تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟) أي إن ما ادعى أنه سيكون ، لا يعلم إلا بأحد الأمرين : إما علم الغيب ، وإما عهد من عالم الغيب ، فبأيهما هو قد وصل إليه؟.

وقصارى ذلك ـ أو قد بلغ من عظم شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي انفرد به الواحد القهار ، أم أعطاه الله عهدا موثقا وقال له : إن ذلك كائن لا محالة؟.

ثم زاد فى تأكيد خطئه وهدده بقوله :

(كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي ليس الأمر كذلك ، ما اطلع على الغيب ، فعلم صدق ما يقول وحقيقة ما يذكر ، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا موثّقا بذلك ، بل كذب وكفر بربه ، وسنظهر له أننا كتبنا قوله ، ونزيده من العذاب فى جهنم بقيله الكذب والباطل فى الدنيا زيادة على كفره بالله وتكذيبه برسوله.

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) أي ونسلبه ما عنده من المال والولد ونأخذه منه أخذ الوارث ما يرث ، ويأتينا إذ ذاك فردا لا يصحبه مال ولا ولد مما كان له فى الدنيا.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

تفسير المفردات

العز : المنعة والقوة ، سيكفرون : أي سيجحدون ، ضدّا : أي أعداء وأعوانا

٨١

عليهم والأزّ والهز والاستفزاز : شدة الإزعاج ؛ والمراد الإغراء على المعاصي والتهييج لها بالتسويلات ، وتحبيب الشهوات ، فلا تعجل عليهم : أي فلا تطلب الاستعجال بهلاكهم ، الوفد والوفود والأوفاد : واحدهم وافد ، وهم القوم يقدمون على الملوك يستنجزون الحوائج ، والمراد يقدمون مكرمين مبجلين ركبانا إلى الرحمن : أي إلى دار كرامته وهى الجنة ، وردا : أي مشاة مهانين باستخفاف واحتقار كأنهم نعم تساق إلى الماء ، والمراد بالعهد شهادة أن لا إله إلا الله ، والتبري من الحول والقوة ، وعدم رجاء أحد إلا الله

المعنى الجملي

بعد أن ذكر إنكار المشركين للبعث مع قيام الدليل على إمكانه بما يشاهد من أمر الخلق فى النشأة الأولى ـ أردف ذلك الرد على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ليعتزوا بهم يوم القيامة عند ربهم ، ويكونوا شفعاء لهم لديه ، فبيّن أنهم سيكونون لهم أعداء ، وأنه ما جرّأهم على تلك الغواية إلا وسوسة الشيطان لهم ، ثم طلب إلى رسوله ألا يستعجل المشركين فإنما هى أنفاس معدودات ثم يهلكون ، ثم ذكر ما يحوط المؤمنين من الكرامة حين وفودهم إلى ربهم. وما يحيق بالمشركين من الإهانة حين يردون عليه.

الإيضاح

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي واتخذ المشركون من قومك أيها الرسول ـ آلهة يعبدونهم من دون الله ، ليعتزوا بهم ويجعلوهم شفعاء عند ربهم يقربونهم إليه (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي ليس الأمر كما ظنوا وأمّلوا فى أنها تنقذهم من عذاب الله وتنجيهم منه ، بل ستجحد الآلهة عبادتهم إياهم وينطق الله من لم يكن ناطقا منهم ، فيقولون ما عبدتمونا كما قال سبحانه : «وَإِذا رَأَى

٨٢

الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» وقال : «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» وقال حاكيا عنهم : «ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ» ويكونون أعداء لهم وأعوانا عليهم إذ يلعنونهم ويتبرءون منهم.

وبعد أن ذكر سبحانه ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم فى الآخرة ، ذكر ما لهم مع الشياطين فى الدنيا ، وأنهم يتولّونهم وينقادون لهم فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي ألم تعلم أنا سلطنا الشياطين على الكافرين ومكناهم من إضلالهم ، فهم يغرونهم بالمعاصي ، ويهيجونهم على الوقوع فيها.

وخلاصة ما سلف ـ تعجيب رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما حكته الآيات السالفة عن هؤلاء الكفرة من تماديهم فى الغى ، وانهما كهم فى الضلال ، وتصميمهم على الكفر بدون رادع ولا زاجر ، ومدافعتهم للحق مع وضوحه ، وتنبيه له إلى أن ذلك إنما كان بإضلال الشياطين وإغوائهم ، لا لقصور فى التبليغ.

وفى هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهوين للأمر على نفسه.

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) بأن تطلب إهلاكهم وإبادتهم بعذاب الاستئصال حتى تطهر الأرض من خبائث أعمالهم.

ثم علل هذا النهى بأن حين هلاكهم قريب فقال :

(إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي إنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قليلة نعدّها عدا ، وعن ابن عباس أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك. آخر العدد فراق أهلك ، آخر العدد دخول قبرك ـ وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأ الآية ثم قال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ، ولم يكن لها مدد ، فما أسرع ما تنفذ :

إن الحبيب من الأحباب مختلس

لا يمنع الموت بواب ولا حرس

وكيف يفرح بالدنيا ولذتها

فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس

٨٣

وقد أفصح عن هذا شاعر مصر أحمد بك شوقى فقال :

دقات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثوانى

ثم بين سبحانه ما سيظهر فى ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين فى كيفية الحشر فقال :

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي واذكر أيها الرسول لقومك ، يوم نحشر المتقين إلى دار الكرامة ركبانا ، كما يفد الوافدون على أبواب الملوك ، ينتظرون إكرامهم وإنعامهم.

وقد أثر عن علىّ أنه قال : والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ، ولا يساقون سوقا ، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها. وعليها رحال الذهب. وأزمّتها الزبرجد ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ـ وهذا تمثيل لحالهم فى عزهم وعظمتهم وإكرام ربهم لهم.

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي ونسوق الكافرين بالله إلى جهنم مشاة قد تقطعت أعناقهم من العطش ، فهم كالدواب التي ترد الماء.

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي لا يملك العباد الشفاعة إلا من اتخذ عهدا عند الله ، بأن أعد لها عدّتها فكان فى الدنيا هاديا مصلحا ، فيكون فى الآخرة شافعا مشفّعا ، لا جرم أن ينالها فى الآخرة على مقدار هدايته فى الدنيا ، فالشفاعة حينئذ لا تكون إلا للأنبياء والعلماء والشهداء على مقدار أتباعهم.

روى أن ابن مسعود قرأ هذه الآية ثم قال : أتّخذ عند الله عهدا ، فإن الله يقول يوم القيامة : من كان له عند الله عهد فليقم ، قالوا يا أبا عبد الرحمن فعلّمنا ، قال : قولوا «اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إنى أعهد إليك فى هذه الحياة الدنيا ألا تكلنى إلى عمل يقربنى من الشر ويباعدنى من الخير ، وإنى لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لى عندك عهدا تؤديه إلىّ يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد».

٨٤

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرّنى ، ومن سرنى فقد اتخذ عند الرحمن عهدا ، فلا تمسه النار ، إن الله لا يخلف الميعاد» ، وأخرج الطبراني فى الأوسط عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينتقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه ، ومن جاء قد انتقص منها شيئا فليس له عند الله عهد ، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه».

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢))

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

تفسير المفردات

جئتم : أي فعلتم والإدّ : (بالكسر والفتح) المنكر العظيم ، والإدة : الشدة يقال أدّنى الأمر وآدنى : أثقلنى وعظم علىّ ، والتفطر : التشقق ، وتخر : تسقط وتنهدم ، دعوا : أي نسبوا وأثبتوا ، قال شاعرهم :

إنا بنى نهشل لا ندّعى لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

عبدا : أي منقادا خاضعا كما يفعل العبيد ، أحصاهم : عدّهم وأحاط بهم ، وعدهم عدّا : أي عد أشخاصهم ، فردا : أي منفردا لا شىء معه من الأنصار والأتباع.

٨٥

المعنى الجملي

بعد أن ردّ على عبدة الأوثان ، وأثبت لهم بقاطع الأدلة أنهم فى ضلالهم يعمهون ، وأنهم عن الحق معرضون ـ أردف ذلك الرد على من أثبت له الولد كاليهود الذين قالوا عزير ابن الله ، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله ، والمشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

الإيضاح

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا). أي وقال الكافرون بالله : إن للرحمن ولدا ، لقد جئتم أيها القائلون بمقالكم هذا شيئا منكرا عظيما يدل على الجرأة على الله وكمال القحة عليه سبحانه ، وإنه ليغضبه أشد الغضب ، ويسخطه أعظم السخط.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي إن السموات ، تكاد تتشقق منه لشدة هوله ، وعظم شأنه ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك. نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين.

(وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي تخسف بهم.

(وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) أي تسقط وتنهد هدا ، فتنطبق عليهم ، روى عن ابن عباس أنه قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت تزول منه ، لعظمة الله وكماله.

وقصارى ذلك ـ إن هذه الكلمة الشنعاء لو صوّرت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام ، وتفرقت أجزاؤها من شدتها.

وفى ذلك تنبيه إلى غضب الله تعالى على قائل هذه الكلمة ، وأنه لو لا حلمه سبحانه لهلك.

٨٦

ثم بين علة ذلك فقال :

(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أي من أجل أنهم نسبوا إلى الله اتخاذ الولد.

ثم نفى ذلك عن نفسه بقوله :

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي وما يليق به اتخاذ الولد ، لأن ذلك يقتضى التجانس بينهما وأن يكون كل منهما حادثا ، ولأن الولد إنما يكون للسرور به ، والاستعانة به حين الحاجة ، وللذكر الجميل ، إلى نحو أولئك من المقاصد التي يتنزه عنها ربنا جل وعلا.

ثم زاد الإنكار توكيدا فقال :

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) أي ما من أحد من الملائكة والإنس والجن إلا وهو مملوك له سبحانه ، ينقاد لحكمه ، ويلتجىء إليه حين الحاجة ، ويخضع له خضوع العبد لسيده.

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ) أي لقد حصرهم وأحاط بهم ، فهم تحت أمره وتدبيره ، يعلم ما خفى من أحوالهم وما ظهر ، لا يفوته شىء منها.

(وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي وعدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأقوالهم ، فكل شىء عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة.

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي وكل امرئ منهم يأتيه يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والأنصار ، منقطعا إليه تعالى ، محتاجا إلى معونته ورحمته.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

٨٧

تفسير المفردات

الود : المودة والمحبة ، بلسانك : أي بلغتك ، واللّدّ : واحدهم ألد ، وهو الشديد الخصومة ، وركزا : أي صوتا خفيّا.

المعنى الجملي

بعد أن فصّل سبحانه أحوال الكافرين فى الدنيا والآخرة ، وبالغ فى الرد عليهم ـ ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين ، وبين أنه سبحانه سيغرس محبتهم فى قلوب عباده ، وبعد أن استقصى فى السورة دلائل التوحيد والنبوة والحشر ورد فيها على فرق المبطلين بين أنه يسر ذلك بلسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليبشر به المتقين ، وينذر به قوما من المشركين ذوى الجدل والمماراة.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) أي إن الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسله وبما جاءوهم به من عنده وعملوا به فأحلوا حلاله وحرموا حرامه ، سيجعل لهم الله محبة فى قلوب عباده المؤمنين.

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي فى جمع كثير عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «إذا أحب الله تعالى عبدا يقول لجبريل : إنى قد أحببت فلا نا فأحبه ، فينادى فى السماء ، ثم تنزل له المحبة فى الأرض ، فذلك قول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية».

وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه : «قل اللهم اجعل لى عندك عهدا ، واجعل لى فى صدور المؤمنين ودا ، فأنزل الله سبحانه الآية».

٨٨

وكان هرم بن حيّان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.

وخلاصة ذلك ـ سيجعل الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات مودة فى القلوب يزرعها لهم من غير تودد منهم ، ولا تعرّض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف.

وقد خصهم الله بهذه الكرامة كما : قذف الرعب فى قلوب أعدائهم منهم إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم.

ثم ذكر الحكمة فى إنزال القرآن بلغة العرب فقال :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أي فإنما سهلنا نزول القرآن بلغتك العربية لتقرأه على الناس وتبشر به من اتقى عقاب الله ، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه ، بأن له الجنة ، وتنذر به من عصاه من قريش ، وهم أهل اللدد والجدل بالهوى ممن لا يقبل حقا ، ولا يحيد عن باطل.

وقصارى ذلك ـ بلّغ هذا المنزّل وبشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك العربي المبين ، ليسهل على الناس فهمه ثم ختم السورة بتلك العظة البالغة فقال :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً؟) أي وقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبل هولاء المعاندين ، حين سلكوا فى خلافى مسلك هؤلاء ، وركبوا معاصىّ ، فهل تحس منهم أحدا فتراه وتعاينه أو تسمع له صوتا؟ لا ـ إنهم بادوا وخلت منهم الديار ، وأقفرت المنازل ، وصاروا إلى دار لا ينفع فيها إلا صالح العمل ، وإن قومك لصائرون إلى مثل ما صاروا إليه ، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.

٨٩

وفى هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر والغلبة على هؤلاء المشركين ، ووعيد لأولئك الكافرين الجاحدين ، وحث له على التبشير والإنذار.

وقصارى ذلك ـ إنا أهلكنا هم ، فلم نبق منهم أحدا تراه ، ولا تسمع له صوتا خفيا ولا ظاهرا.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين.

خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد

(١) دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدا سريا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك (٢) استجابة الله دعاءه وبشارته بولد يسمى يحيى لم يسمّ أحد من قبله بمثل اسمه.

(٣) تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين : أمّ عاقر وأب شيخ هرم.

(٤) طلبه العلامة على أن امرأته حامل.

(٥) إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيا.

(٦) ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها ، وتمثل جبريل لها بشرا سويا ، والتجائها إلى الله أن يدفع عنها شر هذا الرجل ، وإخباره لها أنه ملك لا بشر.

(٧) حملها بعيسى عليه السلام وانتباذها مكانا قصيا حتى لا يراها الناس وهى على تلك الحال.

(٨) نداء عيسى لها حين الولادة ، وأمرها بهزّ النخلة حتى تساقط عليها رطبا جنيا.

(٩) مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهى على تلك الحال وقد انهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى.

٩٠

(١٠) كلام عيسى وهو فى المهد تبرئة لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال من النبوة والبركة والبر بوالديه وأنه لم يكن جبارا متكبرا على خالقه.

(١١) اختلاف النصارى فى شأنه.

(١٢) قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر ووصفه له بالجهل وعدم التأمل فى المعبودات التي يعبدها من دون الله ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله ، وردّ أبيه عليه مهددا متوعدا (١٣) هبة الله له إسحاق ويعقوب ، وإيتاؤهما الحكم والنبوة.

(١٤) قصص موسى ومناجاته ربه فى الطور ، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرا ونبيا.

(١٥) قصص إسماعيل ووصف الله له بصدق الوعد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

(١٦) قصص إدريس عليه السلام ووصف الله له بأنه صديق نبى رفيع القدر ، عظيم المنزلة عند ربه.

(١٧) مجىء خلف من بعد هؤلاء الأنبياء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.

(١٨) وعد الله لمن تاب وآمن وعمل صالحا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم.

(١٩) إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه.

(٢٠) إنكار المشركين للبعث استبعادا له ، ورد الله عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.

(٢١) الإخبار بأن الله يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين ثم يحضرهم حول جهنم جثيا ، ثم بدئه بمن هو أشد جرما والله أعلم بهم.

(٢٢) الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار ثم ينجى الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.

(٢٣) بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا وأكرم منهم مكانا.

٩١

(٢٤) تهديدهم بأنه أهلك كثيرا ممن كان مثلهم فى العتو والاستكبار ، وأكثر أثاثا ورياشا.

(٢٥) بيان أن الله يمد للظالم ويمهله ، ليجترح من السيئات ما شاء ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

(٢٦) النعي على المشركين باتخاذ الشركاء ، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء.

(٢٧) نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن طلب تعجيل هلاك المشركين ، إذ أن حياتهم مهما طالت فهى محدودة معدودة.

(٢٨) التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة ، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان.

(٢٩) النعي الشديد على من ادعى أن لله ولدا.

(٣٠) بيان أن الله قد أنزل كتابه بلسان عربى مبين ، ليبشر به المتقين ، وينذر به الكافرين ذوى اللدد والخصومة.

٩٢

سورة طه

هى مكية إلا آيتي ١٣٠ ، ١٣١ فمدنيتان ، وآيها خمس وثلاثون بعد المائة ، نزلت بعد سورة مريم.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إنه لما ذكر فى سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين ، بعضها بطريق البسط والإطناب كقصص زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ، وبعضها بين البسط والإيجاز كقصص إبراهيم عليه السلام ، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام ، ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال ـ ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف ، واستوعبها غاية الاستيعاب ، ثم فصّل قصة آدم عليه السلام ، ولم يذكر فى سورة مريم إلا اسمه فحسب.

(٢) إنه روى عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها.

(٣) إن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة ومناسب له فى المعنى ، إذ ذكر فى آخر تلك أنه إنما يسّر القرآن بلسانه العربي المبين ، ليكون تبشيرا للمتقين وإنذارا للمعاندين ، وفى أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

٩٣

تفسير المفردات

لتشقى : أي لتتعب وتنصب ، تذكرة : أي تذكيرا وعظة ، يخشى : أي يخاف الله ، العلى : واحدها العليا مؤنثة الأعلى كالكبرى مؤنثة الأكبر ، والعرش : فى اللغة سرير الملك ، ويراد به فى لسان الشرع مركز تدبير العالم ، واستوى : استولى عليه قال شاعرهم :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

والثرى : التراب الندىّ ؛ والمراد هنا مطلق التراب ، وأخفى : أي من السر وهو ما أخطرته ببالك دون أن تتفوّه به بحال ، والأسماء : أي الصفات كما جاء فى قوله : «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ» أي صفوهم ، والحسنى : مؤنثة الأحسن.

المعنى الجملي

روى مقاتل أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدىّ والنضر بن الحرث قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم : إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك ، فقال عليه السلام : بل بعثت رحمة للعالمين ، قالوا بل أنت تشقى ، فأنزل الله الآية ردا عليهم ، وتعريفا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم ، بأن دين الإسلام هو السبيل إلى نيل كل فوز ، وسبب إدراك كل سعادة ، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.

الإيضاح

(طه) تقدم أن قلنا إن أصح الآراء فى الحروف المقطّعة التي فى أوائل السور أنها حروف تنبيه كألا ويا ونحوهما مما يذكر فى أوائل الجمل لقصد تنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها لأهميته وإرادة إصغائه إليه نحو ما جاء فى قوله تعالى. «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» وينطق بأسمائها حين القراءة فيقال (طا. ها)

٩٤

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب وتغلو فى مكابدة الشدائد حين تحاور أولئك القوم الطغاة ، وتقاول أولئك العتاة ، وتفرط فى الأسى على كفرهم ، وتتحسر على عدم إيمانهم ، بل أنزلناه عليك لتبلّغ وتذكّر وقد فعلت ، فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد هذا.

ونحو الآية قوله : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

وقصارى ذلك ـ إنا أنزلناه عليك لتذكر به ، فمن آمن وأصلح فلنفسه ، ومن كفر فلا يحزنك كفره ، إن عليك إلا البلاغ ، ولست عليهم بمسيطر.

وفى هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم على ما كان يعتريه من التعب والنّصب حين كان يدعو أولئك القوم ذوى اللدد والخصومة ، ولا عجب فالكلام صنعتهم ، وبه يتفاخرون ، وعليه يعتمدون ، إذ يقرعون الحجة بالحجة ، والبرهان بالبرهان ، وهو لديهم أمضى من السّنان.

(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي ما أنزلناه عليك لشقائك ، ولكن أنزلناه تذكيرا لمن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه ، وحسن استعداده ، وقد كان عليه السلام يعظهم به بتلاوته وتفسير ما جاء به من مقاصد وأغراض ومصالح لهم فى دنياهم وآخرتهم.

وخص الخاشعين بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم ، من قبل أن غيرهم كأنه لا وجود له لعدم انتفاعه به.

وخلاصة ذلك ـ حسبك ما حمّلته من متاعب التبليغ والتبشير والإنذار ، ولا تنهك بدنك بحملهم على قبول الدعوة والاستجابة لأمرك ، فإن ذلك من شأننا لا من شأنك ، وبيدنا لا بيدك.

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي نزّل عليك تنزيلا من ربك الذي خلق الأرض والسموات العلى ، والمراد بهما ما فى جهة السفل والعلو ، ويستتبع ذلك كل ما يتعلق بهما.

٩٥

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أي هو الرحمن الذي على عرشه ارتفع وعلا ، وقد تقدم إيضاح هذا فى سورة الأعراف ببسط وإطناب.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) أي له ما فى السموات والأرض وما بينهما ملكا وتدبيرا وتصرفا ، وله ما واراه التراب وأخفاه من المعادن والفلزّات وغيرها.

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي وإن تجهر بدعاء الله وذكره ، فاعلم أنه تعالى غنىّ عن جهرك ، لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع به صوتك ، وأخفى منه مما تخطره ببالك دون أن تنفوّه به.

والدعاء والذكر باللسان إنما شرعا ليتصور الداعي والذاكر المعنى فى نفسه ، لا ليسمع صوته ، ولا فضل للنطق والجهر به إلا فى منع الشواغل الشاغلة عن حضور المعاني فى القلوب كما قال تعالى : «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ونحو الآية قوله : «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ».

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي إن ما ذكر من صفات الكمال التي تقدمت ليس بأهل لها إلا ذلك المعبود الحق الذي لا رب غيره ولا إله سواه ، وله الصفات الحسنى الدالة على التقديس والتمجيد ، والأفعال التي هى غاية فى الحكمة والسداد.

قصص موسى عليه السلام

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

٩٦

تفسير المفردات

الحديث : كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحى فى يقظته أو فى منامه ، والمكث : الإقامة ، آنست : أي أبصرت ، آتيكم : أجيئكم ، بقبس : أي بشعلة مقتبسة على رأس عود ونحوه ، هدى : أي هاديا يدلنى على الطريق ، طوى : (بالضم) منونا : اسم لذلك الوادي ، اخترتك : أي اصطفيتك ، لذكرى : أي لتكون ذاكرا لى ، أكاد أخفيها : أي أبالغ فى إخفائها ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية ، هواه : أي ما تهواه نفسه ، فتردى : أي فتهلك.

المعنى الجملي

بعد أن عظم سبحانه كتابه والرسول الذي أنزل عليه بما كلفه به من التبليغ بالإنذار والتبشير ـ أتبع ذلك بما يقوى قلبه من قصص الأنبياء وما فعلته أممهم معهم وكيف كانت العاقبة لهم والنصر حليفهم ، ففى هذا سلوى له وتأسّ بهم فيما قاموا به من الذّود عن الحق مهما أصابهم من العنت والأذى من جراء الدعوة إليه ، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله : «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ».

وبدأ بقصص موسى ، لأن محنته كانت أشد ، فقد تحمل من المكاره ما تنوء به راسيات الجبال ، وقابل ذلك بعزم لا يفتر ، وبقوة تفلّ الحديد.

٩٧

الإيضاح

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً) أي وهل بلغك كيف كان ابتداء الوحى إلى موسى وتكليم الله إياه.

ومن سنن العربية أنه إذا أريد تثبيت الخبر ، وتقرير الجواب فى نفس المخاطب ، أن يلقى إليه بطريق الاستفهام ، فيقول المرء لصاحبه : هل بلغك كذا وكذا ، فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر ، ويصغى إليه أتم الإصغاء.

روى أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا فى الرجوع إلى والدته ، فإذن له بعد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره فى رعاية الغنم ، فخرج وسار قاصدا مصر بعد أن طالت غيبته عنها ، فقد زادت على عشر سنين ومعه زوجه ، فولد له ابن فى الطريق فى ليلة شاتية ذات ثلج وبرد وسحاب وضباب وظلام ، ونزل منزلا بين شعاب وجبال ، وجعل يقدح بزند كان معه ليورى نارا ، فلم تور المقدحة شيئا ، وبينا هو يزال ذلك ويعالجه ، إذ رأى نارا من بعد عن يسار الطريق.

(فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي فقال لامرأته وولدها وخادمها مبشرا لهم : أقيموا مكانكم إنى أبصرت نارا وسأذهب إليها لعلنى أجيئكم منها بشعلة مقتبسة على رأس عود أو نحوه ، أو أجد هاديا يدلنى على الطريق ، وجاء فى سورة القصص : «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ».

وقصارى ذلك ـ إنه قال لأهله أقيموا مكانكم ـ وإنى قد رأيت نارا فإما أن آتيكم منها بقبس تشعلون منه نارا تصطلون بها ، وإما أن أجد دليلا يرشدنى إلى الطريق المسلوك وكان قد ضل عنه.

٩٨

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي فلما خرج موسى نحوها وجد نارا بيضاء تتقد كأضو إما يكون فى شجرة خضراء ، فلا ضوء النار يغير خضرتها ، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار ـ وهناك نودى يا موسى ، قال من المتكلم؟ قال إنى أنا ربك.

ثم أمره أن يخلع نعليه احتراما للبقعة المقدسة فقال :

(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إذ أن الحفوة أقرب إلى التواضع وحسن الأدب ، ومن ثم طاف السلف الصالح بالكعبة حافين.

ثم بين سبب الأمر بذلك بقوله :

(إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي لأنك بالوادي المطهّر المسمى بطوى ، فاخلعها ليحصل للقدمين بركته.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي وأنا اصطفيتك من قومك بالنبوة والرسالة ، فعليك أن تسمع لما أوحيه إليك.

ونحو الآية قوله : «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي».

وقصارى ذلك ـ لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له ، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه ، وقد قالوا : إن من أدب الاستماع سكون الجوارح والأعضاء ، وغض البصر ، والإصغاء بالسمع ، وحضور القلب ، والعزم على العمل.

وقد بين سبحانه أهم ما يوحى إليه بقوله :

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي إن أول الواجب على المكلف أن يعلم أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

(فَاعْبُدْنِي) أي وإذ كنت أنا الإله حقا ولا معبود سواى ، فخصنى بالعبادة والتذلل والانقياد فى جميع ما كلفتك به.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) أي وأدّ الصلاة على الوجه الذي أمرتك به مقوّمة الأركان مستوفاة الشرائط ، لتذكرنى فيها وتدعونى دعاء خالصا لا يشو به إشراك ولا توجه إلى سواى.

٩٩

وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات ، لما لها من الفضل على سواها ، إذ فيها ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذلك ، ومن ثم تنهى عن الفحشاء والمنكر أخرج الترمذي وابن ماجه فى جماعة آخرين من حديث أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله قال : أقم الصلاة لذكرى» ثم بين السبب فى وجوب العبادة وإقامة الصلاة فقال : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) أي إن الساعة آتية لا محالة ، وإنى أكاد أخفيها من نفسى ، فكيف يعلمها غيرى من الخلق ، وقد جاء هذا على سنن العرب فى تخاطبهم يقول أحدهم إذا بالغ فى كتمان السر : كتمت سرى من نفسى ، يريد أنه أخفاه غاية الإخفاء.

وفائدة إخفائها التهويل والتخويف ، فإنهم إن لم يعلموا متى تقوم الساعة يكونوا منها على حذر ، ولمثل تلك الفائدة أخفى الله وقت الموت ، لأن المرء إذا علم وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الحين فيتوب ويصلح عمله ، وقد وعد الله بقبول توبته ، وهذا يكون كالإغراء على المعصية ، لكنه إن لم يعلم حين منيّته كان منها على حذر ، ولا يزال على قدم الخوف والوجل ، فيترك المعاصي ويتوب منها فى كل حين خوف معاجلة الموت.

(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي إن الساعة آتية لا محالة ، ليجزى كل عامل بعمله كما قال : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» وقال : «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

ثم خاطب سبحانه موسى محذّرا له فقال :

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) أي فلا يردنّك يا موسى عن التأهب للساعة من لا يقرّ بقيامها ولا يصدّق بالبعث ، ولا يرجو ثوابا ، ولا يخاف عقابا ، بل يركب رأسه ويخالف أمر ربه ونهيه ، فإنك إن فعلت ذلك وقعت

١٠٠