدون مهربا فى الأرض إذا أردنا إهلاكهم ، بل نحن قادرون على أخذهم والبطش بهم متى أردنا ، والكلام من وادي قولهم : (اسمعي يا جاره).

وبعدئذ بين مآلهم فى الآخرة فقال :

(وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي كما أنا سنضيّق عليهم فى الدنيا وننكّل بهم ، ولا يفلتون من عذابنا ـ سنجعل عاقبة أمرهم نارا تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى.

١٢٨

والخلاصة ـ إنه سيلحقهم سخطنا فى الدنيا ، وسينالهم الذل والصغار ، وسيكون مصيرهم فى الآخرة سعيرا وحميما وغساقا ، جزاء وفاقا ، إنهم كذبوا بآياتنا كذابا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

تفسير المفردات

ما ملكت أيمانكم : يشمل العبيد والإماء أي الذكران والإناث ، الحلم : بسكون اللام وضمها أي وقت البلوغ ؛ إما بالاحتلام ، وإما ببلوغ الخامسة عشرة سنة من حلم بفتح اللام ، تضعون : أي تخلعون ، الظهيرة : وقت اشتداد الحرّ حين منتصف النهار ، والعورات : أي الأوقات التي يختل فيها تستركم ، من قولهم : أعور الفارس : إذا اختلت حاله. جناح : أي إثم وذنب ، طوافون عليكم : أي يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية ، القواعد : واحدها قاعد ، وهى العجوز ، لا يرجون نكاحا : أي لا يطمعن فيه لكبر سنهن ، والتبرج : التكلف فى إظهار ما يخفى من الزينة ، من قولهم : سفينة بارج ، إذا كان لا غطاء عليها.

١٢٩

المعنى الجملي

بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب فى البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها ، وبين أن فى ذلك الخير كل الخير لهم ، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا ؛ لما لذلك من كبير الأثر فى المجتمع الإسلامى ، بصيانة الآداب العامة ، ومنع القيل والقال ، وحفظ الأعراض والأنساب.

استثنى فى هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض ، ودخول المملوكين على سادتهم ، وبين أن الاستئذان لا يكون فى جميع الأوقات ، بل فى ثلاث أوقات هى عورات لأرباب البيوت ، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ فى الستر ، ثم ذكر أن النساء الطاعنات فى السن إذا لم يطمعن فى الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة ، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.

روى أن سبب نزول الآية «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضى الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج ، وكان عمر نائما فدقّ عليه الباب ودخل ، فاستيقظ وجلس ، فانكشف منه شىء ، فقال : لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن ، فانطلق معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجد الآية قد نزلت فخرّ ساجدا»

وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضى الله عنه للوحى.

وقيل إن السبب ما روى من أن أسماء بنت أبى مرشد دخل عليها غلام كبير لها فى وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها فنزلت الآية.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ

١٣٠

الْعِشاءِ) أي لا يدخل أيها المؤمنون فى بيوتكم عبيدكم وإماؤكم ثلاث مرات فى ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن : قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم وليس ثياب اليقظة ، وكل ذلك مظنة انكشاف العورة ، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء ، لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم.

وخص هذه الأوقات الثلاثة ، لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف.

وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم.

ثم علل طلب الاستئذان بقوله :

(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم يختل فيها التستر عادة.

وبعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث بين حكم ما عدا ذلك فقال :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ) أي ليس عليكم معشر ـ أرباب البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم ـ حرج ولا إثم فى غير هذه العورات الثلاث.

والخلاصة ـ لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث ـ أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.

ثم علل الإباحة فى غيرها بقوله :

(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم فى منازلهم غدوة وعشية بغير إذن ، لأنهم يخدمونهم ، أو لاحتياج الأقارب إليهم ، كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوى قرابتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم.

١٣١

ثم بين فضله على عباده فى بيان أحكام دينهم لهم فقال :

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ومثل هذا التبيين لتلك الأحكام يبين لكم شرائع دينكم وأحكامه ، والله عليم بما يصلح أحوال عباده ، حكيم فى تدبير أمورهم ، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم فى المعاش والمعاد.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» الآية ، وقوله فى النساء : «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى» الآية ، وقوله فى الحجرات : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ».

وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان فى العورات الثلاث التي أمر الله بها فى القرآن فقال : إن الله ستّير يحب الستر ، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال فى بيوتهم ، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه فى حجره وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا فى تلك العورات ، ثم بسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الجبال فرأوا أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به اه.

ولما بين الله حكم الأرقاء والصبيان الذين هم أطوع للأمر وأقبل لكل خير ـ أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله :

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وإذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم الأحرار سنّ الاحتلام وهو خمس عشرة سنة فلا يدخلوا عليكم فى كل حين إلا بإذن لا فى أوقات العورات الثلاث ولا فى غيرها ، كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.

وذكر الله فى هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال ـ لأن حكم ما ملكت اليمين وحد كبارهم ، صغارهم ، وهو الاستئذان فى الساعات الثلاث التي ذكرت فى الآية قبل

١٣٢

ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله :

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي كما بين لكم ما ذكر غاية البيان ، يبين لكم ما فيه سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم ، وهو العليم بأحوال خلقه ، الحكيم فيما يدبر لهم.

ولما بين سبحانه حكم الحجاب حين إقبال الشباب أتبعه بحكمه حين إدباره فقال :

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي والنّساء اللواتى قعدن عن الولد كبرا ، وقد يئسن من التبعل فلا يطمعن فى الأزواج ، فليس عليهن إثم ولا حرج أن يخلعن ثيابهن الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار إذا كنّ لا يبدين زينة خفية كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء.

وخلاصة ذلك ـ لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن فى بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب ، ما لم يقصدن بذلك الزينة وإظهار ما يجب إخفاؤه ـ هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمال تورث الشهوة ، فإن كان فيهن ذلك فلا يدخلن فى حكم الآية.

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) أي وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن ، فلبسنها كان ذلك خيرا لهن من خلعها ، لتباعدهن حينئذ عن التّهمة ، ولقد قالوا : لكل ساقطة فى الحىّ لاقطة.

ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال :

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع بما يجرى بينهن وبين الرجال من الأحاديث ، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن ، فاحذروا أن يسوّل لكم الشيطان مخالفة ما به أمر ، وعنه نهى.

١٣٣

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

تفسير المفردات

الحرج لغة : الضيق ، ويراد به فى الدين الإثم ، ما ملكتم مفاتحه : أي ما كان تحت تصرفكم من بستان أو ماشية بطريق الوكالة أو الحفظ ، والصديق : يطلق على الواحد والجمع كالخليط والعدو ، جميعا : أي مجتمعين ، أشتاتا : أي متفرقين ، واحدهم شتيت ، على أنفسكم : أي على أهل البيوت ، طيّبة : أي تطيب بها نفس المستمع.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن للمماليك والصبيان الدخول فى البيوت فى غير العورات الثلاث بلا استئذان ولا إذن من أهل البيت ـ ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة فى تركهم للجهاد وما يشبهه ، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه صلّى الله عليه وسلم فلهم القعود من غير استئذان ولا إذن ، كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم فى الأكل من البيوت المذكورة فى الآية.

١٣٤

قال صاحب الكشاف : والكلام على هذا التفسير صحيح لالتقاء الطائفتين فى أن كلا منهما منفى عنه الحرج ، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار فى رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاجّ أن تقدّم الحلق على النحر اه.

قال الحسن : أنزلت الآية فى ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد وكان أعمى.

وقال مقاتل : نزلت فى الحارث بن عمرو ، وكان قد خرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غازيا وخلف مالك بن يزيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك.

الإيضاح

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم فى ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم : قاله عطاء وزيد بن أسلم.

ونحو الآية قوله فى سورة براءة : «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد من الحرج المنفي فى الآية الحرج فى الأكل ؛ ذلك أنه لما نزل قوله تعالى : «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى على هذه الرواية : ليس فى مؤاكلة الأعمى ولا ما بعده حرج.

(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، ويشمل ذلك بيوت الأولاد ، لأن بيت الولد كبيته ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك»وقوله «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه ، وإن ولده من كسبه».

١٣٥

وفائدة ذكر قوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن ، فقد كثر إقحام (النفس) فى ذوى القدر كقوله : «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» ولم يقل : كتب ربكم عليه الرحمة ، وقوله فى الحديث القدسي «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى» ولم يقل : حرمت الظلم علىّ وذكر هذا الحكم وهو معلوم ، ليعطف عليه غيره فى اللفظ ، وليساويه ما بعده فى الحكم.

(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) لما علم بالعادة أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب.

(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه فى ضيعته وماشيته ، فلا حرج عليه أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية ، ولكن لا يحمل ولا يدّخر ، وهذا إذا لم يجعل له أجرا على ذلك ، فإن جعل له أجرا فلا يحل له أكل شىء منها.

(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي أو بيوت أصدقائكم الذين يصدقونكم المودة وتصدقونهم ، هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن أو بشاهد الحال ، ولا فرق بينهم وبين غيرهم إذا وجد الإذن.

قال ابن زيد : هذا شىء قد انقطع ، إنما كان فى أوّله ولم يكن لهم ستور أبواب ، أو كانت الستور مرخاة ؛ فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد ، وربما وجد الطعام وهو جائع ، فسوّغ له أن يأكل منه ، ثم قال ذهب ذلك اليوم ، البيوت فيها أهلها ، فإذا خرجوا أغلقوا اه.

وعلى هذا ، فالمعنى يجوز الأكل من بيوت هؤلاء وإن لم يحضروا إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة.

وإنما خص هؤلاء بالذكر ، لأنهم اعتادوا التبسط بينهم ، والرضا فيهم محقق غالبا

١٣٦

وعن جعفر الصادق رضى الله عنه. من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ.

وقيل لأفلاطون : من أحب إليك : أخوك أم صديقك؟ فقال لا أحب أخى إلا إذا كان صديقى ، ولكن أنّى هو؟ فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال : نلت مانلت حتى الخلافة ، وأعوزنى صديق لا أحتشم منه.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) أي لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين ، روى عن ابن عباس والضحاك وقتادة أنها نزلت فى بنى ليث ابن عمرو بن كنانة تحرّجوا أن يأكلوا طعامهم متفرقين ، وكان الرجل منهم يمكث طوال يومه لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله إلى الرواح ، وقد تكون معه الإبل الحفّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، وفى مثل هذا يقول حاتم :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسى له

أكيلا فإنى لست آكله وحدي

وفى الحديث : «شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده» وإنما ذمّ هذا لأنه بخل بالقرى.

ثم شرع سبحانه يبين ما ينبغى رعايته حين دخول البيوت بعد أن ذكر الرخصة.

فيه فقال :

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض.

وفى التعبير عن أهل تلك البيوتات (بأنفسكم) إيماء إلى السبب الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت ، وأنه إنما كان ؛ لأن الداخل فيها كأنه داخل فى بيته ، لما بينهما من قرابة أو نحوها.

١٣٧

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) أي حيّوا تحية ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه ، يرجى بها زيادة الخير والثواب ، ويطيب بها قلب المستمع.

وعن جابر بن عبد الله قال : «إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة» أخرجه البخاري وغيره.

روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال : أوصانى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخمس خصال قال : «يا أنس أسبغ الوضوء يزد فى عمرك ، وسلّم على من لقيك من أمتى تكثر حسناتك ، وإذا دخلت (يعنى بيتك) فسلم على أهلك يكثر خير بيتك ، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأوّابين قبلك ، يا أنس ، ارحم الصغير ، ووقّر الكبير ، تكن من رفقائى يوم القيامة».

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم ، كما فصّل لكم فى هذه الآية ما أحل لكم فيها ، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه ، لكى تفقهوا أمره ونهيه وأدبه ، وبذا تفوزون بسعادة الدارين ، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ

١٣٨

ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

تفسير المفردات

أمر جامع : أي خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب والآراء كقتال عدو أو تشاور فى حادث قد عرض ، والتسلل : الخروج من البيت تدريجا وخفية ، واللواد والملاوذة : التستر ، يقال لاذ فلان بكذا ، إذا استتر به ، والمخالفة : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى حاله أو فعله ، فتنة : أي بلاء وامتحان فى الدنيا ، عذاب أليم : أي عذاب مؤلم موجع فى الآخرة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج ، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كتشاور فى قتال أحد أو فى حادث عرض ، وبيّن أن من يفعل ذلك فهو من كاملى الإيمان ، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه ، ثم أمر المؤمنين أن يبجّلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبى الله ، ويا رسول الله ، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته ، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله ، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان ، وقد ثبت فى الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».

الإيضاح

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله ،

١٣٩

وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت ، أو صلاة اجتمع لها ، أو تشاور فى أمر قد نزل ، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له حتى يستأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا أدب على نهج سابقه ، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان حين الدخول ، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف ، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع ، روى الترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة».

ولما كان الإذن كالدليل على كمال الإيمان والمميّز للمخلص من غيره أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي إن الذين لا ينصرفون إذا كانوا معك أيها الرسول في أمر جامع إلا بإذنك لهم ، طاعة منهم لله ولك ، وتصديقا بما أتيتهم به من عنده ـ أولئك هم المؤمنون حقا.

ولما ذكر ما يلزم المؤمن من الاستئذان أعقبه بما يفعله الرسول حينئذ فقال :

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أي فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهامّ أمورهم فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له ، بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها ، كما وقع لعمر رضى الله عنه حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلّم فى غزوة تبوك ، حيث استأذن فى الرجوع إلى أهله فأذن له صلّى الله عليه وسلّم وقال له : ارجع فلست بمنافق.

(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وادع الله أن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم ، إنه غفور لذنوب عباده التائبين ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.

١٤٠