تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))

تفسير المفردات

عرضنا : أي أظهرنا وأبرزنا ، غطاء : أي غشاوة محيطة بها ، عن ذكرى : أي عن الآيات الموصلة إلى ذكرى بتوحيدي وتمجيدى ، أولياء : أي معبودات يقونهم بأسى ، أعتدنا : أي هيأنا ، نزلا : أي طعاما يتمتعون به حين ورودهم إلى ربهم ، ولقائه : أي حين البعث والحشر وما يتبع ذلك ، الهزؤ : السخرية والاحتقار.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة ينفخ فى الصور لقيام الخلق من قبورهم بعد أن تقطعت أوصالهم وتمزقت أجسامهم ، وجمعهم فى صعيد واحد للحساب والجزاء ـ قفّى على ذلك ببيان أنه إذ ذاك يبرز النار للكافرين بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا ، وفى ذلك تعجيل الهم والحزن لهم ، من قبل أنهم تعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق وحسبوا أن اتخاذهم أولياء من دون الله ينجيهم من عذابه ، وأن ما عملوه من

٢١

تلك الأعمال الباطلة نافع لهم ، وكل ذلك وهم وخيال ، فلا فائدة منه فى ذلك اليوم ، ولا نقيم له إذ ذاك وزنا.

روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه ، وحنى الجبهة وأصغى الأذن. متى يؤمر أن ينفخ؟ ولو أن أهل منّى اجتمعوا على القرن أن يقلّوه من الأرض ما قدروا عليه ، قال : فأبلس (بئس وتحير) أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشق عليهم ، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا»

والحديث يشير إلى قرب الساعة وأنها أوشكت تجىء.

الإيضاح

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) أي وأبرزنا جهنم يوم ينفخ فى الصور ، وأظهرناها للكافرين بالله ، حتى يروا أهوالها وشديد نكالها ، ويسمعوا لها تغيظا وزفيرا ، وفى هذا تعجيل للهمّ والحزن ، ومعرفة أنهم مواقعوها ، ولا يجدون عنها مصرفا.

ثم بين أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال :

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي إن هذا العذاب إنما بالهم من جراء أنهم كانوا لا ينظرون فى آيات الله فيتفكروا فيها ، ولا يتأملون حججه فيعتبروا بها ، وينيبوا إلى ربهم ، وينقادوا لآمره ونهيه ، وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكرهم به ، وبيانه الذي بيّنه لهم فى آي كتابه ، فتغافلوا ، وتعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق كما قال : «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ».

ذاك أنهم لما دنّسوا أنفسهم باجتراح المعاصي والآثام ، وأطاعوا وساوس الشيطان ، وما نصبه لهم من الحبائل ، طبع الله على قلوبهم وجعل على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.

٢٢

ثم بيّن أن ما اعتمدوا عليه من المعبودات الأخرى لا يجديهم نفعا فقال : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أي أفظن الذين كفروا بي ، واتخذوا عبادى الذين هم فى قبضتى وتحت سلطانى كالملائكة وعيسى ـ معبودات من دونى ـ أظنوا أن ذلك يجديهم نفعا ، أو يرفع عنهم ما يحل بهم من النكال والوبال؟.

وخلاصة هذا ـ أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم ، وأنه لا يغضبنى؟ ـ كلّا.

ثم أكد هذا الإنكار بقوله :

(إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي إنا هيأنا لهؤلاء الكافرين جهنم عوضا مما أعدوه لأنفسهم من الأولياء الذين اتخذوهم زادا ليوم المعاد.

والخلاصة ـ إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدّة والذّخر ـ عدّة هى جهنم وبئس المصير.

وفى ذلك تهكم بهم ، وتخطئة لهم فى حسبانهم ذلك ، وإيماء إلى أن لهم وراء جهنم ألوانا أخرى من العذاب ، وما جهنم إلا أنموذج منه.

ثم ذكر سبحانه ما فيه تنبيه إلى جهلهم فقال :

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل من أهل الكتابين اليهود والنصارى : هل نخبركم بالذين أتعبوا أنفسهم فى عمل يبغون به ثوابا وفضلا ، فنالوا به هلاكا وبوارا كالمشترى سلعة يرجو بها ربحا ، فخاب رجاؤه ، وخسر بيعه ، ووكس فى الذي رجا فضله؟

وخلاصة ذلك ـ إنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به ، وظنوا أنهم بفعلهم هذا مطيعون له ، وأنهم يحسنون صنعا ، ثم استبان لهم أنهم كانوا مخطئين ، وفى ضلال مبين ، وأن سعيهم الذي سعوه فى الدنيا ذهب هباء ، فلم يجدهم نقيرا ولا قطميرا.

ثم بين السبب فى بطلان سعيهم فقال :

٢٣

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي إن هؤلاء الأخسرين أعمالا هم الذين كفروا بالدلائل المنبثة فى الآفاق والأنفس التي تدعو إلى توحيده ، وكفروا بالبعث والحساب وما يتبع ذلك من أمور الآخرة ، ومن ثمّ حبطت أعمالهم ، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها ، بل لهم منها عذاب وخزى طويل ، ولا تثقل بها موازينهم ، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة وليس لهم منها شىء.

ثم بيّن مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك الكفر فقال :

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم رسل الله ومعجزاتهم التي أظهرها على أيديهم هزؤا وسخرية ، فلم يكتفوا بالكفر بها ، بل ارتكبوا هذه الحماقة التي هى أعظم أنواع الاحتقار.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

تفسير المفردات

الفردوس : البستان بالرومية. وقال السدى : إنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا ، حولا : أي تحولا ، والمداد : ما يمد به الشيء ؛ واختصّ بما تمد به الدواة من الحبر ،

٢٤

كلمات ربى : معلوماته غير المتناهية ، والرجاء : طمع حصول ما فيه مسرة مستقبلة ، ولقاء ربه : هو البعث وما يتبعه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكفار من العذاب فى جهنم ، جزاء كفرهم بربهم ، واستهزائهم برسله وآياته ـ أردف ذلك بما يرغّب المؤمنين فى العمل الصالح من جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا على إنابتهم إليه وإخباتهم له ، ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي ذكر فيه الدلائل والبينات على وحدانيته وإرساله الرسل والبعث والجزاء للدلالة على عظيم فضله ، ومزيد إنعامه ثم أعقب ذلك ببيان أن العمل لا يتقبّل إلا إذا صاحبه أمران : أن يكون خالصا لوجهه تعالى ، وأن يكون مبرأ من الشرك الخفىّ والجلىّ.

روى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من سمّع سمّع الله به ، ومن يرائى يرائى الله به» أي من عمل عملا مراءاة للناس ، وليشتهر به شهّره الله يوم القيامة وروى مسلم عن أبى هريرة قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن الله تبارك وتعالى يقول : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى تركته وشركه».

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) أي إن الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به ، وعملوا صالح الأعمال ابتغاء المثوبة من ربهم ـ لهم بساتين الفردوس فى أعلى الجنة وأوسطها منزلا.

أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :

٢٥

«إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ، فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ، ومنه تفجر الأنهار».

(خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي لابثين فيها أبدا لا يبغون عنها تحولا إلى غيرها ، قال ابن عباس : لا يريدون أن يتحولوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى.

وخلاصة هذا ـ إنه لا مكان أعز منها عندهم ، ولا أرفع شأنا حتى تنازعهم إليه أنفسهم ، وتطمح إليه أبصارهم.

ثم نبّه إلى عظيم شأن القرآن بقوله :

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) أي قل لهم أيها الرسول : لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وعلومه لنفد ماء البحر قبل أن تنفد تلك الكلمات ، ولو مددنا ماء البحر بمثل ما فيه من الماء مددا وعونا ، لأن مجموع المتناهيين متناه ، وعلوم الله وحكمته لا نهاية لها ، والمتناهي لا يفى البتة بغير المتناهي.

ونحو الآية قوله «وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ».

روى أن اليهود قالوا : يا محمد تزعم أننا قد أوتينا الحكمة ، وفى كتابك «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» ثم تقول «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً» يريدون بذلك الاعتراض بوجود التناقض فأنزل الله الآية ردا عليهم.

وقد أثبت العلم الحديث ما يتبين منه أن فى كل عالم من العوالم الأرضية والسماوية ما لا يحصى من النعم على عباده ، وعليك أن تلقى سمعك إلى آخر الآراء التي اهتدى إليها العلماء فى العصر الحاضر.

قال الأستاذ جينس الإنكليزى المدرس لعلوم الرياضيات التطبيقية فى جامعة (بنسلفانيا) بأمريقا فى ٧ من مارث ١٩٢٨ وهى أحدث الآراء فى منشأ الكائنات وعدم التناهى فى الزمان والمكان. ما خلاصته :

٢٦

(١) إن عمر الأرض نحو ألفى مليون سنة.

(٢) إن الإنسان لم يعش على الأرض إلا منذ ثلاثمائة ألف سنة فحسب.

(٣) إن الشمس ستظل بعد ألف ألف مليون سنة كما هى الآن تقريبا ، وتدور الأرض حولها كما هى الآن.

(٤) الإنسان فى المستقبل يكون أحكم من الإنسان الحاضر بثلاثة ملايين مرة على الأقل ، فسينظم معيشته وفق حال الكرة الأرضية إذ ذاك.

(٥) مما تقدم نعلم أن الإنسان حديث العهد بالولادة على الأرض ، فهو طفل فى علومه ومعارفه ، وكل همّ هذا الطفل كان موجها إلى غذائه ومسكنه ، وهو يجهل العوالم الأخرى ، ولكنه الآن عرف أن هناك عوالم أخرى لا نهاية لها ، وأن معرفته بها تافهة جد التفاهة ، وربما عاش بعد الآن ألفى مليون سنة على الأرض ، وبعبارة أخرى إنه يعيش مدة تعادل عمر الأرض فى الماضي.

(٦) الأجرام التي حولنا لها نهاية ، أما الفضاء الذي بعدها فلا نهاية له ، فالشمس والكواكب والمجرّات لها نهاية ، ولكن وراءها فضاء لا نهاية له.

(٧) الأجرام العلويّة التي نراها والتي لا نراها كرية الشكل كقطرة الماء وكرة الأرض والشمس.

(٨) الإشارات اللاسلكية التي تنبعث من جهاز لا سلكى كبير تدور حول الكرة الأرضية فى أقل من سبع ثانية ، وتعود إلى النقطة التي بدأت منها ، وهكذا نحن لو اخترقنا هذه العوالم رجعنا إلى مبدإ سفرنا.

(٩) إننا لو صنعنا منظارا قويا (تلسكوبا) لنرى الأجرام السماوية ، لرأينا النجوم بهيئتها التي كانت عليها حينما أرسلت إلينا النور قبل ملايين السنين.

(١٠) إن الإنسان اليوم طفل فى العلوم ، وربما علم فى المستقبل ما لا يتخيله الآن.

(١١) إن سرعة النور فى الثانية الواحدة ١٨٦ ألف ميل ، ومثله فى ذلك الكهرباء اللاسلكية ، لأنهما شىء واحد فى جوهرهما ، ويرجح أن النور يسير

٢٧

حول الفضاء الكروي مائة ألف مليون سنة ، أي إن النور يدور فى هذا العالم المملوء بالأجرام العلوية الذي مجموعه كرة واحدة مدة مائة ألف مليون سنة مع العلم بأنه يدور حول الأرض فى سبع ثانية ، فما أبعد النسبة بين سبع ثانية ، وبين مائة ألف مليون سنة.

إلا أن الأرقام لا تقدر أن تحصى المسافة المحصورة بين أىّ نقطتين كانتا على محيط الفضاء الكروي.

(١٢) الشمس أكبر من الأرض حجما بمليون وثلاثمائة ألف مرة ، وما هى إلا حبة رمل على شاطىء هذا الفضاء الكروي ، وهى واحدة من أسرة من أسر الكائنات التي فى الفضاء الكروي التي قدرها العلامة (سيرز) بثلاثين ألف مليون مجموعة ، وشمسنا وتوابعها حبة رمل فى مجموعة واحدة من هذه الثلاثين ألف مليون مجموعة.

(١٣) إن هناك سدما لولبية فى خارج المجرة ، وهى مجموعة من النجوم التي تمّ نشوءها أولا تزال فى طور التكوين ، وفى بعضها من المادة ما يكفى لخلق ألف مليون شمس كشمسنا.

(١٤) يقول (هويل) إن مرقب (تلسكوب) مونت ويلسون بأمريقا يريك نحو مليونين من تلك السدم ، وإذا تمكن الإنسان من صنع مرقب أكبر من هذا فإنه يرى بلا شك ملايين كثيرة أخرى منها ، وفيها من المادة ما يكفى لخلق ملايين الشموس والأجرام الفلكية ، ويقول : إذا أردت أن تعرف عدد النجوم التي تسبح فى الفضاء على وجه التقريب ، فضع رقم ٢ وعلى يمينه ٢٤ صفرا ، وهذا العدد يغطى الجزائر البريطانية إلى عمق مئات من الأمتار.

٢٨

(١٥) أضعف النجوم المعروفة هى نجم (وولف) ونوره جزء من عشرين جزءا من نور الشمس ، ونور النجم (دورادوس) يساوى ثلاثمائة ألف ضعف بالنسبة للنور المنبثق من الشمس.

وأصغر النجوم هو نجم (فان مانن) وحجمه كحجم الأرض ، وأكبر النجوم الجوزاء ، وهى أكبر من الشمس خمسا وعشرين مليون مرة ، ونسبة نورها إلى نور الشمس كنسبة نور المصابيح الكهربائية إلى نور حشرة (الحباحب).

(١٦) إن الشمس تخرج أشعة تعادل قوتها خمسين حصانا من كل بوصة مربعة ، وبعض النجوم التي هى أعظم من الشمس تشعّ نورا من البوصة المربعة يساوى قوة ثلاثين ألف حصان لكل بوصة مربعة.

(١٧) إن الشمس تفقد كل يوم من المادة بسبب خروج الأشعة منها ما يساوى ٢٥٠ مليون طن فى الدقيقة ، ففى اليوم تفقد ٣٦٠ ألف مليون طن.

(١٨) يظن أن عمر الشمس الآن عشرة آلاف مليون سنة ، ويمكن أن تعيش ملايين ملايين السنين دون أن تنطفىء.

(١٩) عمر الأجرام الفلكية يختلف من خمسة آلاف مليون سنة إلى عشرة آلاف مليون سنة اه.

هذه آراء علماء الفلك فى العصر الحاضر استنبطوها بالحساب تارة ، وبوجه التقريب تارة أخرى ، مما يرشد إلى تفسير قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الآية.

فهذه هى الكلمات الإلهية التي أدهشت الألباب ، وضاعت الأعمار فى البحث عن علم شىء منها ، ولا يزال الناس فى عماية من أمرها ، ولم يصلوا إلا إلى معرفة القليل كما قال : «وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي قل لهم أيها الرسول : إنما أنا بشر مثل ما أنتم كذلك ، ولا ادّعى الإحاطة بكلمات الله جلت

٢٩

قدرته ، ولا علم لى إلا ما علمنى ربى ، وأن الله أوحى إلىّ أن معبودكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا هو معبود واحد لا ثانى له ولا شريك.

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي فمن كان يطمع فى ثواب الله على طاعته فليخلص له العبادة ، وليفرد له الربوبية ، ولا يشرك به سواه ، لا إشراكا جليّا كما فعل الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ، ولا إشراكا خفيّا كما فعل أهل الرياء ممن يطلب بعمله الدنيا ، وهذا هو الشرك الأصغر كما صح فى الحديث ، وروى مستفيضا فى الأخبار من أن كل عمل أريد به الدنيا لا يقبل

فقد أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه قال : «أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا برىء منه وهو الذي أشرك» نسأل المولى القدير أن يجعل عملنا خالصا لوجهه ، لا يراد به رضا أحد من خلقه

إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد

(١) وصف الكتاب الكريم بأنه قيم لا عوج فيه ، جاء للتبشير والإنذار.

(٢) ما جاء على ظهر الأرض هو زينة لها ، وقد خلقه الله ابتلاء للإنسان ليرى كيف ينتفع به.

(٣) ما جاء من قصص أهل الكهف ليس بالعظيم إذا قيس بما فى ملكوت السموات والأرض.

(٤) وصف الكهف وأهله ، مدة لبثهم فيه ، عدد أهله.

(٥) أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجلوس مع فقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى أغنيائهم إجابة لدعوتهم.

(٦) ذكر ما يلاقيه الكفار من الوبال والنكال يوم القيامة.

(٧) ضرب مثل يبين حال فقراء المؤمنين وأغنياء المشركين.

٣٠

(٨) ضرب المثل لحال الدنيا.

(٩) عرض كتاب المرء عليه فى الآخرة وخوف المجرمين منه.

(١٠) عداوة إبليس لآدم وبنيه.

(١١) قصص موسى والخضر.

(١٢) قصص ذى القرنين وسد يأجوج ومأجوج ، وكيف صنعه ذو القرنين (١٣) وصف أعمال المشركين وأنها ضلال وخيبة فى الآخرة.

(١٤) ما يلقاه المؤمنون من النعيم فى الآخرة.

(١٥) علوم الله تعالى لا نهاية لها.

٣١

سورة مريم

هى مكية إلا آيتي ٥٨ ، ٧١ فمد نيتان ، وآيها ثمان وتسعون.

ومناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من أعاجيب القصص كقصة ولادة يحيى ، وقصة ولادة عيسى عليهما السلام.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

تفسير المفردات

زكريا (يمد ويقصر) من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وكان نجارا ، نادى ربه : أي دعاه ، خفيا : أي مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم ، وهن العظم :

٣٢

ضعف ورقّ من الكبر ؛ إذ قد بلغ خمسا وسبعين سنة أو ثمانين ، واشتعل الرأس شيبا : أي صار الشيب كالنار والشعر كأنه الحطب ، ولقوتها وشدّتها أحرقت الرأس نفسه ، شقيا. يقال شقى بكذا : أي تعب فيه ولم يحصّل مقصوده منه ، والمراد أنه خائب غير مستجاب الدعوة ، الموالي : هم عصبة الرجل ، من ورائي : أي من بعدي ، ويقال رجل عاقر وامرأة عاقر إذا كانا عقيمين ، وليا : أي ولدا من صلبى ، ويعقوب : هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان عليه السلام ، رضيا : أي مرضيا عندك قولا وفعلا ، سميا : أي شريكا له فى الاسم ؛ فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله ، وهذا دليل على أن الأسماء السّنع ـ الشريفة ـ جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنتحى فى التسمية كما قال قائلهم فى المدح :

سنع الأسامى مسبلى أزر

حمر تمسّ الأرض بالهدب

أنى : أي كيف ، عتيا من عتا يعتو : أي يبست مفاصله وعظامه ، شيئا : أي موجودا ، آية : علامة ، سويا : أي سوىّ الخلق سليم الجوارح ليس به بكم ولا خرس ، المحراب : المصلّى ، أوحى : أي أومأ وأشار ، سبّحوا : أي صلوا ، بكرة وعشيا أي صلاة الفجر وصلاة العصر.

المعنى الجملي

روى محمد بن إسحاق فى السيرة من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود فى قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ـ أن جعفر بن أبى طالب قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.

الإيضاح

(كهيعص) تقدم الكلام فى المراد من أوائل السور ، وأن المختار أن المقصود بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع أول الكلام نحو ألا ويا وغيرهما ، وتقرأ بأسمائها فيقال (كاف. ها. يا عيّين. صاد).

٣٣

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) أي مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا حين دعا ربه دعاء خفيا مستورا عن أعين الناس.

وإنما أخفى دعاءه ، لأنه أدل على الإخلاص ، وأبعد من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس ، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة.

وقصارى ذلك ـ إن فى هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا حين أسرّ بدعائه إليه.

ثم فصّل كيفية دعائه بقوله :

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أورد زكريا عليه السلام قبل سؤاله أمورا ثلاثة ، كل منها يستحق الرحمة والشفقة :

(١) ضعفه ظاهرا وباطنا ، وأثر الأول قد ظهر فى العظام التي هى حاملة سائر الأعضاء ، ومتى وصل إليها الضعف كان ضعف ما عداها أولى وأجدر ، وأثر الثاني واضح باستيلاء الشيب على الرأس واضطرامه فى السواد كما قال ابن دريد :

إما ترى رأسى حاكى لونه

طرّة صبح تحت أذيال الدجى

واشتعل المبيضّ فى مسودّه

مثل اشتعال النار فى جمر الغضا

(٢) إنه ما ردّ دعاؤه ولا خاب استعطافه حينا من الدهر ، بل كان كلما دعا استجيب له ، وهو فى هذه الحال أجدر بالإجابة لضعفه وشيخوخته ، وفى هذا إشارة إلى لطف الله به ، وعظيم فضله عليه ، مدى حياته.

وقد روى التاريخ أن معن بن زائدة أتاه سائل فقال من أنت؟ قال أنا الذي أحسنت إليه حين كذا ، قال مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته.

(٣) إن فى إجابة الطلب منفعة دينية ، إذ أنه خاف أن الموالي أي الورثة الذين يخلفونه فى إقامة الشعائر الدينية ـ لا يؤدون ما يجب عليهم نحو الدين من نشره وتبليغه الناس وعبادة الله كما أمر ، والذبّ عنه إذا جد الجدّ ، ووجب الدفاع عنه ، فقد أثر عنهم

٣٤

أنهم كانوا من شرار بنى إسرائيل ، فخافهم ألا يحسنوا خلافته فى أمته ، لا فى الدين ولا فى المال ، ولا فى السياسة التي تتبع فى إدارة شؤونها.

وقد عرف زكريا عليه السلام ببعض الأمارات أن عصبته وهم إخوته وبنو عمه ربما استمروا على عادتهم فى الشر والفساد فخافهم على الدين أن يغيّروه ، وألا يحسنوا الخلافة على أمته ، فطلب عقبا من صلبه يقتدى به فى إحيائه ، وينهج نهجه فيه فقال :

(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (١) (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي أعطني من واسع فضلك ، وعظيم جودك وعطائك ، لا بطريق الأسباب العادية ولدا من صلبى ، يرث الحبورة منى ، ويرث من بنى ماثان ملكهم (قال الكلبي كان بنو ماثان رؤس بنى إسرائيل وملوكهم ، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ) ويكون برا تقيا مرضيا عندك وعند خلقك ، تحبه ويحبونه لدينه وخلقه ومحاسن شيمه.

ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران حكاية عنه «قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً» وقوله فى سورة الأنبياء «وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ».

ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسه فقال :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي فاستجاب دعاءه وقال : يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحيى (معرّب يوحنا ، ففى إنجيل متى أنه يدعى يوحنا المعمدانى لأنه كان يعمّد الناس فى زمانه) لم يسم أحد من قبله بمثل اسمه.

ثم ذكر جواب زكريا عند هذه البشرى مظهرا التعجب مما سمع :

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟) أي ومن أي وجه يكون لى ذلك وامرأتى عاقر لا تحبل ، وقد ضعفت من الكبر

__________________

(١) هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان والد مريم.

٣٥

عن مباضعة النساء ، أبأن تقوّينى على ما ضعفت عنه من ذلك ، وتجعل زوجى ولودا وأنت القادر على ما تشاء ، أم بأن أتزوج زوجا غير تلك العاقر؟

وخلاصة ذلك ـ إنه يستثبت ربه الخبر عن الوجه الذي يكون من قبله الولد الذي بشره به ، لا إنكار منه لذلك وكيف يكون منه الإنكار لذلك وهو المبتدئ مسألة ربه به بقوله : فهب لى من لدنك وليا.

وإجمال المعنى ـ إنه تعجب حين أجيب إلى ما سأل وبشّر بالولد ، وفرح فرحا شديدا وسأل عن الوجه الذي يأتيه منه الولد ، مع أن امرأته عاقر لم تلد من أول عمرها ، والآن قد كبرت وهو قد كبر وعتا : أي يبس عظمه ونحل ولم يبق له قدرة على قربان النساء ، وكأنّه يقول : إنى حين كنت شابا وكهلا لم أرزق الولد لاختلال أحد السببين وهو عقم المرأة ، أفحين اختل السببان أرزقه؟

(قالَ كَذلِكَ) أي قال الله تعالى : الأمر كما قلت ، فسنهب لك الولد مع ما أنتما عليه من العقم والشيخوخة.

ثم علل هذا بقوله :

(قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي قال ربك الذي عوّدك الإحسان : خلق ولد منكما على هذه الحال هيّن ، فإنى إذا أردت شيئا كان دون توقف على الأسباب العادية التي رسمتها للحمل والولادة.

ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال :

(وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي وليس خلق الغلام الذي وعدتك أن أهبه لك مع كبر سنك وعقم زوجك بأعجب من خلق البشر جملة من العدم ، فإن خلق آدم ما هو إلا أنموذج لسائر أفراد الجنس ، مستتبع لجريان آثاره عليه ، فإبداعه عليه السلام على هذا النمط إبداع لجميع أفراد ذريته ، والقادر على خلق الذوات والصفات من العدم المحض يكون أجدر بالقدرة على تبديل الصفات بخلق الولد من الشيخ والشيخة.

٣٦

وخلاصة ذلك ـ أن من قدر على خلق الذوات والصفات والآثار من العدم ، أجدر به أن يكون قادرا على تبديل الصفات ، فيعيد إليه وإلى زوجه القوة وسائر الوسائل التي بها يمكن أن ينشأ منهما الولد كما قال «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ».

ثم أخبر سبحانه أن زكريا تاقت نفسه إلى سرعة وجود المبشّر به ، ليطمئن قلبه بما وعد به كما قال إبراهيم من قبله «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» فقال حاكيا عنه :

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي قال رب اجعل لى علامة تدلنى على تحقق المسئول فى زمن معين ، إذ كانت البشارة غير مقيدة بوقت ، والحمل خفى فى مبدئه ولا سيما ممن انقطع حيضها لكبرها ـ إلى أنه أراد أن يطلعه على ذلك ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر حين حدوثها.

ثم بين أنه أجابه إلى ما طلب فقال :

(قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي علامتك على وجود المبشر به وحصول الحمل ، ألا تقدر على تكليم الناس بكلامهم المعروف فى محاوراتهم وثلاث ليال وأنت صحيح ، سوىّ الخلق ، سليم الجوارح ، ليس بك علة ولا مرض؟.

وجاء فى سورة آل عمران «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً».

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي فخرج غبّ إعلام الله له بهذه الآية على قومه من المحراب (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح ؛ وهو مقصورة فى مقدّم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن فى المعبد) ممتقع اللون منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس (وقد كانوا ينتظرون أن يفتح لهم الباب ، إذ كان من عادتهم أن يصلوا معه صلاتى الغداة والعشى فى محرابه) فقالوا مالك يا نبى الله؟.

٣٧

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي فأومأ إليهم وأشار كما جاء فى الآية الأخرى «إِلَّا رَمْزاً» أي سبحوا الله ونزهوه عن الشريك والولد ، وعن كل نقص طرفى النهار.

وقد كان أخبرهم بما بشر به قبل وجود الآية ، فلما تعذّر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشّر به من ذلك الأمر العجيب فى مجرى العادة فسرّوا به.

فلما ولد وبلغ سنا يؤمر فيه مثله قلنا :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

تفسير المفردات

الكتاب : هو التوراة ، والقوة : الجد والاجتهاد ، والحكم والحكمة : الفقه فى الدين ، وحنانا : أي عطفا على الناس ، وزكاة : أي طهارة من الذنوب والآثام ، تقيا : أي مطيعا لأمر ربه ، منتهيا عما نهى عنه ، وبرا بوالديه : أي كثير البر والإحسان إليهما ، جبارا : أي متعاليا عن قبول الحق والإذعان له ، عصيا : أي مخالفا أمر مولاه ، سلام : أي أمان من الله عليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه دعاء زكريا ربه أن يهبه غلاما سريا ، وذكر أنه أجاب طلبه وجعل لذلك أمارة يعلم منها وقت الحمل به ـ ذكر هنا أنه بعد أن ظهر ذلك المولود إلى عالم الوجود وترعرع ونما ، أمره بالجد والعمل لطاعته ، وجعله برّا بوالديه ، لا يعصى أوامر ربه ، ولا يتعالى عن قبول الحق.

٣٨

الإيضاح

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) أي خذ التوراة التي هى نعمة الله على بنى إسرائيل بجدّ واجتهاد ، وحرص على العمل بها.

ثم وصفه الله بصفات كلها مناهج للخير ووسائل للطاعة فقال :

(١) (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي وأعطيناه الحكمة والفقه فى الدين والإقبال على الخير وهو صغير لم يتم سبع سنين ، روى أن الغلمان قالوا له يوما : هيّا بنا نلعب ، قال : ما للّعب خلقنا اذهبوا بنا نصلى.

(٢) (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي وجعلناه ذا حنان وشفقة على الناس وحسن نظر فيما وليه من الحكم فيهم ، وقد وصف الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا فى قوله «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ» وقوله «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (٣) (وزكاة) أي طهارة من الدنس وبعدا من اجتراح الذنوب والآثام.

(٤) (وَكانَ تَقِيًّا) أي مطيعا لما به أمر وعنه نهى ، فلم يفعل معصية ولا همّ بها.

(٥) (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي كثير البر بهما والإحسان إليهما والحدب عليهما بعيدا عن عقوقهما قولا وفعلا ، وقد جعل الله طاعة الوالدين فى المرتبة التي تلى مرتبة طاعته فقال : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً».

(٦) (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي لم يكن متكبرا على الناس ، بل كان ليّن الجانب متواضعا لهم ، وقد أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا فى قوله : «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ووصفه بقوله : «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» ومن ثم لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعدا من رحمة ربه.

(٧) (عصيا) أي مخالفا لما أمره ربه.

ثم ذكر سبحانه جزاءه على ما قدم من عمل صالح وأسلف من طاعة ربه فقال :

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي وتحية من الله عليه أول ما يرى الدنيا ، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة ، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار.

٣٩

وإنما خص هذه المواضع الثلاثة ، لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيها لضعفه وحاجته وقلة حيلته ، وافتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))

تفسير المفردات

انتبذت : أي اعتزلت وتنحّت ، مكانا شرقيا : أي شرقى بيت المقدس ، حجابا : أي ساترا تورات به منهم ، روحنا : هو جبريل عليه السلام ، سويا : أي سويّ الخلق كامل البنية ، أعوذ : أي أعتصم وألتجئ ، تقيا : أي مطيعا ، لأهب لك : أي لأكون سببا فى هبته ، غلاما : أي ولدا ذكرا ، زكيا : أي طاهرا من الأدناس والأرجاس ، أنى : أي كيف يكون ذلك؟ آية : أي علامة على قدرة خالقكم ، مقضيا : أي محتوما قد تعلق به قضاؤنا الأزلى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه فى حال كبره وعقم زوجه ولدا زكيا مباركا ـ أردف ذلك بذكر قصص مريم وأنه أنجب منها ولدا من غير أب ،

٤٠